الجزء الثاني  

المقصد الأوّل مباحث الألفاظ

١٢٦
{*empty#}صفحة فارغة (مطابق للمطبوع){#empty*}
١٢٧
بسم الله الرحمن الرحيم‏
____________

تمهيد: المقصود من (مباحث الألفاظ):

تشخيص ظهور الألفاظ من ناحية عامة إما بالوضع أو بإطلاق الكلام، لتكون نتيجتها قواعد كلية تنقح صغريات «أصالة الظهور» التي سنبحث عن حجيتها في المقصد الثّالث. و قد سبقت الإشارة إليها.
و تلك المباحث تقع في هيئات الكلام التي يقع فيها الشك و النزاع، سواء كانت هيئات المفردات كهيئة المشتق و الأمر و النهي، أو هيئات الجمل كالمفاهيم و نحوها.
أما البحث عن مواد الألفاظ الخاصة و بيان وضعها و ظهورها- مع أنها تنقح أيضا صغريات أصالة الظهور- فإنه لا يمكن ضبط قاعدة كلية عامة فيها. فلذا لا يبحث عنها في علم الأصول. و معاجم اللغة و نحوها هي المتكلفة بتشخيص مفرداتها.
و على أي حال، فنحن نعقد (مباحث الألفاظ) في سبعة أبواب:
١- المشتق.
٢- الأوامر.
٣- النواهي.
٤- المفاهيم.
٥- العام و الخاص.
٦- المطلق و المقيد.
٧- المجمل و المبين.
١٢٨
{*empty#}صفحة فارغة (مطابق للمطبوع){#empty*}
١٢٩

الباب الأول: المشتق‏

١٣٠
{*empty#}صفحة فارغة (مطابق للمطبوع){#empty*}
١٣١
اختلف الأصوليون من القديم في المشتق: في أنه حقيقة في خصوص ما تلبس بالمبدإ في الحال و مجاز فيما انقضى عنه التلبس، أو أنه حقيقة في كليهما، بمعنى: أنه موضوع للأعم منهما؟
بعد اتفاقهم على أنه مجاز فيما يتلبس بالمبدإ في المستقبل (١).
ذهب المعتزلة و جماعة من المتأخرين من أصحابنا إلى الأول.
و ذهب الأشاعرة و جماعة من المتقدمين من أصحابنا إلى الثاني.
و الحق: هو القول الأول. و للعلماء أقوال أخر فيها تفصيلات بين هذين القولين؛ لا يهمنا التعرض لها بعد اتضاح الحق فيما يأتي.
و أهم شي‏ء يعنينا في هذه المسألة- قبل بيان الحق فيها و هو اصعب ما فيها- أن نفهم محل النزاع و موضع النفي و الإثبات. و لأجل أن يتضح في الجملة موضع الخلاف نذكر مثالا له فنقول:
إنه ورد كراهة الوضوء و الغسل بالماء المسخن بالشمس، فمن قال بالأول: لا بد ألا يقول بكراهتهما بالماء الذي برد و انقضى عنه التلبس، لأنه عنده لا يصدق عليه حينئذ أنه مسخن بالشمس، بل كان مسخنا، و من قال بالثاني: لا بد أن يقول بكراهتهما بالماء حال انقضاء التلبس أيضا، لأنه عنده يصدق عليه أنه مسخن حقيقة بلا مجاز.
و لتوضيح ذلك نذكر الآن أربعة أمور مذللة لتلك الصعوبة، ثم نذكر القول المختار و دليله:
____________
(١) كما لو كان زيد سيضرب عمرا غدا، ففي هذه الحالة يكون: إطلاق لفظ ضارب على زيد الآن إطلاقا مجازيا اتفاقا، فإنه من باب إطلاق المشتق (ضارب) على زيد بلحاظ أنه سوف يتصف بالضرب غدا.
١٣٢

١- ما المراد من المشتق المبحوث عنه؟

اعلم أن «المشتق» باصطلاح النحاة ما يقابل الجامد، و مرادهم واضح. و لكن ليس هو موضع النزاع هنا بل بين المشتق بمصطلح النحويين، و بين المشتق المبحوث عنه عموم و خصوص من وجه (١).
لأن موضوع النزاع هنا: يشمل كل ما يحمل على الذات؛ باعتبار قيام صفة فيها خارجة عنها تزول عنها (٢) و إن كان باصطلاح النحاة معدودا من الجوامد، كلفظ الزوج (٣) و الأخ و الرق و نحو ذلك. و من جهة أخرى: لا يشمل الفعل بأقسامه (٤)، و لا المصدر و إن كانت تسمى مشتقات عند النحويين.
و السر في ذلك: أن موضع النزاع هنا يعتبر فيه شيئان:
١- أن يكون (٥) جاريا على الذات، بمعنى: أنه يكون حاكيا عنها و عنوانا لها، نحو: اسم الفاعل، و اسم المفعول، و أسماء المكان (٦) و الآلة (٧) و غيرهما، و ما شابه هذه الأمور من‏
____________
(١) و ذلك لأنهما يجتمعان فيما يحمل على الذات و هو متصرف كاسم الفاعل مثل: ضارب، فإنه يحمل على الذات، فيقال: زيد ضارب، فهو مشتق أصولي كما أنه متصرف فيقال: ضارب و مضروب فهو مشتق نحوي. و يفترق المشتق الأصولي في نحو زوج، فإنه يحمل على الذات فيقال:
زيد زوج فهو مشتق أصولي، و لا يتصرف فهو ليس بمشتق نحوي، و يفترق النحوي في الأفعال و المصادر كضرب و قيام، فإنهما متصرفان فهما مشتقان نحويان، و لا يحملان على الذات فليسا بمشتقين أصوليين.
(٢) و بعبارة أخرى: أن موضع النزاع هنا يشمل كل ما يحمل على الذات؛ باعتبار قيام صفة في الذات خارجة عن الذات تزول الصفة عن الذات مع بقاء الذات، فالصفة غير مقومة للذات، و إلا لو كانت مقومة للذات لزالت الذات بزوالها.
(٣) فإن الزوج صفة قائمة بالذات، و هي خارجة عن الذات و يمكن زوالها عنها مع بقاء الذات، فهي إذا: مشتق أصولي بينما زوج في النحو من الجوامد.
(٤) أقسام الفعل هي: الماضي و المضارع و الأمر.
(٥) فاعل يكون هو المشتق.
(٦) و هو ما كان على صيغة مفعل مثل: مضرب زيد، فإنه اسم مكان، أي: محل ضرب زيد.
(٧) مثل: مفتاح فإنه اسم آلة موضوعة لذات المفتاح، فلو انكسر المفتاح حينئذ ذهب من المفتاح شأنية الفتح، فهل يطلق عليه أيضا ذات المفتاح أم لا؟ فيه خلاف، فإذا قلنا: إن اسم الآلة موضوع لخصوص ما تلبس بالمبدإ أي: ما كان متصفا بالمفتاحية حينئذ: لا يطلق على المفتاح المنكسر مفتاح، و إذا قلنا: إن اسم الآلة موضوع للأعم منه و من المنقضي عنه التلبس بالمبدإ حينئذ: يطلق على المفتاح- الذي ارتفعت عنه شأنية الفتح- مفتاح.
١٣٣
الجوامد. و من أجل هذا الشرط لا يشمل هذا النزاع الأفعال و لا المصادر، لأنها كلها (١) لا تحكي عن الذات و لا تكون عنوانا لها، و إن كانت تسند إليها (٢).
٢- أ لا تزول الذات بزوال تلبسها بالصفة- و نعني بالصفة: المبدأ الذي منه يكون النزاع المشتق و اشتقاقه و يصح صدقه على الذات، بمعنى: أن تكون الذات باقية محفوظة لو زال تلبسها بالصفة، فهي تتلبس بها تارة و لا تتلبس بها أخرى، و الذات تلك الذات في كلا الحالين.
و إنما نشترط ذلك: فلأجل أن نتعقل انقضاء التلبس بالمبدإ مع بقاء الذات حتى يصح أن نتنازع في صدق المشتق حقيقة عليها مع انقضاء حال التلبس؛ بعد الاتفاق على صدقه حقيقة عليها حال التلبس (٣). و إلّا لو كانت الذات تزول بزول التلبس لا يبقى معنى لفرض صدق المشتق على الذات مع انقضاء حال التلبس لا حقيقة و لا مجازا (٤).
____________
(١) الضمير راجع إلى الأفعال و المصادر.
(٢) أي: و إن كانت تسند إلى الذات كما في يضرب زيد فإن الفعل أسند إلى الذات؛ لا أنه حمل على الذات، و عليه: يتبين الفرق بين ما يحمل على الذات و بين ما لا يحمل على الذات، و هو: أن ما يحمل على الذات (كاسم الفاعل و اسم المفعول و أسماء المكان و الآلة و غيرها) عبارة عن حدث زائدا ذات، فمثلا: اسم الفاعل كضارب، فهذا عبارة عن وقوع حدث الضرب زائدا ذات متلبسة بالضرب، إذا: فاسم الفاعل دائما يحكي عن ذات متلبسة بالحدث. بينما ما لا يحمل على الذات كالأفعال و المصادر فإنها تدل على حدث وقع في زمان ما كالفعل الماضي مثلا كضرب، فإنها تدل على حصول حدث الضرب في الماضي. نعم هذا الحدث يمكن إسناده إلى ذات كأن تقول: ضرب زيد المنافق، فإذا: هي ليست بمشتق أصولي و كذلك المصادر فإنها تدل على الحدث لا غير.
(٣) و يسمى هذا بحال الاتصاف.
(٤) يريد أن يقول المصنّف في هذه العبارة: إن حقيقة النزاع لا تكون متصورة إلا ببقاء الذات في حالة زوال الصفة عنها، حينئذ: يجري النزاع فيها، و إلا لو زالت الذات بزوال الصفة و المبدأ لما جرى النزاع، لأنّه لا يوجد ذات حتى يمكن النزاع عليها، و زوال الذات بزوال الصفة غالبا يكون في الأنواع، و الأجناس، و الفصول كما تقول: زيد ناطق، فإنه بعد زوال صفة الناطقية لا تبقى ذات زيد، فلا شي‏ء عندنا نتنازع عليه بأن نقول: بعد انقضاء عنوان التلبس عنها هل يطلق عليها المشتق حقيقة أم مجازا؟ و بعبارة أكثر تفصيلا نقول: يريد المصنّف (قدس سره) بهذه العبارة الإشارة إلى أن الأوصاف على قسمين:
١- أوصاف ذاتية: و هي التي يستحيل انفكاكها عن الذات، و متى ما زالت زالت معها الذات، و لا
١٣٤
و على هذا، لو كان المشتق من الأوصاف التي تزول الذات بزوال التلبس بمبادئها، فلا يدخل في محل النزاع و إن صدق عليها اسم المشتق، مثلما لو كان من الأنواع أو الأجناس أو الفصول بالقياس إلى الذات، كالناطق و الصاهل و الحساس و المتحرك بالإرادة.
و اعتبر ذلك في مثال: كراهة الجلوس للتغوط تحت الشجرة المثمرة، فإن هذا المثال يدخل في محل النزاع لو زالت الثمرة عن الشجرة، فيقال: هل يبقى اسم المثمرة صادقا حقيقة عليها حينئذ فيكره الجلوس أو لا؟ أما لو اجتثت الشجرة فصارت خشبة فإنها لا تدخل في محل النزاع، لأن الذات و هي (الشجرة) قد زالت بزوال الوصف الداخل في حقيقتها، فلا يتعقل معه بقاء وصف الشجرة المثمرة لها، لا حقيقة و لا مجازا. و أما الخشب فهو ذات أخرى لم يكن فيما مضى قد صدق عليه- بما أنه خشب- وصف الشجرة المثمرة حقيقة، إذ لم يكن متلبسا بما هو خشب بالشجرة ثم زال عنه التلبس.
و بناء على اعتبار هذين الشرطين: يتضح ما ذكرناه في صدر البحث؛ من أن موضع النزاع في المشتق يشمل كل ما كان جاريا على الذات باعتبار قيام صفة خارجة عن الذات و إن كان معدودا من الجوامد اصطلاحا (١). و يتضح أيضا: عدم شمول النزاع للأفعال و المصادر (٢).
كما يتضح: أن النزاع يشمل كل وصف جار على الذات، و لا يفرق فيه بين أن يكون مبدأه من الأعراض الخارجية المتأصلة كالبياض و السواد و القيام و القعود (٣)، أو
____________
يعقل بقاء الذات بدونها، و بالتالي: لا يعقل النزاع فيها لعدم بقاء الذات، و مثال الأوصاف الذاتية ما كان نوعا: نحو: زيد إنسان، و ما كان جنسا: نحو زيد حيوان، و ما كان فصلا: نحو زيد ناطق. ففي المثال الأخير عند زوال الناطقية لا نتعقل بقاء زيد حتى نتنازع في صحة إطلاق ناطق عليه أم لا؟
و بالجملة: إن ما كان من الأوصاف الذاتية لا يجري فيها النزاع.
٢- أوصاف غير ذاتية: و هي التي لا يستحيل انفكاكها عن الذات، و يتعقل بقاء الذات مع زوالها نحو: زيد ضارب، فإن الضرب مما يتعقل زواله مع بقاء ذات زيد، و حينئذ: يجري النزاع في صحة إطلاق ضارب على زيد المنقضي عنه صفة الضرب.
(١) أي: اصطلاحا نحويا.
(٢) لأنها ليست مشتقات أصولية أي: لا تحمل على الذات.
(٣) أي: التي لها وجود في الخارج، و بعبارة أجلى: فالذي ينتزع منه عنوان قائم هو القيام، و القيام له وجود متأصل و حقيقي في الخارج.
١٣٥
من الأمور الانتزاعية كالفوقية و التحتية و التأخر (١)، أو من الأمور الاعتبارية المحضة كالزوجية و الملكية و الوقف و الحرية (٢).

٢- جريان النزاع في اسم الزمان (٣)

بناء على ما تقدم قد يظن عدم جريان النزاع في اسم الزمان، لأنه قد تقدم أنه يعتبر في جريانه بقاء الذات مع زوال الوصف، مع أن زوال الوصف في اسم الزمان ملازم لزوال الذات، لأن الزمان متصرم الوجود، فكل جزء منه ينعدم بوجود الجزء اللاحق، فلا تبقى ذات مستمرة، فإذا كان يوم الجمعة مقتل زيد- مثلا- فيوم السبت الذي بعده ذات أخرى من الزمان لم يكن لها وصف القتل فيها، و يوم الجمعة تصرم و زال كما زال نفس الوصف.
و الجواب: إن هذا صحيح لو كان لاسم الزمان لفظ مستقل مخصوص، و لكن الحق: أن هيئة اسم الزمان (٤) موضوعة لما هو يعم اسم الزمان و المكان و يشملهما معا، فمعنى (المضرب) مثلا: الذات المتصفة بكونها ظرفا للضرب، و الظرف أعم من أن‏
____________
(١) فالأمور الانتزاعية ليست لها وجود متأصل في الخارج.
(٢) فالأمور الاعتبارية هي التي لا يوجد لها وجود متأصل، و لا وجود انتزاعي، و بعبارة أخرى: الأمور الاعتبارية ليس لها وجود في الخارج إلا بالاعتبار، و لذا المعتبر عند ما يرفع الاعتبار يزول الشي‏ء المعتبر.
(٣) هل النزاع يجري في اسم الزمان أم لا يجري؟
قد يتوهم: أن النزاع لا يجري في اسم الزمان، و منشأ هذا التوهم: هو اشتراط كون المشتق جاريا على الذات، و بقاء الذات بعد انعدام الصفة، و هذا الركن الثّاني غير متوفر في اسم الزمان، فإن ذات الزمان تزول بعد زوال الصفة المتلبسة بها، فإن القتل الذي حصل يوم الجمعة بعد زوال الصفة يزول ذات الزمن الذي هو يوم الجمعة، و إذا زالت الذات لا يجري النزاع فيها حينئذ.
و الجواب: نقول: إن هيئة اسم الزمان و هي «مقتل» لو كانت موضوعة لخصوص اسم الزمان لصح ما قلته و هو عدم جريان النزاع فيه للسبب المذكور، و لكن نحن نقول: إن هيئة اسم الزمان «مقتل» موضوعة للظرف، و الظرف أعم من أن يكون مكانا أو زمانا، و إذا كانت موضوعة للأعم من المكان و الزمان يصح النزاع فيها باعتبار أنها موضوعة لاسم المكان، فإن اسم المكان ذاته باقية و إن زالت الصفة عنه، فإن المكان الذي قتل فيه زيد بعد زوال القتل هل يجري فيه النزاع؛ أي: هل يقال له على نحو الحقيقة: أنه مقتل زيد؟ أم يقال له: مقتل زيد على نحو الحقيقة في صورة التلبس بالقتل الفعلي فقط؟
(٤) صيغة اسم الزمان مثل صيغة مقتل أي زمان القتل.
١٣٦
يكون زمانا أو مكانا، و يتعين أحدهما (١) بالقرينة. و الهيئة إذا كانت موضوعة للجامع بين الظرفين، فهذا الجامع يكفي في صحة الوضع له و تعميمه لما تلبس بالمبدإ و ما انقضى عنه أن يكون أحد فرديه يمكن أن يتصور فيه انقضاء المبدأ و بقاء الذات.
و الخلاصة: إن النزاع حينئذ: يكون في وضع أصل الهيئة (٢) التي تصلح للزمان و المكان؛ لا لخصوص اسم الزمان (٣). و يكفي في صحة الوضع للأعم إمكان الفرد المنقضي عنه المبدأ في أحد أقسامه (٤)، و إن امتنع الفرد الآخر (٥).

٣- اختلاف المشتقات من جهة المبادئ‏

و قد يتوهم بعضهم: إن النزاع هنا لا يجري في بعض المشتقات الجارية على الذات، مثل: النجار و الخياط و الطبيب و القاضي، و نحو ذلك مما كان للحرف و المهن، بل في هذه من المتفق عليه أنه موضوع للأعم. و منشأ الوهم: أنا نجد صدق هذه المشتقات حقيقة على من انقضى عنه التلبس بالمبدإ- من غير شك- و ذلك نحو صدقها على من كان نائما- مثلا- مع أن النائم غير متلبس بالنجارة فعلا أو الخياطة أو الطبابة أو القضاء؛ و لكنه كان متلبسا بها في زمان مضى. و كذلك الحال في أسماء الآلة كالمنشار و المقود و المكنسة فإنها تصدق على ذواتها حقيقة مع عدم التلبس بمبادئها.
و الجواب عن ذلك: إن هذا التوهم منشؤه الغفلة عن معنى المبدأ المصحح لصدق المشتق، فإنه يختلف باختلاف المشتقات، لأنه تارة: يكون من الفعليات، و أخرى:
من الملكات، و ثالثة من الحرف و الصناعات. (مثلا): اتصاف زيد بأنه قائم إنما يتحقق إذا تلبس بالقيام فعلا، لأن القيام يؤخذ على نحو الفعلية مبدأ لوصف (قائم)
____________
(١) الضمير راجع إلى الزمان أو المكان.
(٢) و هي «مفعل».
(٣) نعم لو كانت هيئة مفعل موضوعة لخصوص الزمان لما جرى النزاع فيها؛ لأن زوال الوصف في اسم الزمان ملازم لزوال الذات. مثلا: إذا كان يوم الجمعة مقتل زيد فإن يوم السبت يزول وصف القتل. لأن يوم السبت ذات أخرى من الزمان لم يكن لها وصف القتل، و حينما زال الوصف زال اسم الزمان و هو يوم الجمعة، و بالتالي لا يوجد ذات ليتنازع عليها.
(٤) الضمير راجع إلى اسم المكان.
(٥) و هو اسم الزمان.
١٣٧
و يفرض الانقضاء بزوال فعلية القيام عنه. و أما اتصافه بأنه عالم بالنحو (١) أو أنه قاضي البلد فليس بمعنى: أنه يعلم ذلك فعلا أو أنه مشغول بالقضاء بين الناس فعلا، بل بمعنى أن له ملكة العلم أو منصب القضاء، فما دامت الملكة أو الوظيفة موجودتين فهو متلبس بالمبدإ حالا و إن كان نائما أو غافلا. نعم يصح أن نتعقل الانقضاء إذا زالت الملكة أو سلبت عنه الوظيفة، و حينئذ: يجري النزاع في أن وصف القاضي- مثلا- هل يصدق حقيقة على من زال عنه منصب القضاء؟
و كذلك الحال في مثل: النجار و الخياط و المنشار، فلا يتصور فيها الانقضاء إلا بزوال حرفة النجارة و مهنة الخياطة و شأنية النشر في المنشار.
و الخلاصة: إن الزوال و الانقضاء في كل شي‏ء بحسبه، و النزاع في المشتق إنما هو في وضع الهيئات، مع قطع النظر عن خصوصيات المبادئ المدلول عليها بالمواد التي تختلف اختلافا كثيرا.

٤- استعمال المشتق بلحاظ حال التلبس حقيقة (٢)

اعلم أن المشتقات التي هي محل النزاع بأجمعها هي من الأسماء (٣).
____________
(١) ٣- اختلاف المشتقات من جهة المبادئ:
إذا قلت: «زيد عالم» فإن زيدا مع العلم يوجد اتحاد بينهما، فإن العلم حال في زيد. و مثال آخر: «زيد أبيض» فإنه يوجد اتحاد بينهما و لكن بنحو هل البياض في زيد هنا يسمى اتحادا حلوليا؟ فإن البياض و العلم و المرض و الحسن و القبح، نحوها، فإن اتصاف الذوات بها و اتحادها معها يكون بنحو الحلول.
(٢) في هذا البحث نفرق بين ما يسمى بحال التلبس، و ما يسمى بحال الإسناد، و ما يسمى بحال التكلم و النطق.
فحال التلبس: هو عبارة عن الحال الذي تتلبس فعليا، و لنفترض في يوم الجمعة تلبست الذات بالضرب فعلا فهذا يسمى بحال التلبس.
و أما حال الإسناد: هو عبارة عن إسناد المشتق إلى الذات.
و أما حال النطق أو حال الكلام: و هذا عبارة عن وقت التلفظ و النطق.
و ببيان أوضح نقول: قد يحصل الضرب من زيد في يوم الأربعاء فحال تلبس زيد بكونه ضاربا في يوم الأربعاء. و أما حال الإسناد: فحاله قد يجتمع مع حال التلبس، و ذلك إذا أسند الضرب إلى زيد في يوم الأربعاء بأن قلت: زيد ضارب يوم الأربعاء، و قد يفترق عنه، و ذلك إذا أسند الضرب إلى زيد في يوم الخميس مثلا بأن قلت: زيد ضارب يوم الخميس فحال الإسناد هو يوم الخميس، بينما حال التلبس هو يوم الأربعاء، كما أن حال النطق قد يجتمع مع حال التلبس، و قد يفترق عنها.
(٣) و علة خروج الأفعال عن محل النزاع هو: إن الأفعال لا تحمل على الذات فلا نزاع فيها.
١٣٨
و الأسماء مطلقا لا دلالة لها على الزمان حتى اسم الفاعل و اسم المفعول، فإنه كما يصدق العالم حقيقة على من هو عالم فعلا كذلك يصدق حقيقة على من كان عالما فيما مضى، أو يكون عالما فيما يأتي بلا تجوز إذا كان إطلاقه عليه بلحاظ حال التلبس بالمبدإ، كما إذا قلنا: كان عالما أو سيكون عالما، فإن ذلك حقيقة بلا ريب، نظير الجوامد لو تقول فيها مثلا: الرماد كان خشبا أو الخشب سيكون رمادا.
فإذا: إذا كان الأمر كذلك فما موقع النزاع في إطلاق المشتق على ما مضى عليه التلبس أنه حقيقة أو مجاز؟
نقول: إن الإشكال و النزاع هنا إنما هو فيما إذا انقضى التلبس بالمبدإ و أريد إطلاق المشتق فعلا على الذات التي انقضى عنها التلبس، أي: أن الإطلاق عليها بلحاظ حال النسبة و الإسناد الذي هو حال النطق غالبا، كأن تقول مثلا: (زيد عالم فعلا) أي: أنه الآن موصوف بأنه عالم، لأنه كان فيما مضى عالما، كمثال إثبات الكراهة للوضوء بالماء المسخن بالشمس سابقا بتعميم لفظ المسخن في الدليل لما كان مسخنا.

[النتيجة]

فتحصّل مما ذكرناه ثلاثة أمور:
١- إن إطلاق المشتق بلحاظ حال التلبس حقيقة مطلقا، سواء كان بالنظر إلى ما مضى أو الحال أو المستقبل. و ذلك بالاتفاق.
٢- إن إطلاقه على الذات فعلا بلحاظ حال النسبة و الإسناد قبل زمان التلبس؛ لأنه سيتلبس به فيما بعد مجاز بلا إشكال، و ذلك بعلاقة الأول (١) أو المشارفة. و هذا متفق عليه أيضا.
٣- إن إطلاقه على الذات فعلا- أي: بلحاظ حال النسبة و الإسناد- لأنه كان متصفا به سابقا، هو محل الخلاف و النزاع، فقال قوم: بأنه حقيقة، و قال آخرون:
بأنه مجاز (٢).
____________
(١) و مثاله: إذا قلت: زيد عالم فعلا مع أن زيدا سوف يتصف بالعلم، فهذا مجاز بعلاقة الأيلولة.
(٢) و مثاله: عند ما تقول: زيد عالم فعلا، مع أن زيدا كان متصفا بالعلم. هنا يقع النزاع بأنه هل يكون المشتق على الذات حقيقة أم مجازا.
١٣٩

المختار:

إذا عرفت ما تقدم من الأمور، فنقول:
الحق: أن المشتق حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدإ، و مجاز في غيره.
و (دليلنا): التبادر، و صحة السلب عمن زال عنه الوصف، فلا يقال لمن هو قاعد بالفعل: أنه قائم. و لا لمن هو جاهل بالفعل: أنه عالم. و ذلك لمجرد أنه كان قائما أو عالما فيما سبق. نعم يصح ذلك على نحو المجاز، أو يقال: أنه كان قائما أو عالما، فيكون حقيقة حينئذ، إذ يكون الإطلاق بلحاظ حال التلبس.
و عدم تفرقة بعضهم بين الإطلاق بلحاظ حال التلبس، و بين الإطلاق بلحاظ حال النسبة و الإسناد هو الذي أوهم القول بوضع المشتق للأعم، إذ وجد أن الاستعمال يكون على نحو الحقيقة فعلا، مع أن التلبس قد مضى، و لكنه غفل عن أن الإطلاق كان بلحاظ حال التلبس، فلم يستعمله- في الحقيقة- إلّا في خصوص المتلبس بالمبدإ، لا فيما مضى عنه التلبس حتى يكون شاهدا له.
ثم أنك عرفت- فيما سبق- أن زوال الوصف يختلف باختلاف المواد من جهة كون المبدأ أخذ على نحو الفعلية، أو على نحو الملكة أو الحرفة. فمثل صدق الطبيب حقيقة على من لا يشتغل بالطبابة فعلا لنوم أو راحة أو أكل لا يكشف عن كون المشتق حقيقة في الأعم- كما قيل- و ذلك لأن المبدأ فيه أخذ على نحو الحرفة أو الملكة، و هذا لم يزل تلبسه به حين النوم أو الراحة. نعم إذا زالت الملكة أو الحرفة عنه كان إطلاق الطبيب عليه مجازا، إذا لم يكن بلحاظ حال التلبس كما قيل: هذا طبيبنا بالأمس، بأن يكون قيد (بالأمس) لبيان حال التلبس. فإن هذا الاستعمال لا شك في كونه على نحو الحقيقة. و قد سبق بيان ذلك (١).
____________
(١) ثمرة بحث المشتق: بعد كل هذا الكلام عن بحث المشتق ما هي ثمرة البحث عن المشتق؟ قد قيل: بترتب الثمرة على بحث المشتق في موارد:
أحدها: كراهة البول تحت الشجرة التي لا ثمرة لها فعلا مع كونها ذات ثمرة قبل ذلك، فإنه بناء على وضع المشتق للأعم مكروه، و على القول بوضعه للأخص غير مكروه. و يمكن أن يقال: إنّ الإثمار للشجرة من قبيل الاجتهاد و العدالة و غيرهما من الملكات لذوي العقول، فانقضاؤها منوط بزوال الشأنية، فتلبس الشجرة بالإثمار عبارة عن بقاء استعدادها له، فلا يعتبر في تلبسها به فعلية الإثمار، فما دامت الشجرة مستعدة له يصدق بعد زوال استعدادها للإثمار، هذا.
أقول: الروايات و إن كانت مشتملة على الشجرة المثمرة كرواية الحسين بن زيد عن الصادق عن أبيه‏
١٤٠
عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليهم السلام) في حديث المناهي قال: «نهى رسول الله (صلى الله عليه و آله) أن يبول تحت شجرة مثمرة». و عنه (صلى الله عليه و آله) في حديث آخر: «و كره أن يحدث الرجل تحت شجرة مثمرة قد أينعت»- يعني أثمرت-. و على مساقط الثمار كمرفوعة علي بن إبراهيم قال: «خرج أبو حنيفة من عند أبي عبد الله (عليه السلام) و أبو الحسن موسى (عليه السلام) قائم و هو غلام فقال له أبو حنيفة: يا غلام أين يضع الغريب ببلدكم حاجته؟ فقال: اجتنب أفنية المساجد و شطوط الأنهار و مساقط الثمار و منازل النزال» الحديث، لكن في بعضها كخبر السكوني: «أو تحت شجرة فيها ثمرتها»، و في بعضها الآخر كالمروي عن العلل عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إنما نهى رسول الله (صلى الله عليه و آله) أن يضرب أحد من المسلمين خلاء تحت شجرة أو نخلة قد أثمرت لمكان الملائكة الموكلين بها قال: و لذلك تكون النخلة و الشجرة أنسا إذا كان فيه حمله، لأن الملائكة تحضره». و ظهورهما- خصوصا الثاني- في كون الشجرة ذات ثمرة فعلا مما لا ينكر، فدعوى: كون موضوع الحكم بالكراهة هو خصوص الشجرة المثمرة فعلا كما أفتى به جماعة من المتأخرين على ما فيه- ثمر- قريبة جدا.
إلا أن يقال: أن كلا من الإثمار الفعلي و الشأني موضوع للحكم؛ كما ربما يستفاد ذلك من المروي في الفقيه: كون الملائكة موكلين بالأشجار حال عدم الثمرة أيضا، فلاحظ و تأمل.
ثانيها: كراهة الوضوء و الغسل بالماء المشمس بعد برده، و كراهة غسل الميت بالماء المسخن بعد برودته، فإنّ الحكم بالكراهة بعد ارتفاع السخونة مبني على وضع المشتق للأعم، و عدم اشتراط بقاء المبدأ في صدق المشتق.
ثالثها: ما إذا جعل عنوان خاص موقوفا عليه كسكان بلدة كذا أو طلاب مدرسة كذا، و أعرضوا عن تلك البلدة أو المدرسة، فإنّ جواز إعطائهم حينئذ من عوائده الموقوفة و عدمه مبني على بحث المشتق.
رابعها: عنوان الجلال العارض للحيوان المأكول اللحم، فإنه إذا زال عنه عنوان الجلل يمكن النزاع في بقاء حكمه بناء على وضع المشتق للأعم، و عدمه بناء على وضعه للأخص، لكن ثبت بالنص و الإجماع: كون استبراء الحيوان الجلال في المدة المضبوطة في كل حيوان موجبا لزوال حكم الجلل عنه، و عود الأحكام الثابتة له قبل جلله، فهذا المثال فرضي.
خامسها: الدار التي يشتريها المكتسب في أثناء سنة الاكتساب لسكناه ثم تخرج عن هذا العنوان، لحصول سكنى دار أخرى له، كما إذا جعل له سكنى دار مطلقا كأن يقول له مالك الدار: «أسكنتك داري»، أو مقيدا بعمر أحدهما كأن يقول له المالك: «لك سكنى داري مدة حياتك أو حياتي»، أو بزمان خاص كأن يقول له: «لك سكنى داري سنة أو سنتين أو أكثر».
و بالجملة: فإذا جعل له سكنى دار بأحد الأنحاء الثلاثة من السكنى و العمري و الرقبى و صار بذلك غنيا عن الدار التي اشتراها للسكن و عدت من المئونة، فهل تبقى على حكمها و هو عدم وجوب تخميسها بناء على وضع المشتق للأعم، إذ المفروض صدق المئونة عليها قبل الاستغناء عنها أم لا؟ فيجب إخراج خمسها بناء على وضع المشتق للأخص. و عليك بالتأمل فيما ذكرناه من الأمثلة التي فرعوها أو يمكن تفريعها على المشتق، فإن للتكلم فيها مجالا واسعا (١).
____________
(١) راجع: منتهى الدراية في شرح الكفاية، ج ١، ص ٣٥٨- ٣٦٠.
١٤١

الباب الثاني الأوامر

* و فيه بحثان:
- في مادة الأمر
- و صيغة الأمر
و خاتمة في تقسيمات الواجب‏
١٤٢
{*empty#}صفحة فارغة (مطابق للمطبوع){#empty*}
١٤٣

المبحث الأول مادة الأمر (١)

و هي كلمة (الأمر) المؤلفة من الحروف (أ. م. ر) و فيها (٢) ثلاث مسائل:

١- معنى كلمة الأمر (٣)

قيل: إن كلمة (الأمر) لفظ مشترك بين الطلب (٤) و غيره مما تستعمل فيه هذه‏
____________
مادة الأمر:
(١) المقصود من مادة الأمر- كما بينها المصنف- هي عبارة عن الحروف المؤلفة من كلمة «أمر» و هي «أ، م، ر»، و لمادة الأمر مشتقات مثل: أمرك بالصلاة أو أنت مأمور بها و هكذا، فهذه الوسيلة تدل على الطلب مباشرة و من دون حاجة إلى إعمال عناية، بخلاف الجملة الخبرية المستعملة في مقام الطلب مثل قول الإمام (عليه السلام): «يعيد» عند ما سأله السائل عمّن شك في صلاته بين الركعة الأولى و الثانية، فإن جملة «يعيد» جملة خبرية، استعملت بداعي الطلب فتكون دالة عليه، فإنها تدل على الطلب مع إعمال العناية؛ و ذلك لأن الجملة الخبرية تدل مباشرة على الإخبار، و لا تدل على الطلب، و لذا دلالتها على الطلب يحتاج إلى إعمال العناية.
- ملاحظة أولى: إن جميع ما يذكر في مباحث الألفاظ في صناعة الأصول إنما هو تشخيص صغريات أصالة حجية الظهور، فلا بدّ من الوقوف عند جميع تلك الصغريات، لأنه المرجع في ذلك كله.
- ملاحظة ثانية: تقوم التكاليف الشرعية على مفهوم «الأمر» و «النهي»، و بهما نميز بين حلال الله و حرامه و لذا نشأت الحاجة للعلماء و الفقهاء إلى معرفة الأمر و النهي لفظا و معنى.
(٢) الضمير راجع إلى مادة الأمر.
(٣) لا شك: في دلالة مادة الأمر بالوضع على الطلب، و لكن لا بنحو تكون مرادفة للفظ الطلب، لأن الطلب أعم من الأمر، حيث أن الطلب يشمل الطلب التكويني و التشريعي.
و بعبارة أكثر وضوحا نقول: إن الطلب يشمل الطلب الصادر إلى المساوي، و من الداني إلى العالي، و العالي إلى الداني، بينما الأمر هو خصوص الطلب الصادر من العالي إلى الدّاني حقيقة. فالطلب أعم من الأمر.
(٤) ما هي حقيقة الطلب لغة؟ الطلب: هو السعي نحو شي‏ء للظفر به. و بعبارة أخرى: الطلب هو السعي وراء المقصود، فمن فقد شيئا معينا و أخذ بالتفتيش عنه و السعي للعثور عليه سمّي سعيه بالطلب.
و السعي وراء المقصود له مصداقان:
المصداق الأول: هو سعي الإنسان بنفسه للبحث عنه.
١٤٤
الكلمة (١)، كالحادثة و الشأن و الفعل، كما تقول: (جئت لأمر كذا) (٢)، أو (شغلني‏
____________
و المصداق الثاني: سعي الإنسان نحو مقصوده بواسطة غيره للبحث عنه. فالشكل الأول في المصداق الأول يسمى بالطلب التكويني بينما الثاني يسمى بالطلب التشريعي. و بين الطلب و الأمر عموم و خصوص مطلق، بمعنى: كل أمر هو طلب و ليس كل طلب هو أمر أي: ليس كل ما صدق عليه مفهوم الطلب يصدق عليه مفهوم الأمر و العكس صحيح: إذا: دلالة كلمة «الأمر»- المعبر عنها بمادة الأمر- و مشتقاتها تدل على الطلب، فإن كل إنسان عادي يفهم من قولك «آمرك بالجد» أطلب منك الجد، و نستدرك و نقول: إن كلمة «الأمر» و إن كانت دالة على الطلب و لكن لا كل طلب بل خصوص الطلب من العالي إلى الداني، إما من المساوي إلى المساوي أو من الداني إلى العالي: فلا يسمى بالأمر بل يسمى بالطلب من دون التعبير عنه بكلمة «الأمر» كما هو واضح في التعليقة السابقة من الشرح.
(١) قد ذكر أهل اللغة للفظ الأمر معان متعددة منها: الطلب كما يقال: «أمره بكذا» أي: طلب منه كذا.
- و منها: الشأن، و الحادثة، و الفعل. و وضحناها في الشرح. و بالإضافة إلى هذه المعاني أيضا تأتي بمعنى الفعل كما في قوله تعالى: وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ أي: ليس فعل فرعون برشيد.
- و منها: الشي‏ء كما تقول: «رأيت اليوم أمرا عجيبا» أي: شيئا عجيبا.
- و منها: الغرض كما تقول: «جاء زيد لأمر كذا» أي: لغرض كذا.
إشكال أورده صاحب الكفاية: أشكل صاحب الكفاية على هذا الطلب قائلا: كيف يجعل الطلب، و الشي‏ء، و الغرض من معاني الأمر؟ هذا يكون من قبيل اشتباه المفهوم بالمصداق، و تفسير للشي‏ء بما هو أعم منه.
توضيح ذلك نقول: نفس الأمر الصادر من الأمر مصداق الطلب لا مفهومه، فجعل الطلب من معاني الأمر من قبيل اشتباه المفهوم بالمصداق.
- و بعبارة أخرى: بعض المعاني التي ذكرت للأمر كاستعماله في الطلب، و استعماله في الشي‏ء كقوله: «رأيت اليوم أمرا عجبا». فإن الأمر بقرينة الرؤية الواقعة على الأمر الخارجي قد استعمل في مصداق الشي‏ء لا في مفهومه، و استعماله في مصداق الغرض في مثل قوله للطبيب: «جئتك لأمر قاصدا به العلاج و التداوي»، فإن الأمر هنا يراد به مصداق الغرض أعني: العلاج، لا مفهومه و هو الداعي إلى وجود الشي‏ء (١).
و هذا الإشكال أيضا يورده على صاحب الفصول. لأن صاحب الفصول ذكر في فصوله ... «أن لفظ الأمر مشترك بين الطلب المخصوص كما يقال: أمره بكذا، و بين الشأن كما يقال: شغله أمر كذا، لتبادر كل منهما من اللفظ عند الإطلاق، مع مساعدة ظاهر كلام بعض اللغويين عليه».
- و حاصل إشكال صاحب الكفاية (قدس سره) على الفصول هو: إن لفظ الأمر لم يستعمل في مفهوم الشأن حتى يعد من معانيه، بل استعمل في مصداقه، فاشتبه على الفصول المفهوم بالمصداق، فدعوى كون الشأن معنى حقيقيا للأمر في غير محلها (٢).
(٢) أي: جئت لحادثة كذا.
____________
(١) راجع: منتهى الدراية في شرح الكفاية، ج ١، ص ٣٦٢.
(٢) منتهى الدراية في شرح الكفاية، ج ١، ص ٣٦٣- ٣٦٤.
١٤٥
أمر) (١) أو (أتى فلان بأمر عجيب) (٢).
و لا يبعد أن تكون المعاني التي تستعمل فيها كلمة الأمر- ما خلا الطلب- ترجع إلى معنى واحد جامع بينهما، و هو مفهوم (الشي‏ء) (٣).
فيكون لفظ الأمر مشتركا بين معنيين فقط: (الطلب) و (الشي‏ء) (٤).
____________
(١) أي: شغلني شأن.
(٢) أي: أتى فلان بفعل عجيب.
(٣) أي: الجامع بين الحادثة و الشأن و الفعل هو الشي‏ء.
(٤) إن لفظ الأمر حقيقة موضوعة إلى من؟
قال صاحب الكفاية في كفايته: لا يبعد دعوى كون لفظ الأمر حقيقة في الطلب في الجملة (يعني:
لا الطلب مطلقا بل مخصوص بالطلب الصادر من العالي) و الشي‏ء. هذا بحسب اللغة.
و المراد من «الشي‏ء» هنا: مطلق الأعيان كالماء و الحنطة و الشعير و غيرهم، و الصفات كالعلم و العدالة و غيرها من الملكات، و الأفعال كالأخذ و الإعطاء و غيرهما، و على هذا المعنى العام: يكون كثير من المعاني المزبورة كالفعل العجيب و الشأن و الحادثة و غيرها من مصاديقه لا بنحو الكلية.
إلا أن المصنف (الشّيخ المظفر) قال: إن المراد من الشي‏ء من لفظ الأمر: ليس كل شي‏ء على الإطلاق فيكون تفسيره به من باب تعريف الشي‏ء بالأعم ... فانظر إلى المتن ... و يكون مرادهم من الطلب و الشي‏ء بالجملة.
- و أما بحسب الاصطلاح: فإن لفظ الأمر حقيقة في القول المخصوص (أي: صيغة- افعل)، إذا: فلفظ الأمر اصطلاحا هو الصيغة. و مجاز في غيره.
و بناء على كون لفظ الأمر حقيقة في القول المخصوص: يرد إشكال و هو: عدم صحة الاشتقاق منه، يعني: أنه على كون معنى لفظ الأمر هو القول المخصوص، يكون الأمر جامدا، لعدم كون معناه حينئذ حدثا، و من المعلوم: أنّ مبدأ الاشتقاق هو المصدر الذي يكون مدلوله معنى حدثيا جامعا بين المشتقات، و ليس القول المخصوص الذي فرض كونه معنى الأمر ذلك المعنى الحدثي الجامع بينها، قال في الفصول: «لو أرادوا بالقول المخصوص نفس اللفظ أعني: الملفوظ- كما هو الظاهر من كلماتهم- لكان بمنزلة الاسم، و الفعل، و الحرف في مصطلح علماء العربية، فكان اللازم عدم صحة الاشتقاق منه، لعدم دلالته حينئذ على معنى حدثي».
إلا أن صاحب الكفاية يضعف هذا القول أي تضعيف، قد نقل الاتفاق على كون لفظ الأمر بحسب الاصطلاح حقيقة في القول المخصوص.
وجه التضعيف هو: إنه لا يصح الاشتقاق من لفظ الأمر بمعناه المصطلح عليه بين الأصوليين، مع أنّ الظاهر أنّه بمعناه الاصطلاحي يكون مبدأ الاشتقاق، فعدم صحة الاشتقاق منه بمعناه المصطلح يكشف عن أن معناه الاصطلاحي ليس هو القول المخصوص‏ (١).
____________
(١) منتهى الدراية في شرح الكفاية، ج ١، ص ٣٦٤- ٣٦٥.
١٤٦
و المراد من الطلب: إظهار الإرادة و الرغبة بالقول أو الكتابة أو الإشارة أو نحو هذه الأمور؛ مما يصح إظهار الإرادة و الرغبة و إبرازها به (١)، فمجرد الإرادة و الرغبة من دون إظهارها بمظهر لا تسمى طلبا. و الظاهر: إنه ليس كل طلب يسمى أمرا، بل بشرط مخصوص (٢) سيأتي ذكره في المسألة الثانية، فتفسير الأمر بالطلب من باب تعريف الشي‏ء بالأعم.
و المراد من الشي‏ء من لفظ الأمر أيضا: ليس كل شي‏ء على الإطلاق، فيكون تفسيره به من باب تعريف الشي‏ء بالأعم أيضا، فإن الشي‏ء لا يقال له (أمر) إلا إذا كان من الأفعال و الصفات (٣)، و لذا لا يقال: «رأيت أمرا» إذا رأيت إنسانا أو شجرا أو حائطا. و لكن ليس المراد من الفعل و الصفة المعنى الحدثي أي: المعنى المصدري؛ بل المراد منه نفس الفعل أو الصفة بما هو موجود في نفسه. يعني: لم يلاحظ فيه جهة الصدور من الفاعل و الإيجاد و هو المعبر عنه عند بعضهم بالمعنى الاسم المصدري، أي: ما يدل عليه اسم المصدر (٤).
____________
- و بعبارة أخرى: إن لفظ الأمر بحسب الاصطلاح الأصولي هو عبارة عن البعث بلفظ «افعل» أو ما يقوم مقامه، و تصح الاشتقاقات منه باعتبار تضمنه معنى البعث، و هو معنى حدثي قابل للاشتقاق و التفرع، و ليس المراد أن يكون لفظ الأمر موضوعا للقول المخصوص حتى يكون مثل لفظ الاسم الموضوع لكلمة مخصوصة حتى لا يصح الاشتقاق منه، لأنه ليس فيه معنى حدثيّ. هذا مع الظهور فيه‏ (١).
(١) و الظّاهر أن تفسير بعض الأصوليين للفظ الأمر بأنه (الطلب بالقول) ليس القصد منه إن لهم اصطلاحا مخصوصا فيه، بل باعتبار أنه أحد مصاديق المعنى، فإن الأمر كما يصدق على الطلب بالقول يصدق على الطلب بالكتابة أو الإشارة أو نحوهما. (المصنّف).
(٢) و هو اعتبار العلو الحقيقي في الأمر.
(٣) الأفعال هنا: بمعنى الصفات، و الواو الواقعة بينهما واو تفسيرية، و المراد منها هنا: الأعراض المقابلة للجواهر كالغسل و العلم و الكرم و القيام و الضرب و غيرها، فإنها كما يطلق عليها شي‏ء كذلك يطلق عليها لفظ أمر، و كذا نقول: جئت بأمر أي: جئت بغسل، و كذلك تقول: محمّد متصف بأمور كالعلم و الكرم و الشجاعة و غيرها، فإن الأمر هنا قد استعمل في الصفات بخلاف الجواهر (الإنسان و الشجر و غيرها) حيث يطلق عليها شي‏ء دون أن يطلق عليها أمر.
(٤) و بتوضيح أكثر نقول: تارة نلحظ الفعل و الصفة بما هو في نفسه و بغض النظر عن أي جهة
____________
(١) تهذيب الأصول ج ١، ص ٥٢.
١٤٧
و لذا لا يشتق (١) منه فلا يقال: (أمر. يأمر. آمر. مأمور) بالمعنى المأخوذ من الشي‏ء، و لو كان معنى حدثيا لاشتق منه.
بخلاف الأمر بمعنى الطلب، فإن المقصود منه: المعنى الحدثي و جهة الصدور، و الإيجاد، و لذا يشتق منه فيقال: (أمر. يأمر. آمر. مأمور).
و الدليل على أن لفظ الأمر مشترك بين معنيين: الطلب و الشي‏ء، لا إنه (٢) موضوع للجامع بينهما:
١- إن (الأمر)- كما تقدم- بمعنى الطلب يصح الاشتقاق منه، و لا يصح الاشتقاق منه بمعنى الشي‏ء. و الاختلاف بالاشتقاق و عدمه دليل على تعدد الوضع.
٢- إن (الأمر) بمعنى الطلب: يجمع على «أوامر»، و بمعنى الشي‏ء على «أمور»، و اختلاف الجمع في المعنيين دليل على تعدد الوضع (٣).

