الجزء الخامس النتيجة مسألة مقدّمة الواجب و الأقوال فيها
بعد تقديم تلك التمهيدات نرجع إلى أصل المسألة، و هو البحث عن وجوب مقدّمة الواجب، الذي قلنا: إنّه آخر ما يشغل بال الأصوليّين.
و قد عرفت في مدخل المسألة موضع البحث فيها ببيان تحرير [محلّ] النزاع، و هو- كما قلنا- الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع؛ إذ قلنا: إنّ العقل يحكم بوجوب مقدّمة الواجب- أي إنّه يدرك لزومها-، و لكن وقع البحث في أنّه هل يحكم أيضا بأنّ المقدّمة واجبة أيضا عند من أمر بما يتوقّف عليها؟
لقد تكثّرت الأقوال جدّا في هذه المسألة على مرور الزمن، نذكر أهمّها، و نذكر ما هو الحقّ منها، و هي:
١. القول بوجوبها مطلقا (١).
٢. القول بعدم وجوبها مطلقا (٢)، و هو الحقّ و سيأتي دليله.
٣. التفصيل بين السبب فلا يجب، و بين غيره كالشرط و عدم المانع و المعدّ فيجب (٣).
٤. التفصيل بين السبب و غيره أيضا، و لكن بالعكس أي يجب السبب دون غيره (٤).
٥. التفصيل بين الشرط الشرعيّ، فلا يجب بالوجوب الغيريّ باعتبار أنّه واجب بالوجوب النفسيّ، نظير جزء الواجب، و بين غيره، فيجب بالوجوب الغيريّ. و هو القول
____________
(١). و هذا ما نسب إلى المشهور في بدائع الأفكار (الرشتي): ٣٤٨. و ذهب إليه المحقّق الخراسانيّ في الكفاية:
١٤٣، و المحقّق العراقيّ في نهاية الأفكار ١: ٣٣٢- ٣٣٣. و هو الظاهر من بعض كلمات الشيخ الأنصاريّ في مطارح الأنظار: ٧٥- ٧٦.
و ذهب إليه الآمدي من العامّة في الإحكام ١: ١٥٨.
(٢). ذهب إليه المحقّق الأصفهاني في نهاية الدراية ١: ٣٩٧- ٤٠٢. و اختاره المحقّق الخوئيّ في المحاضرات ٢: ٤٣٨، و السيّد الحكيم في حقائق الأصول ١: ٢٦٢- ٢٦٨.
(٣). لم أعثر على قائله.
(٤). و هو الظاهر من عبارة السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة ١: ٨٣.
٢٩٨
المعروف عن شيخنا المحقّق النائينيّ (١).
٦. التفصيل بين الشرط الشرعيّ و غيره أيضا، و لكن بالعكس، أي يجب الشرط الشرعيّ بالوجوب المقدّميّ دون غيره (٢).
٧. التفصيل بين المقدّمة الموصلة- أي التي يترتّب عليها الواجب النفسيّ- فتجب، و بين المقدّمة غير الموصلة فلا تجب، و هو المذهب المعروف لصاحب الفصول (٣).
٨. التفصيل بين ما قصد به التوصّل من المقدّمات فيقع على صفة الوجوب، و بين ما لم يقصد به ذلك فلا يقع واجبا. و هو القول المنسوب إلى الشيخ الأنصاريّ (قدّس سرّه) (٤).
٩. التفصيل المنسوب إلى صاحب المعالم (٥) الذي أشار إليه في مسألة الضدّ (٦)، و هو اشتراط وجوب المقدّمة بإرادة ذيها، فلا تكون المقدّمة واجبة على تقدير عدم إرادته.
١٠. التفصيل بين المقدّمة الداخليّة- أي الجزء- فلا تجب، و بين المقدّمة الخارجيّة فتجب (٧).
و هناك تفصيلات أخرى عند المتقدّمين، لا حاجة إلى ذكرها.
و قد قلنا: إنّ الحقّ في المسألة- كما عليه جماعة من المحقّقين المتأخّرين (٨)-
____________
(١). راجع أجود التقريرات ١: ٢٥٥- ٢٥٦.
(٢). و هذا منسوب إلى إمام الحرمين و ابن القشيريّ و ابن برهان و ابن الحاجب. راجع نهاية السئول ١: ٢٠٠.
(٣). الفصول الغرويّة: ٨٦.
(٤). نسبه إليه مقرّر بحثه في مطارح الأنظار: ٧٢. و لكن في نسبته هذا إليه نظر.
قال المحقّق النائينيّ: «المحكي عن الشيخ في المقام مضطرب من حيث المبنى، و من حيث ما فرّع عليه، و ظنّي أنّ المقرّر لم يصل إلى مراد الشيخ». فوائد الأصول ١: ٢٨٨.
بل الظاهر من بعض كلماته أنّه قال بوجوب المقدّمة مطلقا. راجع مطارح الأنظار: ٧٥- ٧٦.
(٥). نسب إليه في مطارح الأنظار: ٧٢، و فوائد الأصول ١: ٢٨٦.
(٦). قال صاحب المعالم في مسألة الضدّ: «و أيضا فحجّة القول بوجوب المقدّمة على تقدير تسليمها إنّما ينهض دليلا على الوجوب في حال كون المكلّف مريدا للفعل المتوقّف عليها، كما لا يخفى على من أعطاها حقّ النظر.» معالم الدين: ٨٠.
(٧). لعلّه مذهب من قال بخروج المقدّمات الداخليّة عن محل النزاع.
(٨). أوّل من تنبّه إلى ذلك و أقام عليه البرهان بالأسلوب الذي ذكرناه- فيما أعلم- أستاذنا المحقّق-
٢٩٩
القول الثاني، و هو عدم وجوبها مطلقا.
و الدليل عليه واضح بعد ما قلنا- من أنّه في موارد حكم العقل بلزوم شيء على وجه يكون حكما داعيا للمكلّف إلى فعل الشيء لا يبقى مجال للأمر المولويّ (١) فإنّ هذه المسألة من ذلك الباب من جهة العلّة؛ و ذلك لأنّه إذا كان الأمر بذي المقدّمة داعيا للمكلّف إلى الإتيان بالمأمور به فإنّ دعوته هذه- لا محالة بحكم العقل- تحمله و تدعوه إلى الإتيان بكلّ ما يتوقّف عليه المأمور به تحصيلا له. و مع فرض وجود هذا الداعي في نفس المكلّف لا تبقى حاجة إلى داع آخر من قبل المولى، مع علم المولى- حسب الفرض- بوجود هذا الداعي، لأنّ الأمر المولويّ- سواء كان نفسيّا أم غيريّا- إنّما يجعله المولى لغرض تحريك المكلّف نحو فعل المأمور به، إذ يجعل الداعي في نفسه حيث لا داعي. بل يستحيل في هذا الفرض جعل الداعي الثاني من المولى؛ لأنّه يكون من باب تحصيل الحاصل.
و بعبارة أخرى: إنّ الأمر بذي المقدّمة لو لم يكن كافيا في دعوة المكلّف إلى الإتيان بالمقدّمة فأيّ أمر بالمقدّمة لا ينفع، و لا يكفي للدعوة إليها بما هي مقدّمة، و مع كفاية الأمر بذي المقدّمة لتحريكه إلى المقدّمة، و للدعوة إليها، فأيّة حاجة تبقى إلى الأمر بها من قبل المولى؟، بل يكون عبثا و لغوا، بل يمتنع؛ لأنّه تحصيل للحاصل.
و عليه، فالأوامر الواردة في بعض المقدّمات يجب حملها على الإرشاد، و بيان شرطيّة متعلّقها للواجب و توقّفه عليها، كسائر الأوامر الإرشاديّة في موارد حكم العقل، و على هذا يحمل قوله (عليه السّلام): «إذا زالت الشمس، فقد وجب الطهور و الصلاة» (٢).
____________
- الأصفهانيّ (قدّس سرّه)*، و قد عضّد هذا القول السيد الجليل المحقّق الخوئيّ (رحمه اللّه)**. و كذلك ذهب إلى هذا القول و أوضحه سيّدنا المحقّق الحكيم دام ظلّه في حاشيته على الكفاية***.- منه (رحمه اللّه)-.
(١). راجع الصفحة: ٢٤٥.
(٢). هذا مفاد الروايات الواردة في الباب، و إليك نصّ الرواية: «إذا دخل الوقت وجب الطهور و الصلاة».
الوسائل ١: ٢٦١، الباب ٤ من أبواب الوضوء، الحديث ١.
(*) نهاية الدراية ١: ٣٩٧- ٤٠٢.
(**) المحاضرات ٢: ٤٣٨.
(***) حقائق الأصول ١: ٢٦٢- ٢٦٨.
٣٠٠
و من هذا البيان نستحصل على النتيجة الآتية:
«إنّه لا وجوب غيريّ أصلا، و ينحصر الوجوب المولويّ بالواجب النفسيّ فقط.
فلا موقع إذن لتقسيم الواجب إلى النفسيّ و الغيريّ. فليحذف ذلك من سجلّ الأبحاث الأصوليّة».
تمرينات (٣٨)
١. ما هو توجيه عباديّة المقدّمات الثلاث على وجه يلائم توصّليّة الأمر الغيريّ؟
٢. ما هو الأمر المصحّح لعباديّة الطهارات الثلاث؟
٣. ما هي الأقوال في وجوب مقدّمة الواجب؟ و ما هو الحقّ عند المصنّف؟
٣٠١
المسألة الثالثة: مسألة الضدّ (١)
تحرير محلّ النزاع
اختلفوا في أنّ الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضدّه أو لا يقتضي؟ على أقوال.
و لأجل توضيح محلّ النزاع و تحريره نشرح مرادهم من الألفاظ التي وردت على لسانهم في تحرير محلّ النزاع هذا، و هي ثلاثة:
١. «الضدّ»، فإنّ مرادهم من هذه الكلمة مطلق المعاند و المنافي، فيشمل نقيض الشيء، أي إنّ الضدّ عندهم أعمّ من الأمر الوجوديّ و العدميّ (٢). و هذا اصطلاح خاصّ للأصوليّين في خصوص هذا الباب، و إلّا فالضدّ مصطلح فلسفيّ يراد به- في باب التقابل- خصوص الأمر الوجوديّ الذي له مع وجوديّ آخر تمام المعاندة و المنافرة، و له معه غاية التباعد (٣).
و لذا قسّم الأصوليّون الضدّ إلى «ضدّ عامّ» و هو الترك- أي النقيض-، و «ضدّ خاصّ» و هو مطلق المعاند الوجوديّ.
و على هذا، فالحقّ أن تنحلّ هذه المسألة إلى مسألتين: موضوع إحداهما الضدّ العامّ، و موضوع الأخرى الضدّ الخاصّ، لا سيّما مع اختلاف الأقوال في الموضوعين.
٢. «الاقتضاء»، و يراد به لابدّيّة ثبوت النهي عن الضدّ عند الأمر بالشيء، إمّا لكون الأمر يدلّ عليه بإحدى الدلالات الثلاث: المطابقة، و التضمّن، و الالتزام، و إمّا لكونه
____________
(١). وقع الخلاف بين الأصوليّين في أنّ هذه المسألة هل هي من المسائل الأصوليّة أم لا؟ و على الأوّل هل هي من المسائل اللفظيّة أو من المسائل العقليّة؟
و الحقّ أنّها من المسائل الأصوليّة العقليّة. أمّا أنّها أصوليّة فلأنّها تقع في طريق استنباط الحكم الشرعيّ فنقول مثلا: «إنّ الشارع أمر بالصلاة، و الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه، فالأمر بالصلاة يقتضي النهي عن ضدّها، فثبتت حرمة ضدّها». و أمّا أنّها عقليّة فلما مرّ من أنّ ما يبحث فيها هو ثبوت الملازمة، و الحاكم بهذه الملازمة إنّما هو العقل.
(٢). كما صرّحوا بذلك، فراجع مطارح الأنظار: ١١٦، و كفاية الأصول ١٦٠، نهاية الأفكار ١: ٣٦٠، و فوائد الأصول ١: ٣٠١.
(٣). شرح المنظومة (قسم الحكمة): ١١٦.
٣٠٢
يلزمه عقلا النهي عن الضدّ من دون أن يكون لزومه بيّنا بالمعنى الأخصّ حتّى يدلّ عليه بالالتزام. فالمراد من الاقتضاء عندهم أعمّ من كلّ ذلك (١).
٣. «النهي»، و يراد به النهي المولويّ من الشارع و إن كان تبعيّا، كوجوب المقدّمة الغيريّ التبعيّ (٢). و النهي معناه المطابقيّ- كما سبق في مبحث النواهي (٣)- هو الزجر و الردع عمّا تعلّق به. و فسّره المتقدّمون بطلب الترك (٤)، و هو تفسير بلازم معناه، و لكنّهم فرضوه كأنّ ذلك هو معناه المطابقيّ، و لذا اعترض بعضهم على ذلك فقال: «إنّ طلب الترك محال، فلا بدّ أن يكون المطلوب الكفّ» (٥). و هكذا تنازعوا في أنّ المطلوب بالنهي الترك أو الكفّ؟
و لا معنى لنزاعهم هذا إلّا إذا كانوا قد فرضوا أنّ معنى النهي هو الطلب، فوقعوا في حيرة في أنّ المطلوب به أيّ شيء هو؟ الترك، أو الكفّ؟
و لو كان المراد من النهي هو طلب الترك- كما ظنّوا- لما كان معنى لنزاعهم في الضدّ العامّ؛ فإنّ النهي عنه معناه- على حسب ظنّهم- طلب ترك ترك المأمور به. و لمّا كان نفي النفي إثباتا فيرجع معنى النهي عن الضدّ العامّ إلى معنى طلب فعل المأمور به، فيكون قولهم:
«الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ» تبديلا للفظ بلفظ آخر بمعناه، و يكون عبارة أخرى عن القول ب «أنّ الأمر بالشيء يقتضي نفسه». و ما أشدّ سخف مثل هذا البحث!
و لعلّه لأجل هذا التوهّم- أي توهّم أنّ النهي معناه طلب الترك- ذهب بعضهم (٦) إلى عينيّة الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ العامّ.
و بعد بيان هذه الأمور الثلاثة في تحرير محلّ النزاع يتّضح موضع النزاع، و كيفيّته أنّ النزاع معناه يكون أنّه إذا تعلّق أمر بشيء هل إنّه لا بدّ أن يتعلّق نهي المولى بضدّه العامّ أو
____________
(١). و صرّحوا بذلك أيضا في كتبهم. راجع مطارح الأنظار: ١١٧؛ كفاية الأصول ١٦٠؛ فوائد الأصول ١: ٣٠١، المحاضرات ٣: ٨.
(٢). خلافا للمحقّق القميّ حيث زعم أنّ المراد منه خصوص النهي الأصلي. راجع- قوانين الأصول ١: ١١٤.
(٣). راجع الصفحة: ١١٦.
(٤). فسّره به في معالم الدين: ١٠٤، و قوانين الأصول ١: ١٣٥- ١٣٧، و الفصول الغرويّة: ١٢٠.
(٥). كما ذهب إليه العضديّ في شرحه على مختصر الأصول ١: ١٠٣.
(٦). و هو صاحب الفصول، فراجع الفصول الغرويّة: ٩٢.
٣٠٣
الخاصّ؟ فالنزاع يكون في ثبوت النهي المولويّ عن الضدّ بعد فرض ثبوت الأمر بالشيء، و بعد فرض ثبوت النهي فهناك نزاع آخر في كيفيّة إثبات ذلك.
و على كلّ حال، فإنّ مسألتنا- كما قلنا- تنحلّ إلى مسألتين: إحداهما: في الضدّ العامّ.
و الثانية: في الضدّ الخاصّ، فينبغي البحث عنهما في بابين:
١. الضدّ العامّ
لم يكن اختلافهم في الضدّ العامّ من جهة أصل الاقتضاء و عدمه، فإنّ الظاهر أنّهم متّفقون على الاقتضاء، و إنّما اختلافهم في كيفيّته (١):
فقيل (٢): إنّه على نحو العينيّة، أي إنّ الأمر بالشيء عين النهي عن ضدّه العامّ، فيدلّ عليه حينئذ بالدلالة المطابقيّة.
و قيل (٣): إنّه على نحو الجزئيّة، فيدلّ عليه بالدلالة التضمّنيّة، باعتبار أنّ الوجوب ينحلّ إلى طلب الشيء مع المنع من الترك، فيكون المنع من الترك جزءا تحليليّا في معنى الوجوب.
و قيل: إنّه على نحو اللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ (٤)، فيدلّ عليه بالدلالة الالتزاميّة (٥).
و قيل (٦): إنّه على نحو اللزوم البيّن بالمعنى الأعمّ، أو غير البيّن، فيكون اقتضاؤه له
____________
(١). هذا ما ادّعاه صاحب المعالم في معالم الدين: ٧١ و الشهيد الصدر في الحلقات ٢: ٢٧٩. و لكن لا أصل له، حيث ذهب بعض القدماء إلى عدم الاقتضاء رأسا، كالسيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة ١: ٨٥- ٨٨، و العضديّ في شرحه على مختصر الأصول ١: ١٩٩؛ بل هو المنسوب إلى العميديّ و جمهور المعتزلة و بعض الأشاعرة كما في نهاية السئول ١: ٢٢٦- ٢٢٧.
(٢). و القائل صاحب الفصول في الفصول الغرويّة: ٩٢.
(٣). و القائل صاحب المعالم في معالم الدين: ٧٠ و ٧٢.
(٤). أي نفس تصوّر الإلزام يوجب تصوّر المنع من الترك.
(٥). و هذا ما ذهب إليه المحقّق النائينيّ في فوائد الأصول ١: ٣٠٣. و هو الظاهر أيضا من المحقّق الخراسانيّ في الكفاية: ١٦٥، و المحقّق العراقيّ في نهاية الأفكار ١: ٣٧٧.
(٦). و القائل هو المحقّق القمي في قوانين الأصول ١: ١٠٨ و ١١٣. و اختاره العلّامة النراقيّ في مناهج الأحكام و الأصول: ٦١.
٣٠٤
عقليّا صرفا.
و الحقّ أنّه لا يقتضيه بأيّ نحو من أنحاء الاقتضاء (١)، أي إنّه ليس هناك نهي مولويّ عن الترك يقتضيه نفس الأمر بالفعل على وجه يكون هناك نهي مولويّ وراء نفس الأمر بالفعل.
و الدليل عليه أنّ الوجوب- سواء كان مدلولا لصيغة الأمر، أو لازما عقليّا لها كما هو الحقّ- ليس معنى مركّبا، بل هو معنى بسيط وحدانيّ، هو لزوم الفعل، و لازم كون الشيء واجبا المنع من تركه.
و لكن هذا المنع اللازم للوجوب ليس منعا مولويّا، و نهيا شرعيّا، بل هو منع عقليّ تبعيّ من غير أن يكون هناك من الشارع منع و نهي وراء نفس الوجوب. و سرّ ذلك واضح، فإنّ نفس الأمر بالشيء على وجه الوجوب كاف في الزجر عن تركه، فلا حاجة إلى جعل للنهي عن الترك من الشارع زيادة على الأمر بذلك الشيء.
فإن كان مراد القائلين بالاقتضاء في المقام أنّ نفس الأمر بالفعل يكون زاجرا عن تركه، فهو مسلّم، بل لا بدّ منه؛ لأنّ هذا هو مقتضى الوجوب؛ و لكن ليس هذا هو موضع النزاع في المسألة، بل موضع النزاع هو النهي المولويّ زائدا على الأمر بالفعل؛ و إن كان مرادهم أنّ هناك نهيا مولويّا عن الترك يقتضيه الأمر بالفعل- كما هو موضع النزاع- فهو غير مسلّم، و لا دليل عليه، بل هو ممتنع.
و بعبارة أوضح و أوسع: أنّ الأمر و النهي متعاكسان- بمعنى أنّه إذا تعلّق الأمر بشيء فعلى طبع ذلك يكون نقيضه بالتبع ممنوعا منه، و إلّا لخرج الواجب عن كونه واجبا؛ و إذا تعلّق النهي بشيء فعلى طبع ذلك يكون نقيضه بالتبع مدعوّا إليه، و إلّا لخرج المحرّم عن كونه محرّما ...، و لكن ليس معنى هذه التبعيّة في الأمر أن يتحقّق- فعلا- نهي مولويّ عن ترك المأمور به بالإضافة إلى الأمر المولويّ بالفعل، كما أنّه ليس معنى هذه التبعيّة في النهي أن يتحقّق- فعلا- أمر مولويّ بترك المنهيّ عنه بالإضافة إلى النهي
____________
(١). كما ذهب إليه الإمام الخمينيّ و المحقّق الخوئيّ من المعاصرين، فراجع مناهج الوصول ٢: ١٧، و المحاضرات ٣: ٤٨.
٣٠٥
المولويّ عن الفعل.
و السرّ ما قلناه: إنّ نفس الأمر بالشيء كاف في الزجر عن تركه، كما أنّ نفس النهي عن الفعل كاف للدعوة إلى تركه، بلا حاجة إلى جعل جديد من المولى في المقامين، بل لا يعقل الجعل الجديد كما قلنا في مقدّمة الواجب حذو القذّة بالقذّة، فراجع.
و لأجل هذه التبعيّة الواضحة اختلط الأمر على كثير من المحرّرين لهذه المسألة، فحسبوا أنّ هناك نهيا مولويّا عن ترك المأمور به وراء الأمر بالشيء اقتضاه الأمر على نحو العينيّة، أو التضمّن، أو الالتزام، أو اللزوم العقليّ. كما حسبوا- هنا في مبحث النهي- أنّ معنى النهي هو الطلب إمّا للترك أو الكفّ، و قد تقدّمت الإشارة إلى ذلك في تحرير النزاع (١).
و هذان التوهّمان في النهي و الأمر من واد واحد. و عليه، فليس هناك طلب للترك وراء الردع عن الفعل في النهي، و لا نهي عن الترك وراء طلب الفعل في الأمر.
نعم، يجوز للآمر بدلا من الأمر بالشيء أن يعبّر عنه بالنهي عن الترك، كأن يقول- مثلا- بدلا من قوله «صلّ»: «لا تترك الصلاة». و يجوز له بدلا من النهي عن الشيء أن يعبّر عنه بالأمر بالترك، كأن يقول- مثلا- بدلا من قوله «لا تشرب الخمر»: «اترك شرب الخمر»، فيؤدّي التعبير الثاني في المقامين مؤدّى التعبير الأوّل المبدل منه، أي إنّ التعبير الثاني يحقّق الغرض من التعبير الأوّل.
فإذا كان مقصود القائل بأنّ الأمر بالشيء عين النهي عن ضدّه العامّ هذا المعنى- أي إنّ أحدهما يصحّ أن يوضع موضع الآخر، و يحلّ محلّه في أداء غرض الآمر- فلا بأس به و هو صحيح، و لكن هذا غير العينيّة المقصودة في المسألة على الظاهر.
٢. الضدّ الخاصّ
إنّ القول باقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه الخاصّ يبتني و يتفرّع على القول باقتضائه للنهي عن ضدّه العامّ.
و لمّا ثبت- حسبما تقدّم- أنّه لا نهي مولويّ عن الضدّ العامّ، فبالطريق الأولى نقول:
____________
(١). راجع الصفحة: ٣٠٢.
٣٠٦
إنّه لا نهي مولويّ عن الضدّ الخاصّ؛ لما قلنا من ابتنائه و تفرّعه عليه.
و على هذا، فالحقّ أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه مطلقا، سواء كان عامّا أو خاصّا.
أمّا كيف يبتني القول بالنهي عن الضدّ الخاصّ على القول بالنهي عن الضدّ العامّ و يتفرّع عليه فهذا ما يحتاج إلى شيء من البيان، فنقول:
إنّ القائلين بالنهي عن الضدّ الخاصّ لهم مسلكان
لا ثالث لهما، و كلاهما يبتني و يتفرّع على ذلك:
الأوّل: مسلك التلازم
و خلاصته أنّ حرمة أحد المتلازمين تستدعي و تستلزم حرمة ملازمه الآخر. و المفروض أنّ فعل الضدّ الخاصّ يلازم ترك المأمور به- أي الضدّ العامّ-، كالأكل- مثلا- الملازم فعله لترك الصلاة المأمور بها. و عندهم أنّ الضدّ العامّ محرّم منهيّ عنه- و هو ترك الصلاة في المثال-، فيلزم على هذا أن يحرم الضدّ الخاصّ- و هو الأكل في المثال-؛ فابتنى النهي عن الضدّ الخاصّ بمقتضى هذا المسلك على ثبوت النهي عن الضدّ العامّ.
أمّا نحن فلمّا ذهبنا إلى أنّه لا نهي مولويّ عن الضدّ العامّ، فلا موجب لدينا من جهة الملازمة المدّعاة للقول بكون الضدّ الخاصّ منهيّا عنه بنهي مولويّ؛ لأنّ ملازمه ليس منهيّا عنه حسب التحقيق الذي مرّ.
على أنّا نقول ثانيا- بعد التنازل عن ذلك و التسليم بأنّ الضدّ العامّ منهي عنه-: إنّ هذا المسلك ليس صحيحا في نفسه، يعنى أنّ كبراه غير مسلّمة، و هي «أنّ حرمة أحد المتلازمين تستلزم حرمة ملازمه الآخر»؛ فإنّه لا يجب اتّفاق المتلازمين في الحكم، لا في الوجوب، و لا الحرمة، و لا غيرهما من الأحكام، ما دام أنّ مناط الحكم غير موجود في الملازم الآخر. نعم، القدر المسلّم في المتلازمين أنّه لا يمكن أن يختلفا في الوجوب و الحرمة على وجه يكون أحدهما واجبا و الآخر محرّما؛ لاستحالة امتثالهما حينئذ من المكلّف، فيستحيل التكليف من المولى بهما، فإمّا أن يحرم أحدهما، أو يجب الآخر.
٣٠٧
يرجع ذلك إلى باب التزاحم الذي سيأتي التعرّض له.
و بهذا تبطل «شبهة الكعبيّ» المعروفة التي أخذت قسطا وافرا من أبحاث الأصوليّين إذا كان مبناها هذه الملازمة المدّعاة؛ فإنّه نسب إليه القول بنفي المباح (١) بدعوى أنّ كلّ ما يظنّ من الأفعال أنّه مباح فهو واجب في الحقيقة؛ لأنّ فعل كلّ مباح ملازم قهرا لواجب و هو ترك محرّم واحد من المحرّمات على الأقلّ.
الثاني: مسلك المقدّميّة
و خلاصته دعوى أنّ ترك الضدّ الخاصّ مقدّمة لفعل المأمور به، ففي المثال المتقدّم يكون ترك الأكل مقدّمة لفعل الصلاة، و مقدّمة الواجب واجبة، فيجب ترك الضدّ الخاصّ.
و إذا وجب ترك الأكل حرم تركه،- أي ترك ترك الأكل-؛ لأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضدّ العامّ؛ و إذا حرم ترك ترك الأكل، فإنّ معناه حرمة فعله؛ لأنّ نفي النفي إثبات؛ فيكون الضدّ الخاصّ منهيّا عنه. هذا خلاصة مسلك المقدّميّة.
و قد رأيت كيف ابتنى النهي عن الضدّ الخاصّ على ثبوت النهي عن الضدّ العامّ. و نحن إذ قلنا بأنّه لا نهي مولويّ عن الضدّ العامّ فلا يحرم ترك ترك الضدّ الخاصّ حرمة مولويّة- أي لا يحرم فعل الضدّ الخاص-، فثبت المطلوب.
على أنّ مسلك المقدّميّة غير صحيح من وجهين آخرين:
أحدهما: أنّه بعد التنزّل عمّا تقدّم، و تسليم حرمة الضدّ العامّ، فإنّ هذا المسلك كما هو واضح يبتني على وجوب مقدّمة الواجب، و قد سبق أن أثبتنا أنّها ليست واجبة بوجوب مولويّ (٢)، و عليه، لا يكون ترك الضدّ الخاصّ واجبا بالوجوب الغيريّ المولويّ حتى
____________
(١). نسب إليه في شرح العضديّ ١: ٢٠٣، و معالم الدين: ٧٧. و قال في القوانين ١: ١١٤: «المباح يجوز تركه خلافا للكعبي، فإنّه قال بوجوب المباح. و المنقول عنه مشتبه المقصود. فقد يقال: إنّ مراده أنّ كلّ ما هو مباح عند الجمهور فهو واجب عنده لا غير، و قد يقال: إنّ مراده أنّ كلّ ما كان مباحا بالذات فهو واجب بالعرض.»
(٢). سبق في الصفحة: ٢٩٩- ٣٠٠.
٣٠٨
يحرم فعله.
ثانيهما: أنّا لا نسلّم أنّ ترك الضدّ الخاصّ مقدّمة لفعل المأمور به، و هذه المقدّميّة- أعني مقدّميّة ترك الضدّ الخاصّ- لا تزال مثارا للبحث عند المتأخّرين حتى أصبحت من المسائل الدقيقة المطوّلة (١)، و نحن في غنى عن البحث عنها بعد ما تقدّم.
و لكن لحسم مادّة الشبهة لا بأس بذكر خلاصة ما يرفع المغالطة في دعوى مقدّميّة ترك الضدّ، فنقول:
إنّ المدّعي لمقدّميّة ترك الضدّ لضدّه تبتني دعواه على أنّ عدم الضدّ من باب عدم المانع بالنسبة إلى الضدّ الآخر للتمانع بين الضدّين- أي لا يمكن اجتماعهما معا-، و لا شكّ في أنّ عدم المانع من المقدّمات؛ لأنّه من متمّمات العلّة، فإنّ العلّة التامّة- كما هو معروف- تتألّف من المقتضي و عدم المانع.
فيتألّف دليله من مقدّمتين:
١. الصغرى: إنّ عدم الضدّ من باب «عدم المانع» لضدّه؛ لأنّ الضدّين متمانعان.
٢. الكبرى: إنّ «عدم المانع» من المقدّمات.
فينتج من الشكل الأوّل أنّ عدم الضدّ من المقدّمات لضدّه.
و هذه الشبهة إنّما نشأت من أخذ كلمة «المانع» مطلقة. فتخيّلوا أنّ لها معنى واحدا في الصغرى و الكبرى، فانتظم عندهم القياس الذي ظنّوه منتجا، بينما أنّ الحقّ أنّ التمانع له معنيان، و معناه في الصغرى غير معناه في الكبرى، فلم يتكرّر الحدّ الأوسط، فلم يتألّف قياس صحيح.
بيان ذلك أنّ التمانع تارة يراد منه التمانع في الوجود، و هو امتناع الاجتماع و عدم الملاءمة بين الشيئين، و هو المقصود من التمانع بين الضدّين؛ إذ هما لا يجتمعان في الوجود و لا يتلاءمان؛ و أخرى يراد منه التمانع في التأثير و إن لم يكن بينهما تمانع و تناف في الوجود، و هو الذي يكون بين المقتضيين لأثرين متمانعين في الوجود؛ و إذ يكون
____________
(١). و إن شئت فراجع الكتب المطوّلة، منها ما يلي: قوانين الأصول ١: ١٠٨؛ هداية المسترشدين: ٢٣٠- ٢٣١؛ مطارح الأنظار: ١٠٨- ١١٢؛ كفاية الأصول: ١٦١- ١٦٣؛ نهاية الدراية ١: ٤٢٥- ٤٤١.
٣٠٩
المحلّ غير قابل إلّا لتأثير أحد المقتضيين، فإنّ المقتضيين حينئذ يتمانعان في تأثيرهما، فلا يؤثّر أحدهما إلّا بشرط عدم المقتضي الآخر؛ و هذا هو المقصود من المانع في الكبرى، فإنّ المانع الذي يكون عدمه شرطا لتأثير المقتضي هو المقتضي الآخر الذي يقتضي ضدّ أثر الأوّل. و عدم المانع إمّا لعدم وجوده أصلا أو لعدم بلوغه مرتبة الغلبة على الآخر في التأثير.
و عليه، فنحن نسلّم أنّ عدم الضدّ من باب عدم المانع، و لكنّه عدم المانع في الوجود، و ما هو من المقدّمات عدم المانع في التأثير، فلم يتكرّر الحدّ الأوسط؛ فلا نستنتج من القياس أنّ عدم الضدّ من المقدّمات.
و أعتقد أنّ هذا البيان لرفع المغالطة فيه الكفاية للمتنبّه، و إصلاح هذا البيان بذكر بعض الشبهات فيه و دفعها يحتاج إلى سعة من القول لا تتحمّلها الرسالة. و لسنا بحاجة إلى نفي المقدّمة لإثبات المختار، بعد ما قدّمناه (١).
ثمرة المسألة
إنّ ما ذكروه من الثمرات لهذه المسألة مختصّ بالضدّ الخاصّ فقط (٢)، و أهمّها و العمدة فيها هي صحّة الضدّ إذا كان عبادة على القول بعدم الاقتضاء، و فساده على القول بالاقتضاء (٣).
بيان ذلك أنّه قد يكون هناك واجب- أيّ واجب كان، عبادة أو غير عبادة-، و ضدّه عبادة، و كان الواجب أرجح في نظر الشارع من ضدّه العباديّ؛ فإنّه لمكان التزاحم بين الأمرين للتضادّ بين متعلّقيهما، و الأوّل أرجح في نظر الشارع، لا محالة يكون الأمر الفعليّ
____________
(١). من عدم وجوب مقدّمة الواجب مطلقا.
(٢). و أمّا الضدّ العامّ فلم يذكروا له ثمرة، مع أنّه أولى بذكرها من الضدّ الخاصّ؛ لأنّ الاقتضاء في الضدّ العامّ كان مفروغا عنه عندهم.
(٣). قال الشيخ الأنصاريّ: «و الظاهر أنّ هذه الثمرة من المسلّمات بين أكثر الأصحاب، سيّما القدماء منهم ...».
مطارح الأنظار: ١١٨.
و نقل عن الشيخ البهائيّ أنّه أنكر هذه الثمرة. هداية المسترشدين: ٢٤٤.
٣١٠
المنجّز هو الأوّل دون الثاني.
و حينئذ، فإن قلنا بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ، فإنّ الضدّ العباديّ يكون منهيّا عنه في الفرض، و النهي في العبادة يقتضي الفساد، فإذا أتي به وقع فاسدا. و إن قلنا بأنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ، فإنّ الضدّ العباديّ لا يكون منهيّا عنه، فلا مقتضي لفساده.
و أرجحيّة الواجب على ضدّه الخاصّ العباديّ تتصوّر في أربعة موارد:
١. أن يكون الضدّ العباديّ مندوبا، و لا شكّ في أنّ الواجب مقدّم على المندوب، كاجتماع الفريضة مع النافلة؛ فإنّه بناء على اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه لا يصحّ الاشتغال بالنافلة مع حلول وقت الفريضة، و لا بدّ أن تقع النافلة فاسدة. نعم، لا بدّ أن تستثنى من ذلك نوافل الوقت؛ لورود الأمر بها في خصوص وقت الفريضة، كنافلتي الظهر و العصر.
و على هذا، فمن كان عليه قضاء الفوائت لا تصحّ منه النوافل مطلقا، بناء على النهي عن الضدّ، بخلاف ما إذا لم نقل بالنهي عن الضدّ؛ فإنّ عدم جواز فعل النافلة حينئذ يحتاج إلى دليل خاصّ.
٢. أن يكون الضدّ العباديّ واجبا، و لكنّه أقلّ أهميّة عند الشارع من الأوّل، كما في مورد اجتماع إنقاذ نفس محترمة من الهلكة مع الصلاة الواجبة.
٣. أن يكون الضدّ العباديّ واجبا، و لكنه موسّع الوقت، و الأوّل مضيّق، و لا شكّ في أنّ المضيّق مقدّم على الموسّع و إن كان الموسّع أكثر أهميّة منه. مثاله: اجتماع قضاء الدين الفوريّ مع الصلاة في سعة وقتها. و إزالة النجاسة عن المسجد مع الصلاة في سعة الوقت.
٤. أن يكون الضدّ العباديّ واجبا أيضا، و لكنّه مخيّر، و الأوّل واجب معيّن، و لا شكّ في أنّ المعيّن مقدّم على المخيّر و إن كان المخيّر أكثر أهميّة منه؛ لأنّ المخيّر، له بدل دون المعيّن. مثاله: اجتماع سفر منذور في يوم معيّن مع [الصوم من] خصال الكفّارة، فلو ترك المكلّف السفر و اختار الصوم من خصال الكفّارة، فإن كان الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه كان الصوم منهيّا عنه فاسدا.