٢- اعتبار العلو في معنى الأمر (٤)

قد سبق أن الأمر يكون بمعنى الطلب، و لكن لا مطلقا بل بمعنى طلب‏
____________
أخرى، و هذا ما يعبر عنه باسم المصدر، و هو الذي لم يلحظ فيه عملية الصدور و الحدوث، بمعنى: أن النظر منصب على النتيجة أي: نتيجة الاغتسال، و هو الغسل.
و تارة نلحظه بما هو صادر من ذات، و هذا ما يعبر عنه بالمصدر، و هو الذي لوحظ فيه عملية الصدور و الحدوث كالاغتسال و التوضؤ و غيرها.
و الأوّل أعني: الفعل الملاحظ بما هو في نفسه، كالغسل هو الذي يستعمل فيه لفظ الأمر بمعنى الشي‏ء، و هو لا يشتق منه، بخلاف الثّاني أعني: الفعل الملاحظ فيه جهة الصدور، فإنه يكون معنى حدثيا و يشتق منه، و لا يستعمل فيه لفظ الأمر.
(١) لأن معنى اسم المصدر كالوضوء لا يشتق منه كما أوضحناه.
(٢) الضمير راجع إلى الأمر.
(٣) و الفرق بين ما يجمع على أوامر، و بين أمور هو: إذا كان عندنا في الخارج عدة أشياء مثلا:
كتاب، و قلم، و حبر يطلق على هذه الأشياء أمور، بينما إذا صدرت عدة طلبات، بأن مثلا: طلب المولى العرفي من عبده أن يشتري لحما، و سكينا، و ملحا، يطلق على هذه الطلبات أوامر.
اعتبار العلو في الأمر: (٤) قال أستاذنا فضيلة الشّيخ هادي آل الشّيخ راضي «حفظه الله» في هذا المطلب بما يلي: «اختلف العلماء في اعتبار العلو، أو الاستعلاء، أو الجامع بينهما في صدق الأمر. و التحقيق: أن هذا البحث تارة:
يساق بلحاظ الطاعة، و حينئذ: لا ينبغي الإشكال في اعتبار العلو الحقيقي، و لكن يحكم العقل بلزوم طاعة الأمر سواء كان بلسان الاستعلاء، أو بلسان‏ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً. و أخرى: يساق‏
١٤٨
مخصوص. و الظاهر: أن الطلب المخصوص هو الطلب من العالي إلى الداني، فيعتبر فيه العلو في الآمر.
و عليه: لا يسمى الطلب من الداني إلى العالي أمرا، بل يسمى (استدعاء). و كذا لا يسمى الطلب من المساوي إلى مساويه في العلو أو الحطة أمرا؛ بل يسمى التماسا و إن استعلى الداني أو المساوي و أظهر علوه و ترفعه و ليس هو بعال حقيقة.
أما العالي: فطلبه يكون أمرا و إن لم يكن متظاهرا بالعلو.
____________
بلحاظ تحديد ما هو المعنى اللغوي للأمر، و حينئذ: ثمرة البحث فقهية لا أصولية. و تظهر في ما إذا ورد مثلا: في وجوب إطاعة أمر الوالد، فهل يشترط فيه الاستعلاء من قبل الأب مثلا أم لا؟ و يرد إشكال على هذه الثمرة من ناحية وضوح إن ما هو ملاك مثل هذا الحكم بحسب المناسبات العرفية ليس هو استعلاء الوالدين بل علوهما الحقيقي.
و في تفصيل ذلك نقول:
- هل يعتبر العلوّ في مفهوم الأمر أم لا؟
- هل يعتبر الاستعلاء في مفهوم الأمر أم لا؟
الجواب: الاحتمالات ثلاثة:
١- اعتبار كلا الأمرين.
٢- اعتبار أحد الأمرين.
٣- اعتبار خصوص العلوّ.
و الصحيح هو الأخير، و الدليل: شهادة العرف و الوجدان بأنّ الطلب الصادر من العالي أمر، و عدم صحة إطلاق الأمر على الطلب السافل المستعلي إلا على سبيل العناية بل يوجب التوبيخ و التقبيح على ادعائه أنّ طلبه أمر.
- قال صاحب الكفاية في كفايته: الظاهر: اعتبار العلو في معنى الأمر، فلا يكون الطلب من السافل أو المساوي أمرا، و لو أطلق الأمر على طلب السافل أو المساوي كان بنحو من العناية و المجاز. هذا الأمر الأول.
- أما الأمر الثاني: هل يعتبر فيه الاستعلاء أم لا؟ قال (قدس سره) في كفايته: الظاهر عدم اعتبار الاستعلاء.
فيكون الطلب من العالي أمرا و لو كان مستخفضا لجناحه.
- و أما احتمال اعتبار أحدهما (علو الطالب واقعا، و أما استعلاءه في صدق الطلب الذي هو معنى الأمر فطلب المساوي أو السافل مع الاستعلاء أمر أيضا) فضعيف. و ذلك لعدم الدليل عليه، بل عرفت آنفا: اعتبار العلو الواقعي في مفهوم الطلب بشهادة العرف و الوجدان، كل هذا بحكم التبادر و صحة سلب الأمر عن طلب غير العالي.
و أيّا ما كان فالظاهر: اشتراط العلو في صدق الأمر دون الاستعلاء.
١٤٩
كل هذا بحكم التبادر و صحة سلب الأمر عن طلب غير العالي، و لا يصح إطلاق الأمر على الطلب من غير العالي إلا بنحو العناية و المجاز و إن استعلى.

٣- دلالة لفظ الأمر على الوجوب (١)

اختلفوا في دلالة لفظ الأمر بمعنى (الطلب) على الوجوب، فقيل: أنه موضوع‏
____________
(١) دلالة لفظ الأمر على الوجوب:
هل الأمر موضوع لخصوص الوجوب، أو لخصوص الاستحباب، أو للجامع بينهما؟
الجواب: الأمر موضوع لخصوص الوجوب.
و البحث وقع في دلالته على الوجوب تارة: في أصل الدلالة، و أخرى: في ملاكها و منشأها.
أما أصل دلالة الأمر لخصوص الوجوب: فيدل عليه قوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ، الدال على أن الأمر ظاهر في خصوص الطلب الوجوبي، و إلا لم يترتب على مخالفته عقوبة إلا أن هذا الدليل غاية ما يستفاد منه: إطلاق الأمر على الوجوب و استعماله فيه، و الاستعمال أعم من الحقيقة، فلا تكون الآية الشريفة دليلا على أن الأمر حقيقة في الوجوب، و لذا تجد صاحب الكفاية في كفايته جعلها من المؤيدات و لم يجعلها من الأدلة.
و من أدلة القائلين بكون الأمر حقيقة في الوجوب: قوله (صلى الله عليه و آله): «لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك» بتقريب: أنه (صلى الله عليه و آله) مع أمره مرارا بالسواك على وجه الاستحباب، قال «لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك»، و لا بدّ من كون هذا الأمر للوجوب بعد فرض صدور الأمر الاستحبابي بالسواك منه (صلى الله عليه و آله)، و إلا لزم لغوية الأمر المترتب على المشقة، هذا و لكن فيه ما قيل: من أنّه إنّما يدل على الوجوب لقرينة خارجية و هي المشقة و هو غير المدعى.
و من أدلة القائلين بكون الأمر حقيقة في الوجوب: قوله (صلى الله عليه و آله) لبريرة بعد قوله:
أ تأمرني يا رسول الله «لا، بل إنما أنا شافع». و حاصل هذا الدليل: أنّ بريرة كانت أمة لعائشة و زوجها كان عبدا ثم أعتقتها، فلما علمت بريرة بخيارها في نكاحها بعد العتق أرادت مفارقة زوجها، فاشتكى الزوج إلى النبي (صلى الله عليه و آله) فقال (صلى الله عليه و آله) لبريرة: «ارجعي إلى زوجك، فإنّه أبو ولدك و له عليك منة، فقالت: يا رسول الله (صلى الله عليه و آله): أ تأمرني بذلك؟ فقال (صلى الله عليه و آله): «لا إنما أنا شافع».
تقريب الاستدلال به: أن نفيه (صلى الله عليه و آله) للأمر دليل على كونه للوجوب، و لذا قالت بريرة له (صلى الله عليه و آله): «أ تأمرني يا رسول الله (صلى الله عليه و آله) بذلك؟» إذ لو لم تكن دلالة الأمر على الوجوب مركوزة في الأذهان لم يكن وجه لسؤالها وجه، هذا. لكن فيه: أن الاستعمال أعم من الحقيقة- كما مر في الدليل الأول من الآية الشريفة- و الوجوب إنّما يستفاد منه هنا بسبب القرينة. و لذا تجد صاحب الكفاية في كفايته جعلها من المؤيدات و لم يجعلها من الأدلة.
- و ذكر من الأدلة على أن الأمر حقيقة في الوجوب هو: أن صحة مؤاخذة العبد و توبيخه على مجرد
١٥٠
مخالفة أمر المولى دليل على كون الأمر حقيقة في الوجوب، إذ لا يتوجه الذم و العقوبة بالمؤاخذة إلا على ترك الواجب، و لذا توجيه التوبيخ على إبليس بسبب تركه لما أمر به من السجود لآدم حينما قال تعالى للملائكة: اسْجُدُوا لِآدَمَ. إلا أن هذا الدليل لا يثبت بذلك إلا ظهور الأمر في الوجوب من دون أن يثبت بالوضع أي: من دون أن يثبت أن الأمر وضع للوجوب. هذا لا دليل عليه. إذا: كل الأدلة المطروحة من الآية الشريفة و الأحاديث إنما تدل على الوجوب لظهور الأمر فيها، و الظهور العرفي حجة ببناء العقلاء، و هو كاف في ثبوت الوجوب من دون حاجة إلى إثبات الوضع له‏ (١).
قال السيد محمود الهاشمي في تقريراته للسيد الشهيد (قدس سره): نحن في غنى عن مثل هذه الاستدلالات فإنه مما اتفق عليه المحققون: دلالة مادة الأمر على الوجوب بحكم التبادر، و بناء العرف و العقلاء على كون الطلب الصادر من المولى بمادة الأمر وجوبا، و لم يستشكل فقيه في استفادة الوجوب من لفظ أمر ورد في لسان الشارع عند عدم القرينة على الاستحباب.
و إنما الذي وقع فيه البحث هو: كيفية تفسير هذه الدلالة و تحديد منشأها. و قد اختلفوا في ذلك على أقوال ثلاثة:
١- أن تكون الدلالة على أساس الوضع للوجوب.
٢- أن تكون بحكم العقل.
٣- أن تكون بالإطلاق و مقدمات الحكمة.
و قد ذهب المشهور إلى القول الأول، و ذهبت مدرسة المحقق النائيني (قدس سره) إلى القول الثاني، و ذهب المحقق العراقي إلى القول الثالث. و هذه الأقوال و الاحتمالات الثلاثة واردة في صيغة الأمر أيضا على حد واحد، لأن دلالتها على الوجوب كدلالة مادته مفروغ عنها بحكم التبادر و الوجدان العقلاني، و إنما البحث في تفسيرها و ملاكها. و نحن هنا نبحث عن تفسير دلالة الأمر على الوجوب بلحاظ المادة و الهيئة معا. فنقول:
أما القول الأول: فدليله التبادر مع إبطال سائر المناشئ الأخرى المدعاة لتفسير هذا التبادر، بمعنى: عدم إمكان الجزم يكون بالوضع هو السبب لتبادر الوجوب إلا بعد إبطال القولين الأخيرين (أي: القول الثاني و الثالث). إذا: التبادر دليل على منشأ التبادر هو الوضع، و هذا لا يكون إلا بعد إبطال القول الثاني و الثالث‏ (٢).
القول الثاني: فقد ذكر المحقق الميرزا النائيني في إثباته: إن الوجوب ليس مدلولا للدليل اللفظي و إنما مدلولة الطلب فحسب، و كل طلب يصدر من العالي إلى الداني و لا يقترن بالترخيص في المخالفة يحكم العقل بلزوم امتثاله و إطاعته و بهذا اللحاظ ينتزع عنوان الوجوب منه.
و بعبارة أخرى: إنّ الأمر بمعنى الطلب موضوع لمطلق الطلب، و خصوصية الوجوب و كذا الاستحباب‏
____________
(١) المصادر: ١- منتهى الدراية في شرح الكفاية، ج ١، ص ٣٧٢- ٣٧٥.
٢- منتهى الأصول، ج ١، ص ١٧٤- ١٧٨.
(٢) مباحث الدليل اللفظي، ج ٢، ص ١٨- ١٩.
١٥١
خارجتان عمّا وضع له. نعم يكون له ظهور إطلاقي في الوجوب عند عدم القرينة على الاستحباب، و ذلك من جهة أنّ كلّ ما يحتاج بيانه إلى مئونة زائدة على إلغاء أصل الطبيعة أو اللفظ و لم يؤت بتلك المئونة الزائدة فالإطلاق يرفعه، سواء كانت نتيجته التوسعة في المراد أو التضييق فيه.
و بعبارة أكثر وضوحا نقول: ما ذهب إليه الميرزا و السيد الخوئي (قدس سرهما) من سبب الدلالة ليس هو الوضع؛ بل حكم العقل. فكلمة «الأمر» و صيغته تدلان على الطلب فقط من دون دلالة على الوجوب؛ و لكن الطلب بعد صدوره من المولى و عدم اقترانه بالترخيص يحكم العقل عليه بالوجوب، فالوجوب إذا على هذا الأساس: حكم عقلي و ليس مدلولا وضعيا (١).
و يرد على هذا القول: ١- إن موضوع حكم العقل بلزوم الامتثال لا يكفي فيه مجرد صدور الطلب مع عدم اقترانه بالترخيص، فإن صدور الطلب من دون ترخيص ليس هو العلة لحكم العقل بالوجوب كما قال الميرزا و السيّد الخوئي (قدس سرهما)، بل العلة لذلك: قوة الملاك التي يكشف عنها الأمر. فإذا: الكاشف عن قوة الملاك هو الأمر، فإن أمر «صل» و «صم» و غيرهما يفهم منه العرف حينما يسمعه: أن الملاك في «الصلاة» و «الصوم» قوي، فيحكم العقل حينذاك بالوجوب. إذا: لفظ الأمر له المدخلية الكاملة لاستفادة الوجوب، و ليس الطلب- بضميمة عدم صدور الترخيص- كافيا في حكم العقل بالوجوب.
٢- لو صدر دليلان أحدهما يقول: «أكرم العالم» و الآخر يقول: «لا يجب إكرام أحد» فما هو الموقف تجاه هذين الدليلين؟ إن الموقف حسب ما يقوله الأصوليون و حسب ما هو المرتكز في الأذهان العرفية أيضا: تخصيص الدليل الثاني بالأول فتكون النتيجة: لا يجب إكرام أحد إلا العالم فإنه يجب إكرامه، هذه هي النتيجة التي بيني عليها الأصوليون، و الحال: إن لازم هذا الاتجاه الثاني عدم وجوب إكرام أحد حتى العالم لأن الدليل الأول إنما يصير مخصصا للثاني فيما لو كان الأول دالا على الوجوب، إذ بدلالته على وجوب إكرام العالم ترفع اليد عن عموم: لا يجب إكرام أحد، و واضح: إنه بناء على الاتجاه الثاني لا يكون الدليل الأول دالا على الوجوب؛ لاقترانه بما يدل على الترخيص في الترك فإنه مقترن بالدليل الثاني الدال بواسطة عمومه على جواز ترك إكرام كل شخص حتى العالم، و مع عدم دلالة الدليل الأول على الوجوب لا يكون مخصصا للدليل الثاني؛ بل يحكم بجواز ترك إكرام كل شخص حتى العالم، و هذا مما لا يلتزم به أحد حتى الميرزا (قدس سره) على حد تعبير الأستاذ الشّيخ باقر الإيرواني.
٣- ما المراد من عدم الترخيص في الترك الذي لا بد من افتراض اقترانه بالطلب حتى يحكم العقل بالوجوب؟ إن فيه ثلاثة احتمالات:
أ- أن يراد: لو صدر الطلب و لم يتصل به الترخيص: فالعقل يحكم بالوجوب، و هذا الاحتمال باطل‏
____________
(١) المصادر: ١- مباحث الدليل اللفظي، ج ١، ص ١٨.
٢- منتهى الأصول، ج ١، ص ١٧٤- ١٧٥.
٣- الحلقة الثالثة في أسلوبها الثاني، ج ١، ص ٣٦٨.
١٥٢
لأن لازمه أن الطلب بمجرد صدوره يحكم العقل بالوجوب ما دام لم يتصل به الترخيص، بحيث لو صدر الترخيص بعد يوم أو يومين رفض من جهة منافاته لحكم العقل بالوجوب، مع أنه من الأمور الواضحة أن الترخيص يقبل و لا يرفض حتى لو صدر بعد يوم أو يومين و يحكم بعدم الوجوب.
ب- أن يراد: لو صدر الطلب و لم يصدر الترخيص المتصل و لا المنفصل: فالعقل يحكم بالوجوب.
و هذا الاحتمال باطل أيضا إذ لازمه أن لا يحكم العقل بالوجوب أبدا؛ فإنه في كل آن يحتمل العقل صدور الترخيص الآن أو فيما بعد.
ج- أن يراد: لو صدر الطلب و لم يعلم المكلف بالترخيص: فالعقل يحكم بالوجوب، و على أساس هذا الاحتمال: يحكم العقل بالوجوب و إن احتمل صدور الترخيص بعد مدة لأنه بالتالي لا يعلم بالترخيص، و مع عدم العلم بالترخيص يحكم بالوجوب. و هذا الاحتمال باطل أيضا إذا كلامنا في الوجوب الواقعي، و أنه ما هي النكتة لفهم الوجوب الواقعي هل هي الوضع أو العقل أو شي‏ء آخر، و واضح: إن الوجوب الواقعي لا يناط بالعلم و لا بعدم العلم و إنما الذي يناط بذلك تنجز الوجوب، فالوجوب يتنجز عند عدم العلم بالترخيص و لا يتنجز عند العلم بالترخيص، و المفروض: أن كلامنا ليس في تنجز الوجوب بل في الوجوب الواقعي.
و الخلاصة: إن في المراد من عدم الترخيص ثلاثة احتمالات كلها باطلة فيثبت أن أصل هذا الاتجاه باطل.
القول الثالث: أن السبب لدلالة الأمر على الوجوب هو الإطلاق و مقدمات الحكمة، و يمكن توضيح ذلك بأحد بيانات ثلاثة:
البيان الأول: و هذا البيان ينسب للشيخ العراقي في بدائع الأفكار ص ٢١٤، و محصله ما يلي: و يمكن منهجة هذا البيان ضمن النقاط التالية:
أ- إن الوجوب عبارة عن إرادة الشي‏ء إرادة شديدة، بينما الاستحباب عبارة عن إرادة الشي‏ء إرادة ضعيفة.
ب- إن شدة الإرادة ليست إلا نفس الإرادة نظير شدة السواد فإنها بمعنى: وجود سواد أكثر، و أما ضعف الإرادة فهو عبارة عن عدم الإرادة نظير ضعف السواد، فإنه بمعنى: عدم السواد الزائد، و بكلمة أخرى: الإرادة الشديدة مركبة من جزءين: إرادة و شدة، و حيث أن الشدة عبارة أخرى عن نفس الإرادة فالإرادة الشديدة إذا كلها إرادة و ما به الامتياز عين ما به الاشتراك، و هذا بخلاف الإرادة الضعيفة فإنها مركبة من جزءين: إرادة و ضعف، و حيث أن الضعف عبارة عن عدم الإرادة فالإرادة الضعيفة إذا مركبة من إرادة و عدم إرادة و ليست كلها إرادة، إذ ما به الامتياز مغاير لما به الاشتراك، فما به الاشتراك هو الإرادة بينما ما به الامتياز هو عدم الإرادة.
ج- إن الذي يحتاج إلى بيان أكثر هو أن الإرادة الضعيفة تحتاج إلى دالين: دال على الإرادة و دال آخر على عدم الإرادة، بينما الإرادة الشديدة لا تحتاج إلى دالين بل تكتفي بدال واحد يدل على أصل الإرادة، لأن المفروض: أنها إرادة لا غير.
و النتيجة من خلال هذه النقاط الثلاث: أن الأمر يدل على الوجوب؛ إذ الأمر يدل على الإرادة فقط،
١٥٣
و حيث أن الوجوب هو إرادة خالصة فيكون هو المدلول للأمر. هذه حصيلة البيان الأول.
و يرده: ما ذكره جماعة: من أن مقدمات الحكمة مقدمات عرفية، و العرف لا يطبقها في المجالات التي تستدعي افتراضات دقيقة غير عرفية- كما هو الحال في هذا البيان- فإنه يشتمل على افتراضات غير عرفية مثل ما ذكر في النقطة الثانية: من أن شدة الإرادة بخلاف ضعف الإرادة فإنه عدم إرادة، فيكون ما به الامتياز عين ما به الاشتراك في الإرادة الشديدة دون الإرادة الضعيفة.
البيان الثاني: و هو مركب من مقدمتين:
١- إن حقيقة الوجوب عبارة عن طلب الفعل و لكن ليس هو فقط؛ إذ طلب الفعل ثابت في المستحبات أيضا فلا بدّ من فرض ضميمة، و في الضميمة احتمالان:
أ- أن تكون عبارة عن النهي بمعنى: أن الوجوب عبارة عن طلب الفعل مع إضافة قيد آخر و هو النهي، فهو- الوجوب- طلب الفعل مع النهي عن الترك.
و هذا الاحتمال باطل فإن النهي كما هو ثابت في الوجوب ثابت في الكراهة أيضا، فإن الكراهة تشتمل على النهي أيضا، و مع ثبوته في الكراهة يكون النهي جنسا شاملا للوجوب و الكراهة، و إذا كان جنسا فلا يمكن أن يكون هو الضميمة المنضمة إلى طلب الفعل؛ و إلا يلزم تركب حقيقة الوجوب من جنسين هما طلب الفعل و النهي، و واضح إن: حقيقة الشي‏ء لا تتركب من جنسين بل من جنس و فصل.
و لعل قائلا يقول: إن الضميمة لو جعلناها عبارة عن أصل النهي فالبيان المذكور تام؛ لأن النهي جنس صادق على الوجوب و الكراهة معا، و حقيقة الشي‏ء لا تتركب من جنسين، و لكن لم لا نفرض الضميمة هي النهي عن الترك، فإن النهي المضاف إلى الترك يختص بالوجوب و لا يشمل الكراهة.
و الجواب: إن أصل النهي لو كان جنسا فبإضافته إلى الترك لا يصير فصلا بل يصير جنسا مقيدا، و من الواضح: إن حقيقة الشي‏ء لا تتركب من جنس و جنس مقيد بل من جنس و فصل.
و هذا تطويل لا داعي له، فبالإمكان أن يقال: إن النهي عن الترك ليس هو الضميمة لأنه ثابت في المستحبات أيضا، و هذا واضح و أخصر و أمتن.
ب- أن تكون الضميمة عبارة عن عدم الترخيص في الترك، فالوجوب عبارة عن طلب الفعل مع عدم الترخيص في الترك، بخلاف الاستحباب فإنه طلب الفعل مع الترخيص في الترك. و هذا الاحتمال هو الصحيح.
إذا: الوجوب مركب من جزءين أحدهما: وجودي و هو طلب الفعل، و ثانيهما: عدمي و هو عدم الترخيص في الترك، بينما الاستحباب مركب من جزءين كلاهما وجودي.
٢- و بعد هذا نسأل: أيهما يحتاج إلى بيان أكثر، هل الوجوب يحتاج إلى بيان أكثر أو الاستحباب؟
الصحيح: أن الاستحباب يحتاج إلى بيان أكبر إذ هو مركب من جزءين كلاهما وجودي، و كل أمر وجودي يحتاج إلى بيان يدل عليه، فالاستحباب إذا: يحتاج إلى بيانين: بيان للجزء المشترك و هو طلب الفعل، و بيان للجزء الثاني و هو الترخيص في الترك، و هذا بخلاف الوجوب فإنه يحتاج إلى بيان واحد يبين الجزء المشترك و لا يحتاج إلى بيان آخر للجزء الثاني، فإن الجزء الثاني- و هو عدم الترخيص في‏
١٥٤
الترك- أمر عدمي، و الأمر العدمي ليس شيئا حتى يحتاج إلى بيان بل هو عدم شي‏ء، و بكلمة أخرى:
الأمر العدمي ليس شيئا زائدا على الجزء الأول المشترك- إذ لو كان زيادة لما كان عدما بل وجودا- فلا يحتاج إلى بيان زائد.
و يمكن صياغة المقدمة الثانية بعبارة أخرى بأن نقول: إذا كان عندنا كلام- مثل: أمر اغتسل- يدل على حيثية مشتركة هي طلب الفعل، و دار أمرها بين أن يكون المقصود منها الطلب الوجوبي الذي هو حقيقة مائزها أمر عدمي، و بين أن يكون المقصود منها الطلب الاستحبابي الذي هو حقيقة مائزها أمر وجودي تعين الحمل على الطلب الوجوبي، لأن الحيثية الأولى للطلب الوجوبي و هي أصل طلب الفعل يفي بها أمر اغتسل مثلا، و الحيثية الثانية لا تحتاج إلى بيان زائد لكونها أمرا عدميا. هذه حصيلة البيان الثاني.
و يرده: إن عدم الترخيص في الترك الذي هو الحيثية الثانية في الوجوب و إن كان أمرا عدميا إلا أنه ليس كل أمر عدمي لا يراه العرف زيادة بل بعض الأعدام يراها العرف زيادة تحتاج إلى بيان كما هو الحال في عدم الترخيص في المقام، فإن العرف يراه شيئا آخر زائدا على طلب الفعل و بحاجة إلى بيان زائد؛ بشهادة أن العرف حينما نسأله عن حقيقة الوجوب يجيبنا: أنه عبارة عن جزءين: طلب الفعل و عدم الترخيص في الترك، فلو كان عدم الترخيص ليس شيئا زائدا على طلب الفعل فمن المناسب تفسير الوجوب بطلب الفعل فقط.
هذا مضافا إلى أن عدم الترخيص لو لم يكن شيئا زائدا و مغايرا لطلب الفعل يلزم كون النسبة بين الوجوب و الاستحباب كنسبة المركب من جزء واحد إلى المركب من جزءين أي: كنسبة الأقل إلى الأكثر- كالحيوان إلى الإنسان فإنه يعد عرفا أقل و الإنسان أكثر لتركبه من حيوانية و ناطقية- و الحال:
أن ذلك مخالف للوجدان العرفي، فإنه يرى النسبة بين الوجوب و الاستحباب نسبة المباين إلى المباين الأقل إلى الأكثر.
البيان الثالث: أن صيغة الأمر تدل على الإرسال، فصيغة ادرس مثلا تدل على الإرسال للدرس و الدفع إليه، نظير إرسال الكرة للهدف، فكلاهما إرسال إلا أن هذا إرسال إلى الدرس و ذلك إرسال إلى الهدف.
ثم أن الإرسال يلازم سدّ باب العودة و المخالفة، فكما أن مرسل الكرة بإرسال لها يكون قد سد عليها باب الرجوع و العودة- و إلا لما كان إرساله إرسالا- فكذلك الإرسال إلى الدرس يلازم سدّ باب المخالفة و عدم التحرك إلى الدرس. و بعد هذا نقول: إن الإرسال الملازم لسد باب المخالفة يتناسب مع أي حكم فهل يتناسب مع الوجوب أو يتناسب مع الاستحباب؟ لا إشكال في تناسبه مع الوجوب، إذ في الوجوب يكون باب المخالفة مسدودا بخلافه في الاستحباب فإنه ليس مسدودا.
و يبقى علينا بعد هذا أن نتعرف على الطريق لإثبات أن الحكم المقصود للمولى هو الوجوب دون الاستحباب، فهل أن مناسبة الإرسال للوجوب تكفي وحدها لتعيّن الوجوب أو لا؟ و الجواب: إن الإطلاق هو الذي يعين كون المقصود للمولى هو الوجوب دون الاستحباب، إذ لو كان مراد المولى الحكم الذي لا يتناسب مع الإرسال لزمه بيان ذلك، فسكوته عن بيانه دليل على أن مقصوده هو
١٥٥
لخصوص الطلب الوجوبي (١). و قيل: للأعم منه و من الطلب الندبي. و قيل: مشترك بينهما اشتراكا لفظيا. و قيل: غير ذلك.
و الحق عندنا: أنه دال على الوجوب و ظاهر فيه، فيما إذا كان مجردا و عاريا عن قرينة على الاستحباب.
و إحراز هذا الظهور بهذا المقدار كاف في صحة استنباط الوجوب من الدليل الذي يتضمن كلمة «الأمر»، و لا يحتاج إلى إثبات منشأ هذا الظهور هل هو الوضع أو شي‏ء آخر.
و لكن من ناحية علمية صرفة يحسن أن نفهم منشأ هذا الظهور.
فقد قيل: أن معنى الوجوب مأخوذ قيدا في الموضوع له لفظ الأمر (٢).
و قيل: مأخوذ قيدا في المستعمل فيه إن لم يكن مأخوذا في الموضوع له (٣).
و الحق: إنه ليس قيدا في الموضوع له و لا في المستعمل فيه بل منشأ هذا الظهور من جهة حكم العقل بوجوب طاعة الآمر، فإن العقل يستقل بلزوم الانبعاث عن بعث المولى و الانزجار عن زجره، قضاء لحق المولوية و العبودية، فبمجرد بعث المولى يجد العقل أنه لا بد للعبد من الطاعة و الانبعاث ما لم يرخص في تركه و يأذن في مخالفته.
فليس المدلول للفظ الأمر إلّا الطلب من العالي، و لكن العقل هو الذي يلزم العبد بالانبعاث و يوجب عليه الطاعة لأمر المولى ما لم يصرح المولى بالترخيص و يأذن بالترك.
و عليه: فلا يكون استعماله في موارد الندب مغايرا لاستعماله في موارد الوجوب‏
____________
الحكم المناسب للإرسال، هذه هي حصيلة البيان الثالث. و هو وجيه فإن تم فبها و إلا فالمتعين في وجه الدلالة على الوجوب هو الوضع‏ (١).
(١) بمعنى: أن لفظ الأمر موضوع للطلب الناشئ من داع لزومي، و الدليل على هذا القول التبادر.
(٢) أي: أن مادة الأمر موضوعة للطلب الوجوبي.
(٣) أي: أن مادة الأمر موضوعة للطلب، و لكن الطلب في حالة الاستعمال لم يستعمل إلا في الوجوب هذا إذا قلنا: إن مادة الأمر ليست موضوعة للطلب الوجوبي.
____________
(١) مصدر الأقوال الثلاثة: هو الحلقة الثالثة في أسلوبها الثاني، ج ١، ص ٣٦٨- ٣٧٥.
١٥٦
من جهة المعنى المستعمل فيه اللفظ.
فليس هو موضوعا للوجوب، بل و لا موضوعا للأعم من الوجوب و الندب، لأن الوجوب و الندب ليسا من التقسيمات اللاحقة للمعنى المستعمل فيه اللفظ، بل (١) من التقسيمات اللاحقة للأمر بعد استعماله في معناه الموضوع له (٢).
____________
(١) أي: بل الوجوب و الندب.
(٢) يريد المصنّف أن يقول: ليس تقسيم الأمر إلى الوجوب و الندب من التقسيمات الأولية للمعنى المستعمل فيه الأمر، بل تقسيم الأمر إلى الوجوب و الندب من التقسيمات العارضة عليه بعد استعماله في معناه.
و بعبارة أخرى أقول: يريد المصنّف أن يقول: إن الأقسام على قسمين: أقسام أولية و أقسام ثانوية، و المراد من الأقسام الأولية: هي العارضة للشي‏ء بما هو في نفسه، و المراد بالأقسام الثانوية: هي العارضة للشي‏ء بسبب عروض جهة له من الأقسام الثانوية.
و من تقسيمات الطلب الأولية هي: الأمر و النهي و غيرها.
و أما التقسيمات الثانوية للطلب فهي: الوجوب و الندب.
فالوجوب و الندب من الأقسام الثانوية للطلب أي: العارضة على الطلب بعد تعلق الأمر به. فبعد استعمال الأمر في معناه الموضوع له و هو الطلب نقول: هذا الأمر إما واجب، و إما مستحب.
١٥٧

المبحث الثاني صيغة الأمر (١)

١- معنى صيغة الأمر:

صيغة الأمر:
(١) قد ذكر لصيغة الأمر معان كثيرة تصل إلى ستة و عشرين معنى كما ينقل عن كتاب (جمع الجوامع و شرحه)، ذكرها كاملة مع التمثيل لكل معنى إلا أن صيغة «افعل» لم تستعمل في أي معنى من تلك المعاني حتى الوجوب. إذا: صيغة الأمر إلى أي شي‏ء هي موضوعة؟ تقدم الكلام في ذكر الجواب في مبحث مادة الأمر في البيان الثالث في أن صيغة الأمر تدل على النسبة الإرسالية. فإن المادة في «افعل» موضوعة للحدث، و الهيئة للنسبة الإنشائية، و لا شي‏ء وراء ذلك مثلا- المادة في «اضرب» موضوعة للضرب، و الهيئة لنسبة الضرب إلى الضارب- فأين الوجوب و التهديد و ما إليهما؟
قال السيد محمد باقر الصدر في حلقاته: ذكرت لصيغة الأمر عدة معان كالطلب و التمني و الترجي و التهديد، و التعجيز و غير ذلك. و هذا في الواقع خلط بين المدلول التصوري للصيغة، و المدلول التصديقي الجدّي لها باعتبارها جملة تامة.
و توضيحه: أن الصيغة- أي: هيئة فعل الأمر- لها مدلول تصوري، و لا بدّ أن تكون من سنخ المعنى الحرفي كما هو الشأن في سائر الهيئات و الحروف، فلا يصح أن يكون مدلولها نفس الطلب بما هو مفهوم اسمي، و لا مفهوم الإرسال نحو المادة، بل نسبة طلبية أو إرسالية توازي مفهوم الطلب أو مفهوم الإرسال، كما توازي النسبة التي تدل عليها «إلى» مفهوم «الانتهاء»، و العلاقة بين مدلول الصيغة بوصفه معنى حرفيا و مفهوم الإرسال أو الطلب تشابه العلاقة بين مدلول «من» و «إلى» و «في» و مدلول «الابتداء» و «الانتهاء» و «الظرفية». فهي علاقة موازاة لا ترادف. و نقصد بالنسبة الطلبية أو الإرسالية:
الربط المخصوص الذي يحصل بالطلب أو بالإرسال بين المطلوب (المادة أي: الضرب) و المطلوب منه (المكلف و هو الفاعل)، أو بين المرسل (المكلف: أي الفاعل) و المرسل إليه (الضرب)، و هذا هو المدلول التصوري للصيغة الثابت بالوضع و للصيغة باعتبارها جملة تامة مكونة من فعل و فاعل، مدلول تصديقي جدّي بحكم السياق لا الوضع، إذ تكشف (الصيغة) سياقا عن أمر ثابت في نفس المتكلم هو الذي دعاه إلى استعمال الصيغة «افعل»، و في هذه المرحلة: تتعدد الدواعي التي يمكن أن تدل عليها الصيغة بهذه الدلالة (التصديقية)، فتارة: يكون الداعي هو الطلب، و أخرى: الترجي، و ثالثة: التعجيز، و هكذا مع انحفاظ المدلول التصوري للصيغة في الجميع.
- و بعبارة أخرى: من قال: إن الطلب و الترجي و التهديد و التمني ... موضوعة لصيغة الأمر فقد اختلط
١٥٨
عليه المدلول التصوري و المدلول التصديقي للصيغة؛ و ذلك للفرق بين المدلولين لأن الأول هو المعنى الموضوع له اللفظ، بينما الثاني هو عبارة عن المدلول الجدي، فإن صيغة الأمر هي هيئة من الهيئات، فلا بدّ أن يكون معناه معنى حرفيا، و المعاني الحرفية عبارة عن النسب و هي معاني حرفية، فيكون مدلولها التصوري نسبة و هذه النسبة هي التي نسميها بالنسبة الطلبية أو الإرسالية، و يوازي هذه النسبة: مفهوم الطلب و الإرسال لا أن الصيغة أساسا موضوعة لمفهوم الطلب و الإرسال. إذا: الصيغة موضوعة لنسبة موازية لمفهوم الطلب- كما ذكر السيد الصدر (قدس سره)- بأن «إلى» موضوعة «للانتهاء» بالمعنى الحرفي لا للمعنى الاسمي و إنما يوازيها. و المقصود من النسبة الطلبية: هي العلقة القائمة ما بين المطلوب و المطلوب منه؛ كما إذا قال المولى: «صلّ» فالمولى أوجد علاقة بين «الصلاة» و «زيد» على أن «الصلاة» لا بدّ أن يؤتى بها في الخارج. فكما أن لصيغة «افعل» مدلول تصوري أيضا لها مدلول تصديقي؛ لأن كل جملة تامة لا بدّ أن يكون لها مدلول تصديقي و هو عبارة عن الداعي لإنشاء هذا الكلام. فبقوله «عزّ و جل»: «صلّ»- فإنه «عزّ و جل» أوجد علقة بين «زيد» و بين «الصلاة» ما هو الداعي لها؟
نقول: الداعي هنا هو الطلب، إلا أنه قد تكون لله «عزّ و جل» دواعي أخرى مثل: التعجيز أو التهديد ... فمثلا: قوله تعالى: كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً، فإن المعنى الموضوع له هي النسبة الطلبية القائمة بين المطلوب و المطلوب منه؛ و لكن الداعي لإيجاد هذه النسبة هو التعجيز؛ لأنه «عزّ و جل» يعلم إنهم غير قادرين على ذلك.
الخلاصة: صيغة الأمر تستعمل في إنشاء الطلب و لم تستعمل في أي معنى من تلك المعاني- من التعجيز و التهديد و التمني و غيره- و لكن الداعي للإنشاء هي تلك المعاني، إذ الداعي إلى الإنشاء تارة:
يكون هو البعث و التحريك نحو المطلوب الواقعي، و هو الذي ينصرف إليه إطلاق الصيغة نحو قوله تعالى: أَقِيمُوا الصَّلاةَ ....
- و تارة أخرى: يكون أحد الأمور المتقدمة أعلاه، فينشأ الطلب بداعي الترجي أو التمني أو غيرها من المعاني المتقدمة، و عليه: فالصيغة لم تستعمل إلا في معنى واحد و هو إنشاء الطلب، و تلك المعاني دواع للإنشاء، و أجنبية عن مدلول الصيغة، فلا تستعمل الصيغة في التهديد أو التعجيز أو التمني أو الترجي أو غيرها أصلا على نحو الحقيقة، بمعنى: إن الصيغة لم تستعمل إلا في إنشاء الطلب، فهي حقيقة فيه سواء كان الداعي إلى هذا الإنشاء هو البعث أم التهديد أم غيرهما، إذا: صيغة الأمر وضعت لإنشاء الطلب، فإذا كان بداعي البعث و التحريك يكون هذا الاستعمال على وجه الحقيقة، و إذا استعملت بداعي التمني و الترجي و التهديد و بسائر الدواعي الأخرى يكون على وجه المجاز.
و على كل حال: صيغة الأمر مستعملة في إنشاء الطلب، و هذا الاستعمال إذا كان بداعي البعث و التحريك نحو المطلوب الواقعي يكون استعمالا حقيقيا، و مجازا إذا كان بداعي آخر.
و بهذا يسقط اختلاف العلماء في أن صيغة الأمر هل هي حقيقة في الطلب، أو في الوجوب أو في الندب؟ لما تقدم من: أن مفاد صيغة الأمر هو البعث و التحريك نحو المبعوث إليه.
١٥٩
صيغة الأمر أي: هيئته، كصيغة افعل و نحوها (١): تستعمل في موارد كثيرة (٢) (منها): البعث (٣)، كقوله تعالى:
فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ، أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.
و منها: التهديد، كقوله تعالى:
اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ.
و (منها): التعجيز، كقوله تعالى:
فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ.
و غير ذلك، من التسخير (٤)، و الإنذار (٥)، و الترجي، و التمني (٦)، و نحوها. و لكن الظاهر: أن الهيئة في جميع هذه المعاني استعملت في معنى واحد، لكن ليس هو واحدا من هذه المعاني، لأن الهيئة مثل «افعل» شأنها شأن الهيئات الأخرى وضعت لإفادة نسبة خاصة كالحروف و لم توضع لإفادة معان مستقلة، فلا يصح أن يراد منها مفاهيم هذه المعاني المذكورة التي هي معان اسمية.
و عليه، فالحق (٧): أنها موضوعة للنسبة الخاصة القائمة بين المتكلم و المخاطب‏
____________
(١) المقصود بنحو صيغة افعل: أية صيغة و كلمة تؤدي مؤداها في الدلالة على الطلب و البعث، كالفعل المضارع المقرون بلام الأمر أو المجرد منه إذا قصد به إنشاء الطلب نحو قولنا: (تصلي. تغتسل.
أطلب منك كذا).
أو جملة اسمية نحو: (هذا مطلوب منك). أو اسم فعل نحو: صه و مه و مهلا، و غير ذلك. (المصنّف).
(٢) و قد عدّها بعض إلى نيّف و عشرين.
(٣) أي: بعث المأمور و تحريكه نحو الإتيان بالمأمور به.
(٤) كقوله تعالى: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ.
(٥) كقوله تعالى: قُلْ تَمَتَّعُوا و يمكن رجوعه إلى التهديد، لأنه إبلاغ في مقام التخويف.
(٦) كقول إمرئ القيس بن حجر الكندي:
ألا أيّها الليل الطويل ألا انجل‏* * * بصبح و ما الإصباح منك بأمثل‏
حيث أنّه لمّا فرض استحالة انجلاء الليل الطويل تمنى انجلاءه بالأمر به.
- و أيضا من معانيها: الإهانة كقوله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ.
- و أيضا من معانيها: الاحتقار نحو قوله تعالى: بل‏ أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ.
- و أيضا من معانيها: التسوية نحو قوله تعالى: فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا إذ لا يختلف الحال بالنسبة إليهم من حيث الصبر و عدمه.
- و أيضا من معانيها: الدعاء كقوله تعالى: وَ اغْفِرْ لِأَبِي.
- و أيضا من معانيها: التكوين كقوله تعالى: كُنْ فَيَكُونُ. إلى غير ذلك من المعاني التي ذكرت للصيغة.
(٧) نسبة هذا القول إلى المحقق النائيني.
١٦٠
و المادة، و المقصود من المادة: الحدث الذي وقع عليه مفاد الهيئة مثل: الضرب و القيام و القعود في اضرب و قم و اقعد، و نحو ذلك. و حينئذ: ينتزع منها عنوان طالب و مطلوب منه و مطلوب.
فقولنا: «اضرب» يدل على النسبة الطلبية بين الضرب و المتكلم و المخاطب، و معنى ذلك: جعل الضرب على عهدة المخاطب و بعثه نحوه و تحريكه إليه، و جعل الداعي في نفسه للفعل.
و على هذا: فمدلول هيئة الأمر و مفادها هو النسبة الطلبية، و إن شئت فسمّها النسبة البعثية، لغرض إبراز جعل المأمور به- أي: المطلوب- في عهدة المخاطب، و جعل الداعي في نفسه و تحريكه و بعثه نحوه. ما شئت فعبر.
غير أن هذا الجعل أو الإنشاء يختلف فيه الداعي له من قبل المتكلم، (فتارة) يكون الداعي له هو البعث الحقيقي و جعل الداعي في نفس المخاطب لفعل المأمور به، فيكون هذا الإنشاء حينئذ: مصداقا للبعث و التحريك و جعل الداعي، أو إن شئت فقل: يكون مصداقا للطلب، فإن المقصود واحد. و (أخرى): يكون الداعي له هو التهديد، فيكون مصداقا للتهديد، و يكون تهديدا بالحمل الشائع. و (ثالثة): يكون الداعي له هو التعجيز، فيكون مصداقا للتعجيز و تعجيزا بالحمل الشائع. و هكذا في باقي المعاني المذكورة و غيرها.
و إلى هنا يتجلى ما نريد أن نوضحه، فإنا نريد أن نقول بنص العبارة: إن البعث أو التهديد أو التعجيز أو نحوها ليست هي معاني لهيئة الأمر قد استعملت في مفاهيمه (١)- كما ظنه القوم- لا معاني حقيقية و لا مجازية، بل الحق: إن المنشأ بها (٢) ليس إلّا النسبة الطلبية الخاصة، و هذا الإنشاء يكون مصداقا لأحد هذه الأمور باختلاف الدواعي، فيكون تارة: بعثا بالحمل الشائع، و أخرى: تهديدا بالحمل الشائع و هكذا. إلا أن هذه المفاهيم (٣) مدلولة للهيئة و منشأة بها (٤) حتى مفهوم البعث‏
____________
(١) الضمير راجع إلى البعث و التعجيز و التهديد.
(٢) الضمير راجع إلى الهيئة.
(٣) أي: مفاهيم البعث و التهديد ... إلخ.
(٤) الضمير راجع إلى الهيئة.
١٦١
و الطلب (١).
و الاختلاط في الوهم بين المفهوم و المصداق هو الذي جعل أولئك يظنون أن هذه الأمور مفاهيم لهيئة الأمر و قد استعملت فيها استعمال اللفظ في معناه، حتى اختلفوا في أنه أيها المعنى الحقيقي الموضوع له الهيئة و أيها المعنى المجازي (٢).

٢- ظهور الصيغة في الوجوب (٣)

اختلف الأصوليون في ظهور صيغة الأمر في الوجوب و في كيفيته على أقوال.
____________
(١) لأن الهيئة لا تدل على مفهوم الطلب كمعنى اسمي؛ بل تدل على النسبة أي: تدل على الطلب بما هو معنى حرفي.
و بعبارة أخرى أقول: إن معنى الهيئة حرفي، بينما هذه المفاهيم اسمية، فلا يمكن أن تدل الهيئة على هذه المفاهيم الاسمية.
(٢) سبب اختلاف بعض العلماء في موضوع الهيئة (بأنها هل هي موضوعة للبعث حقيقة، و في الباقي مجاز أو العكس؟ و هكذا) هو نتيجة توهمهم أن البعث و التهديد و التعجيز ... إلخ، مفاهيم و معاني لصيغة الأمر. بينما صيغة الأمر موضوعة حقيقة للنسبة الطلبية، و هذه النسبة الطلبية تكون مصداقا للتهديد، و مصداقا للتمني و هكذا ...
ملاحظة: أوّل من تنبه إلى هذا الاختلاط: صاحب الكفاية.
ظهور الصيغة في الوجوب: (٣) تقدم الكلام في أن صيغة الأمر مستعملة في إنشاء الطلب، و هذا الاستعمال يكون حقيقيا إذا كان بداعي البعث و التحريك نحو المطلوب الواقعي، و مقتضى الإطلاق: كونه بداعي الطلب الحقيقي، يحكم العقل حينئذ بلزوم الامتثال ما لم تكن قرينة على الترخيص. إذا: إذا كانت صيغة الأمر كذلك حكم العقل بوجوب الطاعة، و عليه: يكون الوجوب بحكم العقل لا بدلالة اللفظ؛ إلا أن الأمر أسهل من كل هذا حيث أن أهل العرف يفهمون من صيغة الأمر إذا تجردت عن كل القرائن:
الوجوب. و فهم أهل العرف يمثل دليلا يمكن التعويل عليه في فهمهم لظهورات الأدلة، فإن كل الناس قديما و حديثا يفهمون أن البدوي إذا قال لولده: اعقل الناقة فإنه لا يرضى عنه إلا إذا استجاب للأمر، و نفس الشي‏ء إذا قال: الحضري لسائق سيارته: ضعها في المرأب، و يرون الولد أو السائق عاصيا يستحق الذم إذا هو ترك و أهمل، و لا تنفعه المعذرة بأن صيغة افعل لوحدها و بلا قرينة لا تدل على الإلزام و الوجوب.
كما أن الفقهاء المتأخرين و المتقدمين يستدلون على وجوب الفعل بصيغة افعل في كتبهم و حوارهم و احتجاجهم بلا تردد و توقف، لأن دلالتها على الوجوب عندهم من المسلّمات الأولية حتى عند من ناقش في الأصول و أشكل.
- كما أن ذم الله سبحانه من خالف الأمر بصيغة افعل، و لا ذم بلا وجوب من ذلك، قوله تعالى:
وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ‏ المرسلات: ٤٨. و من قوله تعالى: ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي‏
١٦٢
و الخلاف يشمل صيغة افعل و ما شابهها (١) و ما بمعناها (٢) من صيغ الأمر.
و الأقوال في المسألة كثيرة، و أهمها قولان: أحدهما: أنها ظاهرة في الوجوب، إما لكونها موضوعة فيه، أو من جهة انصراف الطلب إلى أكمل الأفراد. ثانيهما: أنها حقيقة في القدر المشترك بين الوجوب و الندب، و هو- أي: القدر المشترك- مطلق الطلب الشامل لهما من دون أن تكون ظاهرة في أحدهما.
____________
سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ‏ التوبة: ٣٨.
و بعد، فلا مبرر لتكثير الكلام في صيغة افعل و دلالتها، لأن هذا الموضوع لفظي بحت يعتمد على أفهام العرف لا على الدقة العقلية (١).
قال صاحب الكفاية (قدس سره) في كفايته في الجواب على السؤال المطروح: هل أن صيغة الأمر تدل على الوجوب أو الندب أو فيهما (الوجوب و الندب)، فالصيغة حينئذ تكون مشتركا لفظيا، أو في المشترك بينهما (أي: بأن يكون الموضوع له هو الجامع بينهما، و هو مطلق الطلب)؟
قال (قدس سره): في الجواب أقوال أنهاها بعضهم إلى ثمانية أقوال: أربعة منها مذكورة في السؤال المذكور أعلاه. إلا أن صاحب الكفاية قال: ... لا يبعد تبادر الوجوب عند استعمالها، بمعنى: أن المنسبق و التبادر من صيغة الأمر إلى الذهن عند تجردها من القرينة هو مطلوبية المادة؛ بحيث لا يرضى المولى بتركها، و هذا معنى الوجوب، و التبادر علامة الحقيقة. إذا: صيغة الأمر تدل على الوجوب حقيقة، و يؤيد هذا: عدم صحة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة الاستحباب؛ مع الاعتراف بعدم دلالة الصيغة على الندب بواسطة قرينة حالية أو مقالية.
- و بعبارة أخرى: يؤيد دلالة صيغة الأمر على الوجوب- بالتبادر و انصراف و انسباق الذهن إليه عند استعمال الصيغة- عدم صحة اعتذار العبد المخالف لأمر المولى باحتمال إرادة الندب من الصيغة مع اعتراف العبد بعدم العثور على قرينة الندب؛ و احتجاج المولى عليه و مؤاخذته له، و عدم قبوله لعذره المتقدم يكشف عن وضع الصيغة للوجوب؛ على حد تعبير السيد محمد جعفر المروج شارح الكفاية، و صاحب الكفاية (قدس سره).
(١) و الذي يشبه صيغة افعل الجملة الخبرية في إنشاء الطلب الدال على الوجوب في مثل: «يعيد صلاته» جوابا عما يوجب الخلل في الصلاة. و مثله قوله (عليه السلام): «أصبح صائما»، و مثل:
«يغتسل و يتوضأ» الواردين في مقام الجواب عن وجود موجبهما من الجنابة و النوم. و غيرها مما يوجب الغسل أو الوضوء. و غير ذلك من الجمل الخبرية الواردة في مقام الطلب.
(٢) مثل: قم، لتضرب و غيرها، فإنها تدل على الأمر إلا إنّها ليست في صيغة افعل.
____________
(١) علم أصول الفقه في ثوبه الجديد، ص ٥٥.
١٦٣
و الحق: أنها ظاهرة في الوجوب، و لكن لا من جهة كونها موضوعة للوجوب (١) و لا من جهة كونها موضوعة لمطلق الطلب و أن الوجوب أظهر أفراده (٢).
و شأنها في ظهورها في الوجوب شأن مادة الأمر على ما تقدم هناك، من أن الوجوب يستفاد من حكم العقل بلزوم إطاعة أمر المولى و وجوب الانبعاث عن بعثه، قضاء لحق المولوية و العبودية، ما لم يرخص نفس المولى بالترك و يأذن به. و بدون الترخيص فالأمر لو خلي و طبعه شأنه أن يكون من مصاديق حكم العقل بوجوب الطاعة.
فيكون الظهور هذا ليس من نحو الظهورات اللفظية، و لا الدلالة- هذه على الوجوب- من نوع الدلالات الكلامية (٣). إذ صيغة الأمر- كمادة الأمر- لا تستعمل في مفهوم الوجوب لا استعمالا حقيقيا و لا مجازيا، لأن الوجوب كالندب أمر خارج عن حقيقة مدلولها (٤) و لا من كيفياته (٥) و أحواله (٦). و تمتاز الصيغة عن مادة كلمة الأمر: إن الصيغة لا تدل إلا على النسبة الطلبية كما تقدم، فهي بطريق أولى لا تصلح للدلالة على الوجوب الذي هو مفهوم اسمي (٧)، و كذا الندب.
و على هذا: فالمستعمل فيه الصيغة على كلا الحالين (الوجوب و الندب) واحد (٨)
____________
(١) لعدم الدليل، و لم يقل أحد من اللغويين أن صيغة الأمر موضوعة للوجوب.
(٢) و ذلك لأن الوجوب و الندب ليسا من التقسيمات الأولية للطلب بل هما من التقسيمات الثانوية.
و عليه: فالوجوب و الندب ليسا قسمين عارضين للطلب بعنوان الطلب، و إنّما هما عارضان للطلب بسبب تعلق الأمر بالطلب، و بعد تعلقه به- أي: بعد استعمال الأمر في معنى الطلب- ينتزع عنوان الوجوب و الندب، و ليس الوجوب و الندب موجودين قبل مرحلة استعمال الأمر في معناه. فإذا: قبل الاستعمال لا يوجد عندنا فردان أحدهما أكمل حتى ينصرف له الاستعمال.
(٣) و هي الدلالات الثلاثة أي: ظهور صيغة افعل في الوجوب ليست مستفادة من الدلالات الكلامية الثلاث، و هي التضمنية و المطابقية و الالتزامية.
(٤) الضمير راجع إلى صيغة الأمر.
(٥) الضمير راجع إلى صيغة الأمر.
(٦) الضمير راجع إلى صيغة الأمر.
(٧) و وجه الأولوية: هو أن مفاد الهيئة معنى حرفي، و هو النسبة الطلبية، و المعنى الحرفي لا يمكن أن يفيد و يدل على معنى اسمي كالوجوب. بينما مفاد المادة تدل على معنى اسمي، و مع هذا لا تصلح للدلالة على الوجوب. فمن باب الأولى الصيغة لا تدل على الوجوب.
(٨) و هي النسبة الطلبية في الوجوب و الندب.
١٦٤
لا اختلاف فيه. و استفادة الوجوب- على تقدير تجردها عن القرينة على إذن الآمر بالترك- إنما هو بحكم العقل كما قلنا، إذ هو من لوازم صدور الأمر من المولى.
و يشهد لما ذكرناه من كون المستعمل فيه واحدا في مورد الوجوب و الندب: ما جاء في كثير من الأحاديث من الجمع بين الواجبات و المندوبات بصيغة واحدة (١) و أمر واحد أو أسلوب واحد مع تعدد الأمر (٢). و لو كان الوجوب و الندب من قبيل المعنيين للصيغة لكان ذلك في الأغلب من باب استعمال اللفظ في أكثر من معنى و هو مستحيل، أو تأويله بإرادة مطلق الطلب البعيد إرادته من مساق الأحاديث فإنه تجوز (٣)- على تقديره- لا شاهد له و لا يساعد عليه أسلوب الأحاديث الواردة (٤).
____________
(١) و مثاله: اغتسل للجمعة و للجنابة.
(٢) و مثاله: اغتسل للجمعة، و اغتسل للجنابة.
(٣) لأن الصيغة موضوعة حقيقة للنسبة الإرسالية، و حينما تستعمل الصيغة في الجامع يكون استعمالا مجازيا.
(٤) قال فضيلة الشّيخ هادي آل الشّيخ راضي «حفظه الله» في شرح عبارة المصنّف «و لو كان الوجوب و الندب من قبيل المعنيين للصيغة ...» يقول المصنّف: إنه لو كان الوجوب و الندب معنيين للصيغة للزم استعمال الصيغة في أكثر من معنى و هو محال.
و بعبارة أخرى: لو فرضنا أن الصيغة لفظ مشترك بين معنيين (الوجوب و الندب)، و استعمل الشارع الصيغة في الوجوب و الندب، فسوف يلزم استعمال الصيغة في معنيين و هو محال، و مثال ذلك: ما لو قال الشارع: اغتسل للجمعة و للجنابة، فهنا عندنا صيغة واحدة قد استعملت في الندب و في الوجوب، و ذلك باعتبار إضافتها للجمعة تكون مستعملة في الندب، و باعتبار إضافتها للجنابة تكون مستعملة في الوجوب، فيلزم استعمالها في أكثر من معنى و هو محال. و هذا يدل على إن الوجوب و الندب ليسا معنيين للصيغة. و من هنا يمكن أن يستشكل على المصنّف بأن يقال: بأن هذا الدليل كما ينسجم مع رأيك كذلك ينسجم مع القائل بأن الصيغة موضوعة للأعم من الوجوب و الندب. و مجرّد أن يذكر اغتسل للجمعة و للجنابة هذا لا يدل على أن الوجوب خارج عن المعنى الموضوع له، أي: لا يدل على أن الوجوب حكم عقلي صرف لأنّه يمكننا أن نقول: إن الصيغة موضوعة للطلب الأعم من الطلب الوجوبي و الاستحبابي، فإذا قلنا بذلك صح أن يقال: اغتسل للجمعة و للجنابة، فاغتسل موضوعة للطلب، و مستعملة في الطلب فيكون من باب استعمال اللفظ في معنى واحد، و لا يلزم استعماله في أكثر من معنى، و حينئذ: لا يكون هذا شاهدا لخصوص قول المصنّف. و إلى هذا الكلام التفت المصنّف و قال: إرادة الطلب الجامع بين الوجوب و الاستحباب بعيد من هذه الأحاديث، فإن هذه الأحاديث سياقها سياق إن المقصود ليس كلي الطلب، و إنّما المعنى الذي ينسجم مع الوجوب و الاستحباب هو معنى واحد، و هو عبارة عن النسبة الطلبية. غاية الأمر: أنه في بعض الموارد تقترن‏
١٦٥

تنبيهان:

(الأوّل): ظهور الجملة الخبرية الدالة على الطلب في الوجوب (١).
____________
بحكم العقل، و في بعض الموارد لا تقترن بحكم العقل. و بعبارة أخرى: المصنّف يريد أن يقول: إن قول الشارع اغتسل للجمعة و للجنابة: إن الصيغة في المثال المستعملة في الجمعة اقترن حكم العقل بالترخيص. بينما إذا قلنا: بأن الصيغة مستعملة في كلي الطلب الجامع بين الوجوب و الندب يكون بعيدا جدا، و ذلك:
أوّلا: يلزم منه المجاز لأننا قلنا: بأن الصيغة ليست موضوعة لمطلق الطلب الأعم، لأننا قلنا سابقا: إن الوجوب و الندب ليسا من أقسام المعنى بما هو أي: ليس من أقسام الطلب في نفسه، و إنّما هما يعرضان عليه بعد استعمال الصيغة في الطلب.
فإذا: الصيغة ليست موضوعة للطلب الأعم من الوجوب و الندب، و إنّما هي موضوعة للنسبة الطلبية، فيكون استعمالها في مطلق الطلب الأعم من الوجوب و الندب استعمالا مجازيا.
و ثانيا: كون المراد مطلق الطلب الأعم من الوجوب و الندب لا شاهد عليه، و لا يساعد عليه أسلوب الأحاديث، فإننا لو سألنا الشارع القائل: اغتسل للجمعة و للجنابة بأنك حينما تضيف الصيغة للجمعة هل تريد منها مطلق الطلب؟ طبعا الجواب بالنفي، و إنّما أراد معنى أخص من مطلق الطلب، و هو الطلب الاستحبابي و كذا حينما أضافها للجنابة أراد معنى أخص من مطلق الطلب، و هو الطلب الوجوبي.
(١) ظهور الجملة الخبرية الدالة على الطلب في الوجوب:
هل الجملة الخبرية في مقام إنشاء الطلب ظاهرة في الوجوب أم لا؟
و بعبارة أخرى: الجمل الخبرية في مقام إنشاء الطلب مثل: «يغتسل و يتوضأ» الواردين في مقام الجواب عن وجود موجبهما من الجنابة و النوم و غيرهما مما يوجب الغسل أو الوضوء.
مثال آخر: «يعيد» جوابا عما يوجب الخلل في «الصلاة»، و مثله: قوله (عليه السلام): «أصبح صائما» فيمن نام عن صلاة عشائه، و غير ذلك من الجمل الخبرية الواردة في مقام الطلب.
هل هذه الجمل الخبرية ظاهرة في الوجوب أم لا؟
ذهب صاحب الكفاية إلى أن الجمل الخبرية في مقام إنشاء الطلب ظاهرة في الوجوب، بل هو أشهر القولين كما في البدائع، بل المشهور كما يظهر من موضع آخر منه.
و ذهب جماعة من المحققين كالمحقق الثاني و المحقق الأردبيلي و النراقي (قدس سرهم) إلى القول الثاني و هو عدم ظهورها في الوجوب.
مال صاحب الكفاية إلى أن ظهورها في الوجوب أظهر من ظهور صيغة الأمر في الوجوب. و ذلك لأن وقوع مضمون الجملة الخبرية من لوازم الطلب الحتمي غير المزاحم بشي‏ء من موانع التأثير، فكأن الطلب علة لوجود متعلقه في الخارج، و لذا يخبر عن وقوعه، فالطلب المدلول عليه بالجمل الخبرية هو الطلب غير المزاحم الذي يترتب عليه وجود المطلوب في الخارج؛ بخلاف المدلول عليه بصيغة الأمر
١٦٦
اعلم أن الجملة الخبرية في مقام إنشاء الطلب شأنها شأن صيغة افعل في ظهورها في الوجوب، كما أشرنا إليه سابقا، بقولنا «صيغة افعل و ما شابهها».
____________
و ما بمعناها، فإنه أصل الطلب، لعدم دلالتها على خصوصية زائدة عليه، فيكون الطلب المنشأ بالجمل الخبرية أشد و آكد مما ينشأ بالصيغ الإنشائية؛ على حد تعبير السيد محمد جعفر الجزائري المروج.
- قال السيّد محمّد باقر الصدر (قدس سره) (بتصرف) في بيان ظهور الجملة الخبرية الدالة على الطلب في الوجوب. فيما يلي: قلنا في مبحث الأمر: أنه ينقسم إلى قسمين:
١- ما يدل على الطلب بلا عناية مثل: «صلّ».
٢- ما يدل على الطلب بعناية مثل: الجملة الخبرية المستعملة في مقام الطلب. فالقسم الأول تم الكلام عنه تفصيلا. الآن الكلام يقع في القسم الثاني: الذي يدل على الطلب و لكن بعناية و هذا منحصر في الجملة الخبرية المستعملة في مقام الطلب. و الوجه في ذلك: لأن الجملة الخبرية- كما تعلم- ليست موضوعة للدلالة على الطلب مباشرة أي: ليس حالها حال الجملة الإنشائية في «صل» و «قم» و غيرها.
و إذا قلنا إن الجملة الخبرية دالة على الطلب لا بدّ من إضافة عناية خاصة. و لا ينبغي الإشكال في صحة استعمال الجمل الخبرية في مقام إنشاء الطلب حيثما قامت قرينة على ذلك و لو حالية أو مقامية، و إنما البحث في كيفية تفسير و تخريج هذه الدلالة أولا. و في أنها تقتضي الوجوب ثانيا.
و بعبارة أخرى: الجملة الخبرية مثل: «يعيد» و «يغتسل» و «يصلي» و نحوها و كل ما كان جوابا على أسئلة تقتضي هذه الأجوبة ... يسأل رجل الإمام (عليه السلام) عن صلاة المغرب قد شك فيها بين ركوعها ما بين الثالثة و الثانية.
- أجاب الإمام (عليه السلام): بأن أعاد أو يعيد الصلاة فمفاد «يعيد الصلاة» الحكاية و الإخبار عن وقوع الإعادة من ذلك الشخص الشاك، أي: صدرت منه الإعادة. فكيف يستدلون بهذه الجملة دلالة على أن الإعادة مطلوبة من الشارع، و أن الإعادة واجبة؟
الكلام يقع في مقامين: المقام الأوّل: في كيفية دلالة الجملة الخبرية على الطلب بالعناية مع تصوير هذه العناية. و هناك وجوه:
الوجه الأوّل: أن يحافظ على المدلول التصوري و التصديقي للجملة الخبرية. كيف ذلك؟ نقول: إن جملة «أعاد الصلاة» في المثال المذكور أعلاه مستعملة في النسبة الصدورية أو النسبة الخبرية. و المدلول التصديقي أي: المراد الجدي و هو الحكاية عن صدور الإعادة من ذلك الشخص، و بهذا قد احتفظنا بالمدلول التصوري و التصديقي معا في الجملة الخبرية. ففي المثال: «أعاد الصلاة» الواردة في كلام الإمام (عليه السلام) محفوظ فيها كلا المدلولين، فمدلولها التصوري و الوضعي هو النسبة الصدورية، و المقصود للإمام (عليه السلام) أن يحكي صدور الإعادة عن هذا الشخص بأن الإعادة صدرت منه؛ غير أنه يقيد الشخص الذي يقصد الحكاية عنه ممن كان يطبق عمله على الموازين الشرعية؛ لكي تدل هذه الجملة الخبرية على الطلب لا بد أن نقيدها بالقيد المذكور، فإذا قيدناها بهذا القيد حينئذ: تكون الجملة الخبرية دالة على الطلب، و أن الإعادة مطلوبة و لو لم تكن الإعادة مطلوبة لما صح الإعادة على‏
١٦٧
و الجملة الخبرية مثل قول: «يغتسل. يتوضأ. يصلي» بعد السؤال عن شي‏ء يقتضي مثل هذا الجواب و نحو ذلك.
____________
المتدين، و لأن الإعادة ليست عملا كسائر الأعمال التي تصدر من المكلف بحسب طبعه أي: ليست حالها حال الأكل و الشرب، فالأكل حينما يصدر من المكلف لا يكون هذا الفعل مربوط بالشارع؛ لأن طبع الإنسان يقتضي هذا الفعل. بينما الإعادة في الصلاة مربوط بالشارع، إذا: الإعادة في الصلاة لا تصدر من المكلّف إلا إذا وجد داعيا للإعادة من قبل الشارع، أي: لا بدّ أن تكون صادرة بداعي شرعي يعني: يوجد طلب شرعي متعلق بالإعادة، و لذا صدرت من ذلك الشخص المكلف، و بهذا نثبت أن الإعادة مطلوبة من الشارع. و هذا التقييد المذكور قرينته نفس كون المولى في مقام التشريع لا نقل أنباء خارجية لا علاقة لها بالتشريع. إذا: كون الإمام في مقام التشريع مع التقييد المذكور لا بدّ أن نفترض بأن الإعادة تعلق بها الطلب الشرعي. و أن دلالة الجملة الخبرية على الطلب مما لا إشكال فيها. هذا بالنسبة إلى الوجه الأول.
الوجه الثّاني: أن يحافظ على المدلول التصوري في الجملة الخبرية، و على المدلول التصديقي و قصد الحكاية؛ و لكن يقال: المقصود حكايته ليس نفس النسبة الصدورية المدلولة تصورا، بل أمر ملزوم لها و هو الطلب من المولى، فتكون من قبيل الإخبار عن كرم زيد بجملة «زيد كثير الرماد» على نحو الكناية. فتدل على الطلب بهذا البيان.
و بعبارة واضحة نقول: المدلول التصوري و الوضعي للجملة الخبرية هو عبارة عن النسبة الصدورية أي:
صدور الفعل بنحو المعنى الحرفي.
- المدلول التصديقي للجملة التصديقية هو: قصد حكاية هذا الصدور جدا. هذا القصد نسميه مدلولا تصديقيا للجملة الخبرية.
فدائما المدلول التصديقي في الجملة الخبرية هو عبارة: عن قصد حكاية المدلول التصوري و الوضعي؛ لأن المدلول الوضعي هو عبارة: عن نسبة الفعل إلى الفاعل، و المقصود حكايته هو حكاية هذه النسبة أي: حكاية صدور الفعل من المكلف.
و في المقام نقول: إن الجملة الخبرية تحافظ على مدلولها التصوري، و أما مدلولها التصديقي: فليس نفس المدلول التصوري، فالمقصود حكايته أمر ملزوم للمدلول التصوري فهو عبارة عن الطلب. إذا:
المولى في الجملة الخبرية يقصد حكاية الطلب و الإخبار عنه و لكن بلسان الإخبار عن لازمه، بمعنى:
يخبر عن اللازم و الغرض منه هو الإخبار عن الملزوم من قبيل الإخبار عن كرم زيد بجملة «زيد كثير الرماد»، ففي الحقيقة لا يريد أن يخبر عن زيد بأنه كثير الرماد لإمكان أن لا يكون عنده رماد من أصله، و إنما هذا من قبيل الإخبار عن لازم كثرة الرماد و هو الكرم. فاللازم هو: كثرة الرماد و الملزوم هو الكرم، و توجد ملازمة ما بينهما (بين الكرم و كثرة الرماد). هذا هو المصحح لوجود الإخبار. فالمدلول التصوري تكفل بلازم (كثرة الرماد). و المدلول التصديقي تكفل بالملزوم (الكرم).
و هذه الملازمة ما بين المدلولين تصحح هذا التعبير، و لا يشترط فيه أن تكون هناك ملازمة حقيقية؛ بل‏
١٦٨
و السر في ذلك: أن المناط في الجميع واحد، فإنه إذا ثبت البعث من المولى بأي مظهر كان و بأي لفظ كان، فلا بد أن يتبعه حكم العقل بلزوم الانبعاث ما لم يأذن المولى بتركه.
____________
يكفي في تصحيح هذا الاستعمال أن تكون الملازمة ادعائية و فرضية لوضوح: عدم وجود ملازمة حقيقية بين «الكرم» و بين «كثرة الرماد»، و إنما الملازمة بينهما ملازمة ادعائية و هذا يكفي في تصحيح الإخبار عن الملزوم ببيان اللازم. و هذا الكلام بكل خصوصياته نطبقه في المقام فنقول: إنه لا إشكال في وجود ملازمة بين أمرين الطلب و صدور الفعل المطلوب من المكلف. الطلب من المولى التي تجب إطاعته ملازم صدور الفعل من المكلف. و وجود نسبة بين الفعل و بين المكلف. و إذا صحت هذه الملازمة حينئذ: يمكن الإخبار عن الملزوم الذي هو الطلب.
إذا: لا إشكال أن الجملة الخبرية تدل على الصدور كمدلول تصوري وضعي لها، و لكن المقصود حكايته ليس ذات الصدور. فإن المولى لا يريد أن يحكي عن صدور الإعادة على المكلف حقيقة، و إنما يريد أن يحكي حقيقة عن ملزوم صدور الفعل عن المكلف و هو الطلب، و بهذا نثبت أن المعصوم (عليه السلام) في قوله: «أعاد الصلاة» أو «يعيد الصلاة» يحكي عن وجود طلب متعلق بالإعادة، و هذا يدل على أن الإعادة- مفهوم الجملة الخبرية- تدل على هذا الطلب. هنا لا نحتاج إلى العناية التي طرحناها في الوجه الأول. و هي افتراض أن الشخص ممن يطبق عمله على الموازين الشرعية، هذه العناية لم نحتجها هنا. إذا: الجملة الخبرية بهذا الوجه تدل على الطلب.
الوجه الثّالث: أن يفرض استعمال الجملة الخبرية في غير مدلولها التصوري الوضعي مجازا، و ذلك بأن تستعمل كلمة «أعاد» أو «يعيد» في نفس مدلول «أعد»، أي: النسبة الإرسالية. فالجملة الخبرية تدل على الطلب لأنها مستعملة في النسبة الطلبية التي هي مدلول «أعد» مجازا.
إذا: الجملة الخبرية يراد بها مدلول «أعد» يعني: يراد بها «الطلب»؛ لكن استعمال الجملة الخبرية في الطلب يكون استعمالا مجازيا، و على هذا يختلف الوجه الثالث عن الوجهين الأولين؛ لأن في الوجه الثالث لم نحافظ حتى على المدلول الوضعي التصوري للجملة الخبرية.
ثم عقب السيّد الصدر (قدس سره) قائلا: إنه لا شك في أن الأقرب من هذه الوجوه هو الأوّل؛ لعدم اشتماله على أي عناية سوى التقييد الذي تتكفل به القرينة المتصلة الحالية.
هذا كله في المقام الأول و عرفنا من خلاله أن الجملة الخبرية تدل على الطلب من دون أي إشكال.
يبقى البحث بعد عن المقام الثاني.
المقام الثّاني: لا شك في: أن الجملة الخبرية الدالة على الطلب تدل على الوجوب و كيف ذلك؟
أما بناء على الوجه الأوّل في إعمال العناية، فدلالتها على الوجوب واضحة لأن افتراض الاستحباب يستوجب تقييدا زائدا في الشخص الذي يكون الإخبار عنه بلحاظه، إذ لا يكفي في صدق الإخبار فرضه ممن يطبق علمه على الموازين الشرعية، بل لا بدّ من فرض أنه يطبقه على أفضل الموازين الشرعية، و فرض كون الشخص المخبر عنه ممن يطبق عمله على الموازين الشرعية فهذا يستدعي بنفسه أن يكون‏
١٦٩
بل ربما يقال أن دلالة الجملة الخبرية على الوجوب آكد، لأنها في الحقيقة إخبار عن تحقق الفعل بادعاء أن وقوع الامتثال من المكلف مفروغ عنه (١).
(الثاني): ظهور الأمر بعد الحظر أو توهمه.
قد يقع إنشاء الأمر بعد تقدم الحظر- أي: المنع- أو عند توهم الحظر، كما لو منع الطبيب المريض عن شرب الماء، ثم قال له: اشرب الماء، أو قال ذلك عند ما يتوهم المريض أنه ممنوع منه و محظور عليه شربه.
و قد اختلف الأصوليون في مثل هذا الأمر أنه هل هو ظاهر في الوجوب أو ظاهر في‏
____________
فعله الصادر منه ليس فقط مطلوبا بل واجب. لأن افتراض أن الفعل مطلوب و لكن ليس بواجب يعني: افتراض أن الفعل مستحب، و افتراض أنه مستحب لا ينسجم مع افتراض أن الشخص المخبر عنه يطبق عمله على أفضل الموازين لأن الذي يلتزم بالإتيان حتى بالمستحبات هذا يطبق عمله على أفضل الموازين، و الذي يأتي بالواجبات و يترك المحرمات هذا يطبق عمله على الموازين الشرعية. فإذا: نكتفي في دلالة الجملة الخبرية على الطلب الدالة على الوجوب وجود تقييد واحد.
و أما إذا قلنا بأن الجملة الخبرية الدالة على الطلب تدل على الاستحباب: نحتاج إلى قيد آخر مع القيد الأول و هو «أفضل» أي: لا نكتفي بالقيد الأول القائل أن يأتي بعمله طبق الموازين الشرعية؛ بل نضم معه قيدا آخر و هو «أفضل» فتكون العبارة: أن يطبق عمله بأفضل الموازين الشرعية، هذا القيد الزائد إذا لم يكن موجودا فالجملة الخبرية الدالة على إنشاء الطلب تدل على الوجوب.
و أما بناء على الوجه الثاني: فتدل الجملة على الوجوب أيضا، لأن الملازمة بين الطلب و النسبة الصدورية المصححة للإخبار عن الملزوم ببيان اللازم، إنما هي في الطلب الوجوبي، أي: لا إشكال بأن هذه الملازمة موجودة بين الطلب الوجوبي و بين الصدور، و أما الطلب الاستحبابي: فلا ملازمة بينه و بين النسبة الصدورية، أو هناك ملازمة بدرجة أضعف. إذا: الملازمة الذي صححت هذا الإخبار أساسا موجودة بين الوجوب و بين الصدور، فحينئذ: حينما يخبر عن اللازم يكون غرضه الإخبار عن الملزوم، و الملزوم هو خصوص الطلب الوجوبي، فتدل الجملة على الطلب الوجوبي.
- و أما بناء على الوجه الثالث: أي: بناء على الالتزام بالتجوز في مقام استعمال الجملة الخبرية، كما هو مقتضى الوجه الأخير؛ لا نستطيع أن نعين الوجوب لأن المفروض: أن الجملة الخبرية- كما قلنا- سلخناها عن معناها الحقيقي، فيشكل حينئذ دلالتها على الوجوب، إذ كما يمكن أن تكون مستعملة في النسبة الإرسالية الناشئة من داع لزومي، كذلك يمكن أن تكون مستعملة في النسبة الإرسالية الناشئة من داع غير لزومي.
(١) أي: يكون ذلك على أساس الكناية بأن يخبر عن اللازم و يريد الملزوم كقولهم: زيد كثير الرماد بقصد الإخبار عن وجود كرمه؛ لا كثرة رماده، ففي المقام: يكون قوله: «يعيد الصلاة» كناية عن ملزوم الإعادة خارجا، و هو طلب الإعادة، لا الإخبار عن نفس الإعادة خارجا.
١٧٠
الإباحة، أو الترخيص فقط، أي: رفع المنع فقط من دون التعرض لثبوت حكم آخر من إباحة أو غيرها، أو يرجع إلى ما كان عليه سابقا قبل المنع؟ على أقوال كثيرة.
و أصح الأقوال: هو الثّالث، و هو دلالتها على الترخيص فقط.
و الوجه في ذلك: أنك قد عرفت أن دلالة الأمر على الوجوب إنما تنشأ من حكم العقل بلزوم الانبعاث ما لم يثبت الإذن بالترك. و منه تستطيع أن تتفطن إنه لا دلالة للأمر في المقام على الوجوب، لأنه ليس فيه دلالة على البعث و إنما هو ترخيص في الفعل لا أكثر.
و أوضح من هذا أن نقول: إن مثل هذا الأمر هو إنشاء بداعي الترخيص في الفعل و الإذن به، فهو لا يكون إلا ترخيصا و إذنا بالحمل الشائع (١). و لا يكون بعثا إلا إذا كان الإنشاء بداعي البعث. و وقوعه بعد الحظر أو توهمه قرينة على كونه بداعي البعث، فلا يكون دالا على الوجوب. و عدم دلالته على الإباحة بطريق أولى. فيرجع فيه إلى دليل آخر من أصل أو أمارة (٢).
____________
(١) أي: الأمر بعد المنع يكون مصداقا للترخيص و الإذن، لأن الترخيص له عدة مصاديق، تارة: يكون باللفظ، و أخرى: بقرينة حالية و هكذا ...
(٢) قد يقال: ما الفائدة من الرّجوع إلى الأصل مع أن الإباحة بالمعنى الأعم ثابتة؟
قلت: الفائدة من الرجوع إليه هو: التأمين عن طرف الوجوب؛ لأن الإباحة بالمعنى الأعم تشمل الوجوب و الإباحة بالمعنى الأخص و الكراهة، فلا بدّ لأجل نفيه من إجراء الأصل، و لا يخفى: أن الذي انتفى بعد ورد الأمر هي الحرمة، أما الوجوب: فهو باق لأن الأمر و إن لم يكن ظاهرا في الوجوب لكنّه لم ينفه.
و بعبارة أخرى في شرح هذه العبارة نقول: يقول المصنّف: إن صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب، فإذا سقطت دلالتها في الوجوب فمن باب الأولى سقوطها عن الإباحة بالمعنى الأخص؛ باعتبار أن صيغة الأمر غير ظاهرة فيها.
فقوله تعالى: وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ...
فإن صيغة الأمر بعد الحظر أقصى ما تدل عليه هو: الترخيص الذي هو بمعنى الإباحة بالمعنى الأعم (الإباحة بالمعنى الأخص، و الكراهة، و الوجوب). فإذا كانت صيغة الأمر لم تدل و لم تكن ظاهرة هنا في الوجوب الذي هو مفاد الأمر، فمن باب الأولى إنها لا تدل على الإباحة بالمعنى الأخص التي هي ليست مفاد الأمر أصلا.
إذا: الأمر بعد الحظر يدل على الترخيص بالمعنى الأعم، و هذا معناه: إنه لا يثبت الوجوب كما إنه لا ينفيه إلى أصل أو أمارة. و عليه: فالصيد مباح بالمعنى الأعم.
١٧١
مثاله: قوله تعالى:
وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا
فإنه أمر بعد الحظر عن الصيد حال الإحرام، فلا يدل على وجوب الصيد.
نعم لو اقترن الكلام بقرينة خاصة على أن الأمر صدر بداعي البعث، أو بغرض بيان إباحة الفعل فإنه حينئذ يدل على الوجوب أو الإباحة. و لكن هذا أمر آخر لا كلام فيه، فإن الكلام في فرض صدور الأمر بعد الحظر أو توهمه مجردا عن كل قرينة أخرى غير هذه القرينة.

٣- التعبدي و التوصلي (١)

تمهيد:

كل متفقه يعرف أن في الشريعة المقدسة واجبات لا تصح و لا تسقط أوامرها إلا بإتيانها قربية إلى وجه الله تعالى.
____________
التعبدي و التوصلي: (١) بعد الحديث عن الأمر و دلالته على الوجوب: نتحدث عن الواجب و أقسامه و هي كثيرة منها:
واجب مطلق و مقيد، و واجب معلق و منجز، و واجب مخير و معين، و واجب عيني و كفائي، و واجب موسع و مضيق، و واجب تعبدي و توصلي. و غيرها من الواجبات. و الكلام سيقع في الواجب التعبدي و التوصلي. و قبل كل شي‏ء ذكر مصطلح «التوصلية» يمكن أن يطلق على معان عديدة يقابل كل واحد منها معنى للتعبدية، و فيما يلي توضيح المعاني التي قد يراد من التوصلية و التعبدية.
١- التوصلي بمعنى: ما يسقط و لو بفعل الغير، و يقابله التعبدي بمعنى: ما لا يسقط إلا بفعل الإنسان نفسه مباشرة.
٢- التوصلي بمعنى: ما يسقط و لو بالحصة الصادرة عن المكلف اضطرارا و إلجاء، و يقابله التعبدي بمعنى: ما لا يسقط إلا بإتيان المكلف له طوعا و اختيارا.
٣- التوصلي بمعنى: ما يسقط و لو بإتيانه ضمن فرد محرم، و في قباله التعبدي بمعنى: ما لا يسقط إلا بإتيانه ضمن فرد لا ينطبق عليه عنوان محرم.
٤- التوصلي بمعنى: عدم احتياجه إلى قصد القربة و سقوطه بالإتيان به و لو لا بداعي القربة. أما التعبدي فهو: ما يحتاج إلى قصد القربة. و هذا هو المعنى الذائع للتوصلي و التعبدي‏ (١).
قال السيّد الصدر (قدس سره) في حلقاته (بتصرف): إنه لا شك في وجود واجبات لا يخرج المكلف عن عهدتها إلا إذا أتى بها بقصد القربة و الامتثال، و في مقابلها واجبات يتحقق الخروج عن عهدتها بمجرد الإتيان بالفعل بأي داع كان.
و القسم الأوّل يسمى بالتعبدي، و الثّاني يسمى بالتوصلي.
____________
(١) راجع هذه المعاني للتعبدية و التوصلية: مباحث الدليل اللفظي، ج ٢، ص ٦٣.
١٧٢
و كونها قربية إنما هو بإتيانها بقصد امتثال أوامرها أو بغيره من وجوه قصد القربة إلى الله تعالى، على ما ستأتي الإشارة إليها. و تسمى هذه الواجبات (العباديات) أو (التعبديات) كالصلاة و الصوم و نحوها.
____________
و الكلام يقع في تحليل الفرق بين القسمين، فهل الاختلاف بينهما يرجع إلى عالم الحكم و الجعل و الوجوب، بمعنى: أن قصد القربة و الامتثال يكون مأخوذا قيدا، أو جزء في متعلق الوجوب التعبدي، و المراد من متعلق الأمر و الوجوب في مثال: «أقيموا الصلاة» هي الصلاة، فمتعلق الأمر ما ينصب عليه الوجوب و هنا انصب الوجوب على «الصلاة» مع قصد القربة، فقصد القربة يكون مأخوذا في متعلق الأمر، و أما التوصلي فهو الذي لم يؤخذ قصد الامتثال فيه.
أو أن الفرق بينهما يرجع إلى عالم الملاك دون عالم الحكم، بمعنى: إنه لا يوجد فرق بينهما في متعلق كل منهما أي: أن كل منهما ينصبان على ذات الفعل «ذات الصلاة» من دون قصد القربة و الامتثال، و إنما الفرق بينهما من حيث الغرض و الملاك فإن الغرض في الواجب التعبدي لا يحصل إلا إذا قصدت القربة بالفعل، و أما الغرض في الواجب التوصلي يحصل من دون قصد القربة بالفعل، إذا: إن مرد الاختلاف إلى عالم الملاك و الغرض دون عالم الحكم بمعنى: أن الوجوب في كل من القسمين متعلق بذات الفعل و لكنه في القسم الأوّل في الواجب التعبدي ناشئ عن ملاك لا يستوفى إلا بضم قصد القربة، و في القسم الثاني ناشئ عن ملاك يستوفى بمجرد الإتيان بالفعل.
و منشأ هذا الكلام: هو احتمال استحالة أخذ قصد امتثال الأمر في متعلق الأمر، فإن ثبتت هذه الاستحالة تعين تفسير الاختلاف بين التعبدي و التوصلي بالوجه الثاني؛ و إلا تعين تفسيره بالوجه الأول.
- ذهب صاحب الكفاية في كفايته: إلى أن التفرقة بين التوصلي و التعبدي راجعة إلى عالم الملاك و الغرض دون عالم الحكم؛ لاستحالة أخذ قصد القربة و الامتثال في متعلق الأمر بأن يقول: تجب عليك الصلاة بقصد الامتثال. لما ذا؟ و من هنا يتجه البحث إلى تحقيق حال هذه الاستحالة و قد برهن عليها بوجوه:
الأوّل: ذكر الآخوند الخرساني صاحب الكفاية: أن قصد امتثال الأمر متأخر رتبة عن الأمر لما ذا متأخر؟ لأنه إذا لم يوجد أمر لا أستطيع أن أقصد امتثال الأمر إذا: أولا يكون هناك أمر ثم يتم قصد امتثاله فلو أخذ قصد الامتثال قيدا، أو جزء في متعلق الأمر و الوجوب لكان قصد الامتثال داخلا في معروض الأمر ضمنا، (يعني: كان في ضمنه و كان جزء من متعلق الأمر)، و متقدما على الأمر تقدم المعروض على عارضه، فيلزم كون الشي‏ء الواحد متقدما و متأخرا (١).
و بعبارة أخرى: ذكر الآخوند و جماعة لزوم صيرورة قصد الامتثال متقدما و متأخرا في آن واحد، و هو مستحيل كما هو واضح. و الوجه في لزوم ذلك: أن قصد امتثال الأمر متأخر عن وجود الأمر، إذ لا بدّ
____________
(١) دروس في علم الأصول، الحلقة الثالثة، ج ١، ص ٣٥٩- ٣٦٠ (بتصرف).
١٧٣
و هناك واجبات أخرى تسمى (التوصليات)، و هي التي تسقط أوامرها بمجرد وجودها و إن لم يقصد بها القربة، كإنقاذ الغريق و أداء الدين و دفن الميت و تطهير الثوب و البدن للصلاة، و نحو ذلك.
____________
من وجود الأمر أولا حتى يمكن فرض قصد امتثاله، فإنه من دون وجود الأمر فأي شي‏ء يقصد المكلف امتثاله؟ و إذا كان قصد الامتثال متأخرا عن الأمر و موقوفا عليه و في طوله نقول: لو كان قصد امتثال الأمر مأخوذا في متعلق الأمر- بحيث كان الأمر منصبا على الفعل المقيد بقصد الامتثال- لزم تقدم قصد الامتثال على وجود الأمر، لأن قصد الامتثال حينما يؤخذ في متعلق الأمر يصير معروضا و مركزا للأمر، و من الواضح: أن معروض الشي‏ء متقدم عليه، فزيد إذا كان معروضا للقيام فلا بدّ من فرض تقدمه على القيام كي يعرض عليه.
و باختصار: إن قصد امتثال الأمر بما أنه يتوقف على وجود الأمر فهو متأخر عن الأمر، فلو كان مأخوذا في متعلق الأمر صار متقدما على الأمر، فيلزم صيرورة الامتثال متقدما على الأمر و متأخرا عنه و هو مستحيل.
جواب البرهان الأوّل: و الجواب يتوقف على استعراض مقدمة نذكر فيها ثلاثة مطالب:
١- يوجد مصطلحان أصوليان هما: «الموضوع و المتعلق»، و لأجل التعرف عليهما نذكر المثال التالي:
لو فرض أن المولى قال: يجب الحج على المستطيع كان الوجوب منصبا على شيئين هما الحج و المستطيع. و لو دققنا في الحج و الاستطاعة لوجدنا فارقا بينهما و هو: إن الاستطاعة لا يدعو الوجوب إلى تحصيلها و لا يطلب منا السعي نحو إيجادها بل يقول: متى حصلت صدفة و اتفاقا وجب الحج، و هذا بخلافه بالنسبة إلى الحج، فإن الوجوب يدعو إليه و يطلب إيجاده و لا يقول لو فرض صدفة تحقق الحج وجب، إذا اتضح هذا نقول: إن مثل الحج الذي يدعو إلى إيجاده يصطلح عليه بالمتعلق، بينما مثل الاستطاعة يصطلح عليها بالموضوع، فالمتعلق مصطلح يطلق على ما يدعو التكليف إلى إيجاده أو تركه، بينما الموضوع مصطلح يطلق على ما لا يدعو إليه التكليف بل يكون ثابتا على تقدير حصوله صدفة.
٢- إن للحكم مرحلتين: مرحلة الجعل و مرحلة المجعول، فإن كل حكم يمر بمرحلتين، فأولا: ينشئه المولى و يشرعه بمثل لسان‏ وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ... و ثانيا: فعليا و ذلك عند تحقق الاستطاعة- الموضوع- خارجا، فإنشاؤه و تشريعه يسمى بالجعل، و إذا صار الحكم فعليا بسبب فعلية موضوعه سمي بالمجعول.
٣- إذا أراد المولى تشريع حكم كوجوب الحج على المستطيع فلا يمكنه ذلك إلا إذا فرض وجود الحج و وجود الاستطاعة، فإن الوجوب عرض من الأعراض كالسواد و البياض و القيام، فكما أن هذه تحتاج إلى وجود محل مسبق لتطرأ عليه كذلك الحال في الوجوب، فإن المولى لا يمكنه تشريعه إلا إذا كان محله منذ البدء ثابتا، فإن ثبوت الوجوب بلا محل أمر مستحيل، و هذا مطلب واضح و لا يحتاج إلى زيادة بيان، و إنما الذي لا بدّ من الوقفة القصيرة عنده هو: إن الحج و الاستطاعة اللذين هما محل‏
١٧٤
و للتعبدي و التوصلي تعريف آخر كان مشهورا عند القدماء. و هو أن التوصلي:
(ما كان الداعي للأمر به معلوما)، و في قباله التعبدي و هو: (ما لم يعلم الغرض منه).
و إنما سمي تعبديا: لأن الغرض الداعي للمأمور ليس إلا التعبد بأمر المولى فقط. و لكن التعريف غير صحيح إلا إذا أريد به اصطلاح ثان للتعبدي و التوصلي، فيراد بالتعبد:
التسليم لله تعالى فيما أمر به و إن كان المأمور به توصليا بالمعنى الأوّل، كما يقولون مثلا: (نعمل هذا تعبدا) و يقولون: (نعمل هذا من باب التعبد) أي: نعمل هذا من باب التسليم لأمر الله و إن لم نعلم المصلحة فيه.
____________
الوجوب هل لا بدّ من وجودهما- قبل تشريع الوجوب- بالوجود الخارجي أو بالوجود التصوري؟ أي:
هل لا بدّ من فرض تحقق الحج و الاستطاعة و بعد ذلك يشرع المولى الوجوب أو أن اللازم تصور المولى لهما في ذهنه أولا ثم تشريع الوجوب بعد ذلك؟ و الصحيح هو الاحتمال الثاني أي: لا بدّ من تصورهما أولا ثم تشريع الوجوب فإنه إذا تصور المولى الحج و الاستطاعة وجّه الوجوب بعد ذلك إلى الحج المشروط بالاستطاعة، و الاحتمال الأول باطل جزما، إذ كيف يحتمل لابدية وجود الحج أولا ثم صب الوجوب عليه!! إنه غير محتمل، إذ لازمه بقاء المولى منتظرا المكلف متى يأتي بالحج لكي يصب عليه الوجوب، و إذا لم يأت به يكون الوجوب منتفيا.
هذا إضافة إلى لزوم عدم عصيان المكلف لو ترك الحج، إذ قبل أن يأتي به لا وجوب لكي يكون عاصيا له، إذا: هذا الاحتمال باطل و الأمر بالعكس تماما، فالوجوب لا بدّ من افتراضه أولا، و بعد ذلك يوجد الحج خارجا، فإن المكلف إنما يأتي بالحج لأجل استقرار الوجوب عليه أولا، فتحقق الحج خارجا هو من نتائج و ثمرات الوجوب و من الأمور المسببة عنه من دون أن يكون هو المحل له، و إنما المحل هو الحج بوجوده التصوري، فالمولى إذا تصور الحج صب الوجوب عليه و بعد صبه عليه يقوم المكلف بإيجاده خارجا.
و الخلاصة: أن تشريع الوجوب و إنشاءه يتوقف على تصور الحج و الاستطاعة- التي تسمى بالموضوع- خارجا، فما لم تتحقق خارجا و تصير فعلية لا يصير الوجوب فعليا بل يبقى إنشائيا.
و من كل هذا البيان سنخرج بهذه النتيجة و هي: أن الحكم على مستوى الجعل و الإنشاء يتوقف على تصور كل من الحج و الاستطاعة أي: على تصور كل من المتعلق و الموضوع، و أما على مستوى المجعول- أي: على مستوى الحكم الفعلي- فهو يتوقف على تحقق الموضوع خارجا أي: تحقق الاستطاعة، و من هنا قيل: أن فعلية الحكم منوطة بفعلية موضوعه بخلاف تشريعه و جعله فإنه منوط بتصور موضوعه و متعلقه، و بهذا تنتهي المقدمة بمطالبها الثلاثة.
و بعد هذا نعود إلى الجواب و حاصله: أن البرهان على استحالة أخذ قصد الامتثال يرجع إلى لزوم صيرورة قصد الامتثال متقدما و متأخرا و هو باطل، و لكنا نقول: ليس هو باطلا، إذ تأخر قصد الامتثال عن الأمر و إن كان أمرا مسلما بيد أن المتأخر عن الأمر هو قصد الأمر بوجوده الخارجي، أي: إن‏
١٧٥
و على ما تقدم من بيان معنى التوصلي و التعبدي- المصطلح الأوّل- فإن علم حال واجب بأنه تعبدي أو توصلي فلا إشكال، و إن شك في ذلك فهل الأصل كونه تعبديا أو توصليا؟ فيه خلاف بين الأصوليين. و ينبغي لتوضيح ذلك و بيان المختار تقديم أمور:
____________
المكلف لا يمكنه تحقيق قصد الامتثال في قلبه حقيقة إلا إذا فرض وجود الأمر أولا؛ و إلا فأي شي‏ء يقصد امتثاله.
إذا: ما قيل في المقدمة الأولى من أن قصد الامتثال متأخر عن الأمر يراد به: أن قصد الامتثال بوجوده الخارجي متأخر عنه، بينما المراد في المقدمة الثانية حينما قيل أن قصد الامتثال لو كان مأخوذا في المتعلق يلزم تقدمه على الأمر هو لزوم تقدم قصد الامتثال بوجوده التصوري على الأمر، و لا يلزم تقدمه بوجوده الخارجي عليه إذ المتعلق للأمر و إن كان متقدما على الأمر إلا أنه متقدم عليه بوجوده التصوري.
و بعد هذا تكون النتيجة هي: أن قصد الامتثال متقدم بوجوده التصوري و متأخر بوجوده الخارجي، و هذا لا محذور فيه و إنما المحذور فيما لو كان بوجوده الخارجي متقدما و متأخرا.
ثم أن منشأ الاشتباه في اعتقاد لزوم الدور هو: عدم التمييز بين المتعلق و الموضوع، فتخيل أن المتعلق هو الموضوع، فحينما يقال: أن قصد الامتثال مأخوذ في متعلق الأمر يتخيل أن المقصود أخذ قصد الامتثال في الموضوع، و بناء عليه: يلزم أن يكون قصد الامتثال بوجوده الخارجي متقدما على الأمر و متأخرا عنه، إذ تحقق قصد الامتثال خارجا بما أنه متوقف على وجود الأمر فيكون متأخرا عنه، فلو كان مأخوذا في المتعلق الذي هو الموضوع- حسب تخيل صاحب هذا البرهان- يلزم تقدمه لأن الموضوع بوجوده الخارجي متقدم على الأمر الفعلي، و لكن بعد أن ميزنا بين المتعلق و الموضوع بالشكل المتقدم، و ميزنا بين الجعل و المجعول، و عرفنا إناطة الجعل بتصور كل من المتعلق و الموضوع بخلاف المجعول فإنه منوط بتحقق الموضوع خارجا، و بعد أن عرفنا كل هذا فلا محذور، إذ قصد الامتثال و إن كان متأخرا عن الأمر و لكنه متأخر عنه بوجوده الخارجي، فلو أخذ في متعلق الأمر يلزم تقدمه و لكن بوجوده التصوري- إذ الجعل يتوقف على تصور المتعلق أولا- لا بوجوده الخارجي حتى يلزم الدور إذ الذي يلزم تقدمه بوجوده الخارجي الموضوع لا المتعلق‏ (١).
و بهذا يرتفع محذور صاحب الكفاية. و هناك براهين ثلاثة أيضا في تحقيق حال هذه الاستحالة ذكرها السيّد الصدر (قدس سره) في الحلقة الثالثة ج ١، ص ٣٦٠- ٣٦٣، فراجع.
ملاحظة: ما المراد من قصد القربة؟ كثير ما تمر عبارة قصد القربة في كلمات الأصوليين ما المراد منها؟
الجواب: هو عبارة عن قصد الأمر فقط كما ذهب إليه جمع.
____________
(١) راجع الحلقة الثالثة في أسلوبها الثاني، ج ٢، ص ٣٣٦- ٣٣٧.
١٧٦

أ- منشأ الخلاف و تحريره‏

إن منشأ الخلاف هنا هو الخلاف في إمكان أخذ قصد القربة في متعلق الأمر- كالصلاة مثلا- قيدا له على نحو الجزء أو الشرط، على وجه يكون المأمور به المتعلق للآمر هو الصلاة المأتي بها بقصد القربة بهذا القيد، كقيد الطهارة فيها؛ إذ يكون المأمور به الصلاة عن طهارة لا الصلاة المجردة عن هذا القيد من حيث هي هي.
فمن قال بإمكان أخذ هذا القيد- و هو قصد القربة- كان مقتضى الأصل عنده التوصلية، إلا إذا دل دليل خاص على التعبدية، كسائر القيود الأخرى، لما عرفت أن إطلاق كلام المولى حجة يجب الأخذ به ما لم يثبت التقييد، فعند الشك في اعتبار قيد يمكن أخذه في المأمور به، فالمرجع (أصالة الإطلاق) لنفي اعتبار ذلك القيد.
و من قال باستحالة أخذ قيد قصد القربة: فليس له التمسك بالإطلاق، لأن الإطلاق ليس إلا عبارة عن عدم التقييد فيما من شأنه التقييد، لأن التقابل بينهما من باب تقابل العدم و الملكة (الملكة هي التقييد. و عدمها الإطلاق). و إذا استحالت الملكة استحال عدمها بما هو عدم ملكة، لا بما هو عدم مطلق (١). و هذا واضح لأنه إذا كان التقييد في لسان الدليل لا يستكشف منه إرادة الإطلاق، فإن عدم التقييد يجوز أن يكون لاستحالة التقييد، و يجوز أن يكون لعدم إرادة التقييد، و لا طريق لإثبات الثاني بمجرد عدم ذكر القيد وحده.
____________
(١) و في شرح هذه العبارة نقول:
الوجود ينقسم إلى قسمين:
١- وجود خاص، و يقابله عدم خاص.
٢- وجود مطلق، و يقابله عدم مطلق.
و مثال الأوّل: البصر و العمى.
و مثال الثّاني: البصر و اللابصر.
فإذا استحال البصر بما هو وجود خاص، و بما هو ملكة عن شي‏ء استحال العمى الذي هو عدم خاص، و لكن استحالته لا تعني استحالة العدم المطلق، و هو عدم البصر.
و مثال آخر على الوجود المطلق و العدم المطلق هو: حينما تقول: الوجود خير من العدم المراد من الوجود هو مطلق الوجود خير من مطلق العدم. و بعبارة أخرى: الوجود إذا نسبته إلى ماهية ما صار وجودا خاصا كقولك: وجود هذا الإنسان، أي: وجود هذه الحصة الخاصة، و يقابله العدم الخاص، و هو عدم الإنسان، و تارة تأخذ الوجود من دون أن تنسبه إلى ماهية فيكون وجودا مطلقا محفوظا في جميع الماهيات فيقابله عدم مطلق.
١٧٧
و بعد هذا نقول: إذا شككنا في اعتبار شي‏ء في مراد المولى و ما تعلق به غرضه واقعا، و لم يمكن له بيانه ... فلا محالة يرجع ذلك إلى الشك في سقوط الأمر إذا خلا المأتي به من ذلك القيد المشكوك. و عند الشك في سقوط الأمر- أي: في امتثاله- يحكم العقل بلزوم الإتيان به مع القيد المشكوك كيما يحصل له العلم بفراغ ذمته من التكليف، لأنه إذا اشتغلت الذمة بواجب يقينا فلا بد من إحراز الفراغ منه في حكم العقل. و هذا معنى ما اشتهر في لسان الأصوليين من قولهم: (الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني).
و هذا ما يسمى عندهم بأصل الاشتغال أو أصالة الاحتياط.

ب- محل الخلاف من وجوب قصد القربة

إن محل الخلاف في المقام هو: إمكان أخذ قصد امتثال الأمر في المأمور به.
و أما غير قصد الامتثال من وجوه قصد القربة، كقصد محبوبية الفعل المأمور به الذاتية باعتبار أن كل مأمور به لا بد أن يكون محبوبا للآمر و مرغوبا عنده، و كقصد التقرب إلى الله تعالى محضا بالفعل لا من جهة قصد امتثال أمره بل رجاء لرضاه، و نحو ذلك من وجوه قصد القربة، فإن كل هذه الوجوه لا مانع قطعا من أخذها قيدا للمأمور به، و لا يلزم المحال الذي ذكروه في أخذ قصد الامتثال على ما سيأتي.
و لكن الشأن في أن هذه الوجوه هل هي مأخوذة في المأمور به فعلا على نحو لا تكون العبادة عبادة إلا بها؟
الحق: إنه لم يؤخذ شي‏ء منها في المأمور به. و الدليل على ذلك: ما نجده من الاتفاق على صحة العبادة- كالصلاة مثلا- إذا أتي بها بداعي أمرها مع عدم قصد الوجوه الأخرى. و لو كان غير قصد الامتثال من وجوه القربة مأخوذا في المأمور به لما صحت العبادة، و لما سقط أمرها بمجرد الإتيان بداعي أمرها بدون قصد ذلك الوجه.
فالخلاف- إذا- منحصر في إمكان أخذ قصد الامتثال و استحالته.

ج- الإطلاق و التقييد في التقسيمات الأولية للواجب (١)

إن كل واجب في نفسه له تقسيمات؛ باعتبار الخصوصيات التي يمكن أن تلحقه‏
____________
الإطلاق و التقييد في التقسيمات الأولية للواجب: (١) الماهية لها وجودان:
١- وجود ذهني.
١٧٨
في الخارج- مثلا- الصلاة تنقسم في ذاتها مع قطع النظر عن تعلق الأمر بها إلى:
١- ذات سورة، و فاقدتها.
٢- ذات تسليم، و فاقدته.
٣- صلاة عن طهارة، و فاقدتها.
٤- صلاة مستقبل بها القبلة، و غير مستقبل بها.
٥- صلاة مع الساتر و بدونه.
و هكذا يمكن تقسيمها إلى ما شاء الله من الأقسام بملاحظة أجزائها و شروطها، و ملاحظة كل ما يمكن فرض اعتباره فيها و عدمه.
و تسمى مثل هذه التقسيمات: «التقسيمات الأولية»، لأنها تقسيمات تلحقها في ذاتها مع قطع النظر عن فرض تعلق شي‏ء بها، و تقابلها «التقسيمات الثانوية» التي تلحقها بعد فرض تعلق شي‏ء بها كالأمر مثلا. و سيأتي ذكرها.
فإذا نظرنا إلى هذه التقسيمات الأولية للواجب: فالحكم بالوجوب- بالقياس إلى كل خصوصية منها- لا يخلو في الواقع من أحد احتمالات ثلاثة:
____________
٢- وجود خارجي.
الأوّل: و هي بوجودها الذهني يمكن أن تلحظ بثلاثة لحاظات:
الأوّل: ماهية بشرط شي‏ء كالإنسان بشرط العلم في قولك: ائتني بإنسان عالم.
الثّاني: ماهية بشرط لا كالإنسان بشرط عدم العلم في قولك: ائتني بإنسان جاهل.
الثّالث: ماهية لا بشرط كالإنسان في قولك: ائتني بإنسان.
الثّاني: و هي بوجودها الخارجي لها نحوان:
الأوّل: ماهية بشرط شي‏ء.
الثّاني: ماهية بشرط لا.
و لا يمكن أن نتصور القسم الثّالث لأن الإنسان في الخارج إما أن يكون عالما أو جاهلا، و على هذا:
فإذا جاءنا دليل فإن استكشفنا منه التقييد على نحو الماهية بشرط شي‏ء أو على نحو الماهية بشرط لا فبها و نعمت، و إلا تمسكنا بإطلاقه لنفي التقييد، فيثبت أن المولى يريد واقعا الماهية لا بشرط و هو الإطلاق، و هذا كله إذا كان المقيد المشكوك من التقسيمات الأولية، و ذلك لإمكان أخذه قيدا، و حيث لم يؤخذ في لسان الدليل يستكشف منه عدم إرادته، و إلا لو أراده لأخذه في لسان الدليل، و هذا بخلاف القيود التي هي من التقسيمات الثانوية، فإنّها لما لم يمكن أخذها في الواقع قيودا للمأمور به للزوم الدور كما سيأتي بيانه، فإنّه إذا جاءنا دليل مطلق لا يمكن أن نستكشف منه الإطلاق، و ذلك لإمكان أن يكون مرادا للمولى، و لكن لم يستطع أخذه للزوم الدور.
١٧٩
١- أن يكون مقيدا بوجودها، و يسمى ب «شرط شي‏ء»، مثل: شرط الطهارة و الساتر و الاستقبال و السورة و الركوع و السجود، و غيرها من أجزاء و شرائط بالنسبة إلى الصلاة.
٢- أن يكون مقيدا بعدمها، و يسمى ب «شرط لا»، مثل: شرط الصلاة بعدم الكلام و القهقهة و الحديث، إلى غير ذلك من قواطع الصلاة.
٣- أن يكون مطلقا بالنسبة إليهما أي: غير مقيد بوجودها و لا بعدمها و يسمى «لا بشرط»، مثل: عدم اشتراط الصلاة بالقنوت، فإن وجوبها غير مقيد بوجوده و لا بعدمه.
هذا في مرحلة الواقع و الثبوت، و أما في مرحلة الإثبات و الدلالة، فإن الدليل الذي يدل على وجوب شي‏ء إن دل على اعتبار قيد فيه أو على اعتبار عدمه فذاك، و إن لم يكن الدليل متضمنا لبيان التقييد بما هو محتمل التقييد لا وجودا و لا عدما، فإن المرجع في ذلك هو أصالة الإطلاق، إذا توفرت المقدمات المصححة للتمسك بأصالة الإطلاق على ما سيأتي في بابه- و هو باب المطلق و المقيد- و بأصالة الإطلاق يستكشف أن إرادة المتكلم الآمر متعلقة بالمطلق واقعا، أي: أن الواجب لم يؤخذ بالنسبة إلى القيد إلا على نحو اللابشرط.

د- عدم إمكان الإطلاق و التقييد في التقسيمات الثانوية للواجب‏

و الخلاصة: إنه لا مانع من التمسك بالإطلاق لرفع احتمال التقييد في التقسيمات الأولية.
ثم أن كل واجب- بعد ثبوت الوجوب و تعليق الأمر به واقعا- ينقسم إلى ما يؤتى به في الخارج بداعي أمره، و ما يؤتى به لا بداعي أمره. ثم ينقسم أيضا إلى معلوم الواجب و مجهوله.
و هذه التقسيمات تسمى «التقسيمات الثانوية»؛ لأنها من لواحق الحكم و بعد فرض ثبوت الوجوب واقعا، إذ قبل تحقق الحكم لا معنى لفرض إتيان الصلاة- مثلا- بداعي أمرها، لأن المفروض- في هذه الحالة- لا أمر بها حتى يمكن فرض قصده.
و كذا الحال بالنسبة إلى العلم و الجهل بالحكم.
و في مثل هذه التقسيمات يستحيل التقييد، أي: تقييد المأمور به، لأن قصد امتثال الأمر- مثلا- فرع وجود الأمر، فكيف يعقل أن يكون الأمر مقيدا به؟ و لازمه: أن‏
____________
١٨٠
يكون الأمر فرع قصد الأمر، و قد كان قصد الأمر فرع وجود الأمر، فيلزم أن يكون المتقدم متأخرا و المتأخر متقدما. و هذا خلف أو دور.
و إذا استحال التقييد استحال الإطلاق أيضا، لما قلنا سابقا: إن الإطلاق من قبيل عدم الملكة بالقياس إلى التقييد، فلا يفرض إلا في مورد قابل للتقييد، و مع عدم إمكان التقييد لا يستكشف من عدم التقييد إرادة الإطلاق.

النتيجة:

و إذا عرفنا هذه المقدمات يحسن بنا أن نرجع إلى صلب الموضوع، فنقول: قد اختلف الأصوليون في أن الأصل في الواجب- إذا شك في كونه تعبديا أو توصليا- هل أنه تعبدي أو توصلي؟
ذهب جماعة: إلى أن الأصل في الواجبات أن تكون عبادية؛ إلّا أن يقوم دليل خاص على عدم دخل قصد القربة في المأمور به، لأنه لا بد من الإتيان به تحصيلا للفراغ اليقيني مع عدم الدليل على الاكتفاء بدونه، و لا يمكن التمسك بالإطلاق لنفيه حسب الفرض. و قد تقدم ذلك في الأمر الأوّل. فتكون أصالة الاحتياط في المرجع هنا و هي تقتضي العبادية.
و ذهب جماعة إلى أن الأصل في الواجبات أن تكون توصلية، لا لأجل التمسك بأصالة الإطلاق في نفس الأمر، و لا لأجل أصالة البراءة من اعتبار قيد القربة، بل نتمسك لذلك بإطلاق المقام.
توضيح ذلك: إنه لا ريب في أن المأمور به إطلاقا و تقييدا يتبع الغرض سعة و ضيقا، فإن كان القيد دخيلا في الغرض، فلا بد من بيانه و أخذه في المأمور به قيدا، و إلا فلا.
غير أن ذلك فيما يمكن أخذه من القيود في المأمور به- كما في التقسيمات الأولية-.
أما ما لا يمكن أخذه في المأمور به قيدا- كالذي نحن فيه و هو قيد قصد الامتثال- فلا يصح من الآمر أن يتغافل عنه حيث لا يمكن أخذه قيدا في الكلام الواحد المتضمن للآمر، بل لا مناص له من اتباع طريقة أخرى ممكنة لاستيفاء غرضه، و لو بإنشاء أمرين أحدهما يتعلق بذات الفعل مجردا عن القيد، و الثاني يتعلق بالقيد.
مثلا: لو فرض أن غرض المولى قائم بالصلاة المأتي بها بداعي أمرها: فإنه إذا لم‏
١٨١
يمكن تقييد المأمور به بذلك في نفس الأمر المتعلق بها- لما عرفت من امتناع التقييد في التقسيمات الثانوية- فلا بدّ له (أي: الآمر) لتحصيل غرضه أن يسلك طريقة أخرى؛ كأن يأمر أولا بالصلاة، ثم يأمر ثانيا بإتيانها بداعي أمرها الأوّل، مبيّنا ذلك بصريح العبارة (١).
و هذان الأمران يكونان في حكم أمر واحد ثبوتا و سقوطا، لأنهما ناشئان من غرض واحد، و الثاني يكون بيانا للأول.
فمع عدم امتثال الأمر الثاني لا يسقط الأمر الأول بامتثاله فقط؛ و ذلك بأن يأتي بالصلاة مجردة عن قصد أمرها، فيكون الأمر الثاني بانضمامه إلى الأوّل مشتركا مع التقييد في النتيجة و إن لم يسمّ تقييدا اصطلاحا (٢)
إذا عرفت ذلك، فإذا أمر المولى بشي‏ء- و كان في مقام البيان- و اكتفى بهذا الأمر،
____________
(١) غرض المصنّف (قدس سره) من هذه العبارة هو: إثبات أن الأصل في الواجب عند الشّك في أخذ قصد الامتثال فيه هو كونه واجبا توصليا لا تعبديا، و لكن ليس عن طريق التمسّك بالإطلاق اللفظي، بل عن طريق التمسّك بالإطلاق المقامي، و بعبارة أخرى: إن الإطلاق على نحوين:
إطلاق لفظي: و هو عبارة عن التمسّك بإطلاق اللفظ لنفي القيد المشكوك، و هو يمكن التمسّك به دائما لنفي القيود التي هي من التقسيمات الأولية.
و إطلاق مقامي: و هو عبارة عن كون المولى في مقام بيان تمام ما له دخل في غرضه، فإذا لم يستطع بيانه بطريقة، فلا بدّ له أن يسلك طريقة أخرى، فإذا لم يبيّنه بجميع الطرق نستكشف من ذلك الإطلاق، و الإطلاق المقامي دائما يمكن التمسّك به لنفي القيود التي هي من التقسيمات الثّانوية.
ملاحظة و تنبيه: المراد من القيود الأولية هنا: هي العارضة للشي‏ء بما هو في نفسه. فالإيمان و الكفر من التقسيمات الأولية العارضة على الرقبة، فحينما يقول لك المولى: أعتق رقبة، فيمكن هنا أن تتمسك بالإطلاق اللفظي لنفي هذه القيود الأولية.
و المراد من القيود الثّانوية: هي العارضة للطلب بعد تعلق الأمر به، فإن قصد القربة يعتبر من التقسيمات الثّانوية للطلب فبالإطلاق المقامي أستطيع أن أنفي هذا القيد، باعتبار أنه لو كان مرادا للمولى لبينه بأي طريقة شاء.
(٢) هذا بيان لكيفية امتثال الأمر الأوّل؛ لأن الأمر الأول هو أمر بالصلاة المجردة عن أي قرينة فعند ما يأمر المولى بالصلاة «صلّ» فيكون امتثاله بالإتيان بالصلاة مجردة، و لكن امتثال الأمر الأوّل لا يسقط غرض المولى، لأننا فرضنا أن الأمر الثّاني بيان للأمر الأوّل و متمم له و مما له دخل في غرض المولى، و قد أخذ قيد قصد الامتثال قيدا في المأمور به، فلا بدّ لأجل تحقق و سقوط غرض المولى من الإتيان بالصلاة بداعي امتثال الأمر.
١٨٢
و لم يلحقه بما يكون بيانا له فلم يأمر ثانيا بقصد الامتثال، فإنه يستكشف منه عدم دخل قصد الامتثال في الغرض، و إلّا لبينه بأمر ثان، و هذا ما سميناه بإطلاق المقام.
و عليه، فالأصل في الواجبات كونها توصليّة حتى يثبت بالدليل أنها تعبدية.

٤- الواجب العيني و إطلاق الصيغة (١)

الواجب العيني: (ما يتعلق بكل مكلف و لا يسقط بفعل الغير) كالصلاة اليومية و الصوم. و يقابله الواجب الكفائي، و هو: (المطلوب فيه وجود الفعل من أي مكلف كان)، فيسقط بفعل بعض المكلفين عن الباقي، كالصلاة على الميت و تغسيله و دفنه (٢). و سيأتي في تقسيمات الواجب ذكرهما.
____________
(١) هذا البحث و البحثان اللذان بعده الكلام فيها واحد، و المطلب بشكل كلي نقول: إن المولى إذا أمر بطبيعة لها فردان مع عدم وجود قرينة على إرادة أحدهما، فهل توجد قاعدة لتشخيص إرادة أحدهما أم لا؟ نقول: إذا كان أحد الأفراد يحتاج إلى مئونة بيان زائدة على صب الأمر على ذات الطبيعة، فالإطلاق يقتضي عدم إرادة هذا الفرد، لأنّه كما قلنا: إرادة هذا الفرد يحتاج في بيانه إلى مئونة زائدة.
(٢) الوجوب العيني و إطلاق الصيغة:
لا يخفى: إنّه لا خلاف و لا إشكال في وقوع الوجوب الكفائي في الشريعة المقدّسة، إلا أنّ الكلام وقع في تصويره بنحو ينطبق على المقصود: من وجوبه على كلّ واحد من المكلفين بحيث لو امتثل الجميع استحقوا المثوبة، و لو خالفوا كذلك استحقوا العقوبة، و لو أتى به بعضهم سقط عن الكلّ، و قد ذكروا في تصويره وجوها:
الأوّل: تعلّق الوجوب بالجميع، كتعلّق الوجوب العيني به، بمعنى: تعلقه بكلّ واحد على نحو العام الاستغراقي، و سقوطه عن الباقين بفعل البعض، و عليه جميع الإمامية، و أكثر العامة على ما قيل.
الثاني: ما نسب إلى الرازي، و البيضاوي، و الشافعيّة: من تعلقه الوجوب بالبعض ممن يكتفى به في أداء الفعل، نظير ما ذكر في الواجب التخييري: من تعلّقه بواحد لا بعينه، غاية الأمر: أنّ الإبهام هناك في المكلّف به، و هنا في المكلّف.
و فيه: إنه لا وجه لتعلّق الوجوب بالبعض، لأنّه ترجيح بلا مرجّح.
مضافا إلى: أنّه مخالف لظواهر أدلة الواجبات الكفائية، فإنّ قول أبي عبد الله (عليه السلام) في خبر سماعة (١): «و غسل الميت واجب»، بقرينة حذف من يجب عليه ظاهر في العموم. و كذا قول النبي (صلى الله عليه و آله) في خبر (٢) السكوني: «لا تدعوا أحدا من أمتي بلا صلاة» ظاهر في العموم،
____________
(١) الوسائل، الباب الأول من أبواب غسل الميت، ح ١.
(٢) الوسائل، الباب ٣٧ من أبواب صلوات الجنازة، ح ٣.
١٨٣
و فيما يتعلق في مسألة تشخيص الظهور نقول: إن دل الدليل على أن الواجب عيني أو كفائي فذاك، و إن لم يدل فإن إطلاق صيغة افعل تقتضي أن يكون عينيا، سواء أتى بذلك العمل شخص آخر أم لم يأت به، فإن العقل يحكم بلزوم امتثال الأمر ما لم يعلم سقوطه بفعل الغير.
____________
و نحوهما سائر أدلة الواجبات الكفائية.
الثالث: ما نسب إلى قطب الدين الشيرازي: من تعلّق الوجوب بالمجموع من حيث هو مجموع، فإذا تركوه كان العصيان ثابتا بالذات للمجموع، و لكلّ واحد بالعرض، و إذا أتى به البعض سقط عن الباقين.
و فيه أوّلا: إنّ أخذ قيد المجموع في ناحية المكلّف لا مأخذ له بعد كون الوجوب الكفائي كالعيني من حيث التوجّه إلى المكلفين، فإنّه قيد زائد يحتاج إلى مئونة زائدة، و ينفى عند الشكّ فيه بإطلاق الدليل.
ثانيا: انّه لا وجه للسقوط بفعل البعض، إذ المفروض: عدم صدوره عن المكلّف أعني: المجموع الذي هو مناط السقوط.
إلا أن يقال: إن السقوط حينئذ إنّما هو لأجل انتفاء الموضوع، حيث أن الموضوع لوجوب الغسل و غيره كفاية هو الميّت الذي لم يغسّل، أو لم يصلّ عليه أو لم يكفّن، أو لم يدفن، فإذا تحققت هذه الأمور على وجه صحيح سقط وجوبها؛ و إن لم تصدر من المكلّف كما إذا صدرت من صبي مميز بناء على شرعيّة عباداته.
الرابع: أن يكون الوجوب بالنسبة إلى كلّ أحد مشروطا بترك الآخر، فلا يجب على مكلّف إلا مع ترك صاحبه، فإذا ترك الكل عوقبوا جميعا، لحصول شرط الوجوب- و هو الترك- لجميعهم. و إذا فعله واحد منهم لا يجب على غيره، لعدم تحقق شرط الوجوب بالنسبة إليه، لا انّه يسقط عنه، لأن السقوط فرع الثبوت و إذا أتى به كلّهم لا يتصف الفعل بالوجوب أصلا، لعدم تحقق شرط الوجوب و هو ترك البعض.
و الحاصل: إن مفاد هذا الوجه هو الوجوب العيني عند ترك البعض.
- و فيه ما لا يخفى: ضرورة: أن عدم اتصاف الفعل بالوجوب عند إتيان الجميع في آن واحد خلاف البداهة.
- مضافا إلى: أن إتيان البعض به مانع عن ثبوت الوجوب على غيره، لا مسقط عنه.
- و إلى: أنّه مع الشك في قيام الغير به تجري البراءة في حق الشاك، و هو كما ترى.
- و إلى: أن لسان أدلة الوجوب الكفائي و العيني واحد، فجعل الترك في الأول شرطا للوجوب في حق الغير تصرف في الأدلة بلا موجب.
- و إلى: أن إرجاع الوجوب الكفائي إلى العيني المشروط إنكار للوجوب الكفائي، لا توجيه له.
- و إلى: أنّ اشتراط خطاب كلّ بترك الآخر، أو البناء على الترك أجنبيّ عن المقام لأن مورده تعدد الملاك، و امتناع استيفاء الجميع، للتزاحم في مقام الفعليّة كإنقاذ الغريقين، فلا محيص حينئذ عن تقييد
١٨٤
فالمحتاج إلى مزيد البيان على أصل الصيغة: هو الواجب الكفائي، فإذا لم ينصب المولى قرينة على إرادته- كما هو المفروض- يعلم أن مراده الوجوب العيني.
____________
إطلاق وجوب إنقاذ كلّ منهما بترك الآخر، فيصير الوجوب في كلّ منهما مشروطا.
و ليس الواجب الكفائي كذلك، لوحدة الملاك فيه، فجميع الخطابات الكفائية لا تحكي عن ملاكات عديدة، بل عن ملاك واحد، فلا يتمشى فيها الاشتراط المزبور.
الخامس: أن يكون الوجوب بالنسبة إلى كلّ واحد مشروطا بعدم بناء الآخر على الإتيان بالفعل، فإذا علم واحد من المكلفين ببناء غيره على الترك وجب، فمع العلم بالبناء على الفعل لا يجب على الغير، و لذا مع الشك في العزم على الإتيان به- لأنه شكّ في التكليف- تجري فيه البراءة.
و الحاصل: أن الوجوب منوط بإحراز بناء الغير على الترك، فما لم يحرز هذا البناء الذي هو شرط الوجوب لا يحكم به، هذا و فيه:
أوّلا: ما تقدم من: أنّه إنكار للوجوب الكفائي، لرجوعه إلى الوجوب العيني المشروط.
و من: إنّه لا يتّصف الفعل من أحد منهم بالوجوب إذا بنى الجميع على الإتيان به، لعدم تحقق شرط وجوبه، و هو البناء على الترك.
و ثانيا: أن لازمه سقوط الوجوب عن الباقين بمجرّد بناء بعض على الإتيان به، بل عدم ثبوته في حق الباقين بمجرد بناء غيرهم على الفعل و لو لم يشرع بعد فيه فضلا عن إتمامه. و هذا خلاف ما ذكروه في الواجبات الكفائية: من أنّ سقوطها منوط بالإتيان بتمام الواجب، أو الشروع فيه.
و أما مجرد البناء على الفعل، فلم يدلّ دليل على مسقطيّته عن الغير.
فالحق- على حد تعبير المروج «حفظه الله»- هو الأول، أعني: تعلق الوجوب الكفائي بكلّ واحد من المكلّفين على سبيل العموم الاستغراقي، كتعلق الوجوب العيني بهم، بأن يقال: أن الوجوب سنخ واحد سواء أ كان عينيا أم كفائيا، أم تخييريا أم تعيينيا، فإنّ تعلقه بمعيّن ترجيح بلا مرجح، فلا بدّ من أن يتعلق بالجميع كالوجوب العيني، و لا فرق بينهما من هذه الحيثية، فالتكليف كالمكلف به متعدد في كلّ من الوجوب العيني و الكفائي، فكما يتعلق الوجوب العيني المتوجّه إلى كلّ واحد من المكلفين بفعل نفسه لا بفعل غيره، فكذلك الوجوب الكفائي، فإذا امتثل الكلّ استحقوا الثواب، و إذا عصوا استحقوا العقاب، بمعنى: استحقاق كل واحد منهم عقابا مستقلا كما في الواجبات العينية.
فالفرق: بين العيني و الكفائي هو: أنّه إذا بادر أحدهم إلى الامتثال سقط عن الباقين و الكفائي، دون العيني، و منشأ هذا الفرق هو: ارتفاع موضوع التكليف بهذه المبادرة في الواجب الكفائي، حيث أنّ موضوع وجوب التجهيز- مثلا- الميّت الذي لم يجهز، فتجهيزه مرة واحدة يخرجه عن هذا الموضوع، و إلا فليس اختلاف في حقيقة الوجوب حتى يفرّق فيه بين العيني و الكفائي، بل الاختلاف إنّما هو في متعلق الوجوب، لخصوصية أخذت فيه، لما عرفت: من أن متعلّق الوجوب الكفائي متخصص بخصوصيّة ترتفع بمبادرة واحد منهم إلى الامتثال، و ليس متعلّق الوجوب العيني كذلك، هذا:
١٨٥

٥- الواجب التعييني و إطلاق الصيغة (١)

الواجب التعييني هو: «الواجب بلا واجب آخر يكون عدلا له و بديلا عنه في عرضه» كالصلاة اليومية. و يقابله الواجب التخييري كخصال كفارة الإفطار العمدي في صوم شهر رمضان، المخيرة بين إطعام ستين مسكينا، و صوم شهرين متتابعين، و عتق رقبة. و سيأتي في الخاتمة توضيح الواجب التعييني و التخييري.
فإذا علم واجب أنه من أي القسمين فذاك، و إلا فمقتضى إطلاق صيغة الأمر وجوب ذلك الفعل، سواء أتى بفعل آخر أم لم يأت به، فالقاعدة تقتضي عدم سقوطه بفعل شي‏ء آخر، لأن التخيير محتاج إلى مزيد بيان مفقود.

٦- الواجب النفسي و إطلاق الصيغة

الواجب النفسي هو: «الواجب لنفسه لا لأجل واجب آخر (٢)» كالصلاة اليومية.
____________
و يمكن أن يفرق بينهما أيضا من جهة أخرى، و هي: أن الغرض من الواجب الكفائي واحد، و لذا يسقط بفعل واحد منهم. بخلاف العيني، فإن الغرض منه متعدّد، و لذا لا يسقط بذلك، و من المقرر:
ان وحدة الملاك لا تقتضي تعدّد الخطاب، بل وحدته، إذ يلزم من تعدده اللغوية، للزوم خلوّ بعض الخطابات حينئذ عن المصلحة، و لمّا كان الملاك في الواجب العيني متعدّدا بحيث يكون لكلّ فعل من كل مكلف ملاك يخصه، فلا محالة يتعدد الخطاب، و يكون لكل مكلف خطاب يختص به. بخلاف الواجب الكفائي، فإن وحدة ملاكه توجب وحدة خطابه، فلا وجه لأن يقال: أنّ الوجوب الكفائي يتعلق بكل واحد من المكلفين على حذو تعلق العيني به‏ (١).
الواجب التعييني و إطلاق الصيغة: (١) فائدة: الوجوب التخييري كالوجوب الكفائي، إلا أن التخيير في الأوّل بلحاظ الفعل، و في الثاني بلحاظ المكلف.
الواجب النفسي و إطلاق الصيغة: (٢) و بعبارة أخرى نقول: الواجب النفسي هو الواجب الذي لا تكون إرادته مترشحة عن إرادة غيره، سواء كان لمصلحة في نفسه أم لا بينما الواجب الغيري هو الواجب الذي تكون إرادته مترشحة عن إرادة غيره، و يكون معلولا لها.
و عرّف النفسي: بتعريف آخر هو: بما أمر به لأجل ملاك في نفسه، و مقابله الغيري و هو: ما أمر به لا لملاك في نفسه بل لملاك في غيره. و لكن يرد على هذا التعريف: خروج المقدّمات المفوّتة عنه بناء على وجوبها الشرعي و أنّها واجبات نفسية، لأن وجوبها ليس لملاك في نفسها، بل وجوبها ناشئ عن ملاك‏
____________
(١) المصادر: ١- منتهى الدراية في شرح الكفاية، ج ٢، ص ٥٦١- ٥٦٦.
٢- راجع كتاب منتهى الأصول، ج ١، ص ٣٣٠- ٣٣٣.
١٨٦
و يقابله الواجب الغيري كالوضوء فإنه إنما يجب مقدمة للصلاة الواجبة، لا لنفسه إذ لو لم تجب الصلاة لما وجب الوضوء.
فإذا شك في واجب أنه نفسي أو غيري فمقتضى إطلاق تعلق الأمر به سواء وجب شي‏ء آخر أم لا: أنه واجب نفسي. فالإطلاق يقتضي النفسية ما لم تثبت الغيرية (١).

٧- الفور و التراخي (٢)

اختلف الأصوليون في دلالة صيغة الأمر على الفور و التراخي على أقوال:
١- أنها موضوعة للفور.
٢- أنها موضوعة للتراخي.
٣- أنها موضوعة لهما على نحو الاشتراك اللفظي.
٤- إنها غير موضوعة لا للفور و لا للتراخي و لا للأعم منهما، بل لا دلالة لها
____________
ذي المقدّمة إلا إذا خرجنا المقدمات المفوّتة من كونها واجبات نفسية.
و عرف الواجب النفسي أيضا: بما هو واجب لا لأجل التوصّل إلى واجب آخر، بخلاف الغيري فإنّ وجوبه لأجل التوصّل إلى واجب آخر.
(١) و بعبارة أخرى: هذه العبارة تبين حكم التردد بين النفسية و الغيرية، فإذا شك المكلف في واجب هل هو نفسي أو غيري فما هو مقتضى الإطلاق؟
مقتضى الإطلاق: كون الواجب نفسيا. و ذلك لأن الإطلاق يدفع كلّ ما يحتاج بيانه إلى مئونة زائدة، و لا شك في: أنّ الواجب الغيري يحتاج بيانه إلى مئونة زائدة بالنسبة إلى الواجب النفسي.
الفور و التراخي: (٢) و الحق: أن النزاع في هذا هو نزاع في مدلول المادة لا الهيئة، بل لا معنى لكونه نزاعا في مدلول الهيئة كما هو واضح، و بعبارة أخرى: أن صيغة الأمر تشتمل على أمرين:
١- مادة.
٢- هيئة.
و مدلول الهيئة هو نفس الطلب، و مدلول المادة هو متعلق الطلب، فإذا قيل: «صم»، فمدلول الهيئة هو الطلب، و مدلول المادة هو الصوم، و من الواضح: أن الفورية و التراخي يمكن أخذهما قيدين في متعلق الطلب «مدلول المادة»، إذ يقال: المولى طلب الصوم الفوري أو المتراخي، و لا يعقل أخذهما قيدين لمدلول الهيئة الذي هو نفس الطلب، فإن طلب المولى لا يوصف بالتراخي أو الفورية، إذ لا يقال:
طلب فوري للصوم، و طلب متراخ للصوم، أو قل: لا يقال: المولى طلب الصوم طلب متراخ، أو فوري، و إنّما يقال: طلب الصوم المتراخي أو الفوري.
١٨٧
على أحدهما بوجه من الوجوه. و إنما يستفاد أحدهما من القرائن الخارجية التي تختلف باختلاف المقامات.
و الحق: هو الأخير (١)، و الدليل عليه: ما عرفت من أن صيغة افعل إنما تدل على النسبة الطلبية، كما أن المادة لم توضع إلّا لنفس الحدث غير الملحوظ معه شي‏ء من خصوصياته الوجودية (٢). و عليه، فلا دلالة لها- لا بهيئتها و لا بمادتها- على الفور أو التراخي، بل لا بد من دال آخر على شي‏ء منهما، فإن تجردت عن الدال الآخر:
فإن ذلك يقتضي جواز الإتيان بالمأمور به على الفور أو التراخي (٣).
هذا بالنظر إلى نفس الصيغة، أما بالنظر إلى الدليل الخارجي المنفصل: فقد قيل:
بوجود الدليل على الفور في جميع الواجبات على نحو العموم؛ إلّا ما دل عليه دليل خاص ينص على جواز التراخي فيه بالخصوص. و قد ذكروا لذلك آيتين:
(الأولى): قوله تعالى في سورة آل عمران: ١٣٣:
وَ سارِعُوا إِلى‏ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ.
و تقريب الاستدلال بها: إن المسارعة إلى المغفرة لا تكون إلّا بالمسارعة إلى سببها، و هو الإتيان بالمأمور به، لأن المغفرة فعل الله تعالى فلا معنى لمسارعة العبد إليها. و عليه: فيكون الإسراع إلى فعل المأمور به واجبا لما مر من ظهور صيغة افعل في الوجوب.
(الثانية): قوله تعالى في سورة البقرة: ١٤٨، و المائدة ٤٨:
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ،
فإن الاستباق بالخيرات عبارة أخرى عن الإتيان بها فورا.
____________
(١) هذا ما ذهب إليه صاحب الكفاية (قدس سره) و غيره من العلماء.
(٢) كحدث الصوم في قولك: «صم»، و بعبارة أخرى: إن قولك «صم» فيه هيئة، و مادة الهيئة تدل على طلب الصوم، و المادة تدل على نفس حدث الصوم، لا أنّها تدل على حدث الصوم مقيدا بقيود زائدة كقيد التراخي أو الفورية، و عليه: فإطلاق الصيغة لا يقتضي أحدهما. و بعبارة أخرى: أن صيغة الأمر مركبة من هيئة و مادة، و الهيئة تدل على النسبة الطلبية و المادة تدل على طبيعي الحدث لا بشرط.
فأين الدال على الفور أو التراخي؟
(٣) يذكر صاحب الكفاية دليلا على عدم دلالة الصيغة على شي‏ء منها: تبادر طلب إيجاد الطبيعة من الصيغة بمعنى: أن تبادر مطلوبية نفس الطبيعة من الصيغة من دون تقيدها بالفور أو التراخي يدل على عدم دخل شي‏ء منهما في معنى الصيغة، و إلا لكان متبادرا أيضا، فالتقييد بأحدهما منوط بدليل خارجي.
١٨٨
و (الجواب): عن الاستدلال بكلتا الآيتين: أن الخيرات و سبب المغفرة كما تصدق على الواجبات تصدق على المستحبات أيضا، فتكون المسارعة و المسابقة شاملتين لما هما في المستحبات أيضا. و من البديهي: عدم وجوب المسارعة فيها، كيف و هي يجوز تركها رأسا. و إذا كانتا شاملتين للمستحبات بعمومهما كان ذلك قرينة على أن طلب المسارعة ليس على نحو الإلزام. فلا تبقى لهما دلالة على الفورية في عموم الواجبات.
بل لو سلمنا باختصاصهما في الواجبات لوجب صرف ظهور صيغة افعل فيهما في الوجوب و حملها على الاستحباب، نظرا إلى أنا نعلم عدم وجوب الفورية في أكثر الواجبات، فيلزم تخصيص الأكثر بإخراج أكثر الواجبات عن عمومها. و لا شك: أن الإتيان بالكلام عاما مع تخصيص الأكثر و إخراجه من العموم بعد ذلك قبيح في المحاورات العرفية، و يعد الكلام عند العرف مستهجنا. فهل ترى يصح لعارف بأساليب الكلام أن يقول مثلا: «بعت أموالي»، ثم يستثني واحدا فواحدا حتى لا يبقى تحت العام إلّا القليل؟ لا شك: في أن هذا الكلام يعدّ مستهجنا لا يصدر عن حكيم عارف.
إذا، لا يبقى مناص من حمل الآيتين على الاستحباب.