٣١١
هذه خلاصة بيان ثمرة المسألة مع بيان موارد ظهورها، و لكن هذا المقدار من البيان لا يكفي في تحقيقها؛ فإنّ ترتّبها و ظهورها يتوقّف على أمرين:
الأوّل: القول بأنّ النهي في العبادة يقتضي فسادها حتّى النهي الغيريّ التبعيّ؛ لأنّه إذا قلنا بأنّ النهي مطلقا لا يقتضي فساد العبادة أو خصوص النهي التبعيّ لا يقتضي الفساد، فلا تظهر الثمرة أبدا. و هو واضح؛ لأنّ الضدّ العباديّ حينئذ يكون صحيحا، سواء قلنا بالنهي عن الضدّ أم لم نقل.
و الحقّ أنّ النهي في العبادة يقتضي فسادها حتّى النهي الغيريّ على الظاهر. و سيأتي تحقيق ذلك في موضعه إن شاء اللّه (تعالى) (١).
و استعجالا في بيان هذا الأمر نشير إليه إجمالا، فنقول: إنّ أقصى ما يقال في عدم اقتضاء النهي التبعيّ للفساد هو: أنّ النهي التبعيّ لا يكشف عن وجود مفسدة في المنهيّ عنه، و إذا كان الأمر كذلك فالمنهيّ عنه باق على ما هو عليه من مصلحة بلا مزاحم لمصلحته، فيمكن التقرّب فيه إذا كان عبادة بقصد تلك المصلحة المفروضة فيه.
و هذا ليس بشيء- و إن صدر من بعض أعاظم مشايخنا (٢)-؛ لأنّ المدار في القرب و البعد في العبادة ليس على وجود المصلحة و المفسدة فقط؛ فإنّه من الواضح أنّ المقصود من القرب و البعد من المولى القرب و البعد المعنويّان؛ تشبيها بالقرب و البعد المكانيّين، و ما لم يكن الشيء مرغوبا فيه للمولى فعلا لا يصلح للتقرّب به إليه، و مجرّد وجود مصلحة فيه لا يوجب مرغوبيّته له مع فرض نهيه و تبعيده.
و بعبارة أخرى: لا وجه للتقرّب إلى المولى بما أبعدنا عنه، و المفروض أنّ النهي التبعيّ نهي مولويّ، و كونه تبعيّا لا يخرجه عن كونه زجرا، و تنفيرا، و تبعيدا عن الفعل و إن كان التبعيد لمفسدة في غيره، أو لفوات مصلحة الغير.
نعم، لو قلنا بأنّ النهي عن الضدّ ليس نهيا مولويّا، بل هو نهي يقتضيه العقل الذي
____________
(١). يأتي في المبحث الأوّل من المسألة الخامسة: ٣٥٥- ٣٥٦.
(٢). و هو المحقّق النائينيّ في فوائد الأصول ٢: ٤٥٦. و اختاره تلميذه المحقّق الخوئيّ في المحاضرات ٥: ٦- ٧.
٣١٢
لا يستكشف منه حكم الشرع- كما اخترناه في المسألة- فإنّ هذا النهي العقليّ لا يقتضي تبعيدا عن المولى إلّا إذا كشف عن مفسدة مبغوضة للمولى. و هذا شيء آخر لا يقتضيه حكم العقل في نفسه.
الثاني: أنّ صحّة العبادة و التقرّب لا يتوقّف على وجود الأمر الفعليّ بها، بل يكفي في التقرّب بها إحراز محبوبيّتها الذاتيّة للمولى، و إن لم يكن هناك أمر فعليّ بها لمانع.
أمّا إذا قلنا بأنّ عباديّة العبادة لا تتحقّق إلّا إذا كانت مأمورا بها بأمر فعليّ فلا تظهر هذه الثمرة أبدا؛ لأنّه قد تقدّم أنّ الضدّ العباديّ- سواء كان مندوبا أو واجبا أقلّ أهمّية أو موسّعا أو مخيّرا- لا يكون مأمورا به فعلا (١)، لمكان المزاحمة بين الأمرين، و مع عدم الأمر به لا يقع عبادة صحيحة و إن قلنا بعدم النهي عن الضدّ (٢).
و الحقّ هو الأوّل- أي إنّ عباديّة العبادة لا تتوقّف على تعلّق الأمر بها فعلا، بل إذا أحرز أنّها محبوبة في نفسها للمولى، مرغوبة لديه؛ فإنّه يصحّ التقرّب بها إليه و إن لم يأمر بها فعلا لمانع- (٣)، لأنّه- كما أشرنا إلى ذلك في مقدّمة الواجب (٤)- يكفي في عباديّة الفعل ارتباطه بالمولى، و الإتيان به متقرّبا به إليه مع ما يمنع من التعبّد به من كون فعله تشريعا، أو كونه منهيّا عنه، و لا تتوقّف عباديّته على قصد امتثال الأمر، كما مال إليه (٥) صاحب الجواهر (قدّس سرّه) (٦).
هذا، و قد يقال في المقام- نقلا عن المحقّق الثاني (تغمّده اللّه برحمته) (٧)-: إنّ هذه الثمرة تظهر حتى مع القول بتوقّف العبادة على تعلّق الأمر بها، و لكن ذلك في خصوص التزاحم بين الواجبين: الموسّع، و المضيّق و نحوهما، دون التزاحم بين الأهمّ و المهمّ المضيّقين.
____________
(١). تقدّم في الصفحة: ٣١٠.
(٢). أي و إن قلنا بأنّ الأمر لا يقتضي النهي عن الضدّ.
(٣). كما ذهب إليه المحقّق الأصفهانيّ في نهاية الدراية ١: ٣٨٣ و ٣٨٥.
(٤). راجع الصفحة: ٢٩٥.
(٥). أي إلى اعتبار قصد امتثال الأمر في عباديّة الفعل.
(٦). جواهر الكلام ٢: ٨٨ و ٩: ١٥٥- ١٥٦، ١٦١.
(٧). جامع المقاصد ٥: ١٢- ١٤.
٣١٣
و السرّ في ذلك: أنّ الأمر في الموسّع إنّما يتعلّق بصرف وجود الطبيعة على أن يأتي به المكلّف في أيّ وقت شاء من الوقت الوسيع المحدّد له. أمّا الأفراد بما لها من الخصوصيّات الوقتيّة، فليست مأمورا بها بخصوصها، و الأمر بالمضيّق إذا لم يقتض النهي عن ضدّه فالفرد المزاحم له من أفراد ضدّه الواجب الموسّع لا يكون مأمورا به لا محالة من أجل المزاحمة، و لكنّه لا يخرج بذلك عن كونه فردا من الطبيعة المأمور بها. و هذا كاف في حصول امتثال الأمر بالطبيعة؛ لأنّ انطباقها على هذا الفرد المزاحم قهريّ، فيتحقّق به الامتثال قهرا، و يكون مجزئا عقلا عن امتثال الطبيعة في فرد آخر؛ لأنّه لا فرق من جهة انطباق الطبيعة المأمور بها بين فرد و فرد.
و بعبارة أوضح أنّه لو كان الوجوب في الواجب الموسّع ينحلّ إلى وجوبات متعدّدة بتعدّد أفراده الطوليّة الممكنة في مدّة الوقت المحدّد على وجه يكون التخيير بينها شرعيّا، فلا محالة لا أمر بالفرد المزاحم للواجب المضيّق، و لا أمر آخر يصحّحه، فلا تظهر الثمرة، و لكنّ الأمر ليس كذلك؛ فإنّه ليس في الواجب الموسّع إلّا وجوب واحد يتعلّق بصرف وجود الطبيعة، غير أنّ الطبيعة لمّا كانت لها أفراد طوليّة متعدّدة يمكن انطباقها على كلّ واحد منها، فلا محالة يكون المكلّف مخيّرا عقلا بين الأفراد- أي يكون مخيّرا بين أن يأتي بالفعل في أوّل الوقت، أو ثانيه، أو ثالثه، و هكذا إلى آخر الوقت-، و ما يختاره من الفعل في أيّ وقت يكون هو الذي ينطبق عليه المأمور به، و إن امتنع أن يتعلّق الأمر به بخصوصه لمانع، بشرط أن يكون المانع من غير جهة نفس شمول الأمر المتعلّق بالطبيعة له، بل من جهة شيء خارج عنه و هو المزاحمة مع المضيّق في المقام.
هذا خلاصة توجيه (١) ما نسب إلى المحقّق الثانيّ (رحمه اللّه) في المقام، و لكنّ شيخنا المحقّق النائينيّ (رحمه اللّه) لم يرتضه (٢)؛ لأنّه يرى أنّ المانع من تعلّق الأمر بالفرد المزاحم يرجع إلى نفس شمول الأمر المتعلّق بالطبيعة له، يعني أنّه يرى أنّ الطبيعة المأمور بها بما هي مأمور بها
____________
(١). هذا التوجيه ما أفاده المحقّق النائينيّ في فوائد الأصول ١: ٣١٣. و له توجيه آخر ذكره المحقّق الخراسانيّ في كفاية الأصول: ١٦٦.
(٢). راجع فوائد الأصول ١: ٣١٤- ٣١٥.
٣١٤
لا تنطبق على الفرد المزاحم و لا تشمله، و انطباق الطبيعة لا بما هي مأمور بها على الفرد المزاحم لا ينفع و لا يكفي في امتثال الأمر بالطبيعة. و السرّ في ذلك واضح، فإنّا إذ نسلّم أنّ التخيير بين أفراد الطبيعة تخيير عقليّ نقول: إنّ التخيير إنّما هو بين أفراد الطبيعة المأمور بها بما هي مأمور بها، فالفرد المزاحم خارج عن نطاق هذه الأفراد التي بينها التخيير.
أمّا: أنّ الفرد المزاحم خارج عن نطاق أفراد الطبيعة المأمور بها بما هي مأمور بها، فلأنّ الأمر إنّما يتعلّق بالطبيعة المقدورة للمكلّف بما هي مقدورة: لأنّ القدرة شرط في المأمور به، مأخوذة في الخطاب، لا أنّها شرط عقليّ محض، و الخطاب (١) في نفسه عامّ شامل في إطلاقه للأفراد المقدورة و غير المقدورة.
بيان ذلك أنّ الأمر إنّما هو لجعل الداعي في نفس المكلّف، و هذا المعنى بنفسه يقتضي كون متعلّقه مقدورا؛ لاستحالة جعل الداعي إلى ما هو ممتنع؛ فيعلم من هذا أنّ القدرة مأخوذة في متعلّق الأمر و يفهم ذلك من نفس الخطاب، بمعنى أنّ الخطاب لمّا كان يقتضي القدرة على متعلّقه، فتكون سعة دائرة المتعلّق على قدر سعة دائرة القدرة عليه، لا تزيد و لا تنقص، أي تدور سعته و ضيقه مدار سعة القدرة و ضيقها.
و على هذا، فلا يكون الأمر شاملا لما هو ممتنع من الأفراد؛ إذ يكون المطلوب به الطبيعة بما هي مقدورة، و الفرد غير المقدور خارج عن أفرادها بما هي مأمور بها.
نعم، لو كان اعتبار القدرة بملاك قبح تكليف العاجز فهي شرط عقليّ لا يوجب تقييد متعلّق الخطاب؛ لأنّه ليس من اقتضاء نفس الخطاب، فيكون متعلّق الأمر هي الطبيعة بما هي، لا بما هي مقدورة، و إن كان بمقتضى حكم العقل لا بدّ أن يقيّد الوجوب بها، فالفرد المزاحم- على هذا- هو أحد أفراد الطبيعة بما هي التي تعلّق بها كذلك.
و تشييد ما أفاده أستاذنا و مناقشته يحتاج إلى بحث أوسع لسنا بصدده الآن، راجع عنه تقريرات تلامذته (٢).
____________
(١). أي و لا أنّ الخطاب في نفسه عامّ ....
(٢). راجع المحاضرات ٣: ٥٨- ٦٤.
٣١٥
الترتّب (١)
و إذ امتدّ (٢) البحث إلى هنا، فهناك مشكلة فقهيّة تنشأ من الخلاف المتقدّم لا بدّ من التعرّض لها بما يليق بهذه الرسالة.
و هي أنّ كثيرا من الناس نجدهم يحرصون- بحسب تهاونهم- على فعل بعض (٣) العبادات المندوبة في ظرف وجوب شيء هو ضدّ للمندوب، فيتركون الواجب و يفعلون المندوب، كمن يذهب للزيارة، أو يقيم مأتم الحسين (عليه السّلام) و عليه دين واجب الأداء؛ كما نجدهم يفعلون بعض الواجبات العباديّة في حين أنّ هناك عليهم واجبا أهمّ فيتركونه، أو واجبا مضيّق الوقت مع أنّ الأوّل موسّع فيقدّمون الموسّع على المضيّق، أو واجبا معيّنا مع أنّ الأوّل مخيّر فيقدّمون المخيّر على المعيّن ... و هكذا.
و يجمع الكلّ تقديم فعل المهمّ العباديّ على الأهمّ، فإنّ المضيّق أهمّ من الموسّع، و المعيّن أهمّ من المخيّر، كما أنّ الواجب أهمّ من المندوب. و من الآن سنعبّر بالأهمّ و المهمّ و نقصد ما هو أعمّ من ذلك كلّه.
فإذا قلنا بأنّ صحّة العبادة لا تتوقّف على وجود أمر فعليّ متعلّق به، و قلنا بأنّه لا نهي عن الضدّ، أو النهي عنه لا يقتضي الفساد فلا إشكال و لا مشكلة؛ لأنّ فعل المهمّ العباديّ يقع صحيحا حتّى مع فعليّة الأمر بالأهمّ، غاية الأمر يكون المكلّف عاصيا بترك الأهمّ من دون أن يؤثّر ذلك على صحّة ما فعله من العبادة.
و إنّما المشكلة فيما إذا قلنا بالنهي عن الضدّ، و أنّ النهي يقتضي الفساد، أو قلنا بتوقّف
____________
(١). إنّ مسألة الترتّب من المسائل الحديثة، و ليس لها في كتب القدماء ذكر و لا أثر. و أوّل من التزم به هو المحقّق الثاني ثمّ كاشف الغطاء. و فصّله المجدد الشيرازيّ، ثمّ رتّبه السيّد الفشاركيّ، و ارتضاه جلّ المتأخّرين. راجع عنه: جامع المقاصد ٥: ١٢- ١٣؛ كشف الغطاء: ٢٧؛ تقريرات المجدّد الشيرازيّ ٢:
٢٧٣- ٢٨٢؛ الرسائل الفشاركيّة: ١٨٤- ١٨٩، فوائد الأصول ١: ٣٣٦؛ نهاية الدراية ١: ٤٤٥.
(٢). في «س» انجرّ.
(٣). و في «س»: و هي أنّ كثيرا ما يكون محلّ بلوى الناس ما يقع منهم بسبب سوء اختيارهم و تهاونهم على الغالب، و ذلك حينما يحرصون على فعل ....
٣١٦
صحّة العبادة على الأمر بها- كما هو المعروف عن الشيخ صاحب الجواهر (قدّس سرّه) (١)-، فإنّ أعمالهم هذه كلّها باطلة و لا يستحقّون عليها ثوابا؛ لأنّه إمّا منهيّ عنها و النهي يقتضي الفساد، و إمّا لا أمر بها و صحّتها تتوقّف على الأمر.
فهل هناك طريقة لتصحيح فعل المهمّ العباديّ مع وجود الأمر بالأهمّ؟
ذهب جماعة إلى تصحيح العبادة في المهمّ بنحو «الترتّب» بين الأمرين: الأمر بالأهمّ و الأمر بالمهمّ، مع فرض القول بعدم النهي عن الضدّ و أنّ صحّة العبادة تتوقّف على وجود الأمر. (٢)
و الظاهر أنّ أوّل من أسّس هذه الفكرة، و تنبّه لها المحقّق الثاني، و شيّد أركانها السيّد الميرزا الشيرازيّ، كما أحكمها (٣) و نقّحها شيخنا المحقّق النائينيّ (قدّس سرّه) (٤).
و هذه الفكرة و تحقيقها من أروع (٥) ما انتهى إليه البحث الأصوليّ تصويرا و عمقا.
و خلاصة فكرة «الترتّب» أنّه لا مانع عقلا من أن يكون الأمر بالمهمّ فعليّا عند عصيان الأمر بالأهمّ، فإذا عصى المكلّف و ترك الأهمّ فلا محذور في أن يفرض الأمر بالمهمّ حينئذ؛ إذ لا يلزم منه طلب الجمع بين الضدّين، كما سيأتي توضيحه. (٦)
و إذا لم يكن مانع عقليّ من هذا الترتّب؛ فإنّ الدليل يساعد على وقوعه، و الدليل هو نفس الدليلين المتضمّنين للأمر بالمهمّ و الأمر بالأهمّ، و هما كافيان لإثبات وقوع الترتّب.
و عليه، ففكرة الترتّب و تصحيحها يتوقّف على شيئين رئيسين في الباب: أحدهما:
إمكان الترتّب في نفسه. و ثانيهما: الدليل على وقوعه.
أمّا الأوّل:- و هو إمكانه في نفسه- فبيانه أنّ أقصى ما يقال في إبطال الترتّب و
____________
(١). جواهر الكلام ٢: ٨٨، و ٩: ١٥٥- ١٥٦ و ١٦١.
(٢). أمّا نحن- الذين نقول بأنّ صحّة العبادة لا تتوقّف على وجود الأمر فعلا و أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه- ففي غنى عن القول بالترتّب لتصحيح العبادة في مقام المزاحمة بين الضدّين الأهمّ و المهمّ، كما تقدّم.- منه (رحمه اللّه)-.
(٣). و في «س»: و أحكم بنيانها.
(٤). راجع التعليقة رقم «١» من الصفحة: ٣١٥.
(٥). أي أعجب، و بالفارسيّة: «شگفتانگيزتر، خوشتر، لذتبخشتر».
(٦). سيأتي بعد أسطر.
٣١٧
استحالته هو: دعوى لزوم المحال منه، و هو فعليّة الأمر بالضدّين في آن واحد؛ لأنّ القائل بالترتّب يقول بإطلاق الأمر بالأهمّ، و شموله لصورتي فعل الأهمّ و تركه، ففي حال فعليّة الأمر بالمهمّ- و هو حال ترك الأهمّ (١)- يكون الأمر بالأهمّ فعليّا على قوله، و الأمر بالضدّين في آن واحد محال.
و لكن هذه الدعوى- عند القائل بالترتّب- باطلة؛ لأنّ قوله: «الأمر بالضدّين في آن واحد محال» فيه مغالطة ظاهرة، فإنّ قيد «في آن واحد» يوهم أنّه راجع إلى «الضدّين»، فيكون محالا؛ إذ يستحيل الجمع بين الضدّين، بينما هو في الحقيقة راجع إلى الأمر، و لا استحالة في أن يأمر المولى في آن واحد بالضدّين، إذا لم يكن المطلوب الجمع بينهما في آن واحد؛ لأنّ المحال هو الجمع بين الضدّين، لا الأمر بهما في آن واحد و إن لم يستلزم الجمع بينهما.
أمّا: أنّ قيد «في آن واحد» راجع إلى الأمر لا إلى الضدّين فواضح؛ لأنّ المفروض أنّ الأمر بالمهمّ مشروط بترك الأهمّ، فالخطاب الترتّبيّ ليس فقط لا يقتضي الجمع بين الضدّين، بل يقتضي عكس ذلك؛ لأنّه في حال انشغال المكلّف بامتثال الأمر بالأهمّ و إطاعته، لا أمر في هذا الحال إلّا بالأهمّ، و نسبة المهمّ إليه حينئذ كنسبة المباحات إليه، و أمّا: في حال ترك الأهمّ و الانشغال بالمهمّ فإنّ الأمر بالأهمّ نسلّم أنّه يكون فعليّا و كذلك الأمر بالمهمّ، و لكن خطاب المهمّ حسب الفرض مشروط بترك الأهمّ و خلوّ الزمان منه، ففي هذا الحال المفروض يكون الأمر بالمهمّ داعيا للمكلّف إلى فعل المهمّ في حال ترك الأهمّ، فكيف يكون داعيا إلى الجمع بين الأهمّ و المهمّ في آن واحد؟!
و بعبارة أوضح: إنّ إيجاب الجمع لا يمكن أن يتصوّر إلّا إذا كان هناك مطلوبان في عرض واحد، على وجه لو فرض إمكان الجمع بينهما، لكان كلّ منهما مطلوبا، و في الترتّب لو فرض محالا إمكان الجمع بين الضدّين فإنّه لا يكون المطلوب إلّا الأهمّ، و لا يقع المهمّ في هذا الحال على صفة المطلوبيّة أبدا، لأنّ طلبه حسب الفرض مشروط
____________
(١). قوله: «و هو حال ترك الأهمّ» ليس في «س».
٣١٨
بترك الأهمّ، فمع فعله لا يكون مطلوبا.
و أمّا الثاني:- و هو الدليل على وقوع الترتّب و أنّ الدليل هو نفس دليلي الأمرين- فبيانه أنّ المفروض أنّ لكلّ من الأهمّ و المهمّ- حسب دليل كلّ منهما- حكما مستقلّا مع قطع النظر عن وقوع المزاحمة بينهما، كما أنّ المفروض أنّ دليل كلّ منهما مطلق بالقياس إلى صورتي فعل الآخر و عدمه. فإذا وقع التزاحم بينهما اتّفاقا، فبحسب إطلاقهما يقتضيان إيجاب الجمع بينهما، و لكن ذلك محال، فلا بدّ أن ترفع اليد عن إطلاق أحدهما، و لكنّ المفروض أنّ الأهمّ أولى و أرجح، و لا يعقل تقديم المرجوح على الراجح و المهمّ على الأهمّ، فيتعيّن رفع اليد عن إطلاق دليل الأمر بالمهمّ فقط، و لا يقتضي ذلك رفع اليد عن أصل دليل المهمّ. لأنه إنّما نرفع اليد عنه من جهة تقديم إطلاق الأهمّ لمكان المزاحمة بينهما و أرجحيّة الأهمّ، و الضرورات إنّما تقدّر بقدرها.
و إذا رفعنا اليد عن إطلاق دليل المهمّ مع بقاء أصل الدليل فإنّ معنى ذلك اشتراط خطاب المهمّ بترك الأهمّ. و هذا هو معنى الترتّب المقصود.
و الحاصل أنّ معنى الترتّب المقصود هو اشتراط الأمر بالمهمّ بترك الأهمّ، و هذا الاشتراط حاصل فعلا بمقتضى الدليلين، مع ضمّ حكم العقل بعدم إمكان الجمع بين امتثالهما معا، و بتقديم الراجح على المرجوح الذي لا يرفع إلّا إطلاق دليل المهمّ، فيبقى أصل دليل الأمر بالمهمّ على حاله في صورة ترك الأهمّ، فيكون الأمر الذي يتضمّنه الدليل مشروطا بترك الأهمّ.
و بعبارة أوضح أنّ دليل المهمّ في أصله مطلق يشمل صورتين: صورة فعل الأهمّ، و صورة تركه، و لمّا رفعنا اليد عن شموله لصورة فعل الأهمّ لمكان المزاحمة و تقديم الراجح فيبقى شموله لصورة ترك الأهمّ بلا مزاحم، و هذا معنى اشتراطه بترك الأهمّ.
فيكون هذا الاشتراط مدلولا لدليلي الأمرين معا بضميمة حكم العقل، و لكن هذه الدلالة من نوع دلالة الإشارة (١).
____________
(١). راجع عن معنى دلالة الإشارة الصفحة: ١٤٩.
٣١٩
هذه خلاصة فكرة «الترتّب» على علاتها، و هناك فيها جوانب تحتاج إلى مناقشة و إيضاح تركناها إلى المطوّلات (١)، و قد وضع لها شيخنا المحقّق النائينيّ خمس مقدّمات لسدّ ثغورها، راجع عنها تقريرات تلامذته (٢).
تمرينات (٣٩)
التمرين الأوّل ١. بيّن مراد الأصوليّين من الألفاظ التالية: ألف) الضدّ. ب) الاقتضاء. ج) النهي.
٢. ما الفرق بين الضدّ العامّ و الضدّ الخاصّ؟
٣. ما هو محلّ النزاع في مسألة الضدّ؟
٤. اذكر الأقوال في كيفيّة اقتضاء الأمر بالشيء. للنهي عن ضدّه العامّ، و بيّن ما هو الحقّ و الدليل عليه.
٥. هل الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضدّ الخاصّ؟
٦. ما الفرق بين مسلك التلازم و مسلك المقدّميّة؟
٧. ما هي شبهة الكعبيّ؟ و بم تبطل؟
٨. ما الدليل على بطلان مسلك التلازم و مسلك المقدّميّة؟
٩. ما هي الثمرة لمسألة الضدّ؟ و ما هي موارد ظهورها؟
١٠. بيّن ما نسب إلى المحقّق الثاني في المقام. و اذكر كلام المحقق النائيني في ردّه.
١١. ما هو محلّ البحث في مسألة الترتّب؟
التمرين الثاني ١. ما هي الأقوال في المقدّميّة؟
____________
(١). و إن شئت فراجع نهاية الأفكار ٢: ٣٧٤- ٣٧٧؛ نهاية الدراية ١: ٤٤٥- ٤٧٩، المحاضرات ٣: ٩١- ٢٠١، تهذيب الأصول ١: ٢٤٩- ٢٦٨.
(٢). فوائد الأصول ١: ٣٣٦- ٣٩٣.
٣٢٠
المسألة الرابعة: اجتماع الأمر و النهي
تحرير محلّ النزاع
و اختلف الأصوليّون من القديم في أنّه هل يجوز اجتماع الأمر و النهي في واحد أو لا يجوز (١)؟
ذهب إلى الجواز أغلب الأشاعرة (٢)، و جملة من أصحابنا، أوّلهم الفضل بن شاذان على ما هو المعروف عنه (٣)، و عليه جماعة من محقّقي المتأخّرين (٤). و ذهب إلى الامتناع أكثر المعتزلة (٥)، و أكثر أصحابنا (٦).
____________
(١). هذا هو المعروف من القديم في عنوان المسألة. و عدل عنه المتأخّرون إلى أنّ العنوان القابل للنزاع هكذا:
«هل يستلزم تعلّق الأمر بشيء و النهي عن الشيء الآخر المتّحدين إيجادا و وجودا اجتماع الأمر و النهي في الشيء الواحد أم لا؟». و ذلك لأنّ امتناع الاجتماع عندهم من الواضحات. راجع فوائد الأصول ٢:
٣٩٦- ٣٩٧؛ نهاية الأفكار ٢: ٤٠٨- ٤٠٩؛ نهاية النهاية ١: ٢١٠.
(٢). نسب إليهم في قوانين الأصول ١: ١٤٠. و الوجه في ذهابهم إلى الجواز أنّهم ذهبوا إلى جواز التكليف بما لا يطاق، كما في المواقف: ٣٣٠. و ذهب بعضهم إلى عدم الجواز كالباقلاني كما في مطارح الأنظار: ١٢٩.
(٣). قد نقل المحدّث الكلينيّ عن الفضل بن شاذان أنّه قال: «... كرجل دخل دار قوم بغير إذنهم فصلّى فيها فهو عاص في دخوله الدار و صلاته جائزة ...» الكافي ٦: ٩٤. فالظاهر من كلامه أنّه قائل بجواز اجتماع الأمر و النهي، حيث حكم بصحّة الصلاة في الدار المغصوبة.
و لكنّ الشيخ الأنصاريّ أنكر نسبته إليه، فقال- على ما في تقريرات درسه-: «و الإنصاف أنّ الاستظهار من كلام الفضل ممّا لا وجه له؛ لأنّه هو الذي نقله الكلينيّ في كتاب الطلاق، و هو يدلّ على صحّة الصلاة في الدار المغصوبة، و هو أعمّ من القول بالجواز». مطارح الأنظار: ١٢٩
(٤). قال المحقّق القميّ: «و ذهب إليه جلّة من فحول متأخّرينا، كمولانا المحقّق الأردبيليّ، و سلطان العلماء، و المحقّق الخوانساريّ، و ولده المحقّق، و الفاضل المدقّق الشيروانيّ، و الفاضل الكاشانيّ، و السيّد الفاضل صدر الدين، و أمثالهم». قوانين الأصول ١: ١٢٩.
و ذهب إليه بعض المعاصرين، كالمحقّق النائينيّ في فوائد الأصول ١: ٣٩٨، و السيّد البروجرديّ في نهاية الأصول؛ ٢٣٢، و الإمام الخمينيّ في المناهج ٢: ١٢٨.
(٥). نسب إليهم في مطارح الأنظار: ١٢٩.
(٦). منهم المحقّق الخراسانيّ في الكفاية: ١٩٣، و صاحب الفصول في الفصول: ١٢٥، و صاحب المعالم في معالم الدين: ١٠٧، و صاحب الجواهر في الجواهر ٨: ١٤٣.
٣٢١
و كأنّ المسألة- فيما يبدو من عنوانها- من الأبحاث التافهة (١)؛ إذ لا يمكن أن نتصوّر النزاع في إمكان اجتماع الأمر و النهى في واحد حتى لو قلنا بعدم امتناع التكليف بالمحال، كما تقوله الأشاعرة؛ لأنّ التكليف هنا نفسه محال، و هو الأمر و النهي بشيء واحد. و امتناع ذلك من أوضح الواضحات، و هو محلّ وفاق بين الجميع.
إذن، فكيف صحّ هذا النزاع من القوم؟! و ما معناه؟
و الجواب أنّ التعبير باجتماع الأمر و النهي من خداع العناوين، فلا بدّ من توضيح مقصودهم من البحث بتوضيح الكلمات الواردة في هذا العنوان، و هي كلمة «الاجتماع، الواحد، الجواز». ثمّ ينبغي أن نبحث أيضا عن قيد آخر لتصحيح النزاع، و هو قيد «المندوحة» الذي أضافه بعض المؤلّفين (٢)، و هو على حقّ. و عليه نقول:
١. «الاجتماع» و المقصود منه هو الالتقاء الاتفاقيّ بين المأمور به و المنهيّ عنه في شيء واحد. و لا يفرض ذلك إلّا حيث يفرض تعلّق الأمر بعنوان، و تعلّق النهي بعنوان آخر لا ربط له بالعنوان الأوّل، و لكن قد يتّفق نادرا أن يلتقي العنوانان في شيء واحد و يجتمعا فيه، و حينئذ يجتمع- أي يلتقي- الأمر و النهي.
و لكن هذا الاجتماع و الالتقاء بين العنوانين على نحوين:
أ- أن يكون اجتماعا مورديّا، يعني أن لا يكون هنا فعل واحد مطابقا لكلّ من العنوانين، بل يكون هنا فعلان تقارنا و تجاورا في وقت واحد، أحدهما يكون مطابقا لعنوان الواجب، و ثانيهما مطابقا لعنوان المحرّم، مثل النظر إلى الأجنبيّة في أثناء الصلاة، فلا النظر هو مطابق عنوان الصلاة و لا الصلاة مطابق عنوان النظر إلى الأجنبيّة، و لا هما ينطبقان على فعل واحد؛ فإنّ مثل هذا الاجتماع المورديّ لم يقل أحد بامتناعه، و ليس هو داخلا في مسألة الاجتماع هذه، فلو جمع المكلّف بينهما بأن نظر إلى الأجنبيّة في أثناء
____________
(١). تفه تفها: قلّ و خسّ. بالفارسيّة: «كم، ناچيز». و المراد منها «بىمزه».
(٢). أوّل من أخذ قيد «المندوحة» في محلّ النزاع هو المحقّق القميّ، و إن لم يصرّح به. راجع قوانين الأصول ١:
١٤٠ و ١٤٢ و ١٥٣.
و أوّل من صرّح بذلك هو صاحب الفصول، حيث قال: «و إن اختلفت الجهتان و كان للمكلّف مندوحة في الامتثال فهو موضع النزاع». الفصول الغرويّة: ١٢٤.
٣٢٢
الصلاة فقد عصى و أطاع في آن واحد، و لا تفسد صلاته.
ب- أن يكون اجتماعا حقيقيّا، و إن كان ذلك في النظر العرفيّ، و في بادئ الرأي- يعني أنّه فعل واحد يكون مطابقا لكلّ من العنوانين، كالمثال المعروف «الصلاة في المكان المغصوب»، فإنّ مثل هذا المثال هو محلّ النزاع في مسألتنا، المفروض فيه أنّه لا ربط لعنوان الصلاة المأمور به بعنوان الغصب المنهيّ عنه؛ و لكن قد يتّفق للمكلّف صدفة أن يجمع بينهما بأن يصلّي في مكان مغصوب، فيلتقي العنوان المأمور به- و هو الصلاة- مع العنوان المنهيّ عنه- و هو الغصب-، و ذلك في الصلاة المأتيّ بها في مكان مغصوب، فيكون هذا الفعل الواحد مطابقا لعنوان الصلاة و لعنوان الغصب معا. و حينئذ إذا اتّفق ذلك للمكلّف فإنّه يكون هذا الفعل الواحد داخلا فيما هو مأمور به من جهة، فيقتضي أن يكون المكلّف مطيعا للأمر ممتثلا، و داخلا فيما هو منهيّ عنه من جهة أخرى، فيقتضي أن يكون المكلّف عاصيا به مخالفا.
٢. «الواحد» و المقصود منه الفعل الواحد باعتبار أنّ له وجودا واحدا يكون ملتقى و مجمعا للعنوانين في مقابل المتعدّد بحسب الوجود، كالنظر إلى الأجنبيّة و الصلاة، فإنّ وجود أحدهما غير وجود الآخر، فإنّ الاجتماع في مثل هذا يسمّى «الاجتماع المورديّ» كما تقدّم.
و الفعل الواحد بما له من الوجود الواحد إذا كان ملتقى للعنوانين، فإنّ التقاء العناوين فيه لا يخلو من حالتين: إحداهما: أن يكون الالتقاء بسبب ماهيّته الشخصيّة. و ثانيتهما: أن يكون الالتقاء بسبب ماهيّته الكلّية، كأن يكون الكلّي نفسه مجمعا للعنوانين، كالكون الكلّي الذي ينطبق عليه أنّه صلاة و غصب.
و عليه، فالمقصود من الواحد في المقام الواحد في الوجود (١)، فلا معنى لتخصيص النزاع بالواحد الشخصيّ (٢).
و بما ذكرنا يظهر خروج الواحد بالجنس عن محلّ الكلام؛ و المراد به ما إذا كان
____________
(١). كما في الكفاية: ١٨٣.
(٢). خلافا للمحقّق القميّ و صاحب الفصول، فإنّهما خصّصا النزاع بالواحد الشخصيّ. راجع قوانين الأصول ١:
١٤٠، و الفصول الغرويّة: ١٢٤.
٣٢٣
المأمور به و المنهيّ عنه متغايرين وجودا، و لكنّهما يدخلان تحت ماهيّة واحدة، كالسجود للّه و السجود للصنم، فإنّهما واحد بالجنس باعتبار أنّ كلّا منهما داخل تحت عنوان السجود، و لا شكّ في خروج ذلك عن محلّ النزاع.
٣. «الجواز» و المقصود منه الجواز العقليّ- أي الإمكان المقابل للامتناع- و هو واضح؛ و يصحّ أن يراد منه الجواز العقليّ المقابل للقبح العقليّ، و هو قد يرجع إلى الأوّل باعتبار أنّ القبيح ممتنع على اللّه (تعالى).
و الجواز له معان أخر، كالجواز المقابل للوجوب و الحرمة الشرعيّين، و الجواز بمعنى الاحتمال؛ و كلّها غير مرادة قطعا.
إذا عرفت تفسير هذه الكلمات الثلاث الواردة في عنوان المسألة يتّضح لك جيّدا تحرير النزاع فيها، فإنّ حاصل النزاع في المسألة يكون أنّه في مورد التقاء عنواني المأمور به، و المنهيّ عنه في واحد وجودا هل يجوز اجتماع الأمر و النهي؟
و معنى ذلك: أنّه هل يصحّ أن يبقى الأمر متعلّقا بذلك العنوان المنطبق على ذلك الواحد، و يبقى النهي كذلك متعلّقا بالعنوان المنطبق على ذلك الواحد، فيكون المكلّف مطيعا و عاصيا معا في الفعل الواحد، أو أنّه يمتنع ذلك و لا يجوز، فيكون ذلك المجتمع للعنوانين إمّا مأمورا به فقط، أم منهيّا عنه فقط، أي إنّه إمّا أن يبقى الأمر على فعليّته فقط، فيكون المكلّف مطيعا لا غير، أو يبقى النهي على فعليّته فقط، فيكون المكلّف عاصيا لا غير.