٨- المرة و التكرار (١)

و اختلفوا أيضا: في دلالة صيغة افعل على المرة و التكرار على أقوال، كاختلافهم‏
____________
المرة و التكرار: (١) البحث هنا على مستويين:
الأوّل: مستوى المدلول الوضعي، أو قل: إن صيغة الأمر بمادتها أو هيئتها هل وضعت للطبيعة بقيد المرة أو التكرار أم لا؟
لا إشكال في عدم دلالة صيغة الأمر بمادتها أو هيئتها على المرة أو التكرار، بل لا دلالة لها إلا على ذات الطبيعة، و قل: إنها بمادتها تدل على ذات الطبيعة، و بهيئتها تدل على النسبة الطلبية.
الثّاني: مستوى الإطلاق: و لا ينبغي الإشكال في مقتضى إطلاق الطبيعة الاكتفاء بالمرة.
و لأجل توضيح ذلك نقول: إن مطلوب المولى لا يخلو إما أن يكون هو الماهية لا بشرط، و هذا يكفي في امتثاله تحقق الماهية مرة واحدة، فإما أن يكون هو الماهية مرة واحدة، و إما أن يكون هو الماهية بشرط لا، و هذا لا يكفي في امتثاله إلا مرة واحدة، و إما أن يكون هو الماهية بشرط شي‏ء، و هذا لا يكفي في امتثاله إلا التكرار، إما على نحو التكرار المجموعي، و إما على نحو التكرار الاستغراقي، و لا يخفى أن‏
١٨٩
في الفور و التراخي. و المختار هنا كالمختار هناك، و الدليل نفس الدليل من عدم دلالة الصيغة لا بهيئتها و لا بمادتها على المرة و لا التكرار، لما عرفت من إنها لا تدل على أكثر من طلب نفس الطبيعة من حيث هي (١)، فلا بد من دال آخر على كل منهما.
أما الإطلاق: فإنه يقتضي الاكتفاء بالمرة. و تفصيل ذلك:
إن مطلوب المولى لا يخلو من أحد وجوه ثلاثة، (و يختلف الحكم فيها من ناحية جواز الاكتفاء و جواز التكرار):
١- أن يكون المطلوب صرف وجود الشي‏ء بلا قيد و لا شرط، بمعنى: أنه يريد ألا يبقى مطلوبه معدوما، بل يخرج من ظلمة العدم إلى نور الوجود لا أكثر، و لو
____________
النحوين الآخرين يحتاجان في مقام إثباتهما إلى مئونة بيان زائدة، فإن دل الدليل عليهما فبها، و إلا كان مقتضى إطلاق الصيغة هو النحو الأوّل، أي: كون المطلوب هو الماهية لا بشرط، و هذا معناه كفاية المرة الواحدة في مقام الامتثال.
(المرة و التكرار لهما معنيان: (الأوّل): الدفعة و الدفعات، (الثّاني): الفرد و الأفراد، و الظّاهر أن المراد منهما في محل النزاع: هو المعنى الأوّل. و الفرق بينهما: أن الدفعة قد تتحقق بفرد واحد من الطبيعة المطلوبة، و قد تتحقق بأفراد متعددة إذا جي‏ء بها في زمان واحد. فلذلك تكون الدفعة أعم من الفرد مطلقا، كما أن الأفراد أعم مطلقا من الدفعات، لأن الأفراد- كما قلنا- قد تحصل دفعة واحدة و قد تحصل بدفعات). (المصنّف).
(١) و الدليل على عدم دلالة الصيغة على المرة و التكرار: هو التبادر، فإن المتبادر، و المنصرف من صيغة الأمر ليس إلا طلب إيجاد الطبيعة المأمور بها، فلا دلالة لصيغة على المرة و التكرار لا بهيئتها و لا بمادتها.
ثم ذكر صاحب الكفاية في مقام رده على توهم قد توهمه بعض قائلا: قد يتوهم متوهم: أن الاكتفاء بالمرة في مقام الإطاعة كاشف عن دلالة الصيغة على المرة.
يرد صاحب الكفاية في كفايته على هذا الوهم قائلا: إن الاكتفاء بالمرة إنما هو لحصول الامتثال بها في الأمر بالطبيعة كما لا يخفى.
- و بعبارة أخرى: «إن الاكتفاء بالمرة في تحقق الامتثال ليس لأجل دلالة الصيغة عليها، بل لحكم العقل، حيث أنّ انطباق الطبيعي على فرده قهري، فيوجد الطبيعي المأمور به بفرده جزما، فيحكم العقل بالإجزاء لأن المطلوب إيجاد الطبيعة الواقعة في حيز الطلب، و قد حصل ذلك بأول وجودها، لانطباق المأمور به عليه قهرا، فلا بدّ حينئذ من الالتزام بالإجزاء، و إلا فلا يحصل الإجزاء بسائر الأفراد أيضا، لاتحاد حكم الامتثال فيما يجوز و ما لا يجوز» (١).
____________
(١) منتهى الدراية في شرح الكفاية، ج ١، ص ٥٠٠.
١٩٠
بفرد واحد. و لا محالة- حينئذ- ينطبق المطلوب قهرا على أول وجوداته، فلو أتى المكلف بما أمر به أكثر من مرة فالامتثال يكون بالوجود الأوّل، و يكون الثاني لغوا محضا، كالصلاة اليومية.
٢- أن يكون المطلوب الوجود الواحد بقيد الوحدة، أي: بشرط ألا يزيد على أول وجوداته، فلو أتى المكلف حينئذ بالمأمور به مرتين لا يحصل الامتثال أصلا، كتكبيرة الإحرام للصلاة فإن الإتيان بالثانية عقيب الأولى مبطل للأولى و هي تقع باطلة.
٣- أن يكون المطلوب الوجود المتكرر، إما بشرط تكرره فيكون المطلوب هو المجموع بما هو مجموع، فلا يحصل الامتثال بالمرة أصلا كركعات الصلاة الواحدة، و إما لا بشرط تكرره بمعنى: أنه يكون المطلوب كل واحد من الوجودات كصوم أيام شهر رمضان، فلكل مرة امتثالها الخاص.
و لا شك: أن الوجهين الأخيرين يحتاجان إلى بيان زائد على مفاد الصيغة. فلو أطلق المولى و لم يقيد بأحد الوجهين- و هو في مقام البيان- كان إطلاقه دليلا على إرادة الوجه الأوّل. و عليه: يحصل الامتثال- كما قلنا- بالوجود الأوّل و لكن لا يضر الوجود الثّاني، كما إنه لا أثر له في الامتثال و غرض المولى.
و مما ذكرنا يتضح: أن مقتضى الإطلاق جواز الإتيان بأفراد كثيرة معا دفعة واحدة و يحصل الامتثال بالجميع. فلو قال المولى: تصدق على مسكين، فمقتضى الإطلاق:
جواز الاكتفاء بالتصدق مرة واحدة على مسكين واحد، و حصول الامتثال بالتصدق على عدة مساكين دفعة واحدة، و يكون امتثالا واحدا بالجميع لصدق صرف الوجود على الجميع، إذ الامتثال كما يحصل بالفرد الواحد يحصل بالأفراد المجتمعة بالوجود (١).
____________
(١) ما المراد بالمرة و التكرار هل هو الدفعة و الدفعات أو الفرد و الأفراد؟
الجواب: المراد بالدفعة هو وحدة الإيجاد، كعتق عبيد، أو تمليكهم بإنشاء واحد، فإنّه لا يصدق عليها المرة بمعنى الفرد، و يصدق عليها المرّة بمعنى الدفعة. و بين الدفعة و الفرد عموم من وجه، لتصادقهما على إنشاء عتق عبد واحد، فإنّ كلّا من الدفعة و الفرد صادق عليه، و تفارقهما في عتق عبيد بإنشاء واحد، فإنّه يصدق عليها الدفعة، و لا يصدق عليها الفرد، لكونها أفرادا عديدة، و في الكلام الممتد المتصل و غيره من التدريجيات، فإن المرة بمعنى الفرد الواحد تصدق عليه، بخلاف الدفعة، فإنّها لا تصدق‏
١٩١

٩- هل يدل نسخ الوجوب على الجواز؟

إذا وجب شي‏ء في زمان بدلالة الأمر، ثم نسخ ذلك الوجوب قطعا. فقد اختلفوا في بقاء الجواز الذي كان مدلولا للأمر، لأن الأمر كان يدل على جواز الفعل مع المنع من تركه، فمنهم من قال ببقاء الجواز و منهم من قال بعدمه.
و يرجع النزاع- في الحقيقة- إلى النزاع في مقدار دلالة نسخ الوجوب، فإن فيه احتمالين:
١- إنه (١) يدل على رفع خصوص المنع من الترك فقط، و حينئذ: تبقى دلالة الأمر على الجواز على حالها لا يمسها النسخ و هو القول الأول. و منشأ هذا أن الوجوب ينحل إلى الجواز و المنع من الترك، و لا شأن في النسخ إلّا رفع المنع من الترك فقط و لا تعرض له لجنسه و هو الجواز أي: الإذن في الفعل (٢).
٢- إنه (٣) يدل على رفع الوجوب من أصله، فلا يبقى لدليل الوجوب شي‏ء يدل عليه. و منشأ هذا هو: أن الوجوب معنى بسيط لا ينحل إلى جزءين فلا يتصور في النسخ أنه رفع للمنع من الترك فقط.
و المختار هو القول الثّاني، لأن الحق أن الوجوب أمر بسيط، و هو الإلزام بالفعل و لازمه المنع من الترك، كما أن الحرمة هي المنع من الفعل و لازمها الإلزام بالترك، و ليس الإلزام بالترك الذي هو معناه وجوب الترك جزء من معنى حرمة الفعل،
____________
عليه، لكونه من التدريجيات.
- ذهب صاحب القوانين إلى: أن المراد من المرة هو الفرد.
- و ذهب صاحب الفصول إلى: أن المراد من المرة هو الدفعة.
و دليله على ذلك هو: أن لفظ المرة و التكرار ظاهر في الدفعة و الدفعات، و لذا استظهره في الفصول بقوله: «لمساعدة ظاهر اللفظين و مرجعه إلى دعوى التبادر».
(١) الضمير راجع إلى النسخ.
(٢) بمعنى: أن للوجوب جزءين، يدل على كل واحد منهما بالتضمن، هما الجواز و المنع من الترك، فالمنع من الترك يشكل جزء من مفهوم الوجوب، فإذا ارتفع يبقى الجزء الآخر و هو الجواز: هذا كله بناء على القول بأن الوجوب مركب. بخلاف رأي المصنّف حيث يرى أن الوجوب أمر بسيط و هو عبارة عن الإلزام بالفعل و لازمه المنع من الترك، فإذا ارتفع الإلزام- الذي هو المدلول المطابقي للوجوب- ارتفع المدلول الالتزامي و هو المنع من الترك‏
(٣) الضمير راجع إلى النسخ.
١٩٢
و كذلك المنع من الترك الذي معناه حرمة الترك ليس جزء من معنى وجوب الفعل، بل أحدهما لازم للآخر ينشأ منه تبعا له.
فثبوت الجواز بعد النسخ للوجوب يحتاج إلى دليل خاص يدل عليه و لا يكفي دليل الوجوب، فلا دلالة لدليل الناسخ (١) و لا لدليل المنسوخ (٢) على الجواز، و يمكن أن يكون الفعل بعد نسخ وجوبه محكوما بكل واحد من الأحكام الأربعة الباقية (٣).
و هذا البحث لا يستحق أكثر من هذا الكلام؛ لقلة البلوى به. و ما ذكرناه فيه الكفاية.

١٠- الأمر بشي‏ء مرتين (٤)

إذا تعلق الأمر بفعل مرتين فهو يمكن أن يقع على صورتين:
١- أن يكون الأمر الثّاني بعد امتثال الأمر الأوّل. و حينئذ: لا شبهة في لزوم امتثاله ثانيا (٥).
٢- أن يكون الأمر الثّاني قبل امتثال الأمر الأوّل. و حينئذ: يقع الشك في وجوب امتثاله مرتين أو كفاية المرة الواحدة في الامتثال. فإن كان الأمر الثّاني تأسيسا لوجوب آخر تعين الامتثال مرة أخرى، و إن كان تأكيدا للأمر الأوّل فليس لهما إلا امتثال واحد.
و لتوضيح الحال و بيان الحق في المسألة نقول: إن هذا الفرض له أربع حالات:
(الأولى): أن يكون الأمران معا غير معلقين على شرط- كأن يقول مثلا: (صلّ) ثم يقول ثانيا: (صلّ)- فإن الظاهر حينئذ: أن يحمل الأمر الثّاني على التأكيد، لأن‏
____________
(١) لأنه لا يدل على رفع الوجوب، و أما إثبات الجواز يحتاج إلى دليل خاص لإثباته، فإن قام فبها و نعمت، و إلا رجعنا إلى الأصول العملية.
(٢) لأنّه يدل على الإلزام و حينما يرتفع لا يبقى الجواز إلا بدليل خاص، و إن لم يحصل فأصل عملي.
(٣) الأحكام الأربعة الباقية هي: الحرمة و الكراهة و الإباحة و الاستحباب.
الأمر بشي‏ء مرتين: (٤) أي: إذا أمر المولى بشي‏ء مرتين فهل يستلزم تعدد الامتثال أم يكفي امتثال واحد؟
(٥) و ذلك لأن الأمر الثّاني أمر تأسيسي و هذا خارج عن محل الكلام.
و بعبارة أخرى: إذا ورد بعد امتثال الأوّل كما هو الفرض، فيكون الأمر الثاني تأسيسا، إذ لا معنى للتأكيد بعد سقوط الأمر الأول بالامتثال، فيتعيّن كونه تأسيسا و إلا يلزم اللغوية.
١٩٣
الطبيعة الواحدة يستحيل تعلق الأمرين بها من دون امتياز في البين، فلو كان الثّاني تأسيسا غير مؤكد للأوّل لكان على الآمر تقييد متعلقه و لو بنحو (مرة أخرى). فمن عدم التقييد و ظهور وحدة المتعلق فيهما يكون اللفظ في الثّاني ظاهرا في التأكيد، و إن كان التأكيد في نفسه خلاف الأصل و خلاف ظاهر الكلام لو خلي و نفسه (١).
(الثّانية): أن يكون الأمران معا معلقين على شرط واحد، كأن يقول المولى مثلا:
«إن كنت محدثا فتوضأ»، ثم يكرر نفس القول ثانيا. ففي هذه الحالة أيضا يحمل على التأكيد لعين ما قلناه في الحالة الأولى بلا تفاوت.
(الثّالثة): أن يكون أحد الأمرين معلقا و الآخر غير معلق كأن يقول مثلا:
(اغتسل) ثم يقول: (إن كنت جنبا فاغتسل). ففي هذه الحالة أيضا يكون المطلوب واحدا و يحمل على التأكيد، لوحدة المأمور به ظاهرا المانعة من تعلق الأمرين به، غير أن الأمر المطلق- أعني: غير المعلق- يحمل إطلاقه على المقيد- أعني: المعلق- فيكون الثّاني مقيدا لإطلاق الأوّل و كاشفا عن المراد منه.
(الرّابعة): أن يكون أحد الأمرين معلقا على شي‏ء و الآخر معلقا على شي‏ء آخر، كأن يقول مثلا: (إن كنت جنبا فاغتسل) و يقول: (إن مسست ميتا فاغتسل)، ففي هذه الحالة يحمل- ظاهرا- على التأسيس، لأن الظاهر أن المطلوب في كل منهما غير المطلوب في الآخر، و يبعد جدا حمله على أن المطلوب واحد، أما التأكيد فلا معنى له هنا (٢)، و أما القول بالتداخل (٣) بمعنى: الاكتفاء بامتثال واحد عن المطلوبين فهو ممكن، و لكنه ليس من باب التأكيد، بل لا يفرض إلّا بعد فرض التأسيس و أن هناك أمرين يمتثلان معا بفعل واحد (٤).
____________
(١) محصل الصورة الأولى بعبارة أخرى: أن يكون الأمران مطلقين كأن يقول المولى: «صلّ» ثم يقول: «صلّ»، فهنا مقتضى إطلاق المادة هو كون متعلق الأمرين طبيعة واحدة، و حينئذ: لا بدّ من حمل الأمر الثّاني على التأكيد لئلا يلزم اجتماع وجوبين على طبيعة واحدة، و هو محال لأنّه اجتماع مثلين على شي‏ء واحد، و هو مستحيل كاستحالة طلب الضدين. فإن قلت: حمل الأمر الثّاني على التأكيد خلاف الأصل في كلام المتكلم، و أنه يوجد ظهور للكلام عموما في التأسيس. قلت: هذا صحيح، لأجل الفرار من محذور اجتماع المثلين فلا بدّ من الالتزام بمخالفة الأصل.
(٢) لأجل التغاير في الشرط.
(٣) أي: تداخل المسببات.
(٤) لأن التداخل يفترض وجود سببين أو أكثر يجزي امتثالهما بالإتيان بمسبّب واحد، نحو: الغسل‏
١٩٤
و لكن التداخل- على كل حال- خلاف الأصل (١)، و لا يصار إليه إلّا بدليل خاص، كما ثبت في غسل الجنابة أنه يجزي عن كل غسل آخر، و سيأتي البحث عن التداخل مفصلا في مفهوم الشرط (٢).

١١- دلالة الأمر بالأمر على الوجوب‏

إذا أمر المولى أحد عبيده أن يأمر عبده الآخر بفعل- فهل هو أمر بذلك الفعل حتى يجب على الثّاني فعله؟ على قولين: و هكذا يمكن فرضه على نحوين:
١- أن يكون المأمور الأوّل على نحو المبلّغ لأمر المولى إلى المأمور الثّاني، مثل: أن يأمر رئيس الدولة وزيره أن يأمر الرعية عنه بفعل. و هذا النحو- لا شك- خارج عن محل الخلاف، لأنه لا يشك أحد في ظهوره في وجوب الفعل على المأمور الثّاني.
____________
فإنه يجزي عن أكثر من سبب كالجنابة و مس الميت، و الحاصل: أن التداخل إنّما يصدق في فرض وجود مسببين، و هو خلاف التأكيد.
(١) فإن الأصل هو أن كل سبب يحتاج إلى مسبب خاص به.
(٢) «و لا يخفى: أنّ عنوان المتن في هذا الفصل هو المستفاد من الكتب الأصولية، لكن بزيادة قيدين آخرين:
الأوّل: أن لا يكون الثّاني معطوفا على الأول.
الثّاني: أن يكونا منكّرين كقوله: «صلّ ركعتين»، «صلّ ركعتين»، أو: «صم، صم» فإن كانا كذلك فقد ذهب فيه جماعة منهم الصيرفي إلى الاتحاد، و عدم وجوب التكرار. و عن الشّيخ، و ابن زهرة، و الفاضلين، و غيرهم: البناء على تغاير الحكمين، و وجوب التكرار، و نسب إلى جماعة منهم العلامة في النهاية، و العضدي، و الأزدي، و أبو الحسين التوقف.
و إن كان الأمر الثّاني معطوفا على الأوّل، و كانا منكرين، نحو: «صلّ ركعتين» و «صلّ ركعتين» فالحكم فيه التأسيس، و وجوب التكرار، من غير ظهور خلاف فيه، لرجحان التأسيس على التأكيد، و لظهور العطف في المغايرة بين المعطوف و المعطوف عليه. و كذا الحكم لو كانا معرّفين، أو كان الأوّل معرّفا، و الثّاني منكرا.
و أما إذا كان الأوّل منكّرا، و الثّاني معرّفا، ففيه أقوال:
- الأوّل: التأسيس، و هو المحكيّ عن جماعة، منهم: ابن زهرة، و العلامة و الآمدي، و الرازي.
- الثّاني: التأكيد، و هو المحكي عن بعض المتأخرين.
- الثّالث: التوقّف، و هو المنسوب إلى المحقّق، و أبي الحسين البصري، و العضدي، و إن شئت الوقوف التام على خصوصيّات هذا البحث، فراجع الكتب المبسوطة الأصولية» (١).
____________
(١) منتهى الدراية في شرح الكفاية، ج ٢، ص ٥٨٢.
١٩٥
و كل أوامر الأنبياء بالنسبة إلى المكلفين من هذا القبيل (١).
____________
(١) دلالة الأمر بالأمر على الوجوب:
قال صاحب الكفاية في كفايته (بتصرف): الأمر بالأمر بشي‏ء أمر لو كان غرض المولى حصول الشي‏ء، و لم يكن للمولى غرض في توسيط أمر الغير به إلا تبليغ أمر الأمر الأوّل (المولى) بذلك الشي‏ء. و بعبارة أخرى: هل يكون الثّالث مأمورا من الأوّل (المولى)، أم مأمورا من الثّاني (الرسول)؟
فيه قولان:
- القول الأوّل: يكون الثّالث مأمورا من الأوّل (المولى) و ذهب إلى هذا القول بعض المتأخرين.
- القول الثّاني: يكون الثّالث مأمورا من الثّاني (الرسول)، و هذا يعود إلى ملاحظة غرض المولى، فإن تعلق غرض المولى بحصول ذلك الشي‏ء كان الواسطة «الرسول» مبلغا، لا آمرا، و إن تعلق غرض المولى بصرف أمر الواسطة من دون تعلّق غرضه بذلك الشي‏ء، أو تعلق غرضه بحصول ذلك الشي‏ء، لكن بعد تعلّق أمر الواسطة به، بحيث يكون أمر الواسطة من قبيل شرط الوجوب، فلا يكون الثّالث مأمورا من الأوّل (المولى).
- «لا يخفى: أن الثمرة المترتبة على هذا البحث- على ما قيل- هي: شرعية عبادات الصبي، بمثل قول أبي عبد الله (عليه السلام) في حسنة الحلبي أو صحيحته في (الوسائل، الباب ٣ من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها الحديث ٥): «فمروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين» و نحوه (نفس المصدر) ممّا ورد في أمر الولي للصبي.
لكنك خبير: بأنّه إذا لم يدل دليل على تعيّن كون أمر الشارع للأولياء بأمرهم للصبيان أمرا بنفس ذلك الشي‏ء لم يترتب عليه هذه الثمرة، لأنّ ترتّبها عليه منوط بدلالة الأمر بالأمر في مقام الإثبات على كون الواسطة مبلّغا، لا آمرا، إذ مع الإجمال و عدم الدلالة لا تترتب الثمرة المزبورة على هذا البحث، فتكون عبادات الصبي حينئذ تمرينيّة.
- فالأولى: إثبات مشروعيّة عبادات الصبي بعموم أدلة التشريع، كقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ‏ و أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ و نحوها ممّا يعم البالغ و غيره. و حديث: «رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم» في هذا مخصصة بالبالغ، لأنه بقرينة وروده مورد الامتنان يرفع الإلزام الموجب للثقل مع بقاء المصلحة على حالها.
- و على هذا: فلو أتى بالصلاة في الوقت، ثم بلغ أجزأت، و لا تجب الإعادة» (١).
قال صاحب الكفاية: ... و قد انقدح بتطرق الاحتمالين في أمر الواسطة بشي‏ء في مقام الإثبات (أي:
الواقع): إنّه لا دلالة بمجرد الأمر بالأمر على أحد الاحتمالين، بل لا بدّ في الدلالة عليه من قرينة عليه، أي: لا نستطيع أن نقول: الأمر بالأمر أمر بذلك الشي‏ء لأنه واقعا كلا الاحتمالين واردان و تعيين أحدهما تحتاج إلى مئونة زائدة في بيانه.
إلّا أن السيّد محمد جعفر الجزائري المروج- الشارح للكفاية- يعلق على هذا قائلا: ... لا يبعد أن‏
____________
(١) منتهى الدراية في شرح الكفاية، ج ٢، ص ٥٧٨- ٥٧٩.
١٩٦
٢- ألا يكون المأمور الأوّل على المبلّغ، بل هو مأمور أن يستقل في توجيه الأمر إلى الثّاني من قبل نفسه، و على نحو قول الإمام (عليه السلام) «مرهم بالصلاة و هم أبناء سبع» يعني: الأطفال.
و هذا النحو هو محل الخلاف و البحث. و يلحق به ما لم يعلم الحال فيه أنه على أي نحو من النحوين المذكورين.
و المختار: أن مجرد الأمر بالأمر ظاهر عرفا في وجوبه على الثّاني.
و توضيح ذلك: أن الأمر بالأمر لا على نحو التبليغ يقع على صورتين:
(الأولى): أن يكون غرض المولى يتعلق في فعل المأمور الثّاني، و يكون أمره بالأمر طريقا للتوصل إلى حصول غرضه. و إذا عرف غرضه أنه على هذه الصورة يكون أمره بالأمر- لا شك- أمرا بالفعل نفسه.
(الثانية): أن يكون عرضه في مجرد أمر المأمور الأوّل، من دون أن يتعلق له غرض بفعل المأمور الثّاني، كما لو أمر المولى ابنه- مثلا- أن يأمر العبد بشي‏ء، و لا يكون غرضه إلّا أن يعوّد ابنه على إصدار الأوامر أو نحو ذلك، فيكون غرضه- فقط- في إصدار الأوّل أمره، فلا يكون الفعل مطلوبا له أصلا في الواقع.
و واضح لو علم الثّاني المأمور بهذا الغرض لا يكون أمر المولى بالأمر أمرا له، و لا يعد عاصيا لمولاه لو تركه، لأن الأمر المتعلق لأمر المولى يكون مأخوذا على نحو الموضوعية و هو متعلق الغرض، لا على نحو الطريقية لتحصيل الفعل من العبد المأمور الثّاني.
فإن قامت قرينة على أحد الصورتين المذكورتين فذاك، و إن لم تقم قرينة فإن ظاهر الأوامر- عرفا- مع التجرد عن القرائن هو أنه على نحو الطريقية.
فإذا، الأمر بالأمر مطلقا يدل على الوجوب إلا إذا ثبت أنه على نحو الموضوعية.
و ليس مثله يقع في الأوامر الشرعية.
____________
يقال: أنّ غلبة ورود الأمر بالأمر في التبليغ، و كون الغرض متعلقا بنفس الفعل توجب ظهوره فيه، فتكون الغلبة المزبورة قرينة نوعيّة على المبلّغية، و الطريقية، و كون الثّالث مأمورا من الآمر الأوّل، لا الثّاني. و هذه القرينة متبعة ما لم يقم صارف عنها. و عليه: فلا بأس بترتيب الثمرة المزبورة- و هي:
شرعية عبادات الصبي- على هذا البحث، لعدم قرينة فيها على خلاف الغلبة المزبورة.
١٩٧

الخاتمة في تقسيمات الواجب (١)

للواجب عدة تقسيمات لا بأس بالتعرض لها، إلحاقا بمباحث الأوامر و إتماما للفائدة.

١- المطلق و المشروط:

إن الواجب إذا قيس وجوبه إلى شي‏ء آخر خارج عن الواجب، فهو لا يخرج عن أحد نحوين:
١- أن يكون متوقفا وجوبه على ذلك الشي‏ء، و هو- أي: الشي‏ء- مأخوذا في وجوب الواجب على نحو الشرطية، كوجوب الحج بالقياس إلى الاستطاعة. و هذا هو المسمى (بالواجب المشروط)، لاشتراط وجوبه بحصول ذلك الشي‏ء الخارج، و لذا لا يجب الحج إلا عند حصول الاستطاعة.
٢- أن يكون وجوب الواجب غير متوقف على حصول ذلك الشي‏ء الآخر،
____________
(١) في تقسيمات الواجب:
١- المطلق و المشروط:
و محصل هذا المطلب هو: أن كل واجب بالقياس إلى مقدماته الوجوبية هو واجب مشروط كالحج بالنسبة للاستطاعة، و بالقياس إلى مقدماته الوجودية هو واجب مطلق كالحج بالنسبة لقطع المسافة، فإن قطع المسافة مقدمة لوجود الحج لا لوجوبه، و من هنا يظهر التسامح في التعبير بالواجب، و الأولى أن يقال: الوجوب إما مطلق أو مشروط.
تنبيه: س: ما هو الفرق بين الوجوب و بين الواجب؟
و في الجواب نقول: إن الواجب هو مفاد المادة، و بعبارة أخرى نقول: إن الواجب هو عبارة عن متعلق الحكم، فحينما يقول لك المولى: «صلّ»، فالواجب هو نفس الصلاة الذي هو نفس متعلق الحكم، فإن متعلق وجوب الصلاة هو نفس الصلاة.
و أما الوجوب هو عبارة عن نفس الحكم أي: نفس وجوب الصلاة. و بعبارة أخرى: الوجوب مفاد الصيغة، و التقسيم يقع في الوجوب، لأن كلامنا فيه فنقول: وجوب مشروط، و وجوب مطلق. انتهى.
١٩٨
كالحج بالقياس إلى قطع المسافة، و إن توقف وجوده عليه. و هذا هو المسمى (بالواجب المطلق)، لأن وجوبه مطلق غير مشروط بحصول ذلك الشي‏ء الخارج.
و منه الصلاة بالقياس إلى الوضوء و الغسل و الساتر و نحوها.
و من مثال الحج يظهر أنه- و هو واجب واحد- يكون واجبا مشروطا بالقياس إلى شي‏ء و واجبا مطلقا بالقياس إلى شي‏ء آخر. فالمشروط و المطلق أمران إضافيان (١).
ثم أعلم أن كل واجب هو واجب مشروط بالقياس إلى الشرائط العامة، و هي البلوغ و القدرة و العقل، فالصبي و العاجز و المجنون لا يكلفون بشي‏ء في الواقع.
و أما (العلم) فقد قيل إنه من الشروط العامة، و الحق: أنه ليس شرطا في الوجوب و لا في غيره من الأحكام، بل التكاليف الواقعية مشتركة بين العالم و الجاهل على حد سواء. نعم العلم شرط في استحقاق العقاب على مخالفة التكليف على تفصيل يأتي في مباحث الحجة و غيرها إن شاء الله تعالى. و ليس هذا موضعه.

٢- المعلق و المنجز

لا شك: أن الواجب المشروط بعد حصول شرطه يكون وجوبه فعليا شأن الواجب المطلق، فيتوجه التكليف فعلا إلى المكلف. و لكن فعلية التكليف تتصور على وجهين:
١- أن تكون فعلية الوجوب مقارنة زمانا لفعلية الواجب، بمعنى: أن يكون زمان الواجب نفس زمان الوجوب. و يسمى هذا القسم (الواجب المنجز)، كالصلاة بعد دخول وقتها، فإن وجوبها فعلي، و الواجب و هو الصلاة فعلي أيضا.
٢- أن تكون فعلية الوجوب سابقة زمانا على فعلية الواجب فيتأخر زمان الواجب عن زمان الوجوب. و يسمى هذا القسم (الواجب المعلق) لتعليق الفعل- لا وجوبه- على زمان غير حاصل بعد، كالحج- مثلا- فإنه عند حصول الاستطاعة يكون‏
____________
(١) كالصلاة، فإنّها بالنسبة إلى الوقت مشروطة، و بالإضافة إلى الطهارة مطلقة.
ملاحظة: لو كان الإطلاق و الاشتراط حقيقيان لم يكد يوجد واجب مطلق، لما عرفت من عدم خلوّ واجب عن شرط فلا يوجد في الواجبات واجب مطلق من جميع الجهات، ضرورة اشتراط وجوب كل واجب ببعض الأمور لا أقل من الشرائط العامة كالبلوغ، و العقل، و كذلك لا يوجد في الواجبات واجب مشروط من جميع الجهات.
١٩٩
وجوبه فعليا- كما قيل (١)- و لكن الواجب معلق على حصول الموسم، فإنه عند حصول الاستطاعة وجب الحج، و لذا يجب عليه أن يهيئ المقدمات و الزاد و الراحلة حتى يحصل وقته و موسمه ليفعله في وقته المحدد له.
و قد وقع البحث و الكلام هنا في مقامين:
(الأوّل): في إمكان الواجب المعلق، و المعروف عن صاحب الفصول القول بإمكانه و وقوعه، و الأكثر على استحالته، و هو المختار، و سنتعرض له إن شاء الله تعالى في مقدمة الواجب مع بيان السر في الذهاب إلى إمكانه و وقوعه، و سنبين أن الواجب فعلا في مثال الحج هو السير و التهيئة للمقدمات. و أما نفس أعمال الحج:
فوجوبها مشروط بحضور الموسم و القدرة عليها في زمانه (٢).
و (الثّاني): في إن ظاهر الجملة الشرطية في مثل قولهم: «إذا دخل الوقت فصلّ» هل أن الشرط شرط للوجوب فلا تجب الصلاة في المثال إلا بعد دخول الوقت، أو أنه شرط للواجب فيكون الواجب نفسه معلقا على دخول الوقت في المثال، و أما الوجوب فهو فعلي مطلق؟
و بعبارة أخرى: هل أن القيد شرط لمدلول هيئة الأمر في الجزاء، أو أنه شرط لمدلول مادة الأمر في الجزاء؟
و هذا البحث يجري حتى لو كان الشرط غير الزمان، كما إذا قال المولى: «إذا تطهرت فصلّ».
فعلى القول بظهور الجملة في رجوع القيد إلى الهيئة، أي: أنه شرط للوجوب:
يكون الواجب واجبا مشروطا، فلا يجب تحصيل شي‏ء من المقدمات قبل حصول الشرط. و على القول بظهورها في رجوع القيد إلى المادة، أي: أنه شرط للواجب:
____________
(١) إشارة إلى القول الآخر، و هو إن وجوب الحج لا يكون فعليا إلا بعد حضور الموسم.
(٢) هنا إشارة إلى أن الواجب المعلق يمكن أن يحل إشكال المقدمات المفوتة، و لأجل توضيح ذلك نقول: إنه يوجد إشكال و محصله: إذا كان وجوب المقدمة معلولا لوجوب ذيها فكيف تجب قبل وجوب ذيها؟ من قبيل وجوب الغسل للصوم قبل طلوع الفجر، فإن الغسل الذي هو مقدمة للصوم قد وجب قبل وجوب الصوم.
و في الجواب نقول: إنه يوجد أربعة مسالك لحل هذا الإشكال، و من هذه المسالك فكرة الواجب المعلق الذي اخترعه صاحب الفصول و سوف نتعرض له إن شاء الله في مقدمة الواجب.
٢٠٠
يكون الواجب واجبا مطلقا، فيكون الواجب فعليا قبل حصول الشرط، فيجب عليه تحصيل مقدمات المأمور به إذا علم بحصول الشرط فيما بعد.
و هذا النزاع هو النزاع المعروف بين المتأخرين في رجوع القيد في الجملة الشرطية إلى الهيئة أو المادة. و سيجي‏ء تحقيق الحال في موضعه إن شاء الله تعالى (١).

٣- الأصلي و التبعي‏

(الواجب الأصلي): ما قصدت إفادة وجوبه مستقلا بالكلام، كوجوبي الصلاة و الوضوء المستفادين من قوله تعالى:
وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ
و قوله تعالى:
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ.
و (الواجب التبعي): ما لم تقصد إفادة وجوبه، بل كان من توابع ما قصدت‏
____________
(١) يشكل صاحب الكفاية على صاحب الفصول على تقسيمه الواجب إلى المنجز و المعلّق.
و حاصله: هو أن المعلّق و المنجز كلاهما من الواجب المطلق المقابل للمشروط، و مقتضى إطلاق الوجوب و فعليّته: إطلاق وجوب المقدمة و فعليّته، فهذا التقسيم لغو بالنسبة إلى وجوب المقدمة، لوجوبها فعلا على التقديرين، حيث أنّ مناط وجوبها- و هو إطلاق وجوب ذي المقدمة- موجود في كل من المنجّز و المعلّق، فلا أثر لهذا التقسيم بالنسبة إلى وجوب المقدمة أصلا.
و قد يرد أيضا إشكال كما عن صاحب الكفاية في كفايته: من أنه ربما حكي عن بعض أهل النظر، و يقصد به المحقق النهاوندي على ما في حاشية المحقق المشكيني (قدس سرهما)؛ و وافقه جماعة من الأكابر، و حاصل هذا الإشكال الذي هو أحد إشكالات الواجب المعلق: أن الإرادة التشريعيّة كالإرادة التكوينية في كونهما مشتركتين فيما تتوقف عليه الإرادة من العلم، و التصديق بالغاية، و الميل، و فيما يترتب على الإرادة من تحريك العضلات، و حصول الفعل بعده. و من المعلوم: إن المراد التكويني لا ينفك عن زمان التحريك الذي لا ينفك عن زمان الإرادة، و لا بدّ أن يكون المراد التشريعي كذلك، فلا ينفك عن زمان الأمر الذي لا ينفك عن زمان الإرادة التشريعية، و الواجب المعلّق ليس كذلك، لكون المراد فيه متأخرا زمانا عن الإرادة، لأنّ المفروض: استقبالية الواجب، فيكون من قبيل تخلف المعلول عن العلة.
يدفع صاحب هذا الإشكال قائلا: أن الإرادة كما تتعلق بأمر حاليّ، كذلك تتعلق بأمر استقبالي إذا كان المراد بعيد المسافة، و ذا مقدمات كثيرة محتاجة إلى زمان مديد، فإنّ إتعاب النفس في تحصيلها ليس إلا لأجل تعلّق إرادته بما لا يحصل إلا بها، فإنّ السفر المحتاج إلى المقدمات إنّما هو للوصول إلى المراد- و هو تحصيل المال مثلا- مع انفكاكه عن الإرادة.
و بالجملة: فإرادتنا التكوينية تنفك عن مراداتنا المنوطة بتمهيد مقدمات و مضيّ زمان‏ (١).
____________
(١) راجع: منتهى الدراية في شرح الكفاية، ج ٢، ص ١٩٢.
٢٠١
إفادته. و هذا كوجوب المشي إلى السوق المفهوم من أمر المولى بوجوب شراء اللحم من السوق، فإن المشي إليها حينئذ يكون واجبا لكنه لم يكن مقصودا بالإفادة من الكلام. كما في كل دلالة التزامية فيما لم يكن اللزوم فيها من قبيل البين بالمعنى الأخص (١).