و القائل بالجواز لا بدّ أن يستند في قوله إلى أحد رأيين:
١. أن يرى أنّ العنوان بنفسه هو متعلّق التكليف، و لا يسري الحكم إلى المعنون، فانطباق عنوانين على فعل واحد لا يلزم منه أن يكون ذلك الواحد متعلّقا للحكمين، فلا يمتنع الاجتماع- أي اجتماع عنوان المأمور به مع عنوان المنهيّ عنه في واحد-؛ لأنّه لا يلزم منه اجتماع نفس الأمر و النهي في واحد.
٢. أن يرى أنّ المعنون- على تقدير تسليم أنّه هو متعلّق الحكم حقيقة لا العنوان-، يكون متعدّدا واقعا، إذا تعدّد العنوان؛ لأنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون بالنظر الدقيق الفلسفيّ، ففي الحقيقة- و إن كان فعل واحد في ظاهر الحال صار مطابقا للعنوانين- هناك
٣٢٤
معنونان كلّ واحد منهما مطابق لأحد العنوانين، فيرجع اجتماع الوجوب و الحرمة بالدقّة العقليّة إلى الاجتماع المورديّ الذي قلنا: إنّه لا بأس فيه من الاجتماع.
و على هذا، فليس هناك واحد بحسب الوجود يكون مجمعا بين العنوانين في الحقيقة، بل ما هو مأمور به في وجوده غير ما هو منهيّ عنه في وجوده. و لا تلزم سراية الأمر إلى ما تعلّق به النهي، و لا سراية النهي إلى ما تعلّق به الأمر، فيكون المكلّف في جمعه بين العنوانين مطيعا و عاصيا في آن واحد، كالناظر إلى الأجنبيّة في أثناء الصلاة.
و بهذا يتّضح معنى القول بجواز اجتماع الأمر و النهي، و في الحقيقة ليس هو قولا باجتماع الأمر و النهي في واحد، بل إمّا أنّه يرجع إلى القول باجتماع عنوان المأمور به و المنهيّ عنه في واحد دون أن يكون هناك اجتماع بين الأمر و النهي، و إمّا أن يرجع إلى القول بالاجتماع المورديّ فقط، فلا يكون اجتماع بين الأمر و النهي، و لا بين المأمور به و المنهيّ عنه.
و أمّا القائل بالامتناع: فلا بدّ أن يذهب إلى أنّ الحكم يسري من العنوان إلى المعنون و أنّ تعدّد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون؛ فإنّه لا يمكن حينئذ بقاء الأمر و النهي معا و توجّههما متعلّقين بذلك المعنون الواحد بحسب الوجود؛ لأنّه يلزم اجتماع نفس الأمر و النهي في واحد، و هو مستحيل، فإمّا أن يبقى الأمر و لا نهي، أو يبقى النهي و لا أمر.
و لقد أحسن صاحب المعالم في تحرير النزاع؛ إذ عبّر بكلمة «التوجّه» بدلا عن كلمة «الاجتماع» فقال: «الحقّ امتناع توجّه الأمر و النهي إلى شيء واحد ...» (١).
المسألة من الملازمات العقليّة غير المستقلّة (٢)
و من التقرير المتقدّم لبيان محلّ النزاع يظهر كيف أنّ المسألة هذه ينبغي أن تدخل في
____________
(١). معالم الدين: ١٠٧.
(٢). اعلم أنّهم اختلفوا في كونها من المسائل الأصوليّة أو غيرها. فذهب المحقّق القميّ إلى أنّها من المسائل الكلاميّة. و ذهب الشيخ الأنصاريّ إلى أنّها من المبادئ الأحكاميّة. و ذهب المحقّق النائيني إلى أنّها من المبادئ التصديقيّة لعلم الأصول. و ذهب أكثر المعاصرين إلى أنّها من المسائل الأصوليّة غير المستقلّة، و اختاره المصنّف في المقام. راجع القوانين ١: ١٤٠؛ مطارح الأنظار: ١٢٦؛ فوائد الأصول ٢: ٣٩٨؛ نهاية الأفكار ٢: ٤٠٧؛ المحاضرات ٤: ١٨٠؛ مناهج الوصول ٢: ١١٣.
٣٢٥
الملازمات العقليّة غير المستقلّة، فإنّ معنى القول بالامتناع هو تنقيح صغرى الكبرى العقليّة القائلة بامتناع اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد حقيقيّ.
توضيح ذلك أنّه إذا قلنا بأنّ الحكم يسري من العنوان إلى المعنون، و أنّ تعدّد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون؛ فإنّه يتنقّح عندنا موضوع اجتماع الأمر و النهي في واحد الثابتين شرعا، فيقال على نهج القياس الاستثنائيّ هكذا: «إذا التقى عنوان المأمور به و المنهيّ عنه في واحد بسوء الاختيار، فإن بقي الأمر و النهي فعليّين معا، فقد اجتمع الأمر و النهي في واحد». و هذه هي الصغرى.
و مستند هذه الملازمة في الصغرى هو سراية الحكم من العنوان إلى المعنون، و أنّ تعدّد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون. و إنّما تفرض هذه الملازمة حيث يفرض ثبوت الأمر و النهي شرعا بعنوانيهما.
ثمّ نقول: «و لكنّه يستحيل اجتماع الأمر و النهي في واحد». و هذه هي الكبرى. و هذه الكبرى عقليّة تثبت في غير هذه المسألة.
و هذا القياس استثنائيّ قد استثني فيه نقيض التالي، فيثبت به نقيض المقدّم، و هو عدم بقاء الأمر و النهي فعليّين معا.
و أمّا بناء على الجواز: فيخرج هذا المورد من مورد الالتقاء عن أن يكون صغرى لتلك الكبرى العقليّة.
و لا يجب في كون المسألة أصوليّة من المستقلّات العقليّة و غيرها أن تقع صغرى للكبرى العقليّة على تقدير جميع الأقوال، بل يكفي أن تقع صغرى على أحد الأقوال فقط، فإنّ هذا شأن جميع المسائل الأصوليّة المتقدّمة اللفظيّة و العقليّة، أ لا ترى أنّ المباحث اللفظيّة كلّها لتنقيح صغرى أصالة الظهور، مع أنّ المسألة لا تقع صغرى لأصالة الظهور على جميع الأقوال فيها، كمسألة دلالة صيغة «افعل» على الوجوب، فإنّه على القول بالاشتراك اللفظيّ أو المعنويّ لا يبقى لها ظهور في الوجوب أو غيره.
و لا وجه لتوهّم كون هذه المسألة فقهيّة، أو كلاميّة، أو أصوليّة لفظيّة، و هو واضح بعد ما قدّمناه من شرح تحرير النزاع، و بعد ما ذكرناه سابقا في أوّل هذا الجزء من مناط كون
٣٢٦
المسألة الأصوليّة من باب غير المستقلّات العقليّة (١).
مناقشة الكفاية في تحرير النزاع
و بعد ما حرّرناه من بيان النزاع في المسألة يتّضح ابتناء القول بالجواز فيها على أحد رأيين: إمّا القول بأنّ متعلّق الأحكام هي نفس العنوانات دون معنوناتها، و إمّا القول بأنّ تعدّد العنوان يستدعي تعدّد المعنون (٢).
فتكون مسألة تعدّد المعنون بتعدّد العنوان و عدم تعدّده حيثيّة تعليليّة في مسألتنا و من المبادئ التصديقيّة لها على أحد احتمالين، لا أنّها هي نفس محلّ النزاع في الباب، فإنّ البحث هنا ليس إلّا عن نفس الجواز و عدمه، كما عبّر بذلك كلّ من بحث عن هذه المسألة من القديم.
و من هنا تتجلّى المناقشة فيما أفاده في كفاية الأصول من رجوع محلّ البحث هنا إلى البحث عن استدعاء تعدّد العنوان لتعدّد المعنون و عدمه (٣)، فإنّه فرق عظيم بين ما هو محلّ النزاع و بين ما يبتني عليه النزاع في أحد احتمالين؛ فلا وجه للخلط بينهما و إرجاع أحدهما إلى الآخر، و إن كان في هذه المسألة لا بدّ للأصوليّ من البحث عن أنّ تعدّد العنوان هل يوجب تعدّد المعنون؟ باعتبار أنّ هذا البحث ليس ممّا يذكر في موضع آخر.
قيد المندوحة
ذكرنا فيما سبق أنّ بعضهم قيّد النزاع هنا بأن تكون هناك مندوحة في مقام الامتثال (٤).
و معنى «المندوحة» أن يكون المكلّف متمكّنا من امتثال الأمر في مورد آخر غير مورد الاجتماع.
____________
(١). راجع الصفحة: ٢٢١ و ٢٤٩.
(٢). بالنظر الدقيق الفلسفيّ.
(٣). راجع كفاية الأصول: ١٨٤.
(٤). راجع التعليقة رقم (٢) من الصفحة: ٣٢١.
٣٢٧
و نظر إلى ذلك كلّ من قيّد موضع النزاع بما إذا كان الجمع بين العنوانين بسوء اختيار المكلّف.
و إنّما قيّد بها موضع النزاع للاتّفاق بين الطرفين على عدم جواز الاجتماع في صورة عدم وجود المندوحة، و ذلك فيما إذا انحصر امتثال الأمر في مورد الاجتماع، لا بسوء اختيار المكلّف.
و السرّ واضح؛ فإنّه عند الانحصار تستحيل فعليّة التكليفين؛ لاستحالة امتثالهما معا؛ لأنّه إن فعل ما هو مأمور به فقد عصى النهي، و إن تركه فقد عصى الأمر، فيقع التزاحم حينئذ بين الأمر و النهي.
و ظاهر أنّ اعتبار قيد المندوحة لازم لما ذكرناه؛ إذ ليس النزاع جهتيّا- كما ذهب إليه صاحب الكفاية (١)-، أي من جهة كفاية تعدّد العنوان في تعدّد المعنون و عدمه و إن لم يجز الاجتماع من جهة أخرى، حتّى لا نحتاج إلى هذا القيد، بل النزاع- كما تقدّم (٢)- هو في جواز الاجتماع و عدمه من أيّة جهة فرضت و ليس جهتيّا. و عليه، فما دام النزاع غير واقع في عدم الجواز في صورة عدم المندوحة فهذه الصورة لا تدخل في محلّ النزاع في مسألتنا.
فوجب- إذن- تقييد عنوان المسألة بقيد المندوحة كما صنع بعضهم (٣).
الفرق بين بابي التعارض و التزاحم و مسألة الاجتماع
من المسائل العويصة مشكلة التفرقة بين باب التعارض و باب التزاحم، ثمّ بينهما و بين مسألة الاجتماع. و لا بدّ من بيان فرق بينها لتنكشف جيّدا حقيقة النزاع في مسألتنا «مسألة الاجتماع».
وجه الإشكال في التفرقة أنّه لا شبهة في أنّ من موارد التعارض بين الدليلين ما إذا كان
____________
(١). كفاية الأصول: ١٨٧. و اعترض عليه المحقّق الأصفهاني، ثمّ ذكر وجها آخر لإنكار لزوم قيد المندوحة، راجع نهاية الدراية ١: ٥١٣- ٥١٤.
(٢). تقدّم في الصفحة: ٣٢٠- ٣٢٤.
(٣). منهم صاحب الفصول في الفصول الغرويّة: ١٢٤، و المحقّق الحائري في درر الفوائد ١: ١١٥، و أبو المجد الأصفهاني في وقاية الأذهان: ٣٣٣- ٣٣٤.
٣٢٨
بين دليلي الأمر و النهي عموم و خصوص من وجه، و ذلك من أجل العموم من وجه بين متعلّقي الأمر و النهي- أي العموم من وجه الذي يقع بين عنوان المأمور به، و عنوان المنهيّ عنه-، بينما أنّ التزاحم بين الوجوب و الحرمة من موارده أيضا العموم من وجه بين الأمر و النهي من هذه الجهة. و كذلك مسألة الاجتماع موردها منحصر فيما إذا كان بين عنواني المأمور به و المنهيّ عنه عموم من وجه.
فيتّضح أنّه مورد واحد- و هو مورد العموم من وجه بين متعلّقي الأمر و النهي- يصحّ أن يكون موردا للتعارض و باب التزاحم و مسألة الاجتماع، فما المائز و الفارق؟
فنقول: إنّ العموم من وجه إنّما يفرض بين متعلّقي الأمر و النهي فيما إذا كان العنوانان يلتقيان في فعل واحد، سواء كان العنوان بالنسبة إلى الفعل من قبيل العنوان و معنونه، أو من قبيل الكلّي، و فرده (١)؛ و هذا بديهيّ، و لكنّ العنوان المأخوذ في متعلّق الخطاب من
____________
(١). إنّما يفرض العموم من وجه بين العنوانين إذا لم يكن الاجتماع بينهما اجتماعا مورديّا، بل كان اجتماعا حقيقيّا، و نعني بالاجتماع الحقيقيّ أن يكون فعل واحد ينطبق عليه العنوانان على وجه يصحّ في كلّ منهما أن يكون حاكيا عنه، و مرآة له و إن كان منشأ كلّ من العنوانين مباينا في وجوده بالدقّة العقليّة لمنشا العنوان الآخر.
و لكن انطباق العناوين على فرد واحد لا يجب فيه أن يكون من قبيل انطباق الكلّي على فرده، أي لا يجب أن يكون المعنون فردا للعنوان و من حقيقته، لأنّ المعنون كما يجوز أن يكون من حقيقة العنوان يجوز أن يكون من حقيقة أخرى، و إنّما الذهن يجعل من العنوان حاكيا، و مرآة عن ذلك المعنون، كمفهوم الوجود الذي هو عنوان لحقيقة الوجود، مع أنّه ليس من حقيقته، و مثله مفهوم الجزئيّ الذي هو عنوان للجزئيّ الحقيقيّ و ليس هو بجزئيّ بل كلّيّ، و كذا مفهوم الحرف و النسبة و هكذا.
و لأجل هذا عمّمنا العنوان إلى قسمين. و هذا التعميم سينفعك فيما يأتي في بيان المختار في المسألة، فكن على ذكر منه. و لقد أحسن المولى صدر المحقّقين في تعبيره للتفرقة بين القسمين؛ إذ قال في الجزء الأوّل من الأسفار: «و فرق بين كون الذات مصدوقا عليه بصدق مفهوم، و كونها مصداقا لصدقه»*. و قد أراد بالمصدوق النحو الثاني، و هو العنوان الصرف بالنسبة الى معنونه، و أراد بالمصداق فرد الكلّي، و يا ليت أن يعمّم هذا الاصطلاح المخترع منه للتفرقة بين القسمين.- منه (رحمه اللّه)-.
(*) الحكمة المتعالية (الأسفار) ١: ١٥٧.
٣٢٩
جهة عمومه على نحوين:
١. أن يكون ملحوظا في الخطاب، فانيا في مصاديقه على وجه يسع جميع الأفراد بما لها من الكثرات و المميّزات، فيكون شاملا في سعته لموضع الالتقاء مع العنوان المحكوم بالحكم الآخر، فيعدّ في حكم المتعرّض لحكم خصوص موضع الالتقاء، و لو من جهة كون موضع الالتقاء متوقّع الحدوث على وجه يكون من شأنه أن ينبّه عليه المتكلّم في خطابه، فيكون أخذ العنوان على وجه يسع جميع الأفراد بما لها من الكثرات و المميّزات لهذا الغرض من التنبيه و نحوه. و لا نضايقك أن تسمّي مثل هذا العموم «العموم الاستغراقيّ»، كما صنع بعضهم (١).
و المقصود أنّ العنوان إذا أخذ في الخطاب على وجه يسع جميع الأفراد بما لها من الكثرات و المميّزات، يكون في حكم المتعرّض لحكم كلّ فرد من أفراده، فيكون نافيا بالدلالة الالتزاميّة لكلّ حكم مناف لحكمه.
٢. أن يكون العنوان ملحوظا في الخطاب، فانيا في مطلق الوجود المضاف إلى طبيعة العنوان من دون ملاحظة كونه على وجه يسع جميع الأفراد- أي لم تلحظ فيه الكثرات و المميّزات في مقام الأمر بوجود الطبيعة، و لا في مقام النهي عن وجود الطبيعة الأخرى-، فيكون المطلوب في الأمر و المنهيّ عنه في النهي صرف وجود الطبيعة. و ليسمّ مثل هذا العموم «العموم البدليّ»، كما صنع بعضهم (٢).
فإن كان العنوان مأخوذا في الخطاب على النحو الأوّل فإنّ موضع الالتقاء يكون العامّ حجّة فيه، كسائر الأفراد الأخرى، بمعنى أن يكون متعرّضا بالدلالة الالتزاميّة لنفي أيّ حكم آخر، مناف لحكم العامّ بالنسبة إلى الأفراد و خصوصيّات المصاديق.
و في هذه الصورة لا بدّ أن يقع التعارض بين دليلي الأمر و النهي في مقام الجعل و التشريع؛ لأنّهما يتكاذبان بالنسبة إلى موضع الالتقاء من جهة الدلالة الالتزاميّة في كلّ منهما على نفي الحكم الآخر بالنسبة إلى موضع الالتقاء.
____________
(١). و هو المحقّق الخوئيّ في المحاضرات ٥: ١٥٢.
(٢). المصدر السابق.
٣٣٠
و التحقيق أنّ التعارض بين العامّين من وجه إنّما يقع بسبب دلالة كلّ منهما بالدلالة الالتزاميّة على انتفاء حكم الآخر، و من أجلها يتكاذبان، و إلّا فالدلالتان المطابقيّتان بأنفسهما في العامّين من وجه لا يتكاذبان، فلا تتعارضان ما لم يلزم من ثبوت مدلول إحداهما نفي مدلول الأخرى، فليس التنافي بين المدلولين المطابقيّين إلّا تنافيا بالعرض لا بالذات.