٤- التخييري و التعييني‏

(الواجب التعييني): ما تعلق به الطلب بخصوصه، و ليس له عدل في مقام الامتثال، كالصلاة و الصوم في شهر رمضان، فإن الصلاة واجبة لمصلحة في نفسها لا يقوم مقامها واجب آخر في عرضها. و قد عرفناه فيما سبق ص ١٨٥ بقولنا: «هو الواجب بلا واجب آخر يكون عدلا له و بديلا عنه في عرضه». و إنما قيدنا البديل في عرضه، لأن بعض الواجبات التعينية قد يكون لها بديل في طولها و لا يخرجها عن كونها واجبات تعيينية كالوضوء مثلا الذي له بديل في طوله و هو التيمم، لأنه إنما يجب إذا تعذر الوضوء، و كالغسل بالنسبة إلى التيمم أيضا كذلك. و كخصال الكفارة المرتبة نحو كفارة قتل الخطأ، و هي العتق أولا فإن تعذر فصيام شهرين فإن تعذر فإطعام ستين مسكينا.
(الواجب التخييري): ما كان له عدل و بديل في عرضه، و لم يتعلق به الطلب بخصوصه، بل كان المطلوب هو أو غيره يتخير بينهما المكلف. و هو كالصوم الواجب في كفارة إفطار شهر رمضان عمدا، فإنه واجب و لكن يجوز تركه و تبديله بعتق رقبة أو إطعام ستين مسكينا.
و الأصل في هذا التقسيم: أن غرض المولى ربما يتعلق بشي‏ء معين، فإنه لا مناص حينئذ من أن يكون هو المبعوث إليه وحده. فيكون (واجبا تعيينيا). و ربما يتعلق غرضه بأحد شيئين أو أشياء لا على التعيين، بمعنى: أن كلا منها محصل لغرضه،
____________
(١) المشي هنا في المثال لازم بين بالمعنى الأعم و ليس لازما و بينا بالمعنى الأخص، فإن الحكم بوجوب المشي لا يكفي فيه تصور وجوب شراء اللحم، بل لا بدّ من تصوره، و تصور اللازم و هو وجوب و تصور النسبة بينهما حتى نجزم بالملازمة، و واضح الفرق بين البين بالمعنى الأخص و البين بالمعنى الأعم و أثرهما، فإن البين بالمعنى الأخص يكون مقصودا بالكلام حاله حال المدلول المطابقي، فيكون كل منهما واجبا أصليا، بخلاف البين بالمعنى الأعم فإنه لما لم يكن مقصودا بالكلام بل تبعا فلا بدّ أن يكون واجبا تبعيا.
٢٠٢
فيكون البعث نحوها جميعا على نحو التخيير بينها.
و كلا القسمين واقعان في إراداتنا نحن أيضا، فلا وجه للإشكال في إمكان الواجب التخييري، و لا موجب لإطالة الكلام (١).
ثم أن أطراف الواجب التخييري إن كان بينهما جامع يمكن التعبير عنه بلفظ واحد، فإن يمكن أن يكون البعث في مقام الطلب نحو هذا الجامع. فإذا وقع الطلب كذلك فإن التخيير حينئذ بين الأطراف يسمى (عقليا)، و هو ليس من الواجب التخييري المبحوث عنه، فإن هذا يعد من الواجب التعييني، فإن كل واجب تعييني كلي- يكون المكلف مخيرا عقلا بين أفراده، و التخيير يسمى حينئذ عقليا. مثاله قول الأستاذ لتلميذه: «اشتر قلما» الجامع بين أنواع الأقلام من قلم الحبر و قلم الرصاص و غيرهما، فإن التخيير بين هذه الأنواع يكون عقليا، كما أن التخيير بين أفراد كل نوع يكون عقليا، أيضا. و إن لم يكن هناك جامع مثل ذلك- كما في مثال خصال الكفارة- فإن البعث إما أن يكون نحو عنوان انتزاعي كعنوان (أحد هذه الأمور) (٢)، أو نحو كل واحد منها مستقلا و لكن مع العطف ب (أو) و نحوها مما يدل على التخيير. فيقال في النحو الأوّل مثلا: أوجد أحد هذه الأمور. و يقال في النحو الثّاني مثلا: صم أو أطعم أو أعتق. و يسمى حينئذ التخيير بين الأطراف (شرعيا)، و هو المقصود من التخيير المقابل للتعيين هنا.
ثم هذا التخييري الشرعي (تارة): يكون بين المتباينين كالمثال المتقدم، و (أخرى):
بين الأقل و الأكثر كالتخيير بين تسبيحة واحدة و ثلاث تسبيحات في ثلاثية الصلاة اليومية و رباعيتها على قول. و كما لو أمر المولى برسم خط مستقيم- مثلا- مخيرا فيه بين القصير و الطويل.
و هذا الأخير- أعني التخيير بين الأقل و الأكثر- إنما يتصور فيما إذا كان الغرض مترتبا على الأقل بحده، و يترتب على الأكثر بحده (٣) أيضا، أما لو كان الغرض مترتبا على الأقل مطلقا و إن وقع في ضمن الأكبر: فالواجب حينئذ هو الأقل فقط،
____________
(١) التخييري و التعييني:
حيث أن القسمين من التخييري و التعييني واقعان في إرادتنا، أي: في حياتنا العملية. فإن الإنسان تارة يطلب من أخيه طلبا تعيينا، و تارة يقع غرضه على نحو الطلب التخييري.
(٢) في مقابل العنوان الحقيقي و هو الواجب التعييني.
(٣) أي: بشرط عدم الزيادة.
٢٠٣
و لا تكون الزيادة واجبة (١) فلا يكون من باب الواجب التخييري، بل الزيادة لا بد أن تحمل على الاستحباب (٢).
____________
(١) لأنّه لا يعقل ترك الواجب لا إلى بدل، فإذا التزمنا بالتخيير بين التسبيحة و الثّلاث سوف يلزم جواز ترك التسبيحتين لا إلى بدل، فلا يعقل أن تكونا واجبتين لأنّ لا شي‏ء من الواجب يجوز تركه لا إلى بدل.
(٢) قال صاحب الكفاية في كفايته: هل يمكن التخيير عقلا أو شرعا بين الأقل و الأكثر أو لا؟ ربما يقال: بأنه محال فإن الأقل إذا وجد كان هو الواجب لا محالة و لو كان في ضمن الأكثر، لحصول الغرض به، و كان الزائد على الأقل من أجزاء الأكثر زائد على الواجب. ثم عقب الشّيخ الآخوند «... لكنه ليس كذلك».
- و بعبارة أخرى: تقريب وجه الاستحالة، و حاصله: أن الأقل يوجد لا محالة قبل وجود الأكثر، و لوفائه بالغرض ينطبق عليه الواجب، و يسقط به الأمر، فلا يكون الزائد على الأقل من أجزاء الواجب، فلا يتصف الأكثر بالوجوب أصلا، مع أنّ قضيّة الوجوب التخييري بين الأقل و الأكثر هي اتصاف الأكثر بالوجوب أيضا.
و الجواب على هذا الإشكال: يتبين في توضيح كلام صاحب الكفاية في بيان عدم استحالة التخيير بين الأقل و الأكثر. و توضيح كلامه (قدس سره) ما يلي:
مغايرة الأقل للأكثر لكون الأكثر مشروطا بشي‏ء- و هو الزيادة- و الأقل مشروطا بعدمها، فيرجع التخيير بينهما إلى التخيير بين المتباينين، لتباين الماهية بشرط لا للماهية بشرط شي‏ء، فلا يمتنع التخيير بين الأقل و الأكثر. و تخصيص الأقلّ بالوجوب حينئذ بلا وجه صحيح لأن المفروض: وفاء كلّ من الأقلّ و الأكثر بالغرض.
و قد يرد إشكال على هذا الجواب: بأنه إخراج موضوعي خارج عن محل البحث، و مع ذلك لا يجدي، لأن التباين الناشئ عن جعل شي‏ء بشرط لا و بشرط شي‏ء عقلي، لا خارجي، و لا يرتفع الإشكال إلا بالتباين الخارجي.
و إن مورد حمل الأمر بالأكثر على الاستحباب إنّما هو فيما إذا كان الأقل بنفسه فردا للطبيعة، حيث أنّ الأمر بالأكثر لو لم يحمل على الندب لزم أن يكون لغوا، لأن التسبيحة الواحدة بنفسها فرد لطبيعة التسبيحة، و وافية بالغرض المترتب على صرف الوجود من الطبيعة الذي هو المطلوب، فيسقط أمرها الوجوبي، فلا محيص حينئذ عن حمل الأمر بالزائد عليها على الاستحباب.
و أمّا إذا لم يكن الأقل بذاته مصداقا للطبيعة، بأن كانت فرديّته لها منوطة بمئونة زائدة، كتوقّف فرديّة الركعتين الأوليين لطبيعة الصلاة المأمور بها على التسليم في الثانية، فيصح حينئذ أن يقال بالتخيير بين الأقل و الأكثر، فإن أتى بالتسليم سقط الأمر الوجوبي، لوجود الأقل المنطبق عليه الواجب، و لا مجال لاستحباب الأكثر حينئذ إلا مع نهوض دليل خاص عليه. و إن لم يأت به، فالواجب تعيينا هو الأكثر (١).
____________
(١) راجع: منتهى الدراية في شرح الكفاية، ج ٢، ص ٥٥٤- ٥٥٧. (جمعا بين المتن و الشرح).
٢٠٤

٥- العيني و الكفائي‏

تقدم ص ١٨٢: «أن الواجب العيني ما يتعلق بكل مكلف و لا يسقط بفعل الغير»، و يقابله الواجب الكفائي و هو المطلوب فيه وجوب الفعل من أي مكلف كان. فهو يجب على جميع المكلفين؛ و لكن يكتفى بفعل بعضهم فيسقط عن الآخرين و لا يستحق العقاب بتركه.
نعم إذا تركوه جميعا من دون أن يقوم به واحد فالجميع منهم يستحقون العقاب، كما يستحق الثواب كل من اشترك في فعله.
و أمثلة الواجب الكفائي كثيرة في الشريعة، منها: تجهيز الميت و الصلاة عليه، و منها: إنقاذ الغريق و نحوه من التهلكة، و منها: إزالة النجاسة عن المسجد، و منها:
الحرف و المهن و الصناعات التي بها نظام معايش الناس، و منها: طلب الاجتهاد، و منها: الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.
و الأصل في هذا التقسيم: أن المولى يتعلق غرضه بالشي‏ء المطلوب له من الغير على نحوين:
١- أن يصدر من كل واحد من الناس، حينما تكون المصلحة المطلوبة تحصل من كل واحد مستقلا، فلا بد أن يوجه الخطاب إلى كل واحد منهم على أن يصدر من كل واحد عينا، كالصوم أو الصلاة و أكثر التكاليف الشرعية. و هذا هو (الواجب العيني).
٢- أن يصدر من أحد المكلفين لا بعينه، حينما تكون المصلحة في صدور الفعل و لو مرة واحدة من أي شخص كان، فلا بد أن يوجه الخطاب إلى جميع المكلفين لعدم خصوصية مكلف دون مكلف، و يكتفى بفعل بعضهم الذي يحصل به الغرض، فيجب على الجميع بفرض الكفاية الذي هو (الواجب الكفائي).
و قد وقع الأقدمون من الأصوليين في حيرة من أمر (الوجوب الكفائي) و تطبيقه على القاعدة في الوجوب الذي قوامه (١) بل لازمه المنع من الترك (٢)، إذ رأوا أن وجوبه على الجميع لا يتلاءم مع جواز تركه بفعل بعضهم، و لا وجوب بدون المنع‏
____________
(١) هذا على قول أن الوجوب حقيقة مركبة من الأمر بالشي‏ء و المنع من جواز تركه.
(٢) هذا على قول المصنّف من أن الوجوب حقيقة بسيطة و هو عبارة عن الإلزام بالفعل.
٢٠٥
من الترك. لذا ظن بعضهم: إنه ليس المكلف المخاطب فيه الجميع بل البعض غير المعين أي: أحد المكلفين، و ظن بعضهم: أنه معين عند الله غير معين عندنا، و يتعين من يسبق إلى الفعل منهم فهو المكلف حقيقة ... إلى غير ذلك من الظنون.
و نحن لما صوّرناه بذلك التصوير المتقدم لا يبقى مجال لهذه الظنون، فلا نشغل أنفسنا بذكرها وردها. و تدفع الحيرة بأدنى التفات، لأنه إذا كان غرض المولى يحصل بفعل البعض فلا بد أن يسقط وجوبه عن الباقي، إذ لا يبقى ما يدعو إليه.
فهو- إذا- واجب على الجميع من أوّل الأمر، و لذا يمنعون جميعا من تركه، و يسقط بفعل بعضهم لحصول الغرض منه.

٦- الموسع و المضيق‏

ينقسم الواجب باعتبار الوقت إلى قسمين: موقت و غير موقت.
ثم الموقت إلى: موسع و مضيق.
ثم غير الموقت إلى: فوري و غير فوري.
و لنبدأ بغير الموقت (مقدمة)، فنقول:
(غير الموقت): ما لم يعتبر فيه شرعا وقت مخصوص و إن كان كل فعل لا يخلو- عقلا- من زمن يكون ظرفا له، كقضاء الفائتة و إزالة النجاسة عن المسجد و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و نحو ذلك.
و هو- كما قلنا- على قسمين: (فوري) و هو: ما لا يجوز تأخيره عن أول أزمنة إمكانه كإزالة النجاسة عن المسجد، و رد السلام، و الأمر بالمعروف. و (غير فوري) و هو ما يجوز تأخيره عن أوّل أزمنة إمكانه، كالصلاة على الميت، و قضاء الصلاة الفائتة، و الزكاة، و الخمس.
و (الموقت): ما اعتبر فيه شرعا وقت مخصوص، كالصلاة و الحج، و الصوم و نحوها. و هو لا يخلو- عقلا- من وجوه ثلاثة: إما أن يكون فعله زائدا على وقته المعين له أو مساويا له أو ناقصا عنه. و (الأوّل): ممتنع، لأنه من التكليف بما لا يطاق.
و (الثّاني): لا ينبغي الإشكال في إمكانه و وقوعه. و هو المسمى (المضيّق) كالصوم إذ فعله ينطبق على وقته بلا زيادة و لا نقصان من طلوع الفجر إلى الغروب.
و (الثّالث) هو المسمى (الموسّع)، لأن فيه توسعة على المكلف في أوّل الوقت و في أثنائه و آخره، كالصلاة اليومية و صلاة الآيات، فإنه لا يجوز تركه في جميع الوقت،
٢٠٦
و يكتفى بفعله مرة واحدة في ضمن الوقت المحدد له.
و لا إشكال عند العلماء في ورود ما ظاهره التوسعة في الشريعة، و إنما اختلفوا في جوازه عقلا على قولين: إمكانه و امتناعه، و من قال بامتناعه أوّل ما ورد على الوجه الذي يدفع الإشكال عنده على ما سيأتي.

[جواز الموسع عقلا و وقوعه شرعا]

و الحق عندنا جواز الموسع عقلا و وقوعه شرعا.
و منشأ الإشكال عند القائل بامتناع الموسع: أن حقيقة الوجوب متقومة بالمنع من الترك- كما تقدم- فينافيه الحكم بجواز تركه في أوّل الوقت أو وسطه.
و الجواب عنه واضح، فإن الواجب الموسع فعل واحد، و هو طبيعة الفعل المقيد بطبيعة الوقت المحدود بحدين على ألا يخرج الفعل عن الوقت، فتكون الطبيعة بملاحظة ذاتها واجبة لا يجوز تركها. غير أن الوقت لما كان يسع لإيقاعها فيه عدة مرات، كان لها أفراد طولية تدريجية مقدرة الوجود في أوّل الوقت و ثانية و ثالثة إلى آخره، فيقع التخيير العقلي بين الأفراد الطولية كالتخيير العقلي بين الأفراد العرضية للطبيعة المأمور بها، فيجوز الإتيان بفرد و ترك الآخر من دون أن يكون جواز الترك له مساس في نفس المأمور به، و هو طبيعة الفعل في الوقت المحدود. فلا منافاة بين وجوب الطبيعة بملاحظة ذاتها و بين جواز ترك أفرادها عدا فرد واحد (١).
و القائلون بالامتناع التجئوا إلى تأويل ما ظاهره التوسعة في الشريعة، فقال بعضهم: بوجوبه في أوّل الوقت، و الإتيان به في الزمان الباقي يكون من باب القضاء و التدارك لما فات من الفعل في أول الوقت. و قال آخر: بوجوبه في آخر الوقت، و الإتيان به قبله من باب النفل يسقط به الغرض، نظير إيقاع غسل الجمعة في يوم الخميس و ليلة الجمعة. و قيل غير ذلك.
و كلها أقوال متروكة عند علمائنا، واضحة البطلان. فلا حاجة إلى الإطالة في ردها.
____________
(١) و بعبارة أخرى: و قد أشكل على الموسع: بأنه مستلزم لترك الواجب في أول الوقت لجواز تأخيره إلى آخر وقت إمكان أدائه في الوقت، و هذا دليل عدم وجوبه إلا في ذلك الوقت الأخير؛ بحيث لو أخره لم يتمكن من الامتثال في الوقت الذي عين له. و جوابه: إن الواجب إذا كانت له أفراد، و كان المطلوب الجامع بين تلك الأفراد- لا بنحو السريان بل بنحو صرف الوجوب- فالعقل يخير المكلف بين الأفراد، و له إتيان أي فرد أراد. و لا فرق في نظر العقل في هذا الحكم بين الأفراد العرضية في زمان واحد، أو الأفراد الطولية بحسب الأزمنة المتعددة.
٢٠٧

هل يتبع القضاء الأداء

مما يتفرع عادة على البحث عن الموقت: (مسألة تبعية القضاء للأداء)، و هي من مباحث الألفاظ، و تدخل في باب الأوامر (١).
و لكن أخّر ذكرها إلى الخاتمة مع أن من حقها أن تذكر قبلها، لأنها- كما قلنا- من فروع بحث الموقت عادة. فنقول:
إن الموقت قد يفوت في وقته إما لتركه عن عذر أو عن عمد و اختيار، و إما لفساده لعذر أو لغير عذر. فإذا فات على أي نحو من هذه الأنحاء، فقد ثبت في الشريعة وجوب تدارك بعض الواجبات كالصلاة و الصوم، بمعنى: أن يأتي بها خارج الوقت. و يسمى هذا التدارك (قضاء). و هذا لا كلام فيه.
إلا أن الأصوليين اختلفوا في أن وجوب القضاء هل هو على مقتضى القاعدة؟
بمعنى: أن الأمر بنفس الموقت يدل على وجوب قضائه إذا فات في وقته، فيكون وجوب القضاء بنفس دليل الأداء. أو إن القاعدة لا تقتضي ذلك، بل وجوب القضاء يحتاج إلى دليل خاص غير نفس دليل الأداء؟
و في المسألة أقوال ثلاثة:
قول بالتبعية مطلقا (٢).
و قول بعدمها مطلقا (٣).
و قول بالتفصيل بين ما إذا كان الدليل على التوقيت متصلا، فلا تبعية، و بين ما إذا كان منفصلا، فالقضاء تابع للأداء.
و الظاهر أن منشأ النزاع في المسألة يرجع إلى أن المستفاد من التوقيت هو وحدة المطلوب أو تعدده، أي: أن في الموقت مطلوبا واحدا هو الفعل المقيد بالوقت بما هو مقيد، أو مطلوبين، و هما ذات الفعل و كونه واقعا في وقت معين؟
____________
(١) لما ذا هي من مباحث الفاظ؟ ذلك لأن البحث في الحقيقة مرجعه إلى إنه هل ظاهر الدليل كما يدل على الأداء يدل على القضاء، أم لا يدل على القضاء، و إنما يحتاج إلى دليل آخر و هذا هو محل البحث، و الظهور بحث لفظي.
(٢) أي سواء كان دليل التوقيت متصلا أي: دليل الوقت متصل بدليل الواجب و مثاله: صلّ يوم الجمعة، أو منفصلا أي: دليل الوقت منفصل بدليل الواجب، و مثاله بأن يقول المولى: «صم» ثم بدليل آخر يقول: «اجعل صومك يوم الجمعة».
(٣) أي سواء كان دليل التوقيت متصلا أو منفصلا بل يحتاج إلى دليل جديد لتعيين القضاء.
٢٠٨
فعلى الأوّل: إذا فات الامتثال في الوقت لم يبق طلب بنفس الذات، فلا بد من فرض أمر جديد للقضاء بالإتيان بالفعل خارج الوقت. و على الثاني: إذا فات الامتثال في الوقت فإنما فات امتثال أحد الطلبين و هو طلب كونه في الوقت المعين، و أما الطلب بذات الفعل فباق على حاله.
و لذا ذهب بعضهم إلى التفصيل المذكور باعتبار أن المستفاد من دليل التوقيت في المتصل وحدة المطلوب، فيحتاج القضاء إلى أمر جديد، و المستفاد في المنفصل تعدد المطلوب، فلا يحتاج القضاء إلى أمر جديد و يكون تابعا للأداء.
و المختار: هو القول الثاني، و هو عدم التبعية مطلقا.
لأن الظاهر من التقييد: أن القيد ركن في المطلوب، فإذا قال مثلا: (صم يوم الجمعة) فلا يفهم منه إلا مطلوب واحد لغرض واحد و هو خصوص صوم هذا اليوم، لا إن الصوم بذاته مطلوب، و كونه في يوم الجمعة مطلوب آخر.
و أما في مورد دليل التوقيت المنفصل، كما إذا قال: (صم) ثم قال مثلا: (اجعل صومك يوم الجمعة)، فأيضا كذلك، نظرا إلى أن هذا من باب المطلق و المقيد، فيجب فيه حمل المطلق على المقيد، و معنى حمل المطلق على المقيد هو: تقييد أصل المطلوب الأول بالقيد، فيكشف ذلك التقييد عن أن المراد بالمطلق واقعا من أوّل الأمر خصوص المقيد، فيصبح الدليلان بمقتضى الجمع بينهما دليلا واحدا، لا أن المقيد مطلوب آخر غير المطلق، و إلا كان معنى ذلك: بقاء المطلق على إطلاقه، فلم يكن حملا و لم يكن جمعا بين الدليلين، بل يكون أخذا بالدليلين.
نعم يمكن أن يفرض- و إن كان هذا فرضا بعيد الوقوع في الشريعة- أن يكون دليل التوقيت المنفصل مقيدا بالتمكن كأن يقول في المثال: (اجعل صومك يوم الجمعة إن تمكنت)، أو كان دليل التوقيت ليس فيه إطلاق يعم صورتي التمكن و عدمه، و صورة التمكن هي القدر المتيقن منه ... فإن في هذا الفرض يمكن التمسك بإطلاق دليل الواجب لإثبات وجوب الفعل خارج الوقت، لأن دليل التوقيت غير صالح لتقييد إطلاق دليل الواجب إلا في صورة التمكن، و مع الاضطرار إلى ترك الفعل في الوقت يبقى دليل الواجب على إطلاقه.
و هذا الفرض هو الذي يظهر من الكفاية لشيخ أساتذتنا الآخوند (قدس سره)، و لكنه فرض بعيد جدا. على أنه مع هذا الفرض لا يصدق الفوت و لا القضاء، بل يكون وجوبه خارج الوقت من نوع الأداء.
٢٠٩

الباب الثالث النواهي‏

٢١٠
{*empty#}صفحة فارغة (مطابق للمطبوع){#empty*}
٢١١
و فيه خمس مسائل:

١- مادة النهي‏

و المقصود بها: كلمة (النهي) كمادة الأمر. و هي عبارة عن طلب العالي من الداني ترك الفعل. أو فقل- على الأصح- أنها عبارة عن زجر العالي للداني عن الفعل و ردعه عنه، و لازم ذلك: طلب الترك، فيكون التفسير الأوّل تفسيرا باللازم على ما سيأتي توضيحه.
و هي- كلمة النهي- ككلمة الأمر في الدلالة على الإلزام عقلا لا وضعا، و إنما الفرق بينهما أن المقصود في الأمر: الإلزام بالفعل، و المقصود في النهي: الإلزام بالترك.
و عليه: تكون مادة النهي ظاهرة في الحرمة، كما أن مادة الأمر ظاهرة في الوجوب.

٢- صيغة النهي (١)

(١) قد اشتهر بين قدماء الأصوليين: أنّ مفاد صيغة النهي هو الطلب كمفاد الأمر، إلا أنّ مفاد الأمر يدل على طلب الفعل، و النهي يدلّ على طلب الترك، و قد رفض هذا الكلام مشهور المحققين المتأخرين من علماء الأصول، مدّعين: أن مدلول النهي مختلف عن الأمر ذاتا، فكل منهما يدلّ على معنى مغاير، و مباين للآخر، لا إنهما يدلان معا على الطلب، و يختلفان في متعلقه فقط، و بهذا الصدد نورد ثلاث كلمات:
الكلمة الأولى: ما نسبه السيّد الصّدر (قدس سره) إلى مشهور المعترضين على الرأي السّابق في مفاد النهي، حيث ذكروا: أنّ الأمر يدل على البعث نحو الطبيعة و التحريك إليها، بينما النهي يدل على الزّجر و التبعيد عنها.
الكلمة الثّانية: فيما اختاره السيّد الصّدر (قدس سره) في أنه يدلّ على وضع الفعل و اعتباره في ذمة العبد، و النهي يدلّ على اعتبار حرمان المكلف عن الفعل و ابتعاد عنه لا اعتبار تركه على ذمّته.
و الشاهد عليه- بناء على مسلك العدليّة من تبعية الأحكام للمصالح و المفاسد في متعلقاتها- أنّ الأمر يتبع مصلحة في الفعل فيناسب اعتبار الفعل في ذمة المكلف، و النهي يتبع مفسدة في الفعل، فالفعل هو مركز البغض فيناسب اعتبار حرمان المكلّف منه.
٢١٢
المراد من صيغة النهي: كل صيغة تدل على طلب الترك (١).
أو فقل- على الأصح-: كل صيغة تدل على الزجر عن الفعل و ردعه عنه كصيغة (لا تفعل) أو (إياك أن تفعل) و نحو ذلك.
و المقصود ب (الفعل): الحدث الذي يدل عليه المصدر و إن لم يكن أمرا وجوديا، فيدخل فيها- على هذا- نحو قولهم: (لا تترك الصلاة)، فإنها من صيغ النهي لا من صيغ الأمر. كما أن قولهم: (اترك شرب الخمر) تعد من صيغ الأمر لا من صيغ النهي و إن أدت مؤدى (لا تشرب الخمر) (٢).
و السر في ذلك واضح، فإن المدلول المطابقي لقولهم: (لا تترك) هو الزجر و النهي عن ترك الفعل، و إن كان لازمه الأمر بالفعل فيدل عليه بالدلالة الالتزامية. و المدلول المطابقي لقولهم: (اترك) هو الأمر بترك الفعل، و إن كان لازمه النهي عن الفعل فيدل عليه بالدلالة الالتزامية.

٣- ظهور صيغة النهي في التحريم‏

الحق: أن صيغة النهي ظاهرة في التحريم، و لكن لا لأنها موضوعة لمفهوم الحرمة و حقيقة فيه كما هو المعروف، بل حالها في ذلك حال ظهور صيغة افعل في الوجوب (٣).
____________
الكلمة الثّالثة: إنّ ما قيل في الكلمة الأولى من الفرق بين مفاد صيغة النهي و مفاد صيغة الأمر صحيح، فكل من الصيغتين لها دلالة تصورية و تصديقية، و هما مختلفان في كلتا الدلالتين على ما تقدم. و الحجة عليه: هو الوجدان القاضي بأنّ ما يفهم من صيغة افعل به تختلف عمّا يفهم من صيغة لا تفعل اختلافا ذاتيا لا اختلافا بحسب المتعلّق كما هو مدعى القدماء. راجع تقريرات السيّد محمود الهاشمي في مباحث الألفاظ.
(١) هنا في بيان مدلول الصيغة و هل هو طلب الترك أو الزجر عن الفعل.
(٢) و توضيح العبارة كالتالي:
المصدر يدل على الحدث مطلقا سواء كان وجوديا نحو الشرب، أو كان عدميا نحو الترك، و صيغة النهي تتعلق بكل واحد منهما، لا إنها تختص بالحدث الوجودي. و مثال تعلق صيغة النهي بالحدث الوجودي: كقولك: لا تشرب الخمر. و مثال تعلق صيغة النهي بالحدث العدمي: كقولك: لا تترك الصلاة. فالترك أمر عدمي و الشرب أمر وجودي.
ظهور صيغة النهي في التحريم: (٣) فإن لازم هذه المماثلة بين ظهور صيغة «افعل» في الوجوب و بين ظهور صيغة «لا تفعل» في الحرمة: أن يعتبر في النهي جميع ما اعتبر في الأمر من العلو، و دلالة الهيئة على مجرد الطلب الإلزامي،
٢١٣
فإنه قد قلنا هناك: إن هذا الظهور إنما هو بحكم العقل، لا إن الصيغة موضوعة و مستعملة في مفهوم الوجوب.
و كذلك صيغة (لا تفعل) فإنها أكثر ما تدل على النسبة الزجرية بين الناهي و المنهي عنه و المنهي. فإذا صدرت ممن تجب طاعته و يجب الانزجار بزجره و الانتهاء عما نهى عنه، و لم ينصب قرينة على جواز الفعل، كان مقتضى وجوب طاعة هذا المولى و حرمة عصيانه عقلا- قضاء لحق العبودية و المولوية- عدم جواز ترك الفعل الذي نهى عنه إلا مع الترخيص من قبله.
فيكون- على هذا- نفس صدور النهي من المولى بطبعه مصداقا لحكم العقل بوجوب الطاعة و حرمة المعصية، فيكون النهي مصداقا للتحريم حسب ظهوره الإطلاقي، لا أن التحريم- الذي هو مفهوم اسمي- وضعت له الصيغة و استعملت فيه.
و الكلام هنا كالكلام في صيغة (افعل) بلا فرق من جهة الأقوال و الاختلافات.

٤- ما المطلوب في النهي (١)

كل ما تقدم ليس فيه خلاف جديد غير الخلاف الموجود في صيغة افعل. و إنما
____________
و خروج المرة و التكرار و الفور و التراخي عن مدلولها.
ما المطلوب من النهي: (١) إن متعلق الطلب في النهي هل هو الكلف أو مجرد الترك و أن لا يفعل؟ قال صاحب الكفاية:
الظاهر هو الثاني.
- ملاحظة توضيحية: ما المراد من الكف:
الكف: هو زجر النفس عن إرادة الفعل و الميل إليه، فالكف أمر وجودي و لا يصدق على مجرد الترك، بل لا بدّ أن يستند الترك إلى زجر النفس. بخلاف الترك، فإنه يصدق على مطلق العدم سواء كان مع الزجر أم بدونه.
و اختار صاحب الكفاية القول الثّاني: و هو مجرد الترك و عدم الفعل و إن لم يكن عن زجر النفس، لأنه المتبادر من الصيغة في المحاورات.
إلا أن هذا الرأي- الذي اختاره صاحب الكفاية- يشكل عليه؛ و ذلك لأن متعلق النهي إذا كان مجرد الترك و عدم الفعل فهو غير مقدور للمكلف لأنه أمر عدمي؛ لأن متعلق التكليف سواء كان نهيا أم أمرا لا بدّ أن يكون مقدورا للمكلف لأنه لا يمكن التكليف بغير المقدور عقلا. و عليه: يتعين أن يكون تعلق النهي الكف و هو أمر وجودي، و هو مقدور للمكلف.
٢١٤
اختص النهي في خلاف واحد، و هو أن المطلوب في النهي هل هو مجرد الترك أو كف النفس عن الفعل، و الفرق بينهما: أن المطلوب على القول الأوّل: أمر عدمي محض، و المطلوب على القول الثّاني: أمر وجودي، لأن الكف فعل من أفعال النفس.
و الحق هو القول الأوّل.
و منشأ القول الثّاني: توهم هذا القائل إن الترك- الذي معناه إبقاء عدم الفعل المنهي عنه على حاله- ليس بمقدور للمكلف، لأنه أزلي خارج عن القدرة، فلا يمكن‏
____________
- و بعبارة أخرى: حينما يقال لك: لا تشرب الخمر هنا ما هو المطلوب منك؟ هل المطلوب منك الكف عن الشرب أم مطلوب منك ترك الشرب؟
- بعضهم قال: المطلوب الكف عن الشرب و لا يريد ترك الشرب؛ لأن ترك شرب الخمر أمر عدمي أي: أنه حاصل من الأول، أي: الترك حاصل من الأوّل. إذا: الترك أمر قديم فلا معنى أن يطلب الله «عزّ و جل» مني الترك لأنه تحصيل للحاصل و هو تكليف بغير المقدور.
إذا: لا بدّ من أن يكون تعلق النهي هو الكف الذي هو أمر وجودي.
- يرد صاحب الكفاية على هذا الإشكال قائلا: إن الترك ليس خارجا عن حيز القدرة و الاختيار كما ادعي، و إلا لم يكن الفعل مقدورا أيضا، لأن نسبة القدرة إلى الفعل و الترك نسبة واحدة، فمقدورية أحدهما تستلزم مقدورية الآخر، و لما كان الفعل مقدورا بالقدرة فالترك كذلك.
- و بعبارة أخرى: إن الترك أمر مقدور و الدليل على أن المكلف قادر على الترك: أنه قادر على الفعل أي: قادر على أن يشرب الخمر كما في المثال. و متى ما صدق على أنه قادر على الشرب لازمه أن يصدق أنه قادر على الترك، و إن القدرة على الفعل لا تصدق إلا إذا الترك كان مقدورا، و العكس صحيح، و إلا كيف يصدق أني قادر على الشرب من دون أن تكون لي القدرة على الترك.
- و لأجل حل الشبهة المذكورة- يقال: قلتم إن الترك أمر أزلي و حاصل من القديم فهو خارج عن القدرة.
- الجواب: أن الترك يكون خارج عن القدرة حدوثا لا بقاء و استمرارا يعني: بقاء الترك بيدي و اختياري و ليس خارج اختياري و قدرتي؛ بأن مثلا: يوجد ماء تحت يدي فترك الماء تحت قدرتي أستطيع أن أكسر هذا الترك بشرب الماء. إذا: الترك بقاء و استمرارا تحت القدرة لا خارج القدرة كما ادعي، و إذا قال الله «عزّ و جل»: «لا تشرب الخمر» إذا قلنا: أن النهي هو تعلق الطلب فيه مجرد الترك و أن لا يفعل، فالمقصود من الترك ليس أن تجد الترك من الأول حتى يرد الإشكال و هو أن الترك حاصل، و هذا النهي متعلق بالحاصل فيستحيل تحصيل الحاصل. بل المقصود من الترك البقاء و الاستمرار على الترك و هو مقدور عليه. لأن الاستمرارية أمر أزلي فيمكن للمكلف أن يستمر في الترك و يمكن له أن لا يستمر.
٢١٥
تعلق الطلب به.
و المعقول من النهي: أن يتعلق فيه الطلب بردع النفس و كفها عن الفعل، و هو فعل نفساني يقع تحت الاختيار.
و الجواب عن هذا التوهم: إن عدم المقدورية في الأزل على العدم لا ينافي المقدورية بقاء و استمرارا، إذ القدرة على الوجود تلازم القدرة على العدم، بل القدرة على العدم على طبق القدرة على الوجود، و إلا لو كان العدم غير مقدور بقاء لما كان الوجود مقدورا، فإن المختار القادر هو الذي إن شاء فعل و إن لم يشأ لم يفعل (١).
و التحقيق: أن هذا البحث ساقط من أصله، فإنه- كما أشرنا إليه فيما سبق- ليس معنى النهي هو الطلب، حتى يقال إن المطلوب هو الترك أو الكف، و إنما طلب الترك من لوازم النهي، و معنى النهي المطابقي: هو الزجر و الردع. نعم الردع عن الفعل يلزمه عقلا طلب الترك، كما أن البعث نحو الفعل في الأمر يلزمه عقلا الردع عن الترك.
فالأمر و النهي كلاهما يتعلقان بنفس الفعل رأسا، فلا موقع للحيرة و الشك في أن الطلب في النهي يتعلق بالترك أو الكف.

٥- دلالة صيغة النهي على الدوام و التكرار

اختلفوا في دلالة (صيغة النهي) على التكرار أو المرة كالاختلاف في صيغة (افعل). و الحق هنا: ما قلناه هناك بلا فرق، فلا دلالة لصيغة (لا تفعل) لا بهيئتها و لا بمادتها على الدوام و التكرار و لا على المرة، و إنما المنهي عنه صرف الطبيعة، كما أن المبعوث نحوه في صيغة (افعل) صرف الطبيعة.
____________
(١) و بعبارة أخرى نقول: جواب المصنّف في الحقيقة ينحل إلى جوابين:
الأوّل: إن غير المقدور للمكلف هو ذات العدم الأزلي لا استمراره و بقاؤه، فإنه مقدور للمكلف، فيصح أن يتعلق به النهي.
الثّاني: يتم هذا الجواب بذكر مقدمتين:
الأولى: إن القادر هو من يقدر على الطرفين: طرف الوجود و طرف العدم، أي: إن شاء فعل و إن شاء ترك، و إلا لو كان قادرا على الفعل فقط أو على الترك فقط لكان مجبورا أو مضطرا لا قادرا.
الثّانية: و إذا اعترف الخصيم بأن الفعل مقدور يلزمه الاعتراف بكون العدم مقدورا أيضا، و إلا لو كان العدم غير مقدور لما كان الفعل مقدورا، مع أنه يعترف بأن الفعل مقدور، فلا بدّ أن يعترف بأن العدم مقدور أيضا، و إذا كان العدم مقدورا صح أن يتعلق به النهي.
٢١٦
غير أن بينهما فرقا من ناحية عقلية في مقام الامتثال، فإن امتثال النهي بالانزجار عن فعل الطبيعة، و لا يكون ذلك إلا بترك جميع أفرادها فإنه لو فعلها مرة واحدة ما كان ممتثلا. و أما امتثال الأمر: فيتحقق بإيجاد أوّل وجود من أفراد الطبيعة، و لا تتوقف طبيعة الامتثال على أكثر من فعل المأمور به مرة واحدة.
و ليس هذا الفرق من أجل وضع الصيغتين و دلالتهما، بل ذلك مقتضى طبع النهي و الأمر عقلا.

تنبيه‏

لم نذكر هنا ما اعتاد المؤلفون ذكره من بحثي اجتماع الأمر و النهي، و دلالة النهي على الفساد، لأنهما داخلان في (المباحث العقلية)، كما سيأتي، و ليس هما من مباحث الألفاظ، و كذلك بحث مقدمة الواجب، و مسألة الضد، و مسألة الإجزاء ليست من مباحث الألفاظ أيضا. و سنذكر الجميع في المقصد الثّاني (المباحث العقلية) إن شاء الله تعالى.
٢١٧

الباب الرابع المفاهيم‏

٢١٨
{*empty#}صفحة فارغة (مطابق للمطبوع){#empty*}
٢١٩

تمهيد:

في معنى كلمة (المفهوم)، و في النزاع في حجيته، و في أقسامه: فهذه ثلاثة مباحث:

١- معنى كلمة المفهوم:

تطلق كلمة المفهوم على ثلاثة معان:
١- المعنى المدلول للفظ الذي يفهم منه، فيساوي كلمة المدلول، سواء كان مدلولا لمفرد أو جملة، و سواء كان مدلولا حقيقيا أو مجازيا (١).
٢- ما يقابل المصداق، فيراد منه كل معنى يفهم و إن لم يكن مدلولا للفظ، فيعم المعنى الأوّل و غيره (٢).
٣- ما يقابل المنطوق، و هو أخص من الأولين (٣). و هذا هو المقصود بالبحث هنا.
و هو اصطلاح أصولي يختص بالمدلولات الالتزامية للجمل التركيبية سواء كانت إنشائية (٤) أو إخبارية (٥)، فلا يقال لمدلول المفرد مفهوم و إن كان من المدلولات الالتزامية (٦).
____________
(١) هذا المفهوم باصطلاح اللغويين.
(٢) هذا المفهوم باصطلاح المناطقة. و هذا أعم من الأوّل لأن المفهوم باصطلاح المناطقة هو: كل معنى يتصوره الذهن حتى لو لم يكن مدلولا للفظ.
(٣) فأما وجه أخصيته بالنسبة إلى الأوّل، فلأنه مختص بالجملة بخلاف الأوّل، فإنه يشمل المفرد و الجملة.
و أما وجه أخصيته بالنسبة إلى الثّاني: فلأجل إن الثّاني غير مختص باللفظ بل كل ما يفهم، بينما هذا مختص باللفظ.
(٤) كما في الجمل الإنشائية، كحرمة الإكرام المستفادة من قوله: «إن جاءك زيد فأكرمه». بناء على ثبوت المفهوم للجملة الإنشائية.
(٥) كما في الجمل الخبرية كالإخبار عن فعله بإعطاء دينار مثلا المستفاد من قوله: «إن جئتني فأنا أعطيك دينارا»، حيث أن الإعطاء فعله الذي يخبر عنه على تقدير عدم المجي‏ء بالكلام المزبور.
(٦) ثم أنه يعتبر أن يكون ذلك الحكم الإنشائي أو الإخباري مما تستلزمه خصوصية المعنى المنطوقي؛
٢٢٠
أما المنطوق: فمقصودهم منه: ما يدل عليه اللفظ في حد ذاته، على وجه يكون اللفظ المنطوق حاملا لذلك المعنى و قالبا له، فيسمى المعنى (منطوقا) تسمية للمدلول باسم الدال (١). و لذلك يختص المنطوق بالمدلول المطابقي فقط، و إن كان المعنى مجازا قد استعمل فيه اللفظ بقرينة.
و عليه، فالمفهوم الذي يقابله (٢) ما لم يكن اللفظ حاملا له دالا عليه بالمطابقة و لكن يدل عليه باعتباره لازما لمفاد الجملة بنحو اللزوم البين بالمعنى الأخص (٣)، و لأجل هذا يختص المفهوم بالمدلول الالتزامي.
مثاله: قولهم: «إذا بلغ الماء كرا لا ينجسه شي‏ء». فالمنطوق فيه هو مضمون الجملة و هو عدم تنجس الماء البالغ كرا بشي‏ء من النجاسات. و المفهوم- على تقدير أن يكون لمثل هذه الجملة مفهوم- أنه إذا لم يبلغ كرا يتنجس.
و على هذا يمكن تعريفهما بما يلي:
المنطوق: «هو حكم دل عليه اللفظ في محل النطق».
____________
بحيث لو لم تكن تلك الخصوصية لم يدل المنطوق على ذلك الحكم الإنشائي أو الإخباري المسمى بالمفهوم، فلا بدّ أن تكون تلك الخصوصية المعتبرة في المنطوق مدلولا عليها باللفظ حتى يخرج المفهوم عن المداليل الالتزامية، كوجوب المقدمة و حرمة الضد، فإن اللفظ لا يدل فيهما إلا على ذي الخصوصية و هو وجوب ذي المقدمة، و وجوب الضد الآخر، نفس الخصوصية تستفاد من الخارج لا من اللفظ (١).
عرف صاحب الكفاية المفهوم: بأنه هو عبارة عن حكم إنشائي أو إخباري غير مذكور في القضية تقتضيه خصوصية المعنى المنطوقي، إذ يصح حينئذ أن يقال: إن المفهوم حكم غير مذكور في القضية اللفظية، ضرورة أن حرمة إكرام زيد غير مذكور في قولنا: «إن جاءك زيد فأكرمه»، و كذا حرمة الضرب و الشتم، فإنها غير مذكورة في قوله تبارك و تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ‏.
و بالجملة: فنفس المفهوم و هو الحكم الإنشائي أو الإخباري غير مذكور في المنطوق بلا واسطة؛ و إن كان مدلولا عليه بذكر الخصوصية المستتبعة له في المنطوق‏ (٢).
(١) تسمية للمدلول (المعنى) باسم الدال (اللفظ).
(٢) يعود الضمير على المنطوق.
(٣) راجع كتاب المنطق للمؤلف، الجزء الأوّل ص ٧٩ عن معنى البين و أقسامه. (المصنّف).
____________
(١) راجع: منتهى الدراية في شرح الكفاية، ج ٣، ص ٣٠١.
(٢) راجع: منتهى الدراية في شرح الكفاية، ج ٣، ص ٣٠٤.
٢٢١
و المفهوم: «هو حكم دل عليه اللفظ لا في محل النطق».
و المراد من الحكم: الحكم بالمعنى الأعم، لا خصوص أحد الأحكام الخمسة (١).
و عرفوهما أيضا: بأنهما حكم مذكور و حكم غير مذكور، و أنهما حكم لمذكور و حكم لغير مذكور، و كلها لا تخلو عن مناقشات طويلة الذيل. و الذي يهون الخطب أنها تعريفات لفظية لا يقصد منها الدقة في التعريف (٢)، و المقصود منها واضح كما شرحناه.

٢- النزاع في حجية المفهوم (٣)

لا شك: أن الكلام إذا كان له مفهوم يدل عليه فهو ظاهر فيه، فيكون حجة من المتكلم على السامع، و من السامع على المتكلم، كسائر الظواهر الأخرى.
إذا: ما معنى النزاع في حجية المفهوم حينما يقولون مثلا: هل مفهوم الشرط حجة أولا؟
و على تقديره (٤)، فلا يدخل هذا النزاع في مباحث الألفاظ التي كان الغرض منها تشخيص الظهور في الكلام و تنقيح صغريات حجية الظهور، بل ينبغي أن يدخل في مباحث الحجة كالبحث عن حجية الظهور و حجية الكتاب و نحو ذلك.
____________
(١) الوجوب و الحرمة و الاستحباب و الكراهة و الإباحة.
(٢) بل يقصد منها شرح الاسم.
النزاع في حجية المفهوم: (٣) خلاصة القول في هذا البحث: هو أنه قد يستشكل بإشكالين بأن يقال: بأن النزاع في حجية المفهوم لا معنى له من جهتين:
١- إن الجملة التي لها مفهوم لا إشكال في حجيتها، و إذا كان كذلك فلا معنى للنزاع في إن مفهوم الجملة هل هي حجة أم لا؟
٢- إنه حتى لو قلنا و تصورنا بوجود نزاع في حجية المفهوم فلا بدّ أن تبحث في مباحث الألفاظ.
و الجواب: هو إن النزاع ليس في حجية المفهوم بعد الفراغ عن وجوده، و إنّما النزاع في أصل وجوده، هل الجملة الشرطية لها مفهوم أم لا؟ و إذا كان كذلك فالإشكالان يرتفعان، لأننا لا نبحث في إن المفهوم حجة أم لا؟ و إنّما نبحث عن أصل وجود المفهوم، فلا معنى للنزاع ما دام المفهوم حجة؛ لما عرفت من أن النزاع في أصل وجوده لا في حجيته، كما لا معنى للقول بأنه لا بدّ من إدخاله في مباحث الحجة، لأننا نبحث عن أصل وجوده هل الجملة ظاهرة فيه أم لا؟ و لا نبحث عن حجيته.
(٤) أي: و على تقدير وجود النزاع.
٢٢٢
و الجواب: إن النزاع هنا في الحقيقة إنما هو في وجود الدلالة على المفهوم، أي:
في أصل ظهور الجملة فيه و عدم ظهورها. و بعبارة أوضح: النزاع هنا في حصول المفهوم للجملة لا في حجيته بعد فرض حصوله.
فمعنى النزاع في مفهوم الشرط- مثلا- إن الجملة الشرطية مع قطع النظر عن القرائن الخاصة هل تدل على انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط؟ و هل هي ظاهرة في ذلك؟
لا أنه بعد دلالتها على هذا المفهوم و ظهورها فيه يتنازع في حجيته، فإن هذا لا معنى له، و إن أوهم ذلك ظاهر بعض تعبيراتهم، كما يقولون مثلا: مفهوم الشرط حجة أم لا. و لكن غرضهم ما ذكرنا.
كما إنه لا نزاع في دلالة بعض الجمل على مفهوم لها إذا كانت لها قرينة خاصة على ذلك المفهوم، فإن هذا ليس موضوع كلامهم. بل موضوع الكلام و محل النزاع في دلالة نوع تلك الجملة كنوع الجملة الشرطية على المفهوم مع تجردها عن القرائن الخاصة.

٣- أقسام المفهوم:

ينقسم المفهوم إلى مفهوم الموافقة و مفهوم المخالفة:

١- (مفهوم الموافقة):

ما كان الحكم في المفهوم موافقا في السنخ للحكم الموجود في المنطوق، فإن كان الحكم في المنطوق الوجوب- مثلا- كان في المفهوم الوجوب أيضا، و هكذا (١).
كدلالة الأولوية في مثل قوله تعالى:
فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ‏
على النهي عن الضرب و الشتم للأبوين، و نحو ذلك مما هو أشد إهانة و إيلاما من التأفيف المحرم بحكم الآية (٢).
و قد يسمى هذا المفهوم (فحوى الخطاب). و لا نزاع في حجية مفهوم الموافقة،
____________
أقسام المفهوم: (١) كدلالة قوله: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ‏ آل عمران: ٧٥. على تأدية الدرهم و الدينار.
(٢) كدلالة كقوله تعالى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى‏ ذِكْرِ اللَّهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ‏ على‏
٢٢٣
بمعنى: دلالة الأولوية على تعدي الحكم إلى ما هو أولى في علة الحكم (١) و له تفصيل كلام يأتي في موضعه (٢).

٢- (مفهوم المخالفة):

ما كان الحكم فيه مخالفا في السنخ للحكم الموجود في المنطوق، و له موارد كثيرة وقع الكلام فيها نذكرها بالتفصيل، و هي ستة:
١- مفهوم الشرط.
٢- مفهوم الوصف.
٣- مفهوم الغاية.
٤- مفهوم الحصر.
٥- مفهوم العدد.
٦- مفهوم اللقب.

الأوّل- مفهوم الشرط (٣)

تحرير محل النزاع:

لا شك في: أن الجملة الشرطية يدل منطوقها- بالوضع- على تعليق التالي فيها
____________
ترك اللهو و اللعب بالأولى. و قوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ‏ فيدل على حرمة الإيذاء بالأولى.
(١) لا ريب في أن شخص الحكم المتقوم بالموضوع في المنطوق ينتفي بانتفائه قهرا، و لا ينبغي أن يكون ذلك مورد النزاع، و لذا اتفقوا على إنه لا مفهوم في الوصايا، و الأوقاف و نحوها، إذ ليس المنشأ فيها إلا شخص الحكم المتقوّم بموضوع خاص، فليس ذلك كله من المفهوم في شي‏ء أبدا. و مورد البحث في المفهوم انتفاء سنخ الحكم بانتفاء الموضوع، لا انتفاء شخصه.
(٢) في الحقيقة: أن تسمية مفهوم الموافقة بالمفهوم فيه مسامحة، و إنّما هو من باب تطبيق القاعدة على مصاديقها، و كذا الكلام في باب منصوص العلة، و تنقيح المناط، و لأجل توضيح ذلك نقول: إذا قال الشّارع: الخمر حرام لأنّه مسكر فهنا الشارع قد نص على علة الحكم بالحرمة، فيقال له منصوص العلة، و لا شكّ في: أن الحكم يدور مدار العلة، فكأنّما الشارع بذكره للعلة قد أعطانا قاعدة كلية، و هي «كل مسكر حرام»، غاية ما في الأمر: أنه طبقها على أظهر الأفراد المسكرة، و إلا فهو يريد في الحقيقة أن يقول: كل مسكر حرام، و عليه: نستطيع أن نثبت الحرمة لكل مورد وجد فيه الإسكار، و كذا القول في مفهوم الموافقة، فإن الشارع حينما أثبت الحرمة للتأفيف في الحقيقة هو يريد أن يعطينا قاعدة كلية، و هي حرمة إيذاء الأبوين، غاية الأمر: أنه طبقها على أخص أفراد الإيذاء و هو التأفيف، و عليه: نستطيع أن نثبت الحرمة لكل مورد فيه إيذاء لهما طبقا للقاعدة.
مفهوم الشرط: (٣) من بعد تحديد المفهوم بشكل عام لزم أن ندخل في كل مفهوم بخصوصه و نتحقق في ثبوتيته.
٢٢٤
أولا: الجملة الشرطية: هل الجملة الشرطية تدل على الانتفاء عند الانتفاء كما تدل على الثبوت عند الثبوت، أم لا تدل على الانتفاء عند الانتفاء؟
إذا قيل: «إذا جاءك زيد فأكرمه» هذه جملة شرطية و بلا إشكال تدل على الثبوت عند الثبوت، بمعنى:
إذا ثبت «المجي‏ء» ثبت «الإكرام»، و هذا يستفاد من منطوق الكلام؛ ثم قال صاحب الكفاية: أيضا لا إشكال- في بعض الأحيان و لو بالقرينة- أن تستعمل الشرطية في الانتفاء عند الانتفاء بمعنى: «إذا لم يجئ زيد فلا تكرمه»، و هذا يعني: إن صاحب الكفاية لا يقول بمفهوم الشرط بخلاف كلام المشهور لأن تعليق الحكم على الشرط معناه الانتفاء بانتفائه.
و بعبارة أخرى: إن الجملة الشرطية لا يثبت لها مفهوم الشرط إلا بعد أن تدل بطبعها على الانتفاء عند الانتفاء، و أن تكون بطبعها تدل على العلية الانحصارية يعني: إذا ثبت أن الشرط علة منحصرة لوجود الإكرام، أي: إذا ثبت أن «المجي‏ء» علة منحصرة فيه يثبت وجوب الإكرام عند تحققه و إلا فلا. و إذا لم نستطع أن نقول أن الشرط «المجي‏ء» علة منحصرة لا نستطيع عند انتفاء الشرط «عدم المجي‏ء» إن ثبت «عدم الإكرام» لأنه قد توجد علة أخرى في وجوب الإكرام غير «المجي‏ء».
- إذا: كلامنا في أن الشرطية بطبعها تقتضي أن الشرط علة منحصرة أم لا؟ فإذا ثبت أن الشرطية بطبعها علة منحصرة يستبطن إثبات أربع دعاوى.
الدعوى الأولى: ثبوت الملازمة بين الشرط و بين الجزء نحو ترتب المعلول على علته المنحصرة، كأن يكون المقدم علة للتالي، مثل: «إن كان هذا متعفن الأخلاط فهو محموم» أو العكس مثل: «إن كان هذا محموما فهو متعفن الأخلاط»، أو يكون كلاهما معا معلولين لعلة ثالثة، مثل: «إن كان الخمر حراما كان بيعه باطلا» فإن الحرمة و البيع معلولان للإسكار. أو يكون بينهما نسبة التضايف تحققا و تعقلا، مثل: «إن كان زيد ابن عمر، فعمرو أب له»، فلو كانت القضية الشرطية اتفاقية مثل: «إن كان الإنسان ناطقا كان الحمار ناهقا» فلا مفهوم لها، إذ لا تدل حينئذ إلا على مجرد الثبوت عند الثبوت، و المفروض: توقف المفهوم على دلالة القضية المنطوقية على الانتفاء عند الانتفاء.
الدعوى الثانية: أن يكون اللزوم بنحو الترتب، يعني: الشرط متقدم و الجزاء متأخر، فإذا كان العكس لا مفهوم. بمعنى: قد يفرض القضية عكسية بأن لا يكون هناك ترتب في البين بأن يفترض الشرط هو المعلول، الجزاء هو العلة في مثال: «إذا كان النهار موجودا فالشمس طالعة»، فلزوم موجود و لكن لا على نحو الترتب؛ لأن «الشمس طالعة» ليس مترتب على وجود النهار بل النهار مترتب على طلوع الشمس.
الدعوى الثالثة: إذا ثبتت الدعوى الثانية لا بدّ من ثبوت هذا المتقدم على أن يكون علة.
الدعوى الرابعة: إذا ثبتت الدعوى الثالثة لا بدّ أن أثبت أن هذه العلة علة منحصرة.
إذا ثبتت هذه الدعاوى الأربع حينئذ يثبت المفهوم للجملة الشرطية.
و أما المنكر للمفهوم لهذه الجملة الشرطية يكفي أن ينسف واحدة من هذه الدعاوى الأربع في إثبات عدم المفهوم.
- إذا: من يقول بالعلية الانحصارية عليه أن يثبت هذه الدعاوى الأربع.
٢٢٥
صاحب الكفاية يقول: بعدم ثبوت مفهوم الشرط و يرجع ذلك إلى إنكاره و عدم ثبوت الدعاوى الثلاث الأخيرة. و محصل كلامه (قدس سره): أن الدعوى الأولى ثابتة و الدليل على ثبوتها التبادر بمعنى: أن الجملة الشرطية موضوعة لأجل اللزوم و الدليل على ذلك التبادر.
- أما الدّعاوى الثلاث الباقية فلا يستطيع إثباتها لعدم الدليل على ذلك. هذا بالنسبة إلى الآخوند (قدس سره).
- و أما البعض من الأصوليين فاستطاعوا أن يثبتوا ذلك إما بالوضع، و إما بالانصراف، و إما بمقدمات الحكمة.
- و كيف ثبتوا ذلك؟
أما بالنسبة إلى الوضع: قالوا بالتبادر يثبت الوضع فكيف أن الدعوى الأولى أثبتها الآخوند بالتبادر كذلك هنا بالتبادر يثبت الوضع. و قد رد الآخوند على هذا الدليل فراجع.
- و كيف يمكن إثبات المفهوم بالانصراف؟
أي: كيف يمكن إثبات اللزوم العلّي الانحصاري بالانصراف؟
أصحاب هذا الدليل يقولون: إن للزوم مصداقين:
الأوّل: مرة يكون اللزوم على نحو اللزوم العلّي الانحصاري.
الثّاني: و مرة يكون اللزوم و لكن لا على نحو اللزوم العلّي الانحصاري.
فهذان مصداقان و أكملهما هو اللزوم العلّي الانحصاري. فإذا قلت: «إن جاءك زيد فأكرمه» ينصرف الذهن إلى اللزوم الأكمل و هو اللزوم العلّي الانحصاري فيثبت المطلوب و هو: أن العلة منحصرة، و اللزوم لزوم عليّ انحصاري بسبب الانصراف. و قد أجاب الآخوند (قدس سره) على هذا الدليل بجوابين يذكرهما في الكفاية فراجع.
- كيف يمكن إثبات اللزوم العلّي الانحصاري بواسطة التمسك بالإطلاق و مقدمات الحكمة؟
نتمسك بالإطلاق بأن مفاد الشرطية مفادها اللزوم العلّي الانحصاري أي: أن مقتضى الإطلاق أنه عليّ انحصاري؛ لأن المولى في مقام البيان و اللزوم غير العلّي الانحصاري يحتاج إلى بيان زائد و لم يبينه المولى فهو لا يريده. و الآخوند يرد على هذا الدليل بجوابين يذكرهما في كتاب الكفاية فراجع.
- إذا: فالآخوند (قدس سره) لا يرى أن الشرط له مفهوم؛ لأنه لم يستطع أن يثبت العلية الانحصارية كما تقدم ذكره، و يذهب معه السيّد المرتضى و لكن اختلفوا في كيفية الاستدلال على الإنكار، فالآخوند (قدس سره) كما تقدم. بينما السيّد المرتضى ذكر أمورا أخرى: منها: قال (قدس سره): إن فائدة الشرط أن الحكم يكون معلقا عليه يعني: متى ما حصل «المجي‏ء» يحصل «وجوب الإكرام» في مثال: «إذا جاء زيد فأكرمه» قال المرتضى (قدس سره): من الممكن أن يكون الحكم معلقا على هذا الشرط، و يكون في نفس الوقت معلقا على شرط ثاني مثلا على «مرض زيد» أو «فقره»، يعني: كما أن الإكرام على «مجي‏ء زيد» معلق أيضا على «مرض زيد» هذا فائدة الشرط و كون الحكم معلقا على الشرط هذا يتم، فإن كان الشرط واحدا يكون معلقا على شرط واحد. و إذا كان الشرط اثنين يكون‏
٢٢٦
على المقدم الواقع موقع الفرض و التقدير (١). و هي على نحوين:
١- أن تكون مسوقة لبيان موضوع الحكم، أي: أن المقدم هو نفس موضوع الحكم، حيث يكون الحكم في التالي منوطا بالشرط في المقدم، على وجه لا يعقل فرض الحكم بدونه، نحو قولهم: (إن رزقت ولدا فاختنه)، فإنه في المثال لا يعقل فرض ختان الولد إلا بعد فرض وجوده. و منه قوله تعالى:
وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً
، فإنه لا يعقل فرض الإكراه على البغاء إلا بعد فرض إرادة التحصن من قبل الفتيات (٢).
و قد اتفق الأصوليون على إنه لا مفهوم لهذا النحو من الجملة الشرطية، لأن انتفاء الشرط معناه انتفاء موضوع الحكم، فلا معنى للحكم بانتفاء التالي على تقدير انتفاء المقدم إلا على نحو السالبة بانتفاء الموضوع. و لا حكم حينئذ بالانتفاء، بل هو انتفاء الحكم. فلا مفهوم للشرطية في المثالين، فلا يقال: «إن لم ترزق ولدا فلا تختنه»، و لا يقال: «إن لم يردن تحصنا فأكرهوهنّ على البغاء».
٢- ألا تكون مسوقة لبيان الموضوع، حيث يكون الحكم في التالي منوطا
____________
معلقا على اثنين و هكذا.
إذا: لا نستطيع أن نقول: «إذا انتفى المجي‏ء انتفى وجوب الإكرام» لما ذا؟ لعله يوجد معلق عليه ثاني مثل المرض فنقول: وجوب الإكرام معلق على المجي‏ء و على المرض. و إذا سلمنا بهذا فكيف تقول: إذا انتفى الشرط الأوّل انتفى الحكم؟ فلعله يوجد شرط ثاني موجود يقوم مقام الشرط الأول.
الجواب: يرد على السيّد المرتضى ما محصله: دعوى السيّد المرتضى بوجود شرط ثاني أو ثالث ...
بالوجود الممكن واقعا أي: أنه يمكن واقعا و هذا مما لا خلاف فيه، و لكن الاختلاف في إن هذا لا يفيد لأن المطلوب بوجود شرط ثاني يقوم مقام الشرط الأوّل على مستوى الوقوع و الفعلية لا مجرد الإمكان الواقعي؛ بل لا يفيدنا وجوده على مستوى الاحتمال إلا إذا كان الظهور مساعدا عليه. فإذا:
الظهور لا يساعده عليه أي: لا نقدر أن نعتني بهذا الاحتمال.
إذا: المراد من الشرط: الشرط الفعلي و الجزمي.
و هناك دليل ثاني على إنكار العلية الانحصارية في كفاية الأصول فراجع‏ (١).
(١) و لهذا تصح الشرطية حتى مع العلم بكذبها، و مثاله: إن كان هناك شريك فتجب عبادته.
(٢) أما لو أردنا البغاء فلا يتصور الإكراه إذ لا يتصور الإكراه لشي‏ء يردن، و لذا لا معنى لأن نقول للآية مفهوم.
____________
(١) المصدر: تقريراتي لفضيلة الأستاذ الشّيخ باقر الإيرواني في الكفاية. (بتصرف).
٢٢٧
بالشرط على وجه يمكن فرض الحكم بدونه، نحو قولهم: «إن أحسن صديقك فأحسن إليه»، فإن فرض الإحسان إلى الصديق لا يتوقف عقلا على فرض صدور الإحسان منه، فإنه يمكن الإحسان إليه أحسن أو لم يحسن.
و هذا النحو الثّاني من الشرطية هو محل النزاع في مسألتنا (١)، و مرجعه إلى النزاع في دلالة الشرطية على انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط، بمعنى: أنه هل يستكشف من طبع التعليق على الشرط انتفاء نوع الحكم المعلق- كالوجوب مثلا- على تقدير انتفاء الشرط.
و إنما قلنا: (نوع الحكم)، لأن شخص كل حكم في القضية الشرطية أو غيرها ينتفي بانتفاء موضوعه أو أحد قيود الموضوع، سواء كان للقضية مفهوم أو لم يكن (٢).
و في مفهوم الشرطية قولان أقواهما: أنها تدل على الانتفاء عند الانتفاء.
____________
(١) إن محل النزاع في الجملة الشرطية الذي يكون للموضوع وجود وراء وجود الشرط كما في قولك: إذا جاء زيد فأكرمه هنا يصح أن يقع النزاع في أنه بعد فرض انتفاء الشرط عن الموضوع هل يثبت الحكم أم لا؟
و أما الجملة المسوقة لبيان الموضوع (و هي عبارة عن عدم وجود الموضوع وراء وجود الشرط بل الشرط محقق للموضوع كما في قولك: إذا رزقت ولدا فاختنه، فإن الشرط- و هو رزقت- محقق للموضوع- و هو الولد- فالجملة مسوقة لتحقق الموضوع) لا معنى للنزاع فيها، لأن انتفاء شرطها هو انتفاء لموضوعها، و معنى ذلك: إنه بانتفاء شرطها لا يبقى موضوع حتى نتنازع عليه، فلا معنى للتنازع في إنه هل يثبت الحكم له أم لا؟
(٢) يقول فضيلة الأستاذ الشّيخ هادي آل الشّيخ راضي «حفظه الله»: بأن عبارة المصنّف تشير إلى أننا نقصد بالمفهوم هو انتفاء كلي الحكم بانتفاء الشرط، لا انتفاء شخص الحكم، لأنّ انتفاء شخص الحكم عند انتفاء الشرط شي‏ء مسلم به و لا نزاع فيه، و إنّما الكلام و النزاع في كلي الحكم هل الجملة الشرطية تدل على انتفاء كلي الحكم عند انتفاء الشرط أم لا؟
و تظهر الثمرة فيما لو ورد دليل آخر فإنه يكون معارضا للدليل الأوّل على القول بالمفهوم، و لا يكون كذلك بناء على إنكاره، فمثلا: إذا ورد دليل يقول: «إذا جاءك زيد فأكرمه»، و قلنا بالمفهوم أي: بانتفاء كلي الإكرام عن زيد عند انتفاء مجيئه، ثم ورد دليل آخر يقول: إذا مرض زيد فأكرمه، فإن هذا الدليل يكون معارضا للدليل الأوّل، و أما إذا أنكرنا المفهوم فلا يكون كذلك إذ لا مانع من إنشاء إكرام جديد.
٢٢٨

المناط في مفهوم الشرط:

إن دلالة الجملة الشرطية على المفهوم تتوقف على دلالتها- بالوضع (١) بالإطلاق (٢)- على أمور ثلاثة مترتبة:
١- دلالتها على الارتباط و الملازمة بين المقدم و التالي (٣).
٢- دلالتها- زيادة على الارتباط و الملازمة- على أن التالي معلق على المقدم و مترتب عليه و تابع له، فيكون المقدم سببا للتالي. و المقصود من السبب هنا: هو كل ما يترتب عليه الشي‏ء و إن كان (٤) شرطا و نحوه، فيكون أعم من السبب المصطلح في فن المعقول (٥).
٣- دلالتها- زيادة على ما تقدم- على انحصار السببية في المقدم، بمعنى: إنه لا سبب بديل له يترتب عليه التالي.
و توقف المفهوم للجملة الشرطية على هذه الأمور الثلاثة واضح، لأنه لو كانت الجملة اتفاقية (٦)، أو كان التالي غير مترتب على المقدم، أو كان مترتبا و لكن لا على نحو الانحصار فيه، فإنه في جميع ذلك لا يلزم من انتفاء المقدم انتفاء التالي.
و إنما الذي ينبغي إثباته هنا هو: أن الجملة ظاهرة في هذه الأمور الثلاثة وضعا أو
____________
(١) بأن يقال: بأن أداة الشرط موضوعة للدلالة على الانتفاء عند الانتفاء.
(٢) أي: يدعى بأن الشرطية بإطلاقها تدل على المفهوم بمعنى أنها بإطلاقها تدل على أن الشرط علة منحصرة، و بعبارة أخرى: أن مقتضى إطلاق الشرط هو كون الشرط علة منحصرة للجزاء، فإذا انتفى الشرط ينتفي الجزاء قهرا، و إلا لو كان الشرط ليس علة منحصرة لكان عليه التقييد إما ب «الواو» بأن يقول: «إذ جاء زيد و هو مريض فأكرمه» أو ب «أو» بأن يقول: «إذا جاء زيد أو مرض فأكرمه».
(٣) أي: هذا الارتباط يكون على نحو القضية اللزومية لا الاتفاقية.
(٤) اسم كان هو «ما» الموصولة فتكون العبارة: و إن كان ما يترتب عليه الشي‏ء شرطا.
(٥) فن المعقول: علم المنطق و الفلسفة.
فحاصل الأمر الثّاني: أن المصنّف يريد أن يقول: كما أنه يعتبر وجود تلازم بين الطرفين كذلك يعتبر وجود سببية بينهما، و مقصودنا من السببية هي: العلة التامة التي يترتب عليها المعلول، و المقصود هنا الأعم من السببية الحقيقية فيشمل الشرط الذي هو جزء السبب، و عدم المانع كما هي عند أهل المعقول، و الفرق بين السببية الحقيقة عن غيرها هي: إن الحقيقية لا يمكن انفكاك معلولها عنها كالحرارة بالنسبة للاحتراق، بخلاف غيرها.
(٦) فيكون الأمر الأوّل غير متوفر فيها، إذ لا تدل على الارتباط و الملازمة.
٢٢٩
إطلاقا لتكون حجة في المفهوم.
و الحق: ظهور الجملة الشرطية في هذه الأمور وضعا في بعضها و إطلاقا في البعض الآخر.
١- أما دلالتها على الارتباط و وجود العلقة اللزومية بين الطرفين، فالظّاهر أنه بالوضع بحكم التبادر. و لكن لا بوضع خصوص أدوات الشرط حتى ينكر وضعها لذلك (١)، بل بوضع الهيئة التركيبية للجملة الشرطية بمجموعها. و عليه: فاستعمالها في الاتفاقية يكون بالعناية و ادعاء التلازم و الارتباط بين المقدم و التالي إذا اتفقت لهما المقارنة في الوجود (٢).
٢- و أما دلالتها على أن التالي مترتب على المقدم بأي نحو من أنحاء الترتب فهو بالوضع أيضا، و لكن لا بمعنى أنها موضوعة بوضعين: وضع للتلازم و وضع آخر للترتب، بل بمعنى أنها موضوعة بوضع واحد للارتباط الخاص و هو ترتب التالي على المقدم.
و الدليل على ذلك: هو تبادر ترتب التالي على المقدم عنها، فإنها تدل على أن المقدم وضع فيها موضع الفرض و التقدير، و على تقدير حصوله: فالتالي حاصل عنده تبعا أي: يتلوه في الحصول. أو فقل: إن المتبادر منها لا بدّية الجزاء عند فرض حصول الشرط. و هذا لا يمكن أن ينكره إلا مكابر أو غافل، فإن هذا هو معنى التعليق الذي هو مفاد الجملة الشرطية التي لا مفاد لها غيره. و من هنا سموا الجزء الأوّل منها شرطا و مقدما، و سموا الجزء الثّاني جزاء و تاليا.
____________
(١) أي: حتى ينكر وضع الأداة في اللغة للارتباط.
(٢) الأصوليون كما قيل متفقون على أن الجملة الشرطية يستفاد منها الارتباط اللزومي، و هذا لا إشكال فيه، و إنّما وقع الكلام في أن هذا الارتباط اللزومي هل هو مستفاد من أدوات الشرط ك «إن»، أو مستفاد من الهيئة التركيبية للجملة الشرطية؟ المصنّف يقول: الصحيح أنه مستفاد من الهيئة التركيبية للجملة. لا إنه مستفاد من أدوات الشرط حتى يقال: بأن أدوات الشرط لم يثبت وضعها للعلقة اللزومية، و حينئذ أي: و حين قلنا بأن الهيئة الشرطية موضوعة لإفادة الارتباط اللزومي فلا بدّ حين استعمالها في الأمرين الاتفاقيين يكون استعمالا مجازيا بادعاء: أن هذين الأمرين الاتفاقيين لما حصل بينهما تقارن في الوجود الخارجي صارا متلازمين حقيقة كما إذا نهق الحمار جاء الطالب، فإن طرفي هذه الجملة اتفاقيان بلا إشكال، فاستعمال الهيئة الشرطية فيهما استعمالا مجازيا، و المصحح لذلك:
دعوى كونهما متلازمين لأجل تقارنهما في الوجود.
٢٣٠
فإذا كانت جملة إنشائية أي: أن التالي متضمن لإنشاء حكم تكليفي (١) أو وضعي (٢)، فإنها تدل على تعليق الحكم على الشرط، فتدل على انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط المعلق عليه الحكم.
و إذا كانت جملة خبرية أي: أن التالي متضمن لحكاية خبر، فإنها تدل على تعليق حكايته على المقدم، سواء كان المحكي عنه خارجا و في الواقع مترتبا على المقدم، فتتطابق الحكاية مع المحكي عنه كقولنا: إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، أو مترتب عليه (٣) بأن كان العكس كقولنا: إن كان النهار موجودا فالشمس طالعة، أو كان لا ترتب بينهما كالمتضايفين في مثل قولنا: إن كان خالد ابنا لزيد فزيد أبوه.
٣- و أما دلالتها على أن الشرط منحصر، فبالإطلاق، لأنه لو كان هناك شرط آخر للجزاء بديل لذلك الشرط- و كذا لو كان معه شي‏ء آخر يكونان معا شرطا للحكم- لاحتاج ذلك إلى بيان زائد إما بالعطف ب (أو) في الصورة الأولى، أو العطف بالواو في الصورة الثّانية، لأن الترتب على الشرط ظاهر في أنه بعنوانه الخاص مستقلا هو الشرط المعلق عليه الجزاء، فإذا أطلق تعليق الجزاء على الشرط فإنه يستكشف منه أن الشرط مستقل لا قيد آخر معه، و أنه منحصر لا بديل و لا عدل له، و إلا لوجب على الحكيم بيانه و هو- حسب الفرض- في مقام البيان (٤).
____________
(١) و مثاله: إذا جاء زيد فأكرمه.
(٢) إذا صدر منك عقد النكاح حصلت الزوجية أو إذا أصاب ثوبك بول تنجس.
(٣) هنا خطأ مطبعي و الصحيح «أو غير مترتب على المقدم ...».
(٤) قال أستاذنا فضيلة الشّيخ هادي آل الشّيخ راضي في شرح هذا المورد: بأن دلالة الجملة الشرطية على الانحصار بالإطلاق ينفي وجود سبب آخر، أي: أن إطلاق الشرط ينفي وجود سبب آخر للجزاء، و أما بيان و إثبات كون الشرط علة تامة، فنقول: إنه لو لم يكن الشرط علة تامة و سببا تاما للتأثير في الجزاء لكان على المولى التقييد، و ذكر الجزء الذي بانضمامه إلى الشرط يوجد الجزاء، و بعبارة أخرى: لو كان الشرط ليس علة تامة للجزاء بل هو علة ناقصة يحتاج إلى انضمام سبب آخر لكان على المولى أن يبين السبب الآخر، إما بالعطف ب «الواو» بأن يقول: إذا جاء زيد و هو مريض فأكرمه، و لهذا لو قال: إذا جاء زيد فأكرمه فقط، فبالإطلاق يثبت أن مجي‏ء زيد سبب تام في وجود الجزاء، و افتراض كونه جزء السبب يحتاج إلى مئونة زائدة و هو العطف عليه بالواو، و لما لم يذكر المئونة، فبالإطلاق المقابل للتقييد بالواو نثبت أن السب علة تامة، كما أنه بالإطلاق المقابل للتقييد ب «أو»
٢٣١
و هذا نظير ظهور صيغة افعل بإطلاقها في الوجوب التعيني و التعييني.
و إلى هنا تم لنا ما أردنا أن نذهب إليه من ظهور الجملة الشرطية في الأمور التي بها تكون ظاهرة في المفهوم.
و على كل حال، إن ظهور الجملة الشرطية في المفهوم مما لا ينبغي أن يتطرق إليه الشك إلا مع قرينة صارفة (١) أو تكون واردة لبيان الموضوع (٢). و يشهد لذلك:
استدلال إمامنا الصّادق (عليه السلام) بالمفهوم في رواية أبي بصير قال: (سألت أبا عبد الله عن الشاة تذبح فلا تتحرك و يهراق منها دم كثير عبيط، فقال: «لا تأكل! إن عليا كان يقول: إذا ركضت الرجل أو طرفت العين فكل»، فإن استدلال الإمام بقول علي (عليه السلام) لا يكون إلا إذا كان له مفهوم، و هو: إذا لم تركض الرجل أو لم تطرف العين فلا تأكل.

إذا تعدد الشرط و اتحد الجزاء:

و من لواحق مبحث (مفهوم الشرط) مسألة ما إذا وردت جملتان شرطيتان أو أكثر، و قد تعدد الشرط فيهما و كان الجزاء واحدا. و هذا يقع على نحوين:
١- أن يكون الجزاء غير قابل للتكرار، نحو: التقصير في السفر فيما ورد: (إذا خفي الأذان فقصّر. و إذا خفيت الجدران فقصّر) (٣).
٢- أن يكون الجزاء قابلا للتكرار كما في نحو: (إذا أجنبت فاغتسل. إذا مسست ميتا فاغتسل) (٤).
أما (النحو الأوّل): (٥) فيقع فيه التعارض بين الدليلين بناء على مفهوم الشرط،
____________
يثبت أن السبب علة تامة منحصرة لأن الشرط إذا لم يكن علة منحصرة فلا بدّ على المولى في مقام البيان أن يقيد ب «أو»، و يذكر العلة التي هي بديل، فكان عليه أن يقول: إذا جاء زيد أو مرض فأكرمه، فإذا لم يقل ذلك أي: لم يقيد ب «أو» نستفيد كون الشرط علة منحصرة؛ لأن كونه علة غير منحصرة يحتاج إلى بيان و تقييد ب «أو».
(١) و مثاله: وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً.
(٢) و مثاله: «إن رزقت ولدا فاختنه».
(٣) فإن التقصير غير قابل للتكرار، و ذلك لأنا نعلم من الخارج أن الواجب هي صلاة واحدة لا غير.
(٤) فإن الغسل قابل للتكرار، و ذلك لأنه لم يتم دليل من الخارج على أن الواجب من الغسل هو غسل واحد لا غير كما أن مقتضى القاعدة التكرار.
(٥) النحو الأوّل: و هو ما إذا كان الجزاء غير قابل للتكرار كما «إذا خفي الأذان فقصر»، «و إذا خفيت‏
٢٣٢
و لكن التعارض إنما هو بين مفهوم كل منهما مع منطوق الآخر، كما هو واضح.
فلا بد من التصرف فيهما بأحد وجهين:
الوجه الأوّل: أن نقيد كلا من الشرطين من ناحية ظهورهما في الاستقلال بالسببية، ذلك الظهور الناشئ من الإطلاق- كما سبق- الذي يقابله التقييد بالعطف بالواو، فيكون الشرط في الحقيقة هو المركب من الشرطين و كل منهما يكون جزء السبب، و الجملتان تكونان حينئذ كجملة واحدة مقدمها المركب من الشرطين، بأن يكون مؤداهما هكذا: (إذا خفي الأذان و الجدران معا فقصر) (١).
و ربما يكون لهاتين الجملتين معا حينئذ مفهوم واحد، و هو انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرطين معا أو أحدهما، كما لو كانا جملة واحدة.
الوجه الثّاني: أن نقيدهما من ناحية ظهورهما في الانحصار، ذلك الظهور الناشئ من الإطلاق المقابل للتقييد ب (أو)، و حينئذ: يكون الشرط أحدهما على البدلية، أو الجامع بينهما على أن يكون كل منهما مصداقا له، و ذلك حينما يمكن‏
____________
الجدران فقصر» هنا الجزاء غير قابل للتكرار، فحينئذ إما أن نلتزم بأن للجملة الشرطية مفهوما، و إما أن نلتزم بأن ليس لها مفهوم، و على الثّاني: لا تعارض بين الشرطيتين السّابقتين كما هو واضح، و على الأوّل: يقع التعارض بين منطوق إحداهما و مفهوم الأخرى، فإن مفهوم قوله: «إذا خفي الأذان فقصر»: إذا لم يخف الأذان فلا تقصر حتى لو خفيت الجدران، و لأجل المعارضة لا بدّ من التعرف فيهما بأحد وجهين:
الأوّل: أن نرفع اليد عن ظهور الشرط في كونه علة مستقلة و ذلك بجعله جزء العلة و المركب فيها علة، فالنتيجة: «إذا خفي الأذان و الجدران فقصر»، و عليه: لا تعارض؛ فإنه بمثابة القضية الواحدة.
الثاني: أن نرفع اليد عن ظهور الشرط في كونه علة منحصرة، و نجعل كل واحد منهما علة مستقلة مؤثرا في الجزاء، إما بعنوانه الخاص، و إما لكونه مصداقا للجامع، فإذا رفعنا اليد عن كون خفاء الأذان علة منحصرة فحينئذ: سوف يكون علة مستقلة، و حينئذ: تأثيره في الجزاء يكون على نحوين:
الأوّل: أن يكون خفاء الأذان بعنوانه الخاص أي: بما هو خفاء أذان مؤثرا في وجوب القصر.
الثّاني: أن يكون خفاء الأذان بما هو مصداق للجامع مؤثرا في الجزاء، و ليس بعنوانه الخاص.
(١) فالجزاء (وجوب القصر) مترتب على كلا الشرطين، و لا يترتب على أحدهما، كما لا يترتب على غيرهما، فالشرطان ينفيان شرطية شي‏ء آخر للجزاء. و مرجع هذا الوجه إلى رفع اليد عن ظهور كل من الشرطين في الاستقلال، و جعل كل منهما جزء الموضوع، و المجموع شرطا واحدا نافيا لدخل غيرهما في الجزاء.
٢٣٣
فرض الجامع بينهما و لو كان عرفيا (١).
و إذ يدور الأمر بين الوجهين في التصرف، فأيهما أولى؟ هل الأولى تقييد ظهور الشرطيتين في الاستقلال، أو تقييد ظهورهما في الانحصار؟ قولان في المسألة (٢).
و الأوجه- على الظّاهر- هو: التصرف الثّاني (٣)؛ لأن منشأ التعارض بينهما هو ظهورهما في الانحصار الذي لزم منه الظّهور في المفهوم، فيتعارض منطوق كل منهما مع مفهوم الآخر كما تقدم، فلا بد من رفع اليد عن ظهور كل منهما في الانحصار، بالإضافة إلى المقدار الذي دل عليه منطوق الشرطية الأخرى، لأن ظهور المنطوق أقوى، أما ظهور كل من الشرطيتين في الاستقلال فلا معارض له حتى ترفع اليد عنه.
و إذا ترجح القول الثّاني- و هو التصرف في ظهور الشرطين في الانحصار- يكون كل من الشرطين مستقلا في التأثير، فإذا انفرد أحدهما كان له التأثير في ثبوت الحكم. و إن حصلا معا، فإن كان حصولهما بالتعاقب كان التأثير للسابق. و إن تقارنا كان الأثر لهما معا و يكونان كالسبب الواحد، لامتناع تكرار الجزاء حسب الفرض.
____________
*** (١) يعني: لا يشترط أن يكون الجامع حقيقيا، كما في الإنسان الجامع لأفراده بل يكفي أن يكون جامعا عرفيا أي: يكون راجعا إلى اصطلاح العرف على الجامع الذي يجمع بين هذين الشرطين «خفاء الجدران و خفاء الأذان» بعنوان أحدهما أو غيره، و إلى حدّ الآن كلامنا ثبوتي، يعني: في الواقع يمكن حل التعارض بهذين الوجهين.
(٢) و من بعد أن انتهينا من مرحلة الثبوت ندخل في مرحلة الإثبات، أي: أيهم أولى بالتصرف و التقديم هل الوجه الأوّل أو الثّاني؟
(٣) مال صاحب الكفاية إلى هذا التصرف قائلا ... و لعل العرف يساعد على التصرف الثاني، كما أن العقل ربما يعين هذا الوجه، ثم قام بتقريب حكم العقل بما حاصله: إن الأمور المتعددة بما هي مختلفة لا يمكن أن يكون كل منهما مؤثرا في واحد، بمعنى: لا يمكن أن تجتمع علتان على واحد، أي: أن قاعدة عدم صدور الواحد إلا عن الواحد تقتضي عدم تأثير الشرطين المختلفين بما أنهما متعددان في واحد و هو الجزاء، بل لا بدّ من إرجاع المتعدد إلى الواحد حتى يكون هو المؤثر، فكل من الشرطين إنما يؤثر بلحاظ الجامع الذي هو الشرط حقيقة و ينطبق عليه، و هذه القاعدة العقلية تعين هذا التصرف، و تجعل الشرط المؤثر الجامع الوحداني المنطبق على كل واحد من الشرطين‏ (١).
____________
(١) منتهى الدراية في شرح الكفاية، ج ٣، ص ٣٦٥ (جمعا ما بين المتن و الشرح).
٢٣٤
و أما (النحو الثّاني) (١) و هو: إذا ما إذا كان الجزاء قابلا للتكرار- فهو على صورتين:
____________
(١) إذا جاءت جملتان شرطيتان شرطهما متعدد في قولك: «إذا نمت فتوضأ، و إذا بلت فتوضأ» فالشرط هنا متعدد. فالسؤال: هل يتعدد الجزاء بتعدد الشرط أم لا؟
هذا ما سوف يبحث عنه هنا.
- المشهور من العلماء قالوا: بعدم تداخل الوجوبين، و المحقق الخونساري أيضا كذلك.
- و الحلي صاحب السرائر قال: بالتفصيل، فإذا كان جنس الشروط مختلفا- مثل: المثال الآنف الذكر- بأن أحد الشرطين جنسه البول و الثاني جنسه النوم هنا لا يتداخلان.
- و أما إذا كان الجنس واحدا يعني: نفترض أنه بال مرتين أو نام مرتين، فهنا جنس الشرط واحد فيتداخلان.
- قال الآخوند الخراساني صاحب الكفاية: و التحقيق أن يقال: أنه في هاتين الشرطيتين يوجد ظهوران متنافيان لا يمكن أن نأخذ بظهور الاثنين فعند ما نقول: ظاهر الجملة الشرطية حدوث الجزاء عند حدوث الشرط أي: كلما بال الإنسان حدث وجوب للوضوء، إذا: ظاهر كل شرطية أنه كلما حدث الشرط حدث الجزاء.
- و كذلك يوجد ظهور ثاني و هو: أن ظاهر هاتين الشرطيتين أن الجزاء «أي: وجوب الوضوء» متعلق بحقيقة واحدة يعني: الوجوب الذي يحدث عند البول، و الوجوب الذي يحدث عن النوم متعلق بحقيقة و طبيعة واحدة و هي الوضوء أي: الوضوء طبيعة واحدة ينصب عليها الوجوب عند البول و ينصب عليها الوجوب عند النوم. إذا: ظاهر الجزاء في كلتا الشرطيتين أنها طبيعة واحد. ثم عقب صاحب الكفاية بعد هذه المقدمة في بيان كل من الظهورين قائلا: الظهور الأول ينافي الظهور الثاني و لا يجتمعان لما ذا؟ لأن مقتضى الظهور الأول «إذا بلت فتوضأ» أي: إذا حدث البول وجب الوضوء، و بعد ذلك «نام» فيحدث وجوب ثاني للوضوء، إذا: هنا وجوبان بمقتضى الظهور الأول.
- و أما الظهور الثاني الذي يقول: إن متعلق الوجوب طبيعة واحدة. فالنتيجة تكون بعد ضم الظهور الأول إلى الثاني: أن كلا الوجوبين منصبان على حقيقة واحدة، و يلزم من هذا اجتماع المثلين و هو مستحيل.
إذا: تحقيق الآخوند (قدس سره) انطلاقا من هذه النقطة و هي: إن لكل جملة ظهورين لا يمكن الجمع بينهما، و لا يمكن التفصي و التخلص من هذا المحذور إلا بالالتزام بعدم التداخل، بأن يقال: المسبب في كل واحد من الشرطين أو الشروط وجود من الطبيعة مغاير لوجودها في الشرط الآخر، فعلى القول بعدم التداخل لا يلزم غائلة اجتماع المثلين، و لا التصرف في ظاهر القضية الشرطية من حدوث الجزاء بحدوث الشرط، و بالعكس على القول بالتداخل لا بدّ من التصرف في ظاهر القضية الشرطية.
- و أما على القول بالتداخل: فلا بد من التصرف في ظاهر القضية الشرطية بأحد الوجوه الثلاثة، بمعنى:
٢٣٥
١- أن يثبت الدليل أن كلا من الشرطين جزء السبب. و لا كلام حينئذ في أن الجزاء واحد يحصل عند حصول الشرطين معا.
____________
- إننا قلنا أن ظهور الجملة الشرطية في حدوث الجزاء عند حدوث الشرط، و اقتضاء هذا الظهور تعدد الجزاء عند تعدد الشرط يوجبان الاستحالة، لاستلزام هذين الظهورين اجتماع الوجوبين على موضوع واحد- و هو الجزاء- و اجتماع الوجوبين اللذان هما مثلان محال، و هذا لازم القول بالتداخل، و منشأ هذه الاستحالة هو التمسك بهذين الظهورين: ظهور الجملة الشرطية في الحدوث عند الحدوث، و ظهورها في تعدد الجزاء عند تعدد الشرط. فلا بدّ على القول بالتداخل من التصرف في ظاهر القضية الشرطية بأحد الوجوه الثلاثة:
الوجه الأول: الالتزام بعدم دلالة الجملة الشرطية- في حال تعدد الشرط- على الحدوث عند الحدوث، بل على مجرد الثبوت. و عند ما نقول بالتداخل يعني: يحدث وجوب واحد و هو وضوء واحد لكل من النوم، و البول. و إن كان التعبير بالتداخل فيه مسامحة لأن التداخل فرع الاثنينية. إذا:
القائل بالتداخل يخالف الظهور الذي ذكرناه و هو أن ظاهر كل شرطية الحدوث عند الحدوث. نقول هنا: ظاهر الشرطية الثبوت عند الثبوت، فعند ما يبول المكلف ثم ينام نقول بالتداخل هنا في الجزاء أي:
وجوب وضوء واحد فقط.
و بعبارة أخرى: لهذا التصرف- كما عن المروج-: مرجع هذا التصرف إلى التصرف في ظهور الشرط في كونه علة لحدوث الجزاء برفع اليد عن ظهوره في ذلك، و إرادة ثبوت الجزاء عند ثبوته، و الثبوت أعم من الحدوث و البقاء، ففي صورة تقارن الشرطين زمانا يستند ثبوت الجزاء إلى الجامع بينهما، و في صورة ترتبهما و تقدم أحدهما على الآخر زمانا يستند ثبوت الجزاء إلى المتقدم منهما، فقوله: «إذا نمت فتوضأ» يدل على ثبوت وجوب الوضوء عند ثبوت النوم، فإن لم يسبقه البول مثلا استند حدوث الجزاء إلى النوم، و إن سبقه استند إليه، و إن قارنه استند إلى الجامع بينهما.
الوجه الثاني لمخالفة الظهور: و مرجع هذا التصرف إلى إبقاء الشرط على ظاهره من كونه علة لحدوث الجزاء، و إلغاء ظهور الجزاء مع كونه بعنوانه موضوعا للحكم. و بعبارة واضحة نقول: قلنا سابقا: إن ظاهر الجزاء (الوضوء) حقيقة و طبيعة واحدة. هنا نخالف ظهور الجزاء في هذا المعنى فنقول: إن الوضوء و إن كانت صورته واحدة، و لكن حقيقة مختلفة بمعنى: أن الوضوء مثلا الذي وجب تارة بالنوم له حقيقة، و الوضوء الذي وجب بالبول له حقيقة ثانية تختلف عن الحقيقة الأولى، و كذلك الوضوء الذي وجب بمس الميت له حقيقة ثالثة تختلف عن الأولى و الثانية، و هكذا تتعدد الحقائق حسب تعدد الشرط. إذا: لم يلزم اجتماع وجوبين على حقيقة واحدة. إذا: نقول: في موردنا و في المثال المذكور أعلاه يوجد ثلاثة وجوبات منصبات على ثلاث حقائق؛ و لكن كل هذه الوجوبات صادقة على هذا «الوضوء الواحد»، فأستطيع أن أقول: إن هذا الوضوء الواحد يصدق أني امتثلت بهذه الأوامر الثلاثة.
إذا: صدق على واحد «الوضوء الواحد» مع كونه حقائق متعددة، و هذا من قبيل وجوب إكرام‏
٢٣٦
٢- أن يثبت من دليل مستقل أو من ظاهر دليل الشرط أن كلا من الشرطين سبب مستقل- سواء كان للقضية الشرطية مفهوم أم لم يكن- فقد وقع الخلاف فيما إذا اتفق وقوع الشرطين معا في وقت واحد أو متعاقبين: أن القاعدة أي شي‏ء تقتضي؟ هل تقتضي تداخل الأسباب فيكون لها جزاء واحد كما في مثال تداخل‏
____________
هاشمي، و إضافة عالم، فإن الذمة و إن اشتغلت بتكليفين «وجوب إكرام الهاشمي» «و وجوب إضافة العالم» إلا أنه إذا أضاف عالما هاشميا، فقد برئت ذمته من كليهما، لأنه يصدق حينئذ امتثالهما معا.
و هذا معنى التداخل.
الوجه الثالث: رفع اليد عن ظهور القضية الشرطية في كون الشرط سببا مستقلا لوجود الجزاء، فيكون الشرط الأول «إذا بلت» مؤثرا في وجود الجزاء في الجملة «وجوب الوضوء»، و الشرط الثاني «إذا نمت» مؤثرا في تأكد «وجوب الوضوء» الذي هو مرتبة شديدة من مراتب وجود الجزاء. و النتيجة:
يكون هناك تداخل.
و بعبارة أخرى في بيان هذا التصرف على حد تعبير صاحب الكفاية (بتصرف): «الالتزام بحدوث الأثر (وجوب الوضوء) عند وجود كل شرط إلا أن الأثر كوجوب الوضوء في المثال عند الشرط الأول (وجوب الوضوء عقيب النوم)، و تأكد وجوبه عند الشرط الثاني (وجوب الوضوء عند البول)، فالأثر الحادث عقيب الشرط الأول أصل الوجوب، و عقيب الشرط الثاني تأكده.
- و الحق: إن القاعدة فيه عدم التداخل، و من هنا يبدأ الشروع في إبطال هذه الوجوه الثلاثة من التصرف و ترجيح القول بعدم التداخل، فإن الوجوه الثلاثة المذكورة التي هي مبنى التداخل بأنها مجرد احتمالات في مقام الثبوت، و هي لا تجدي في دفع إشكال اجتماع المثلين ما لم يقم دليل خاص عليها في مقام الإثبات، فيكون رفع اليد عن الظاهر من دون دليل خاص بلا وجه يوجبه. هذا إشكال مشترك يرد على جميع الوجوه الثلاثة. و أما الوجه الثاني و الثالث نخصصهما بإشكال، و محصله هو:
«إنه لا بدّ في التصرف الأول منهما من إثبات كون الوضوء في قوله: «إذا بلت فتوضأ و إذا نمت فتوضأ» متعددا حقيقة، حتى يكون الوضوء الخارجي مصداقا لطبيعتين. و إثبات ذلك مشكل جدا، لعدم نهوض دليل عليه» (١).
و بعبارة أخرى: قال صاحب الكفاية (قدس سره): و لا يخفى إنه لا وجه لأن يصار إلى واحد من التصرفات الثلاثة، فإن المصير إلى واحد من هذه التصرفات الثلاثة رفع اليد عن الظاهر بلا وجه، و مضافا إلى هذا الإشكال المشترك بينهم نضيف على الوجه الثاني و الثالث إشكالا آخر و هو: أنهما بحاجة إلى إقامة دليل خاص، و حيث لا دليل على ذلك حيث أن التصرف الثاني يقول: الوضوء حقائق متعددة صادقة على واحد و هذا لا دليل عليه، و هكذا التصرف الثالث يحتاج إلى دليل أيضا أي: أن التصرف الثالث القائل بالحادث بالشرط الثاني ما هو إلا تأكيد للوجوب الأول، و هذا يحتاج إلى دليل و لا دليل على ذلك.
____________
(١) منتهى الدراية في شرح الكفاية، ج ٣، ص ٣٧٧.
٢٣٧
موجبات الوضوء من خروج البول أو الغائط و النوم و نحوها، أم تقتضي عدم التداخل فيتكرر الجزاء بتكرار الشرط، كما في مثال تعدد وجوب الصلاة بتعدد أسبابه من دخول وقت اليومية و حصول الآيات؟
أقول: لا شبهة في أنه إذا ورد دليل خاص على التداخل أو عدمه وجب الأخذ بذلك الدليل.
و أما مع عدم ورود الدليل الخاص فهو محل الخلاف. و الحق: أن القاعدة فيه عدم التداخل.
بيان ذلك:
أن لكل شرطية ظهورين:
١- ظهور الشرط فيها (١) في الاستقلال بالسببية. و هذا الظهور يقتضي أن يتعدد الجزاء في الشرطيتين موضوعتي البحث، فلا تتداخل الأسباب.
٢- ظهور الجزاء فيها (٢) في أن متعلق الحكم فيه صرف الوجود (٣). و لما كان صرف الشي‏ء لا يمكن أن يكون محكوما بحكمين، فيقتضي ذلك أن يكون لجميع الأسباب جزاء واحد و حكم واحد عند فرض اجتماعها. فتتداخل الأسباب (٤).
____________
إذا: الوجه الثاني و الثالث يحتاجان إلى إثبات أن متعلق الجزاء متعدد متصادق على واحد، و حيث لا إثبات و لا دليل على ذلك فعلى هذا لا يمكن بالقول بالتداخل، و يتعين على هذا: القول بعدم التداخل.
- فتلخص من عدم الدليل على شي‏ء من التصرفات الثلاثة المذكورة: أن قضية ظاهر الجملة الشرطية و هو حدوث الجزاء عند حدوث الشرط، بحيث يكون لكل شرط جزاء مستقل، و من المعلوم: أن هذا يقتضي عدم التداخل عند تعدد الشرط. هذا محصل ما ذكره صاحب الكفاية في كفايته. و هناك تفصيل فمن أراد الزيادة فليراجع الكفاية.
(١) يعود الضمير إلى الشرطية.
(٢) يعود الضمير إلى الشرطية.
(٣) يعني: صرف تحقق الطبيعة في الخارج المتحقق بوجود الفرد الأوّل.
(٤) إذا تمسكنا بظهور الجزاء في أن متعلق الحكم في الجزاء هو صرف الوجود أو قل: هو ذات الطبيعة لا الأفراد، فلا بدّ من الالتزام بتداخل الأسباب؛ و إلا للزم اجتماع حكمين متماثلين على طبيعة واحدة و هو محال، و بيان ذلك: إذا قال المولى: إذا بلت فتوضأ، و إذا نمت فتوضأ. فظاهر قوله: فتوضأ هو كون الحكم بالوجوب متعلق بطبيعة الوضوء لا أفراده و إلا لقال: فتوضأ مرة أخرى، و إذا كان متعلق الحكم في الجزاء هو ذات الطبيعة، فلا بدّ أن نلتزم بتداخل الأسباب؛ و إلا لو لم نلتزم بتداخل الأسباب للزم اجتماع حكمين على طبيعة واحدة، و هو الوضوء، و هو محال كمحالية الضدين.
٢٣٨
و على هذا، فيقع التنافي بين هذين الظهورين، فإذا قدمنا الظهور الأول لا بد أن نقول بعدم التداخل. و إذا قدمنا الظهور الثّاني لا بد أن نقول بالتداخل، فأيهما أولى بالتقديم؟ و الأرجح أن الأولى بالتقديم ظهور الشرط على ظهور الجزاء، لأن الجزاء لما كان معلقا على الشرط فهو تابع له ثبوتا (١) و إثباتا (٢)، فإن كان واحدا كان الجزاء واحدا و إن كان متعددا كان متعددا. و إذا كان المقدم متعددا- حسب فرض ظهور الشرطيتين- كان الجزاء تبعا له. و عليه: لا يستقيم للجزاء ظهور في وحدة المطلوب (٣). فيخرج المقام عن باب التعارض بين الظهورين، بل يكون الظهور في التعداد رافعا للظهور في الوحدة (٤)، لأن الظهور في الوحدة لا يكون إلا بعد فرض سقوط الظهور في التعداد أو بعد فرض عدمه (٥)، أما مع وجوده (٦): فلا ينعقد الظهور في الوحدة.
فالقاعدة في المقام- إذا- (عدم التداخل). و هو مذهب أساطين العلماء الأعلام (قدس الله أسرارهم).