و من هنا يعلم أنّ هذا الفرض- و هو فرض كون العنوان مأخوذا في الخطاب على النحو الأوّل- ينحصر في كونه موردا للتعارض بين الدليلين، و لا تصل النوبة إلى فرض التزاحم بين الحكمين فيه، و لا إلى النزاع في جواز اجتماع الأمر و النهي و عدمه؛ لأنّ مقتضى القاعدة في باب التعارض هو تساقط الدليلين عن حجّيتهما بالنسبة إلى مورد الالتقاء، فلا يجوز فيه الوجوب و لا الحرمة. و لا يفرض التزاحم، أو مسألة النزاع في جواز الاجتماع إلّا حيث يفرض شمول الدليلين لمورد الالتقاء و بقاء حجّيتهما بالنسبة إليه، أي إنّه لم يكن تعارض بين الدليلين في مقام الجعل و التشريع.
و إن كان العنوان مأخوذا على النحو الثاني، فهو مورد التزاحم، أو مسألة الاجتماع، و لا يقع بين الدليلين تعارض حينئذ. و ذلك مثل قوله: «صلّ»، و قوله: «لا تغصب»، باعتبار أنّه لم يلحظ في كلّ من خطاب الأمر و النهي الكثرات و المميّزات على وجه يسع العنوان جميع الأفراد، و إن كان نفس العنوان في حدّ ذاته و إطلاقه شاملا لجميع الأفراد؛ فإنّه في مثله يكون الأمر متعلّقا بصرف وجود الطبيعة للصلاة، و امتثاله يكون بفعل أيّ فرد من الأفراد، فلم يكن ظاهرا في وجوب الصلاة حتى في مورد الغصب على وجه يكون دالّا بالدلالة الالتزاميّة على انتفاء حكم آخر في هذا المورد ليكون نافيا لحرمة الغصب في المورد. و كذلك النهي يكون متعلّقا بصرف طبيعة الغصب، فلم يكن ظاهرا في حرمة الغصب حتّى في مورد الصلاة على وجه يكون دالّا بالدلالة الالتزاميّة على انتفاء حكم آخر في هذا المورد؛ ليكون نافيا لوجوب الصلاة.
و في مثل هذين الدليلين- إذا كانا على هذا النحو- يكون كلّ منهما أجنبيّا في عموم عنوان متعلّق الحكم فيه عن عنوان متعلّق الحكم الآخر- أي إنّه غير متعرّض بدلالته
٣٣١
الالتزاميّة لنفي الحكم الآخر-، فلا يتكاذبان في مقام الجعل و التشريع، فلا يقع التعارض بينهما، إذ لا دلالة التزاميّة لكلّ منهما على نفي الحكم الآخر في مورد الالتقاء، و لا تعارض بين الدلالتين المطابقيّتين بما هما؛ لأنّ المفروض أنّ المدلول المطابقيّ من كلّ منهما هو الحكم المتعلّق بعنوان أجنبيّ في نفسه عن العنوان المتعلّق للحكم الآخر.
و حينئذ إذا صادف أن ابتلي المكلّف بجمعهما على نحو الاتّفاق فحاله لا يخلو عن أحد أمرين: إمّا أن تكون له مندوحة من الجمع بينهما، و لكنّه هو الذي جمع بينهما بسوء اختياره و تصرّفه، و إمّا أن لا تكون له مندوحة من الجمع بينهما.
فإن كان الأوّل فإنّ المكلّف حينئذ يكون قادرا على امتثال كلّ من التكليفين، فيصلّي و يترك الغصب، و قد يصلّي و يغصب في فعل آخر. فإذا جمع بينهما بسوء اختياره بأن صلّى في مكان مغصوب، فهنا يقع النزاع في جواز الاجتماع بين الأمر و النهي، فإن قلنا بالجواز كان مطيعا و عاصيا في آن واحد، و إن قلنا بعدم الجواز فإنّه: إمّا أن يكون مطيعا لا غير إذا رجّحنا جانب الأمر، أو عاصيا لا غير إذا رجّحنا جانب النهي؛ لأنّه حينئذ يقع التزاحم بين التكليفين فيرجع فيه إلى أقوى الملاكين.
و إن كان الثاني فإنّه لا محالة يقع التزاحم بين التكليفين الفعليّين؛ لأنّه- حسب الفرض- لا معارضة بين الدليلين في مقام الجعل و الإنشاء بل المنافاة وقعت من عدم قدرة المكلّف على التفريق بين الامتثالين، فيدور الأمر حينئذ بين امتثال الأمر و بين امتثال النهي؛ إذ لا يمكنه امتثالهما معا من جهة عدم المندوحة.
هذا هو الحقّ الذي ينبغي أن يعوّل عليه في سرّ التفريق بين بابي التعارض و التزاحم، و بينهما و بين مسألة الاجتماع في مورد العموم من وجه بين متعلّقي الخطابين- خطاب الوجوب و الحرمة-، و لعلّه يمكن استفادته من مطاوي كلماتهم و إن كانت عباراتهم تضيق عن التصريح بذلك، بل اختلفت كلمات أعلام أساتذتنا (رحمهم اللّه) في وجه التفريق.
فقد ذهب صاحب الكفاية إلى «أنّه لا يكون المورد من باب الاجتماع إلّا إذا أحرز في كلّ واحد من متعلّقي الإيجاب و التحريم مناط حكمه مطلقا، حتّى في مورد التصادق و الاجتماع، و أمّا إذا لم يحرز مناط كلّ من الحكمين في مورد التصادق مع العلم بمناط أحد
٣٣٢
الحكمين بلا تعيين فالمورد يكون من باب التعارض؛ للعلم الإجماليّ حينئذ بكذب أحد الدليلين الموجب للتنافي بينهما عرضا (١)».
هذا خلاصة رأية (رحمه اللّه)، فجعل إحراز مناط الحكمين في مورد الاجتماع و عدمه هو المناط في التفرقة بين مسألة الاجتماع و باب التعارض، بينما أنّ المناط عندنا في التفرقة بينهما هو دلالة الدليلين بالدلالة الالتزاميّة على نفي الحكم الآخر و عدمها، فمع هذه الدلالة يحصل التكاذب بين الدليلين، فيتعارضان، و بدونها لا تعارض، فيدخل المورد في مسألة الاجتماع.
و يمكن دعوى التلازم بين المسلكين في الجملة؛ لأنّه مع تكاذب الدليلين من ناحية دلالتهما الالتزاميّة لا يحرز وجود مناط الحكمين في مورد الاجتماع، كما أنّه مع عدم تكاذبهما يمكن إحراز وجود المناط لكلّ من الحكمين في مورد الاجتماع، بل لا بدّ من إحراز مناط الحكمين بمقتضى إطلاق الدليلين في مدلولهما المطابقيّ.
و أمّا شيخنا النائينيّ: فقد ذهب إلى «أنّ مناط دخول المورد في باب التعارض أن تكون الحيثيّتان في العامّين من وجه حيثيّتين تعليليّتين؛ لأنّه حينئذ يتعلّق الحكم في كلّ منهما بنفس ما يتعلّق به الآخر، فيتكاذبان، و أمّا إذا كانتا تقييديّتين: فلا يقع التعارض بينهما، و يدخلان حينئذ في مسألة الاجتماع مع المندوحة، و في باب التزاحم مع عدم المندوحة (٢)».
و نحن نقول: في الحيثيّتين التقييديّتين إذا كان بين الدلالتين تكاذب من أجل دلالتهما الالتزاميّة على نفي الحكم الآخر- على نحو ما فصّلناه- فإنّ التعارض بينهما لا محالة واقع، و لا تصل النوبة في هذا المورد للدخول في مسألة الاجتماع.
و لنا مناقشة معه في صورة الحيثية التعليليّة، يطول شرحها، و لا يهمّ التعرّض لها الآن، و فيما ذكرناه الكفاية، و فوق الكفاية للطالب المبتدئ.
____________
(١). كفاية الأصول: ١٨٩.
(٢). أجود التقريرات ٢: ١٦٠.
٣٣٣
الحقّ في المسألة
بعد ما قدّمنا- من توضيح تحرير النزاع و بيان موضع النزاع- نقول: إنّ الحقّ في المسألة هو «الجواز». و قد ذهب إلى ذلك جمع من المحقّقين المتأخّرين (١).
و سندنا يبتني على توضيح و اختيار ثلاثة أمور مترتّبة:
أوّلا: أنّ متعلّق التكليف- سواء كان أمرا أو نهيا- ليس هو المعنون (٢)، أي الفرد الخارجيّ للعنوان بما له من الوجود الخارجيّ؛ فإنّه يستحيل ذلك، بل متعلّق التكليف دائما و أبدا هو العنوان، على ما سيأتي توضيحه (٣).
و اعتبر ذلك بالشوق، فإنّ الشوق يستحيل أن يتعلّق بالمعنون؛ لأنّه إمّا أن يتعلّق به حال عدمه أو حال وجوده، و كلّ منهما لا يكون؛ أمّا الأوّل: فيلزم تقوّم الموجود بالمعدوم، و تحقّق المعدوم بما هو معدوم- لأنّ المشتاق إليه له نوع من التحقّق بالشوق إليه- و هو محال واضح؛ و أمّا الثاني: فلأنّه يكون الاشتياق إليه تحصيلا للحاصل و هو محال؛ فإذن لا يتعلّق الشوق بالمعنون لا حال وجوده، و لا حال عدمه.
مضافا إلى أنّ الشوق من الأمور النفسيّة، و لا يعقل أن يتشخّص ما في النفس بدون متعلّق ما، كجميع الأمور النفسيّة، كالعلم، و الخيال، و الوهم، و الإرادة، و نحوها، و لا يعقل أن يتشخّص بما هو خارج عن أفق النفس من الأمور العينيّة؛ فلا بدّ أن يتشخّص بالشيء المشتاق إليه بما له من الوجود العنوانيّ الفرضيّ، و هو المشتاق إليه أوّلا و بالذات، و هو الموجود بوجود الشوق، لا بوجود آخر وراء الشوق، و لكن لمّا كان يؤخذ العنوان بما هو حاك و مرآة عمّا في الخارج- أي عن المعنون- فإنّ المعنون يكون مشتاقا إليه ثانيا و
____________
(١). راجع: التعليقة رقم «٤» من الصفحة: ٣٢٠.
(٢). خلافا للمحقّق الخراسانيّ في الكفاية: ١٩٣؛ فإنّه قال: «لا شبهة في أنّ متعلّق الأحكام هو فعل المكلّف و ما هو في الخارج يصدر عنه و هو فاعله و جاعله، لا ما هو اسمه، و لا ما هو عنوانه ...». و اختاره المحقّق النائينيّ في فوائد الأصول ٢: ٤٠٠- ٤٠٢.
(٣). يأتي بعد أسطر.
٣٣٤
بالعرض، نظير العلم؛ فإنّه لا يعقل أن يتشخّص بالأمر الخارجيّ، و المعلوم بالذات دائما و أبدا هو العنوان الموجود بوجود العلم، و لكن بما هو حاك و مرآة عن المعنون.
و أمّا المعنون لذلك العنوان فهو معلوم بالعرض باعتبار فناء العنوان فيه.
و في الحقيقة إنّما يتعلّق الشوق بشيء إذا كان له جهة وجدان و جهة فقدان، فلا يتعلّق بالمعدوم من جميع الجهات، و لا بالموجود من جميع الجهات. و جهة الوجدان في المشتاق إليه هو العنوان الموجود بوجود الشوق في أفق النفس باعتبار ما له من وجود عنوانيّ فرضيّ. و جهة الفقدان في المشتاق إليه هو عدمه الحقيقيّ في الخارج، و معنى الشوق إليه هو الرغبة في إخراجه من حدّ الفرض و التقدير إلى حدّ الفعليّة و التحقيق.
و إذا كان الشوق على هذا النحو، فكذلك حال الطلب و البعث بلا فرق، فيكون حقيقة طلب الشيء هو تعلّقه بالعنوان لإخراجه من حدّ الفرض و التقدير إلى حدّ الفعليّة و التحقيق (١).
ثانيا: أنّا لمّا قلنا بأنّ متعلّق التكليف هو العنوان لا المعنون لا نعني أنّ العنوان بما له من الوجود الذهنيّ يكون متعلّقا للطلب؛ فإنّ ذلك باطل بالضرورة؛ لأنّ مثار الآثار و متعلّق الغرض و الذي تترتّب عليه المصلحة و المفسدة هو المعنون لا العنوان؛ بل نعني أنّ المتعلّق هو العنوان حال وجوده الذهنيّ، لا أنّه بما له من الوجود الذهنيّ أو هو مفهوم، و معنى تعلّقه بالعنوان حال وجوده الذهنيّ أنّه يتعلّق به نفسه باعتبار أنّه مرآة عن المعنون و فان فيه، فتكون التخلية فيه عن الوجود الذهنيّ عين التحلية به.
ثالثا: أنّا إذ نقول: «إنّ المتعلّق للتكليف هو العنوان بما هو مرآة عن المعنون، و فان فيه» لا نعني أنّ المتعلّق الحقيقيّ للتكليف هو المعنون، و أنّ التكليف يسري من العنوان إلى المعنون باعتبار فنائه فيه- كما قيل (٢)-، فإنّ ذلك باطل بالضرورة أيضا؛ لما تقدّم أنّ المعنون يستحيل أن يكون متعلّقا للتكليف بأيّ حال من الأحوال، و هو محال حتّى لو كان بتوسّط العنوان، فإنّ توسّط العنوان لا يخرجه عن استحالة تعلّق التكليف به؛ بل نعني
____________
(١). هذا الأمر كلّه ما أفاده المحقّق الأصفهاني في نهاية الدراية ١: ٤٨٤ و ٥٢٥- ٥٢٨.
(٢). و هو الظاهر من كلام المحقّق العراقي في نهاية الأفكار ٢: ٣٨٧- ٣٨٨، و بدائع الأفكار ١: ٤٢٠.
٣٣٥
و نقول: إنّ الصحيح أنّ متعلّق التكليف هو العنوان بما هو مرآة و فان في المعنون على أن يكون فناؤه في المعنون هو المصحّح لتعلّق التكليف به فقط؛ إذ إنّ الغرض إنّما يقوم بالمعنون المفنيّ فيه، لا أنّ الفناء يجعل التكليف ساريا إلى المعنون و متعلّقا به. و فرق كبير بين ما هو مصحّح لتعلّق التكليف بشيء، و بين ما هو بنفسه متعلّق التكليف. و عدم التفرقة بينهما هو الذي أوهم القائلين بأنّ التكليف يسري إلى المعنون باعتبار فناء العنوان فيه، و لا يزال هذا الخلط بين ما هو بالذات و ما هو بالعرض مثار كثير من الاشتباهات التي تقع في علمي الأصول و الفلسفة. و الفناء و الآليّة في الملاحظة هو الذي يوقع الاشتباه و الخلط، فيعطى ما للعنوان للمعنون و بالعكس.
و إذا عسر عليك تفهّم ما نرمي إليه فاعتبر ذلك في مثال الحرف حينما نحكم عليه بأنّه لا يخبر عنه؛ فإنّ عنوان الحرف و مفهومه اسم يخبر عنه، كيف و قد أخبر بأنّه لا يخبر عنه؟ و لكن إنّما صحّ الإخبار عنه بذلك فباعتبار فنائه في المعنون؛ لأنّه هو الذي له هذه الخاصيّة، و يقوم به الغرض من الحكم، و مع ذلك لا يجعل ذلك كون المعنون- و هو الحرف الحقيقيّ- موضوعا للحكم حقيقة أوّلا و بالذات؛ فإنّ الحرف الحقيقيّ يستحيل أن يكون موضوعا للحكم و طرفا للنسبة بأيّ حال من الأحوال و لو بتوسّط شيء، كيف و حقيقته النسبة و الربط، و خاصّته أنّه لا يخبر عنه؟. و عليه، فالمخبر عنه أوّلا و بالذات هو عنوان الحرف، لكن لا بما هو مفهوم موجود في الذهن؛ فإنّه بهذا الاعتبار يخبر عنه، بل بما هو فان في المعنون و حاك عنه، فالمصحّح للإخبار عنه بأنّه لا يخبر عنه هو فناؤه في معنونه، فيكون الحرف الحقيقيّ المعنون مخبرا عنه ثانيا و بالعرض، و إن كان الغرض من الحكم إنّما يقوم بالمفنيّ فيه، و هو الحرف الحقيقيّ.
و على هذا يتّضح جليّا كيف أنّ دعوى سراية الحكم أوّلا و بالذات من العنوان إلى المعنون منشؤها الغفلة [عن التفرقة] بين ما هو المصحّح للحكم على موضوع باعتبار قيام الغرض بذلك المصحّح، فيجعل الموضوع عنوانا حاكيا عنه، و بين ما هو الموضوع للحكم القائم به الغرض، فالمصحّح للحكم شيء و المحكوم عليه و المجعول موضوعا شيء آخر.
و من العجيب أن يصدر مثل هذه الغفلة من بعض أهل الفنّ في المعقول.
٣٣٦
نعم، إذا كان القائل بالسراية يقصد أنّ العنوان يؤخذ فانيا في المعنون، و حاكيا عنه، و أنّ الغرض إنّما يقوم بالمعنون فذلك حقّ و نحن نقول به، و لكن ذلك لا ينفعه في الغرض الذي يهدف إليه؛ لأنّا نقول بذلك من دون أن نجعل متعلّق التكليف نفس المعنون، و إنّما يكون متعلّقا له ثانيا و بالعرض، كالمعلوم بالعرض- كما أشرنا إليه فيما سبق-، فإنّ العلم إنّما يتعلّق بالمعلوم بالذات، و يتقوّم به، و ليس هو إلّا العنوان الموجود بوجود علميّ، و لكن باعتبار فنائه في معنونه يقال للمعنون: «إنّه معلوم»، و لكنّه في الحقيقة هو معلوم بالعرض لا بالذات، و هذا الفناء هو الذي يخيّل الناظر أنّ المتعلّق الحقيقيّ للعلم هو المعنون، و لقد أحسنوا في تعريف العلم بأنّه «حصول صورة الشيء لدى العقل، لا حصول نفس الشيء»، فالمعلوم بالذات هو الصورة، و المعلوم بالعرض نفس الشيء الذي حصلت صورته لدى العقل.