تنبيهان:

١- تداخل المسببات:

إن البحث في المسألة السابقة إنما هو عما إذا تعددت الأسباب، فيتساءل فيها عما إذا كان تعددها يقتضي المغايرة في الجزاء و تعدد المسببات- بالفتح- و لا يقتضي فتتداخل الأسباب، و ينبغي أن تسمى (بمسألة تداخل الأسباب).
و بعد الفراغ عن عدم تداخل الأسباب هناك، ينبغي أن يبحث إن تعدد المسببات إذا كانت تشترك في الاسم و الحقيقة كالأغسال هل يصح أن يكتفى عنها بوجود واحد لها أو لا يكتفى؟
____________
(١) أي: واقعا.
(٢) أي: بحسب الدلالة.
(٣) يعني: لا يبقى ظهور للجزاء في أن متعلق الحكم فيه صرف الوجود أي: ذات الطبيعة؛ حتى يلزم اجتماع حكمين متماثلين على طبيعة واحدة.
(٤) يعني: يكون ظهور الشرط في تعداد الشرط رافعا لظهور الجزاء في وحدة متعلق الحكم.
(٥) أي: عدم الظهور في التعداد.
(٦) أي: مع وجود الظهور في التعداد.
٢٣٩
و هذه مسألة أخرى عند ما تقدم تسمى (بمسألة تداخل المسببات)، و هي من ملحقات الأولى.
و القاعدة فيها أيضا: عدم التداخل.
و السر في ذلك: أن سقوط الواجبات المتعددة بفعل واحد و إن أتى به بنية امتثال الجميع يحتاج إلى دليل خاص، كما ورد في الأغسال بالاكتفاء بغسل الجنابة عن باقي الأغسال، و ورد أيضا جواز الاكتفاء بغسل واحد عن أغسال متعددة، و مع عدم ورود الدليل الخاص فإن كل وجوب يقتضي امتثالا خاصا به لا يغني عنه امتثال الآخر؛ و إن اشتركت الواجبات في الاسم و الحقيقة.
نعم قد يستثنى من ذلك: ما إذا كان بين الواجبين نسبة العموم و الخصوص من وجه، و كان دليل كل منهما مطلقا بالإضافة إلى مورد الاجتماع، كما إذا قال مثلا-:
تصدق على مسكين، و قال- ثانيا-: تصدق على ابن سبيل، فجمع العنوانين شخص واحد بأن كان فقيرا و ابن سبيل فإن التصدق عليه يكون مسقطا للتكليفين (١).

٢- الأصل العملي في المسألتين:

إن مقتضى الأصل العملي عند الشك في تداخل الأسباب: هو التداخل لأن تأثير السببين في تكليف واحد متيقن، و إنما الشك في تكليف ثان زائد. و الأصل في مثله البراءة (٢).
و بعكسه في مسألة تداخل المسببات، فإن الأصل يقتضي فيه عدم التداخل كما مرت الإشارة إليه، لأنه بعد ثبوت التكاليف المتعددة- بتعدد الأسباب- يشك في سقوط التكاليف الثّابتة لو فعل فعلا واحدا. و مقتضى القاعدة- في مثله- الاشتغال، بمعنى: أن الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، فلا يكتفي بفعل واحد في مقام الامتثال (٣).
____________
(١) و وجه الافتراق: قد يكون المسكين ليس ابن سبيل، و قد يكون العكس.
(٢) و مثاله: البول و النوم تأثيرهما في وجوب واحد، و هو الوضوء، و هذا أمر متيقن منه، و نشك في تأثيرهما في وجوب آخر، و الأصل جريان البراءة عن وجوب الوضوء مرة أخرى، أي: الأصل عدم وجوب آخر.
(٣) و مثاله: لو كان عندنا سببان يؤثران في مسببين، فحينما نأتي بمسبب واحد، سوف نشك في حصول الامتثال في فراغ الذمة، لأن ذمتنا قد اشتغلت بمسببين، و نحن أتينا بمسبب واحد، فحينئذ:
سوف نشك في كونه مسقطا لما اشتغلت به ذمتنا، و الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.
٢٤٠
الثّاني- مفهوم الوصف (١):

مفهوم الوصف:

(١) المراد بمفهوم الوصف: دلالة اللفظ بصفة على انتفاء الحكم عن غير الموصوف، فإذا قلت: «أكرم رجلا فقيرا» أفاد بمنطوقة الأمر بإكرام الفقير، و بمفهومه- بناء على القول بمفهوم الوصف- النهي عن إكرام الغني.
س: ما المقصود من الوصف؟
ج: كل لفظ يضيّق من معنى الموصوف و يقلل من شموله سواء كان نعتا نحويا مثل: أكرم رجلا فقيرا، أو مضافا نحو: في سائمة الغنم زكاة، أو ظرفا أو مجرورا نحو: أطعم رجلا يوم الجمعة، و تصدق على رجل من الفقراء ...
إذا: المقصود من الوصف المبحوث عنه لا بدّ أن يكون أخص من الموصوف كالأمثلة المذكورة، فإن كلا من الرجل و الغنم له أكثر من وصف، و ذكر الوصف الواحد بالخصوص يضيّق من مدلول الموصوف و يحدّ من معناه الشامل. و أيضا يتضح: أن الوصف المساوي للموصوف خارج عن محل الكلام مثل: لا تذكر أمس الدابر، و أكرم زيدا أخاك، حيث ينتفي الموصوف بانتفاء الوصف و لا يبقى للمفهوم من مكان، و مثله تماما: الوصف الأعم من الموصوف كقولك: ارفق بزيد لأن له كبدا رطبة، و النبي (صلى الله عليه و آله) يقول: «في كل كبد رطبة أجر» حيث لا يشذ عن هذا التعليل فرد من الأفراد كي يثبت له حكم المفهوم‏ (١).
- و يشمل الوصف الضمني: كقوله (صلى الله عليه و آله): «لئن يمتلئ بطن الرجل قيحا خير من أن يمتلئ شعرا»، حيث أن امتلاء البطن كناية عن الشعر الكثير، فمفهومه- و بناء على القول بمفهوم الوصف- عدم البأس بالشعر القليل.
- قد وقع الخلاف بين العلماء في إنه هل له مفهوم أو لا؟
قال الآخوند صاحب الكفاية: بعدم ثبوت مفهوم الوصف؛ و ذلك لعدم ثبوت الوضع بمعنى: أنه قد استدل لمفهوم الوصف بوضعه للدلالة على العلية المنحصرة التي هي الخصوصية المستلزمة لانتفاء الحكم عند انتفاء الوصف. و هذا الاستدلال غير سديد، لعدم ثبوت هذا الوضع.
- و بعبارة أخرى نقول: القائل بأن منشأ المفهوم الوضع بمعنى أن تقول: الواضع وضع الرجل الهاشمي أي: الوصف لإفادة المفهوم يعني: الدلالة على إن غير الهاشمي لا تكرمه. و لكن كيف تثبت أن الوصف موضوع لإفادة المفهوم؟ لا دليل على ذلك، فلو كان الوصف موضوع للمفهوم لازم هذا: لو استعملت الوصف لا لإفادة المفهوم يكون هذا الاستعمال مجازيا، مع إننا لا نشعر بالمجازية أبدا. إذا:
هذا المنشأ باطل.
- و إما ندعي بأن منشأ المفهوم لزوم اللغوية، بمعنى: أنه لو لم يدل الوصف على المفهوم لكان ذكره لغوا و عليه: لا بدّ من الالتزام بالمفهوم. قال صاحب الكفاية ردا على هذا: بأنه لا يلزم اللغوية بدون الوصف‏
____________
(١) راجع علم أصول الفقه في ثوبه الجديد، ص ١٥٥.
٢٤١
لعدم انحصار الفائدة في المفهوم، فلعل ذكر الهاشمي لأجل زيادة الاهتمام لا إن الفائدة منحصرة به.
بمعنى: قد يكون ذكر الهاشمي لمزيد الاهتمام به و إن كان الإكرام مشتركا بين الهاشمي و غيره. إذا: لا يلزم اللغوية في ذكر الوصف (الهاشمي).
- و إما ندعي بأن منشأ المفهوم هو الانصراف إلى كون الوصف علة منحصرة لثبوت الحكم، فيلزم انتفاء سنخ الحكم بانتفاء الوصف.
- و بعبارة أخرى نقول: من الأمور التي استدل بها على ثبوت المفهوم للوصف: دعوى الانصراف بأن نقول: المنصرف من قولك: «أكرم الرجل الهاشمي» إن غير الهاشمي لا تكرمه. أجاب صاحب الكفاية على هذه الدعوى قائلا بمنع الانصراف و إنه لم يثبت هذا.
- من الأمور التي استدل بها على ثبوت المفهوم للوصف: ما ذهب إليه العلامة الحلي القائل: بأن الصوف يشعر بالعلية، و الوصف الذي يكون علة يثبت له المفهوم بخلاف الذي لا يكون علة لا يثبت المفهوم له. فعند ما أقول: «أكرم الرجل الهاشمي» فإكرامه لأجل أنه هاشمي: إذا: ذكر الهاشمي يشعر بالعلية، و لازم هذا: إن غير الهاشمي لا يثبت له الإكرام لانتفاء علة الإكرام. إذا: هناك تفصيل في هذا المورد بين الوصف الذي يكون علة، و الذي لا يكون علة و في الأول يثبت المفهوم دون الثاني.
- صاحب الكفاية يرد على هذا قائلا: صحيح أن الوصف مشعر بالعلية إلا أنها منحصرة فيه، و عليه:
لا تقتضي المفهوم، لما مر سابقا من إن العلة ما لم تكن منحصرة لا تدل على المفهوم لأنها لا توجب الانتفاء عند الانتفاء. إذا: مجرد إن الوصف مشعر بأصل العلية هذا لا يفيد في إثبات المفهوم إلا إذا دلت على الوصف قرينة خاصة على أنها علة منحصرة؛ إلا أن هذا أجنبي عن موضوع البحث، إذ موضوعه كون الوصف بنفسه دالا على الانحصار المستلزم للمفهوم، لا بقرينة خارجية.
- من الأمور التي استدل على ثبوت المفهوم للوصف أيضا. و حاصله أن الأصل في القيد الاحترازية التي لازمها انتفاء الحكم بانتفائه. فإذا قال: «وقفت هذه المدرسة مثلا على طلاب العلم المتهجدين» كان التهجد قيدا، فإذا ترك الطالب التهجد خرج عن دائرة الموقوف عليهم، فترك التهجد الذي هو قيد يوجب انتفاء الوقف، و لا نعني بالمفهوم إلا انتفاء الحكم بانتفاء القيد.
- أجاب صاحب الكفاية على هذا الاستدلال قائلا: «إن احترازية القيد لا تدل على ثبوت المفهوم للوصف لأن مقتضى الاحترازية تضيق دائرة الموضوع، و من المعلوم: أن انتفاء قيد الموضوع كانتفاء تمامه في ارتفاع شخص الحكم الثابت للموضوع، و قد مر سابقا: إن المفهوم ليس انتفاء شخص الحكم، لأن ارتفاعه عقلي، و ليس مرتبطا بالمفهوم و دلالة اللفظ عليه، حيث أن الحكم المنفي في المفهوم هو السنخ، لا الشخص، و المنفي بانتفاء القيد هو الشخص لا السنخ، فانتفاء الحكم بانتفاء القيد أجنبي عن باب المفهوم» (١).
و بعبارة أخرى أقول: نحن نسلم بأن مقتضى القيود الاحترازية بأن كل قيد يذكر في الكلام يكون من باب الاحتراز هذا هو الأصل في القيود؛ إلا إنه لا يكفي في ذكر القيد تضيق دائرة الموضوع؛ بأن يراد
____________
(١) راجع: منتهى الدراية في شرح الكفاية ج ٣، ص ٤٠١.
٢٤٢

موضوع البحث:

المقصود بالوصف هنا: ما يعم النعت و غيره، فيشمل الحال (١) و التمييز (٢) و نحوهما مما يصلح أن يكون قيدا لموضوع التكليف. كما أنه يختص بما إذا كان معتمدا على موصوف، فلا يشمل ما إذا كان الوصف نفسه موضوعا للحكم نحو:
وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما،
فإن مثل هذا يدخل في باب مفهوم اللقب.
____________
من ذكر القيد بيان أن هذا الحكم الشخصي ثابت لهذا الحكم الشخصي و هو أن الحكم الموقوف عليهم خصوص طلاب المتهجدين فقط و غير ثابت لغيرهم، و هذا لا ينافي ثبوت حكم آخر في الموقوف عليهم على غير المتهجدين. و المفهوم كما قلنا سابقا هو انتفاء سنخ طبيعي الحكم. و هنا بذكر القيد أقصى ما يستفاد منه أن شخص هذا الحكم موضوعه خاص، و لا يدل على إنه لا يوجد حكم آخر تثبت له الوقفية.
- من الأمور التي استدل على ثبوت المفهوم للوصف أيضا- و هذا المورد منسوب إلى الشّيخ البهائي- و حاصله: أن حمل المطلق على المقيد يشهد بثبوت المفهوم للوصف. فلو لم يكن للوصف مفهوم لما صح حمل المطلق على القيد فلو قيل: «أعتق رقبة» كان مقتضاه إجزاء كل رقبة و إن كانت كافرة و إذا قال: «أعتق رقبة مؤمنة» كان المفهوم عدم إجزاء الرقبة إن كانت كافرة، و هذا المفهوم يقيد إطلاق الرقبة، فلو لم يكن للوصف مفهوم لم يحصل التنافي الموجب لحمل المطلق على المقيد.
- أجاب صاحب الكفاية على هذا الاستدلال قائلا: إن حمل المطلق على المقيد ليس لأجل دلالة الوصف على المفهوم بل لأجل كون المطلوب صرف الوجود من الطبيعة، لا مطلق الوجود، فدليل التقييد قرينة على المراد، و إن موضوع الحكم ليس مطلقا، بل هو مقيد بقيد الإيمان في المثال المزبور، فبانتفاء القيد ينتفي شخص الحكم عن موضوعه، و قد مر أن انتفاءه عن موضوعه عقلي، و أجنبي عن المفهوم الذي هو انتفاء سنخ الحكم، فالتنافي بين المطلق و المقيد الموجب للتقييد ناش عن كون الموضوع صرف الوجود المنطبق على أول الوجود، سواء كان مؤمنا أم كافرا على ما يقتضيه الأمر بالمطلق كالرقبة، و دليل القيد يدل على تقيد المطلق بقيد بحيث لا يسقط الأمر بفاقد القيد.
فوجه حمل المطلق على المقيد هو: تضيق دائرة الموضوع، و مطلوبية صرف الوجود الواجد للقيد، فالفاقد له غير محكوم بحكم الواجد، لعدم كونه موضوعا، فانتفاء الحكم عن الفاقد أجنبي عن المفهوم.
- فالنتيجة: أن باب تقييد الإطلاقات أجنبي عن مفهوم الوصف، و ليس دليلا على ثبوت المفهوم للوصف‏ (١).
(١) و مثاله: أكرم زيدا راكبا.
(٢) و مثاله: اشتر قفيز بر.
____________
(١) راجع: منتهى الدراية في شرح الكفاية، ج ٣، ص ٤٠٣.
٢٤٣
و السر في ذلك: أن الدلالة على انتفاء الوصف لا بد فيها من فرض موضوع ثابت للحكم يقيد بالوصف مرة و يتجرد عنه أخرى حتى يمكن فرض نفي الحكم عنه.
و يعتبر- أيضا- في المبحوث عنه هنا: أن يكون أخص من الموصوف مطلقا أو من وجه، لأنه لو كان مساويا أو أعم مطلقا لا يوجب تضييقا و تقييدا في الموصوف، حتى يصح فرض انتفاء الحكم عن الموصوف عند انتفاء الوصف (١).
و أما دخول الأخص من وجه في محل البحث فإنما هو بالقياس إلى مورد افتراق الموصوف عن الوصف، ففي مثل: (في الغنم السائمة زكاة) يكون مفهومه- لو كان له مفهوم-: عدم وجوب الزكاة في الغنم غير السائمة و هي المعلوفة. و أما بالقياس إلى مورد افتراق الوصف عن الموصف: فلا دلالة له على المفهوم قطعا، فلا يدل المثال على عدم الزكاة في غير الغنم السائمة أو غير السائمة كالإبل- مثلا- لأن الموضوع- و هو الموصوف الذي هو الغنم في المثال- يجب أن يكون محفوظا في المفهوم و لا يكون متعرضا لموضوع آخر لا نفيا و لا إثباتا.
فما عن بعض الشافعية من القول بدلالة القضية المذكورة على عدم الزكاة في الإبل المعلوفة لا وجه لا قطعا (٢).
____________
(١) بل قد يقال: حتى لو قلنا برجوع الوصف للحكم يمكن لنا منع دلالة الجملة الوصفية على المفهوم، و ذلك لأن مجرد كون الوصف قيدا للحكم لا يثبت كون المعلق عليه هو طبيعي الحكم، بل جاز أن يكون المعلق عليه هو شخص الحكم، و هذا لا ينفع لإثبات المفهوم، فإن قلت: نتمسك بالإطلاق لإثبات ذلك، قلت: الإطلاق لا يجري في النسب الناقصة كالجملة الوصفية، و عليه: حتى لو قلنا برجوع القيد للحكم فإنه لا مفهوم لها.
(٢) قلنا «في الغنم السائمة زكاة»: إن السائمة أعم و أخص من وجه من الغنم، و ذلك باعتبار إنه ليس كل سائمة غنم بل قد تكون سائمة و لكنها إبل، و كذلك ليس كل غنم سائمة. فالنسبة بينهما عموم و خصوص من وجه.
س: هل هذا داخل في محل الكلام أم لا؟
ج: نقول: تارة: ينتفي الوصف و يبقى الموصوف يعني: ينتفي السوم و يبقى الغنم فهذا بلا إشكال داخل في محل الكلام، فنستطيع أن نتنازع بأن نقول: هل في الغنم المعلوفة زكاة أم لا؟ و إذا انتفى الموصوف و بقي الوصف يعني: صفة السوم موجودة، و لكن الموصوف (الغنم) منتف بأن تكون إبلا سائمة. هنا لا يدخل في محل النزاع و ذلك لأنه يشترط في تحقق النزاع بقاء الموصوف و الموضوع، و هنا في حالة افتراق الوصف عن الموصوف بأن تكون إبلا سائمة. هذا خارج عن محل الكلام لعدم‏
٢٤٤

الأقوال في المسألة و الحق فيها:

لا شك: في دلالة التقييد بالوصف على المفهوم عند وجود القرينة الخاصة، و لا شك: في عدم الدلالة عند وجود القرينة على ذلك، مثل: ما إذا ورد الوصف مورد
____________
وجود الموضوع و الموصوف و هو الغنم. و أما إذا انتفى الوصف و الموصوف معا يعني: لا سوم و لا غنم بأن يوجد إبل معلوفة و هذا واضح في خروجه عن محل الكلام.
و لكن يحكى عن بعض الشافعية: أن هذا المورد داخل في محل الكلام و استفادوا ذلك من قوله (صلى الله عليه و آله) «في الغنم السائمة زكاة» إن الإبل المعلوفة لا زكاة فيها، مع أن المناسب هذا خارج عن محل الكلام. فهذه الاستفادة في غير محلها.
الشّيخ الأنصاري يدافع عن الشافعية قائلا: لعل استفادتهم بأن لا زكاة في الإبل المعلوفة من جهة أنهم استفادوا من قوله (صلى الله عليه و آله): أن السوم علة منحصرة لوجوب الزكاة و إذا كانت هي العلة المنحصرة و الوحيدة إذا: قيل بانتفاء السوم سواء كان إبلا أو غنما فلا زكاة.
يرد الشّيخ الآخوند الخراساني على الشّيخ الأنصاري: قائلا له: دفاعك غير صحيح باعتبار أن المدار إما أن يكون بقاء الموضوع أو استفادة العلية الانحصارية، فإذا كان المدار على بقاء الموضوع فهنا الموضوع غير موجود. فإذا: لا يوجد شي‏ء لأجل النزاع عليه. أي: إذا افترق الوصف (السوم) عن الموصوف (الغنم) بأن تكون إبلا معلوفة هنا الموضوع الذي هو الغنم منتف، و إذا كان منتفيا فلا يوجد شي‏ء لأجل أن نتنازع عليه بأن نقول: هل في الغنم غير السائمة زكاة أم لا؟ هذا النزاع لا يأتي باعتبار إن الموضوع غير موجود و هو الغنم.
و إذا قلت: بأن المدار على العلية الانحصارية، فالمناسب: الكل داخل في محل النزاع حتى فيما إذا كان الوصف مساويا للموصوف أو أعم منه.
تقريب الاستدلال بالآية الشريفة- آية وَ رَبائِبُكُمُ‏- على عدم المفهوم للوصف: أنه لو كان للوصف مفهوم لزم عدم حرمة الربيبة التي لا تكون في حجر الزوج، و هو كما ترى؛ إذ لا خلاف في حرمة الربيبة بين كونها في الحجر و عدمه، فلا مفهوم للوصف إذا: ليس للوصف مفهوم؛ و إلا لزم عدم حرمة الربيبة التي لا تكون في حجره، فيجوز حينئذ الزواج منها. و هذا لا أحد يقول به بالإجماع.
تحرير محل النزاع: و بعبارة توضيحية نقول: يذكر صاحب الكفاية في كفايته تذنيبا و الغرض من عقده تحرير محل النزاع، و التنبيه على وجه ما عن الشافعية: من عدم وجوب الزكاة في معلوفة الإبل.
و توضيح الكلام في هذا التذنيب: إن الوصف لا يخلو من أربعة أقسام:
الأوّل: أن يكون الوصف مساويا لموصوفه، كالإنسان الضاحك.
الثّاني: أن يكون أعم من موصوفه، كالإنسان الماشي.
الثّالث: أن يكون أخص منه مطلقا، كالإنسان العالم.
الرابع: أن يكون أخص منه من وجه، كالرجل العادل و هذا أيضا على قسمين، فإنه قد يكون الافتراق من جانب الموصوف، كالرجل بدون العدالة، و قد يكون من جانب الوصف كالعدالة بدون الرجل،
٢٤٥
الغالب الذي يفهم منه عدم إناطة الحكم به وجودا و عدما (١)، نحو قوله تعالى:
____________
فمجموع الأقسام خمسة (١).
و الكلام الآن في النظر إلى هذه الأقسام و الصور، و أي قسم داخل في محل الكلام و أي قسم خارجه.
أما القسم الأول: و هو أن يكون الوصف مساويا للموصوف و مثاله: «أكرم الإنسان الناطق». هذا القسم خارج عن محل الكلام لأنه كما قلنا سابقا لا بدّ من بقاء الموصوف عند انتفاء الوصف كما في «أكرم الرجل العالم»، فإنه بانتفاء العالم يبقى الموصوف (الرجل). و هنا ليس كذلك أي: أن الموصوف (الإنسان) هنا ينتفي بانتفاء الوصف (الناطق)، فإذا انتفى الناطق لا يوجد إنسان حتى نقول: يجب إكرامه أم لا.
أما القسم الثّاني: إذا كان الوصف أعم من الموصوف و مثاله: «أكرم الإنسان الماشي»، فالوصف (المشي) أعم من الموصوف (الإنسان) فإنه يصدق على الإنسان و غير الإنسان من الحيوانات.
و هذا القسم ليس داخلا في محل الكلام أيضا، لأن المشي أعم من الإنسان، فإذا انتفى المشي انتفى الإنسان. و هذا خارج عن محل الكلام.
القسم الثالث: أن يكون الوصف أخص من الموصوف مطلقا و مثاله: «أكرم الإنسان العالم»، فكل عالم إنسان و لكن ليس كل إنسان عالم. و هذا داخل في محل الكلام مما لا إشكال فيه؛ لأنه بانتفاء الوصف لا ينتفي الموصوف.
القسم الرابع: إذا كان الوصف أعم من وجه مثل: «في الغنم السّائمة زكاة»، السائمة أعم و أخص من وجه من الغنم. لأنه ليس كل سائمة غنم قد تكون سائمة، و لكن قد تكون إبلا، و ليس كل غنم سائمة، فالنسبة بينهما عموم و خصوص من وجه. هذا الكلام هل هو داخل في محل الكلام أم لا؟
- الجواب: تارة: ينتفي الوصف و يبقى الموصوف كما لو انتفى السوم و لكن يبقى الغنم. فهذا داخل في محل الكلام. فنقول: «في الغنم السّائمة زكاة» هل يستفاد أن الغنم المعلوفة غير السّائمة ليس فيها زكاة. هذا يدخل في محل الكلام.
- و أما إذا انتفى الموصوف و بقى الوصف بأن نقول بوجود السّائمة و لكن الغنم ليس موجودا بل إبل.
إذا: هنا الموصوف انتفى مع بقاء الوصف. فهذا خارج عن محل الكلام.
و إذا انتفى الوصف و الموصوف معا يعني: لا سوم و لا غنم؛ بأن يوجد عندنا إبل معلوفة فهذا خارج عن محل الكلام أيضا. و لكن يحكى عن بعض الشافعية: أن هذا المورد داخل في محل الكلام، و استفادوا من قوله (صلى الله عليه و آله): «في الغنم السّائمة زكاة» إن الإبل المعلوفة لا زكاة فيها. هذا يعني دخولها في محل الكلام. كما ذكرناه سابقا، و ذكرنا دفاع الشّيخ الأنصاري (قدس سره) ورد صاحب الكفاية على الشّيخ الأنصاري فراجع.
(١) القرينة في المقام: هي ورود الوصف مورد الغالب. و بعبارة أخرى نقول: إذا ورد الوصف مورد الغالب فهذا يشكل قرينة على عدم دلالة الجملة على المفهوم؛ بل تقييد الموضوع بالوصف إنّما هو
____________
(١) راجع: منتهى الدراية في شرح الكفاية، ج ٣، ص ٤٠٨.
٢٤٦
وَ رَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ‏
(١) فإنه لا مفهوم لمثل هذه القضية مطلقا، إذ يفهم منه أن وصف الربائب بأنها في حجوركم لأنها تكون كذلك، و الغرض منه:
الإشعار بعلة الحكم (٢)، إذ أن اللائي تربى في الحجور تكون كالبنات.
و إنما الخلاف عند تجرد القضية عن القرائن الخاصة، فإنهم اختلفوا في أن مجرد التقييد بالوصف هل يدل على المفهوم أي: انتفاء حكم الموصوف عند انتفاء الوصف أو لا يدل؟ نظير الاختلاف المتقدم في التقييد بالشرط، و في المسألة قولان، و المشهور: القول الثّاني و هو عدم المفهوم.
و السر في الخلاف يرجع إلى أن التقييد المستفاد من الوصف هل هو تقييد لنفس الحكم أي: أن الحكم منوط به (٣)، أو أنه تقييد لنفس موضوع الحكم أو متعلق الموضوع (٤) باختلاف الموارد، فيكون الموضوع أو متعلق الموضوع هو المجموع المؤلف من الموصوف و الوصف؟
فإن كان الأوّل: فإن التقييد بالوصف يكون ظاهرا في انتفاء الحكم عند انتفائه بمقتضى الإطلاق (٥)، لأن الإطلاق يقتضي- بعد فرض إناطة الحكم بالوصف- انحصاره فيه كما قلنا في التقييد بالشرط.
و إن كان الثّاني: فإن التقييد لا يكون ظاهرا في انتفاء الحكم عند انتفاء
____________
لأجل بيان أن الموضوع غالبا يتصف بهذا الوصف، و ليس لأجل إناطة الحكم في الوصف وجودا و عدما بحيث متى ما وجد الوصف وجد الحكم، و متى ما انتفى الوصف انتفى الحكم، و إنما لأجل وروده مورد الغالب. ففي الآية الكريمة: الربيبة غالبا ما تكون في حجر زوج الأم، فلأجل ذلك: الآية ذكرت الوصف لا لأجل تعليق حرمة الزواج من الربيبة بوصف كونها في حجر الزوج، بحيث لو انتفى وصف كونها في حجره جاز زواجه منها.
(١) الربيبة: هي ابنة الزوجة التي تزوجت بالزوج الثّاني، و البنت من الزوج الأول. و تسمى بالربيبة لأجل أنها تربت في حجر الزوج الثّاني.
(٢) أي: كما أن البنات محرمة على الأب فهذه أيضا محرمة على المربي لكونها مثل البنت.
(٣) يعود الضمير على الوصف.
(٤) ملاحظة: موضوع الحكم نفس متعلق الحكم و إنّما الاختلاف في التسمية. و مثاله: أكرم الرجل العالم. فإن موضوع الحكم هو الرجل.
(٥) إذ لو انتفى الوصف و لم ينتف الحكم- و هو وجوب الإكرام- لقيّد الحكم بالشي‏ء الآخر بأن قال:
أكرم الرجل العالم أو الجاهل، و عند عدم التقييد فبالإطلاق يدل على عدم إرادته.
٢٤٧
الوصف (١)، لأنه حينئذ يكون من قبيل مفهوم اللقب، إذ أنه يكون التعبير بالوصف و الموصوف لتحديد موضوع الحكم فقط، لا إن الموضوع ذات الموصوف و الوصف قيد للحكم عليه، مثلما إذا قال القائل: «اصنع شكلا رباعيا قائم الزوايا متساوي الأضلاع»، فإن المفهوم منه: إن المطلوب صنعه هو المربع، فعبر عنه بهذه القيود الدالة عليه، حيث يكون الموضوع هو مجموع المعنى المدلول عليه بالعبارة المؤلفة من الموصوف و الوصف، و هي في المثال: (شكل رباعي قائم الزوايا متساوي الأضلاع)، و هي بمنزلة كلمة مربع، فكما إن جملة (اصنع مربعا) لا تدل على الانتفاء عند الانتفاء (٢) كذلك ما هو بمنزلتها لا تدل عليه، لأنه في الحقيقة يكون من قبيل الوصف غير المعتمد على الموصوف (٣).
إذا عرفت ذلك، فنقول: إن الظاهر في الوصف- لو خلي و طبعه من دون قرينة- إنه من قبيل الثّاني أي: أنه قيد للموضوع لا للحكم، فيكون الحكم من جهته مطلقا غير مقيد. فلا مفهوم للوصف.
و من هذا التقرير يظهر: بطلان ما استدلوا به لمفهوم الوصف بالأدلة الآتية:
١- إنه لو لم يدل الوصف على الانتفاء عند الانتفاء لم تبق فائدة فيه.
و الجواب: إن الفائدة غير منحصرة برجوعه إلى الحكم. و كفى فائدة فيه تحديد موضوع الحكم و تقييده به.
٢- أن الأصل في القيود أن تكون احترازية (٤).
و الجواب: أن هذا مسلم، و لكن معنى الاحتراز هو تضييق دائرة الموضوع و إخراج‏
____________
(١) ففي مثال: أكرم الرجل العالم. انتفاء الوصف (العالم) لا يدل على انتفاء الإكرام. هذا إذا قلنا بأن قيد العالم قيد لذات الموضوع (الرجل) فإن انتفاء العالم سوف يؤدي إلى انتفاء الموضوع، و بالتالي: لا يوجد موضوع نتنازع عليه، و هذا من قبيل مفهوم اللقب، و عليه: لا مفهوم للوصف.
(٢) لأنه إذا انتفى المربع لا يوجد شي‏ء نتنازع عليه.
(٣) مثل: مفهوم اللقب في مثل: أكرم العادل.
(٤) و يقابلها القيود التوضيحية. و محصله: الأصل في القيد أن يحترز به عن شمول الحكم إلى غير ذلك الموضوع المقيد بالوصف. و مثاله: أكرم الإنسان العالم. الأصل فيه أن يحترز عن شمول الحكم (الوجوب) إلى غير الموضوع (الإنسان) المقيد بالوصف (العالم)، أي: إن الوجوب لا يشمل ذلك الإنسان الجاهل.
٢٤٨
ما عدا القيد عن شمول شخص الحكم له. و نحن نقول به و ليس هذا من المفهوم في شي‏ء، لأن إثبات الحكم لموضوع لا ينفي ثبوت سنخ الحكم لما عداه، كما في مفهوم اللقب. و الحاصل إن كون القيد احترازيا لا يلزم إرجاعه قيدا للحكم.
٣- أن الوصف مشعر بالعلية، فيلزم إناطة الحكم به.
و الجواب: أن هذا الإشعار و إن كان مسلما، إلا إنه ما لم يصل إلى حد الظهور لا ينفع في الدلالة على المفهوم.
٤- الاستدلال بالجمل التي ثبتت دلالتها على المفهوم، مثل قوله (صلى الله عليه و آله): «مطل الغني ظلم».
و الجواب: إن ذلك على تقديره (١) لا ينفع، لأنا لا نمنع من دلالة التقييد بالوصف على المفهوم أحيانا لوجود قرينة، و إنما موضوع البحث في اقتضاء طبع الوصف لو خلي و نفسه للمفهوم. و في خصوص المثال نجد القرينة على إناطة الحكم بالغني موجودة من جهة مناسبة الحكم و الموضوع، فيفهم: أن السبب في الحكم كون المدين غنيا، فيكون مطله ظلما، بخلاف المدين الفقير لعجزه عن أداء الدين، فلا يكون مطله ظلما.
____________

*** الثّالث- مفهوم الغاية (٢):

إذا ورد التقييد بالغاية- نحو:
ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ،
و نحو: «كل شي‏ء حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه»- فقد وقع خلاف الأصوليين فيه من جهتين:
(١) أي: على تقدير دلالتها على المفهوم.
مفهوم الغاية:
(٢) لكلمة الغاية معان، منها: المسافة و الفائدة. و منها: الانتهاء المقابل للابتداء، و هذا المعنى المراد بالبحث، و من الأدوات الدالة عليه «إلى و حتى».
مقدمة: نطرح فيها مصطلحات هذا البحث:
يوجد ثلاثة مصطلحات عند الأصوليين في مفهوم الغاية و هي كالتالي:
الغاية، و المغيّى، و ما بعد الغاية.
- الغاية: و هي ما تقع بعد «إلى» و تسمى غاية. و مثاله: «صم إلى الليل».
- المغيّى: و هي ما تقع عادة قبل «إلى» و تسمى بالمغيّا «الصوم».
- و ما بعد الغاية: و هي تقع بعد الليل.
٢٤٩
(الجهة الأولى): في دخول الغاية في المنطوق أي: في حكم المغيى، فقد اختلفوا في أن الغاية- و هي الواقعة بعد أداة الغاية نحو: (إلى) و (حتى)- هل هي داخلة في المغيى حكما، أو خارجة عنه، و إنما ينتهي إليها المغيى موضوعا و حكما (١)؟ على أقوال:
(منها): التفصيل بين كونها من جنس المغيى فتدخل فيه نحو: صمت النهار إلى الليل، و بين كونها من غير جنسه فلا تدخل كمثال: كل شي‏ء حلال (٢).
(و منها): التفصيل بين كون الغاية واقعة بعد (إلى) فلا تدخل فيه. و بين كونها واقعة بعد (حتى) فتدخل نحو: «كل السمكة حتى رأسها».
و الظاهر: إنه لا ظهور لنفس التقييد بالغاية في دخولها في المغيى و لا في عدمه، بل يتبع ذلك الموارد و القرائن الخاصة الحافة بالكلام (٣).
نعم، لا ينبغي الخلاف في عدم دخول الغاية فيما إذا كانت غاية للحكم، كمثال: كل شي‏ء حلال، فإنه لا معنى لدخول معرفة الحرام في حكم الحلال.
ثم إن المقصود من كلمة (حتى) التي يقع الكلام عنها هي: (حتى الجارة)، دون العاطفة و إن كانت تدخل على الغاية أيضا، لأن العاطفة يجب دخول ما بعدها في حكم ما قبلها لأن هذا هو معنى العطف، فإذا قلت: مات الناس حتى الأنبياء فإن‏
____________
(١) وقع بحث عند الأصوليين و هو: هل إن الغاية داخلة في المغيّى أم لا؟ فإذا قلنا بدخول الغاية «الليل» في حكم المغيّى «وجوب الصوم» فحينئذ: البحث في ثبوت المفهوم و عدمه يكون في ما بعد الغاية و هي ما بعد الليل، أي: التنازع يقع في إنه هل للجملة الغائية مفهوم أم لا؟ أي: هل تدل على انتفاء كلي وجوب الصوم في الليل أو لا تدل؟
(٢) و بعبارة أكثر وضوحا نقول: إذا كانت الغاية «الليل» من جنس المغيّى «النهار» و هو الوقت، فتدخل الغاية في حكم المغيّى نحو: «صمت النهار إلى الليل». و بين كون الغاية من غير جنس المغيّى فلا تدخل الغاية في حكم المغيّى كمثال: «كل شي‏ء لك حلال حتى تعلم بالحرمة» فإن الغاية و هي العلم غير جنس الحلية.
(٣) المصنّف يقول: الصحيح إنه لا يمكن إعطاء الضابطة الكلية في المقام؛ بل هذا يعرف بالقرائن و اختلاف الموارد فمثلا: إذا قال: «أكلت السمكة حتى رأسها» فلا إشكال في أن الغاية داخلة تحت الحكم المغيّى بمعنى: أن الرأس ثابت له حكم الأكل أو واقع عليه الأكل، و في قوله: «كل شي‏ء لك حلال حتى تعلم أنه حرام» لا إشكال في عدم دخولها في حكم المغيّى فإنه مع حصول العلم بالحرمة لا معنى لثبوت حكم المغيّى و هو الحلية، و إلا للزم اجتماع الضدين.
٢٥٠
معناه: أن الأنبياء ماتوا أيضا. بل (حتى العاطفة) تفيد أن الغاية هو الفرد الفائق على سائر أفراد المغيى في القوة (١) أو الضعف (٢)، فكيف يتصور ألا يكون المعطوف بها داخلا في الحكم، بل قد يكون هو الأسبق في الحكم نحو: مات كل أب حتى آدم.
(الجهة الثّانية): في مفهوم الغاية، و هي موضوع البحث هنا، فإنه قد اختلفوا في أن التقييد بالغاية- مع قطع النظر عن القرائن الخاصة- هل يدل على انتفاء سنخ الحكم عما وراء الغاية و من الغاية نفسها أيضا إذا لم تكن داخلة في المغيى، أو لا؟
فنقول: إن المدرك في دلالة الغاية على المفهوم كالمدرك في الشرط و الوصف، فإذا كانت قيدا للحكم كانت ظاهرة في انتفاء الحكم فيما وراءها، و أما إذا كانت قيدا للموضوع أو المحمول فقط فلا دلالة لها على المفهوم (٣).
و عليه: فما علم في التقييد بالغاية أنه راجع إلى الحكم فلا إشكال في ظهوره في المفهوم مثل قوله: (عليه السلام): «كل شي‏ء طاهر حتى تعلم أنه نجس» و كذلك مثال: كل شي‏ء حلال.
و إن لم يعلم ذلك من القرائن فلا يبعد القول بظهور الغاية في رجوعها إلى الحكم، و أنها غاية للنسبة الواقعة قبلها (٤)، و كونها غاية لنفس الموضوع أو نفس‏
____________
(١) و مثاله: «مات النّاس حتى الأنبياء» هذا بيان للفرد الفائق في القوة.
(٢) و مثاله: «كل شي‏ء مخلوق لله حتى النمل»، و هذا بيان للفرد الأضعف.
(٣) لأن ذلك يفيد تحديد موضوع الحكم مثل: «صم إلى الليل» أي: ثبوت الصوم إلى حده الأعلى و هو الليل، و هذا لا يعني عدم ثبوت الصوم لشخص آخر لموضوع آخر إلى الغروب.
و مثاله آخر: قوله تعالى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ‏، فإن المرافق (الغاية) راجع إلى أيديكم و هو موضوع الحكم.
أي: أن غسل اليد ينتهي إلى المرافق، لا إن الوجوب (الوضوء) ينتهي إلى المرافق، و إنّما الوجوب ينتهي مثلا من حين طلوع الشمس في صلاة الصبح؛ إذا: الغسل إلى المرافق ليس غاية للحكم بل هو غاية لليد الذي هو موضوع الحكم، و متعلق الحكم هو الغسل.
و مثال على القيد الرّاجع على المحمول، مثلا: لو قلنا: «الواجب الصوم إلى الليل» فإن «إلى الليل» غاية إلى الصوم الذي هو المحمول، و هذا من باب تحديد الموضوع أي: الصيام ثابت إلى الغروب، و هذا لا يعني عدم ثبوته لموضوع آخر في مورد آخر.
و هذا من قبيل الوصف في أكرم الفقير العادل، فإن الوصف جاء لتحديد الموضوع، و هو أن الفقير المقيد بالعدالة موضوع للوجوب، و هذا لا ينافي ثبوت الإكرام لموضوع آخر.
(٤) لأن الحكم مفاد للهيئة الذي يكون مفادها معنى حرفيا أي: النسبة.
٢٥١
المحمول هو الذي يحتاج إلى البيان و القرينة.
فالقول بمفهوم الغاية هو المرجح عندنا (١).
____________

*** الرّابع- مفهوم الحصر (٢)

(معنى الحصر:



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فتنة الاعور الدجال - الجزء الثاني

فتنة الاعور الدجال