و إذا ثبت ما تقدّم، و اتّضح ما رمينا إليه- من أنّ متعلّق التكليف أوّلا و بالذات هو العنوان و أنّ المعنون متعلّق له بالعرض- يتّضح لك الحقّ جليّا في مسألتنا «مسألة اجتماع الأمر و النهي»، و هو أنّ الحقّ جواز الاجتماع.
و معنى جواز الاجتماع أنّه لا مانع من أن يتعلّق الإيجاب بعنوان، و يتعلّق التحريم بعنوان آخر، و إذا جمع المكلّف بينهما صدفة بسوء اختياره فإنّ ذلك لا يجعل الفعل الواحد المعنون لكلّ من العنوانين متعلّقا للإيجاب و التحريم إلّا بالعرض، و ليس ذلك بمحال؛ فإنّ المحال إنّما هو أن يكون الشيء الواحد بذاته متعلّقا للإيجاب و التحريم.
و عليه، فيصحّ أن يقع الفعل الواحد امتثالا للأمر من جهة باعتبار انطباق العنوان المأمور به عليه، و عصيانا للنهي من جهة أخرى باعتبار انطباق عنوان المنهيّ عنه عليه. و لا محذور في ذلك ما دام أنّ ذلك الفعل الواحد ليس بنفسه و بذاته متعلّقا للأمر و للنهي ليكون ذلك محالا، بل العنوانان الفانيان هما المتعلّقان للأمر و النهي، غاية الأمر أنّ تطبيق العنوان المأمور به على هذا الفعل يكون هو الداعي إلى إتيان الفعل، و لا فرق بين فرد و فرد في انطباق العنوان عليه، فالفرد الذي ينطبق عليه العنوان المنهيّ عنه كالفرد الخالي من ذلك في كون كلّ منهما ينطبق عليه العنوان المأمور به بلا جهة خلل في الانطباق.
٣٣٧
و لا فرق في ذلك بين أن يكون تعدّد العنوان موجبا لتعدّد المعنون، أو لم يكن ما دام أنّ المعنون ليس هو متعلّق التكليف بالذات.
نعم، لو كان العنوان مأخوذا في المأمور به و المنهيّ عنه على وجه يسع جميع الأفراد حتّى موضع الاجتماع- و هو الفرد الذي ينطبق عليه العنوانان-، و لو كان ذلك من جهة إطلاق الدليل؛ فإنّه حينئذ تكون لكلّ من الدليلين الدلالة الالتزاميّة على نفي حكم الآخر (١) في موضع الالتقاء، فيتكاذبان، و عليه، يقع التعارض بينهما و يخرج المورد عن مسألة الاجتماع كما سبق بيان ذلك مفصّلا.
كما أنّه لو كانت القدرة على الفعل مأخوذة في متعلّق الأمر على وجه يكون الواجب هو العنوان المقدور بما هو مقدور فإنّ عنوان المأمور به حينئذ لا يسع و لا يعمّ الفرد غير المقدور، فلا ينطبق عنوان المأمور به بما هو مأمور به على موضع الاجتماع، و لا يكون هذا الفرد غير المقدور شرعا من أفراد الطبيعة بما هي مأمور بها.
بخلاف ما إذا كانت القدرة مصحّحة فقط لتعلّق التكليف بالعنوان، فإنّ عنوان المأمور به يكون مقدورا عليه و لو بالقدرة على فرد واحد من أفراده؛ و لهذا قلنا: إنّه لو انحصر تطبيق المأمور به في خصوص موضع الاجتماع- كما في مورد عدم المندوحة- يقع التزاحم بين الحكمين في موضع الاجتماع؛ لأنّه لا يصحّ تطبيق المأمور به على هذا الفرد- و هو موضع الاجتماع- إلّا إذا لم يكن النهي فعليّا، كما لا يصحّ تطبيق عنوان المنهيّ عنه عليه إلّا إذا لم يكن الأمر فعليّا، فلا بدّ من رفع اليد عن فعليّة أحد الحكمين، و تقديم الأهمّ منهما.
و لقد ذهب بعض أعلام أساتذتنا (٢) إلى أنّ القدرة مأخوذة في متعلّق التكليف، باعتبار أنّ الخطاب بالتكليف نفسه يقتضي ذلك؛ لأنّ الأمر إنّما هو لتحريك المكلّف نحو الفعل على أن يصدر منه بالاختيار، و هذا نفسه يقتضي كون متعلّقه مقدورا؛ لامتناع جعل الداعي نحو الممتنع و إن كان الامتناع من ناحية شرعيّة.
و لكنّنا لم نتحقّق صحّة هذه الدعوى؛ لأنّ صحّة التكليف بطبيعة الفعل لا تتوقّف على أكثر
____________
(١). أي مدلول الآخر.
(٢). و هو المحقّق النائينيّ في أجود التقريرات ٢: ٢٤ و ١٧٨.
٣٣٨
من القدرة على صرف وجود الطبيعة و لو بالقدرة على فرد من أفرادها، فالعقل هو الذي يحكم بلزوم القدرة في متعلّق التكليف، و ذلك لا يقتضي القدرة على كلّ فرد من أفراد الطبيعة إلّا إذا قلنا بأنّ التكليف يتعلّق بالأفراد أوّلا و بالذات، و قد تقدّم توضيح فساد هذا الوهم (١).
تعدّد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون
بعد ما تقدّم من البيان من أنّ التكليف إنّما يتعلّق بالعنوان بما هو مرآة عن أفراده لا بنفس الأفراد، فإنّ القول بالجواز لا يتوقّف على القول بأنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون- كما أشرنا إليه فيما سبق-؛ لأنّه سواء كان المعنون متعدّدا بتعدّد العنوان أو غير متعدّد، فإنّ ذلك لا يرتبط بمسألتنا نفيا و إثباتا ما دام أنّ المعنون ليس متعلّقا للتكليف أبدا.
و على كلّ حال فالحقّ هو الجواز، تعدّد المعنون أو لم يتعدّد.
و لو سلّمنا جدلا بأنّ التكليف يتعلّق بالمعنون باعتبار سراية التكليف من العنوان إلى المعنون- كما هو المعروف-، فإنّ الحقّ أنّه لا يجب تعدّد المعنون بتعدّد العنوان، فقد يتعدّد و قد لا يتعدّد، فليس هناك قاعدة عامّة تقضي بأن نحكم بأنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون، كما تكلّف بتنقيحها بعض أعاظم مشايخنا (٢)، و كأنّ نظره الشريف يرمي إلى أنّ العامّين من وجه يمتنع صدقهما على شيء واحد من جهة واحدة، و إلّا لما كانا عامّين من وجه، فلا بدّ أن يفرض هناك جهتان موجودتان في المجمع: إحداهما: هو الواجب، و ثانيتهما: هو المحرّم، فيكون التركيب بين الحيثيّتين تركيبا انضماميّا لا اتّحاديّا، إلّا إذا كانت الحيثيّتان المفروضتان تعليليّتين لا تقييديّتين؛ فإنّ الواجب و المحرّم على هذا الفرض يكونان شيئا واحدا و هو ذات المحيّث بهاتين الحيثيّتين. و حينئذ يقع التعارض بين دليلي العامّين، و يخرج المورد عن مسألتنا.
و في هذا التقرير ما لا يخفى على الفطن.
أمّا أوّلا: فإنّ العنوان بالنسبة إلى معنونه تارة يكون منتزعا منه باعتبار ضمّ حيثيّة زائدة
____________
(١). تقدّم في الصفحة السابقة.
(٢). و هو المحقّق النائينيّ في فوائد الأصول ٢: ٤٠٦- ٤١٤.
٣٣٩
على الذات، مباينة لها ماهية و وجودا، كالأبيض بالقياس إلى الجسم، فإنّ صدق الأبيض عليه باعتبار عرض (١) صفة البياض عليه الخارجة عن مقام ذاته؛ و أخرى يكون منتزعا منه باعتبار نفس ذاته بلا ضمّ حيثيّة زائدة على الذات، كالأبيض بالقياس إلى نفس البياض؛ فإنّ نفس البياض ذاته بذاته منشأ لانتزاع الأبيض منه بلا حاجة إلى ضمّ بياض آخر إليه؛ لأنّه بنفس ذاته أبيض لا ببياض آخر. و مثل ذلك صفات الكمال لذات واجب الوجود؛ فإنّها منتزعة من مقام نفس الذات لا بضمّ حيثيّة أخرى زائدة على الذات.
و عليه، فلا يجب في كلّ عنوان منتزع أن يكون انتزاعه من الذات باعتبار ضمّ حيثيّة زائدة على الذات.
و أمّا ثانيا: فإنّ العنوان لا يجب فيه أن يكون كاشفا عن حقيقة متأصّلة على وجه يكون انطباق العنوان أو مبدئه عليه من باب انطباق الكلّي على فرده، بل من العناوين ما هو مجعول و معتبر لدى العقل لصرف الحكاية و الكشف عن المعنون، من دون أن يكون بإزائه في الخارج حقيقة متأصّلة، مثل عنوان «العدم» و «الممتنع»، بل مثل عنوان «الحرف» و «النسبة»؛ فإنّه لا يجب في مثله فرض حيثيّة متأصّلة ينتزع منها العنوان. و مثل هذا العنوان المعتبر قد يكون عامّا يصحّ انطباقه على حقائق متعدّدة، من دون أن يكون بإزائه حيثيّة واقعية غير تلك الحقائق المتأصّلة. و لعلّ عنوان الغصب من هذا الباب في انطباقه على الصلاة- التي تتألّف من حقائق متباينة- و على غيرها من سائر التصرّفات، فكلّ تصرّف في مال الغير بدون رضاه غصب مهما كانت حقيقة ذلك التصرّف، و من أيّة مقولة كانت.
ثمرة المسألة
من الواضح ظهور ثمرة النزاع فيما إذا كان المأمور به عبادة؛ فإنّه بناء على القول بالامتناع، و ترجيح جانب النهي- كما هو المعروف- تقع العبادة فاسدة مع العلم بالحرمة، و العمد بالجمع بين المأمور به و المنهيّ عنه- كما هو المفروض في المسألة-؛ لأنّه لا أمر مع ترجيح جانب النهي، و ليس هناك في ذات المأتيّ به ما يصلح للتقرّب به مع فرض
____________
(١). و في المطبوع سابقا: «عروض» و لكنه لا تساعده اللغة.
٣٤٠
النهي الفعليّ؛ لامتناع التقرّب بالمبعّد و إن كان ذات المأتيّ به مشتملا على المصلحة الذاتيّة، و قلنا بكفاية قصد المصلحة الذاتيّة في صحّة العبادة.
نعم، إذا وقع الجمع بين المأمور به و المنهيّ عنه عن جهل بالحرمة قصورا لا تقصيرا أو عن نسيان و كان قد أتى بالفعل على وجه القربة فالمشهور أنّ العبادة تقع صحيحة (١)؛ و لعلّ الوجه فيه هو القول بكفاية رجحانها الذاتيّ و اشتمالها على المصلحة الذاتيّة في التقرّب بها مع قصد ذلك و إن لم يكن الأمر فعليّا.
و قيل (٢): إنّه لا يبقى مصحّح في هذه الصورة للعبادة، فتقع فاسدة؛ نظرا إلى أنّ دليلي الوجوب و الحرمة على القول بالامتناع يصبحان متعارضين، و إن لم يكونا في حدّ أنفسهما متعارضين، فإذا قدّم جانب النهي فكما لا يبقى أمر كذلك لا يحرز وجود المقتضي له و هو المصلحة الذاتيّة في المجمع؛ إذ تخصيص دليل الأمر بما عدا المجمع يجوز أن يكون لوجود المانع في المجمع عن شمول الأمر له، و يجوز أن يكون لانتفاء المقتضي للأمر فلا يحرز وجود المقتضي.
هذا بناء على الامتناع و تقديم جانب النهي، و أمّا بناء على الامتناع و تقديم جانب الأمر فلا شبهة في وقوع العبادة صحيحة؛ إذ لا نهي حتّى يمنع من صحّتها، لا سيّما إذا قلنا بتعارض الدليلين؛ بناء على الامتناع؛ فإنّه لا يحرز معه المفسدة الذاتيّة في المجمع.
و كذلك الحقّ هو صحّة العبادة إذا قلنا بالجواز؛ فإنّه كما جاز توجّه الأمر و النهي إلى عنوانين مختلفين مع التقائهما في المجمع فقلنا بجواز الاجتماع في مقام التشريع، فكذلك نقول: لا مانع من الاجتماع في مقام الامتثال أيضا- كما أشرنا إليه في تحرير محلّ النزاع (٣)-، حتّى لو كان المعنون للعنوانين واحدا وجودا، و لم يوجب تعدّد العنوان تعدّده؛
____________
(١). نسب إلى المشهور في المحاضرات ٤: ٢١٢.
(٢). و القائل هو المحقّق النائينيّ في «أجود التقريرات ٢: ١٦٢- ١٦٤»، بناء على أن يكون مراده من الجهل بالغصب هو الجهل بالحرمة حكما أو موضوعا، كما فسّره بذلك تلميذه المحقّق الخوئيّ في تعليقاته على أجود التقريرات.
(٣). راجع الصفحة: ٣٢٦ من هذا الجزء، حيث قال: «و حينئذ إذا اتّفق ذلك للمكلّف، فإنّه يكون هذا الفعل الواحد داخلا فيما هو مأمور به من جهة، فيقتضي أن يكون المكلّف مطيعا ...».
٣٤١
عرفت سابقا (١) من أنّ المعنون لا يقع بنفسه متعلّقا للتكليف، لا قبل وجوده و لا بعد وجوده، و إنّما يكون الداعي إلى إتيان الفعل هو تطبيق العنوان المأمور به عليه الذي ليس بمنهيّ عنه، لا أنّ الداعي إلى إتيانه تعلّق الأمر به ذاته، فيكون المكلّف في فعل واحد بالجمع بين عنواني الأمر و النهي مطيعا للأمر من جهة انطباق العنوان المأمور به [عليه]، و عاصيا من جهة انطباق العنوان المنهيّ عنه [عليه]، نظير الاجتماع المورديّ، كما تقدّم توضيحه في تحرير محلّ النزاع (٢).
و قيل: إنّ الثمرة في مسألتنا هو إجراء أحكام المتعارضين على دليلي الأمر و النهي بناء على الامتناع، و إجراء أحكام التزاحم بينهما بناء على الجواز (٣).
و لكن إجراء أحكام التزاحم بينهما بناء على الجواز إنّما يلزم إذا كان القائل بالجواز إنّما يقول بالجواز في مقام الجعل و الإنشاء، دون مقام الامتثال، بل يمتنع الاجتماع في مقام الامتثال، و حينئذ لا محالة يقع التزاحم بين الأمر و النهي.
أمّا: إذا قلنا بالجواز في مقام الامتثال أيضا- كما أوضحناه- فلا موجب للتزاحم بين الحكمين، مع وجود المندوحة، بل يكون مطيعا عاصيا في فعل واحد، كالاجتماع المورديّ بلا فرق؛ إذ لا دوران حينئذ بين امتثال الأمر، و امتثال النهي.
اجتماع الأمر و النهي مع عدم المندوحة (٤)
تقدّم الكلام كلّه في اجتماع الأمر و النهي فيما إذا كانت هناك مندوحة من الجمع بين المأمور به و المنهيّ عنه، و قد جمع المكلّف بينهما في فعل واحد بسوء اختياره. و يلحق به ما كان الجمع بينهما عن غفلة أو جهل. و قد ذهبنا إلى جواز الاجتماع في مقامي الجعل و الامتثال.
____________
(١). راجع الصفحة: ٣٣٣.
(٢). تقدّم في الصفحة: ٣٢١.
(٣). قال به في دروس في علم الأصول ٢: ٢٧٧- ٢٧٨.
(٤). و في «س» زاد قوله: أي مع الاضطرار.
٣٤٢
و بقي الكلام في اجتماعهما مع عدم المندوحة، و ذلك بأن يكون المكلّف مضطرّا إلى هذا الجمع بينهما. و الاضطرار على نحوين:
الأوّل: أن يكون بدون سبق اختيار للمكلّف في الجمع، كمن اضطرّ لإنقاذ غريق إلى التصرّف في أرض مغصوبة، فيكون تصرّفه في الأرض واجبا من جهة إنقاذ الغريق، و حراما من جهة التصرّف في المغصوب.
فإنّه في هذا الفرض لا بدّ أن يقع التزاحم بين الواجب و الحرام في مقام الامتثال؛ إذ لا مندوحة للمكلّف حسب الفرض، فلا بدّ في مقام إطاعة الأمر بإنقاذ الغريق من الجمع؛ لانحصار امتثال الواجب في هذا الفرد المحرّم، فيدور الأمر بين أن يعصي الأمر أو يعصي النهي. و في مثله يرجع إلى أقوى الملاكين، فإن كان ملاك الأمر أقوى- كما في المثال المذكور- قدّم جانب الأمر، و يسقط النهي عن الفعليّة، و إن كان ملاك النهي أقوى قدّم جانب النهي، كمن انحصر عنده إنقاذ حيوان محترم من الهلكة بهلاك إنسان.
تنبيه:
ممّا يلحق بهذا الباب و يتفرّع عليه ما لو اضطرّ إلى ارتكاب فعل محرّم لا بسوء اختياره، ثمّ اضطرّ إلى الإتيان بالعبادة على وجه يكون ذلك الفعل المحرّم مصداقا لتلك العبادة، بمعنى أنّه اضطرّ إلى الإتيان بالعبادة مجتمعة مع فعل الحرام الذي قد اضطرّ إليه. و مثاله المحبوس في مكان مغصوب، فيضيّق عليه وقت الصلاة، و لا يسعه الإتيان بها خارج المكان المغصوب. فهل في هذا الفرض يجب عليه الإتيان بالعبادة و تقع صحيحة، أو لا؟
نقول: لا ينبغي الشكّ في أنّ عبادته على هذا التقدير تقع صحيحة؛ لأنّه مع الاضطرار إلى الفعل الحرام لا تبقى فعليّة للنهي؛ لاشتراط القدرة في التكليف، فالأمر لا مزاحم لفعليّته، فيجب عليه أداء الصلاة، و لا بدّ أن تقع حينئذ صحيحة.
نعم، يستثنى من ذلك ما لو كان دليل الأمر و دليل النهي متعارضين بأنفسهما من أوّل الأمر، و قد رجّحنا جانب النهي بأحد مرجّحات باب التعارض؛ فإنّه في هذه الصورة لا وجه لوقوع العبادة صحيحة؛ لأنّ العبادة لا تقع صحيحة إلّا إذا قصد بها امتثال الأمر الفعليّ بها
٣٤٣
- إن كان- أو قصد بها الرجحان الذاتيّ قربة إلى اللّه (تعالى). و المفروض أنّه هنا لا أمر فعليّ؛ لعدم شمول دليله بما هو حجّة لمورد الاجتماع؛ لأنّ المفروض تقديم جانب النهي.
و قيل: «إنّ النهي إذا زالت فعليّته من جهة الاضطرار، لم يبق مانع من التمسّك بعموم الأمر». و هذه (١) غفلة ظاهرة، فإنّ دليل الأمر بما هو حجّة لا يكون شاملا لمورد الاجتماع، لمكان التعارض بين الدليلين و تقديم دليل النهي، فإذا اضطرّ المكلّف إلى فعل المنهيّ عنه لا يلزم منه أن يعود دليل الأمر حجّة في مورد الاجتماع مرّة ثانية. و إنّما يتصوّر أن يعود الأمر فعليّا إذا كان تقديم النهي من باب التزاحم، فإذا زال التزاحم عاد الأمر فعليّا.
و أمّا الرجحان الذاتيّ: فإنّه بعد فرض التعارض بين الدليلين و تقديم جانب النهي لا يكون الرجحان محرزا في مورد الاجتماع؛ لأنّ عدم شمول دليل الأمر بما هو حجّة لمورد الاجتماع يحتمل فيه وجهان: وجود المانع مع بقاء الملاك، و انتفاء المقتضي و هو الملاك، فلا يحرز وجود الملاك حتّى يصحّ قصده متقرّبا به إلى اللّه (تعالى).
الثاني: أن يكون الاضطرار بسوء الاختيار، كمن دخل منزلا مغصوبا متعمّدا، فبادر إلى الخروج تخلّصا من استمرار الغصب، فإنّ هذا التصرّف في المنزل في الخروج لا شكّ في أنّه تصرّف غصبيّ أيضا، و هو مضطرّ إلى ارتكابه للتخلّص من استمرار فعل الحرام، و كان اضطراره إليه بمحض اختياره، إذ دخل المنزل غاصبا باختياره.
و تعرف هذه المسألة في لسان المتأخّرين بمسألة «التوسّط في المغصوب»، و الكلام يقع فيها من ناحيتين:
١. في حرمة هذا التصرّف الخروجيّ أو وجوبه.
٢. في صحّة الصلاة المأتيّ بها حال الخروج.
حرمة الخروج من المغصوب أو وجوبه
أمّا الناحية الأولى: فقد تعدّدت الأقوال فيها، فقيل بحرمة التصرّف الخروجيّ فقط (٢).
____________
(١). أي هذه المقالة.
(٢). ذهب إليه المصنّف في المقام. و ذهب إليه أيضا الإمام الخمينيّ في مناهج الوصول ٢: ١٤٣.
٣٤٤
و قيل بوجوبه فقط، و لكن يعاقب فاعله (١). و قيل بوجوبه فقط، و لا يعاقب فاعله (٢). و قيل بحرمته و وجوبه معا (٣). و قيل: لا هذا و لا ذاك، و مع ذلك يعاقب عليه (٤).
فينبغي أن نبحث عن وجه القول بالحرمة، و عن وجه القول بالوجوب؛ ليتّضح الحقّ في المسألة، و هو القول الأوّل.
أمّا وجه الحرمة: فمبنيّ على أنّ التصرّف بالغصب، بأيّ نحو من أنحاء التصرّف- دخولا، و بقاء، و خروجا- محرّم من أوّل الأمر قبل الابتلاء بالدخول، فهو قبل أن يدخل منهيّ عن كلّ تصرّف في المغصوب، حتّى هذا التصرّف الخروجيّ؛ لأنّه كان متمكّنا من تركه بترك الدخول.
و من يقول بعدم حرمته فإنّه يقول به؛ لأنّه يجد أنّ هذا المقدار من التصرّف مضطرّ إليه، سواء خرج الغاصب أو بقي، فيمتنع عليه تركه، و مع فرض امتناع تركه كيف يبقى على صفة الحرمة؟!
و لكنّا نقول له: إنّ هذا الامتناع هو الذي أوقع نفسه فيه بسوء اختياره، و كان متمكّنا من تركه بترك الدخول، و الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، فهو مخاطب من أوّل الأمر بترك التصرّف حتّى يخرج، فالخروج في نفسه- بما هو تصرّف- داخل من أوّل الأمر في أفراد العنوان المنهيّ عنه، أي إنّ العنوان المنهيّ عنه- و هو التصرّف بمال الغير بدون رضاه- يسع في عمومه كلّ تصرّف متمكّن من تركه حتّى الخروج، و امتناع ترك هذا التصرّف بسوء اختياره لا يخرجه عن عموم العنوان. و نحن لا نقول- كما سبق (٥)-: إنّ المعنون بنفسه هو متعلّق الخطاب، حتّى يقال لنا: إنّه يمتنع تعلّق الخطاب بالممتنع تركه، و إن كان الامتناع بسوء الاختيار.
____________
(١). هذا ما اختاره صاحب الفصول و نسبه إلى الفخر الرازيّ. راجع الفصول الغرويّة: ١٣٨.
(٢). و هذا ما ذهب إليه الشيخ الأنصاريّ، و قوّاه المحقّق النائينيّ. مطارح الأنظار: ١٥٣، فوائد الأصول ٢: ٤٤٧.
(٣). ذهب إليه المحقّق القميّ و قال: «و هو مذهب أبي هاشم و أكثر أفاضل متأخّرينا، بل هو ظاهر الفقهاء».
قوانين الأصول ١: ١٥٣.
(٤). ذهب إليه المحقّق الخراسانيّ في الكفاية: ٢٠٤. و اختاره تلميذه المحقّق الحائريّ في درر الفوائد ١: ١٢٨.
(٥). راجع الصفحة: ٣٣٤.
٣٤٥
و أمّا وجه الوجوب: فقد قيل: «إنّ الخروج واجب نفسيّ، باعتبار أنّ الخروج معنون بعنوان التخلّص عن الحرام، و التخلّص عن الحرام في نفسه عنوان حسن عقلا، و واجب شرعا». و قد نسب هذا الوجه إلى الشيخ الأعظم الأنصاريّ (قدّس سرّه) على ما يظهر من تقريرات درسه (١).
و قيل: «إنّ الخروج واجب غيريّ- كما يظهر من بعض التعبيرات في تقريرات الشيخ أيضا (٢)- باعتبار أنّه مقدّمة للتخلّص من الحرام، و هو الغصب الزائد الذي كان يتحقّق لو لم يخرج».
و الحقّ أنّه ليس بواجب نفسيّ؛ و لا غيريّ.
أمّا: أنّه ليس بواجب نفسيّ؛ فلأنّه:
أوّلا: أنّ التخلّص عن الشيء بأيّ معنى فرض عنوان مقابل لعنوان الابتلاء به، بديل له، لا يجتمعان، و هما من قبيل الملكة و عدمها. و هذا واضح.
و حينئذ نقول له: ما مرادك من التخلّص الذي حكمت عليه بأنّه عنوان حسن؟ إن كان المراد به التخلّص من أصل الغصب فهو بالخروج- أي الحركات الخروجيّة- مبتلى بالغصب، لا أنّه متخلّص منه؛ لأنّه تصرّف بالمغصوب. و إن كان المراد به التخلّص من الغصب الزائد الذي يقع لو لم يخرج فهو لا ينطبق على الحركات الخروجيّة؛ و ذلك لأنّ التخلّص لمّا كان مقابلا للابتلاء بديلا له- كما قدّمنا- فالزمان الذي يصلح أن يكون زمانا للابتلاء لا بدّ أن يكون هو الذي يصدق عليه عنوان التخلّص، مع أنّ زمان الحركات الخروجيّة سابق على زمان الغصب الزائد عليها لو لم يخرج، فهو في حال الحركات الخروجيّة لا مبتلى بالغصب الزائد، و لا متخلّص منه، بل الغاصب مبتلى بالغصب من حين
____________
(١). راجع مطارح الأنظار: ١٥٣- ١٥٤.
(٢). قال: «و الظاهر أنّ ذلك الأمر قد استفيد من جهة كونه من مقدّمات ترك الغصب الواجب، و مقدّمة الترك أعمّ من الخروج، و إن انحصر أفراده في الخروج بحسب العادة». مطارح الأنظار: ١٥٤. و هذا يظهر أيضا من بعض عبارات المحقّق القمّي، حيث قال: «إنّ الخروج ليس مورد للأمر من حيث هو خروج ...».
قوانين الأصول ١: ١٥٤.
٣٤٦
دخوله إلى حين خروجه، و بعد خروجه يصدق عليه أنّه متخلّص من الغصب.
و ثانيا: أنّ التخلّص لو كان عنوانا يصدق على الخروج، فلا ينبغي أن يراد من الخروج نفس الحركات الخروجيّة، بل على تقديره ينبغي أن يراد منه ما تكون الحركات الخروجيّة مقدّمة له أو بمنزلة المقدّمة؛ فلا ينطبق- إذن- عنوان التخلّص على التصرّف بالمغصوب المحرّم، كما يريد أن يحقّقه هذا القائل.
و السرّ واضح؛ فإنّ الخروج يقابل الدخول، و لمّا كان الدخول عنوانا للكون داخل الدار المسبوق بالعدم فلا بدّ أن يكون الخروج بمقتضى المقابلة عنوانا للكون خارج الدار المسبوق بالعدم، أمّا نفس التصرّف بالمغصوب بالحركات الخروجيّة التي منها يكون الخروج فهو مقدّمة أو شبه المقدّمة للخروج لا نفسه.
و ثالثا: لو سلّمنا أنّ التخلّص عنوان ينطبق على الحركات الخروجيّة فلا نسلّم بوجوبه النفسيّ؛ لأنّ التخلّص عن الحرام ليس هو إلّا عبارة أخرى عن ترك الحرام، و ترك الحرام ليس واجبا نفسيّا على وجه يكون ذا مصلحة نفسيّة في مقابل المفسدة النفسيّة في الفعل.
نعم، هو مطلوب بتبع النهي عن الفعل، و قد تقدّم ذلك في مبحث النواهي في الجزء الأوّل (١) و في مسألة الضدّ في الجزء الثاني (٢)، فكما أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه العامّ- أي نقيضه و هو الترك- كذلك أنّ النهي عن الشيء لا يقتضي الأمر بضدّه العام- أي نقيضه و هو الترك-. و لذا قلنا في مبحث النواهي: «إنّ تفسير النهي بطلب الترك- كما وقع للقوم (٣)- ليس في محلّه، و إنّما هو تفسير للشيء بلازم المعنى العقليّ، فإنّ مقتضى الزجر عن الفعل طلب تركه عقلا، لا على أن يكون الترك ذا مصلحة نفسيّة في مقابل مفسدة الفعل؛ و كذلك في الأمر، فإنّ مقتضى الدعوة إلى الفعل الزجر عن تركه عقلا لا على أن يكون الترك ذا مفسدة نفسيّة في مقابل مصلحة الفعل، بل ليس في النهي إلّا مفسدة الفعل،
____________
(١). تقدّم في الصفحة: ١١٥.
(٢). راجع: الصفحة: ٣٠٢ و ٣٠٤- ٣٠٥.
(٣). و منهم: المحقّق القمّي في القوانين ١: ١٣٥- ١٣٧، و صاحب المعالم في معالم الدين: ١٠٤، و صاحب الفصول في الفصول الغرويّة: ١٢٠.
٣٤٧
و ليس في الأمر إلّا مصلحة الفعل.
و أمّا: أنّ الخروج ليس بواجب غيريّ؛ فلأنّه:
أوّلا: قد تقدّم أنّ مقدّمة الواجب ليست بواجبة (١) على تقدير القول بأنّ التخلّص واجب نفسيّ.
و ثانيا: أنّ الخروج- الذي هو عبارة عن الحركات الخروجيّة في مقصود هذا القائل- ليس مقدّمة لنفس التخلّص عن الحرام، بل على التحقيق إنّما هو مقدّمة للكون في خارج الدار، و الكون في خارج الدار ملازم لعنوان التخلّص عن الحرام لا نفسه، و لا يلزم من فرض وجوب التخلّص فرض وجوب ملازمه، فإنّ الملازمين لا يجب أن يشتركا في الحكم- كما تقدّم في مسألة الضدّ (٢)-. و إذا لم يجب الكون خارج الدار كيف تجب مقدّمته؟!
و ثالثا: لو سلّمنا أنّ التخلّص واجب نفسيّ، و أنّه نفس الكون خارج الدار فتكون الحركات الخروجيّة مقدّمة له، و أنّ مقدّمة الواجب واجبة- لو سلّمنا كلّ ذلك-، فإنّ مقدّمة الواجب إنّما تكون واجبة حيث لا مانع من ذلك، كما لو كانت محرّمة في نفسها، كركوب المركب الحرام في طريق الحجّ؛ فإنّه لا يقع على صفة الوجوب و إن توصّل به إلى الواجب.
و هنا الحركات الخروجيّة تقع على صفة الحرمة- كما قدّمنا- باعتبار أنّها من أفراد الحرام، و هو التصرّف بالمغصوب، فلا تقع على صفة الوجوب من باب المقدّمة.
فإن قلت: إنّ المقدّمة المحرّمة إنّما لا تقع على صفة الوجوب حيث لا تكون منحصرة، و أمّا مع انحصار التوصّل بها إلى الواجب فإنّه يقع التزاحم بين حرمتها و وجوب ذيها؛ لأنّ الأمر يدور حينئذ بين امتثال الوجوب و بين امتثال الحرمة، فلو كان الوجوب أهمّ قدّم على حرمة المقدّمة فتسقط حرمتها. و هنا الأمر كذلك؛ فإنّ المقدّمة منحصرة، و الواجب- و هو ترك الغصب الزائد- أهمّ.
قلت: هذا صحيح لو كان الدوران لم يقع بسوء اختيار المكلّف؛ فإنّه حينئذ يكون
____________
(١). تقدّم في الصفحة: ٢٩٩- ٣٠١.
(٢). تقدّم في الصفحة: ٣٠٦.
٣٤٨
الدوران في مقام التشريع. و أمّا لو كان الدوران واقعا بسوء اختيار المكلّف- كما هو مفروض في المقام-، فإنّ المولى في مقام التشريع قد استوفى غرضه من أوّل الأمر بالنهي عن الغصب مطلقا، و لا دوران فيه حتّى يقال: «يقبح من المولى تفويت غرضه الأهمّ».
و إنّما الدوران وقع في مقام استيفاء الغرض استيفاء خارجيّا بسبب سوء اختيار المكلّف بعد فرض أنّ المولى من أوّل الأمر- قبل أن يدخل المكلّف في المحلّ المغصوب- قد استوفى كلّ غرضه في مقام التشريع؛ إذ نهى عن كلّ تصرّف بالمغصوب، فليس هناك تزاحم في مقام التشريع؛ فالمكلّف يجب عليه أن يترك الغصب الزائد بالخروج عن المغصوب، و نفس الحركات الخروجيّة تكون أيضا محرّمة يستحقّ عليها العقاب؛ لأنّها من أفراد ما هو منهيّ عنه، و قد وقع في هذا المحذور و الدوران بسوء اختياره.
صحّة الصلاة حال الخروج
و أمّا الناحية الثانية: و هي صحّة الصلاة حال الخروج؛ فإنّها تبتني على اختيار أحد الأقوال في الناحية الأولى.
فإن قلنا بأنّ الخروج يقع على صفة الوجوب فقط؛ فإنّه لا مانع من الإتيان بالصلاة حالته، سواء ضاق وقتها أم لم يضق، و لكن بشرط ألّا يستلزم أداء الصلاة تصرّفا زائدا على الحركات الخروجيّة، فإنّ هذا التصرّف الزائد حينئذ يقع محرّما منهيّا عنه.
فإذا استلزم أداء الصلاة تصرّفا زائدا فإن كان الوقت ضيقا فلا بدّ أن يؤدّي الصلاة حال الخروج، و لا بدّ أن يقتصر منها على أقلّ الواجب، فيصلّي إيماء بدل الركوع و السجود. و إن كان الوقت متّسعا لأدائها بعد الخروج وجب أن ينتظر بها إلى ما بعد الخروج.
و إن قلنا بوقوع الخروج على صفة الحرمة فإنّه مع سعة الوقت لا بدّ أن يؤدّيها بعد الخروج، سواء استلزمت تصرّفا زائدا أم لم تستلزم، و مع ضيق الوقت يقع التزاحم بين الحرام الغصبيّ و الصلاة الواجبة، و الصلاة لا تترك بحال، فيجب أداؤها مع ترك ما يستلزم منها تصرّفا زائدا، فيصلّي إيماء للركوع و السجود و يقرأ ماشيا، فيترك الاطمئنان الواجب و هكذا.
٣٤٩
و إن قلنا بعدم وقوع الخروج على صفة الحرمة و لا صفة الوجوب فلا مانع من أداء الصلاة حال الخروج إذا لم تستلزم تصرّفا زائدا حتّى مع سعة الوقت على النحو الذي تقدّم.
تمرينات (٤٠)
التمرين الأوّل ١. ما هو محلّ النزاع في مسألة اجتماع الأمر و النهي؟
٢. ما هي الأقوال في المقام؟
٣. ما المراد من كلمة «الاجتماع» في محلّ النزاع؟
٤. ما المراد من كلمة «الواحد» في المقام؟ و هل الواحد الشخصي و الواحد بالجنس يدخلان في محلّ النزاع؟
٥. ما المقصود من كلمة «الجواز» في المقام؟
٦. كيف تدخل المسألة في الملازمات العقليّة غير المستقلّة؟
٧. ما هي مسألة تعدّد المعنون بتعدّد العنوان و عدمه؟ و هل تعدّده يوجب تعدّد المعنون؟
٨. بيّن ما أفاد المحقّق الخراساني (رحمه اللّه) في محلّ النزاع و ما فيه.
٩. ما المراد من قيد «المندوحة» في المقام؟ و هل هو معتبر أم لا؟
١٠. ما الفرق بين باب التعارض و التزاحم، و بينهما و بين مسألة الاجتماع؟ بيّنه تفصيلا.
١١. ما هو مختار المصنّف (رحمه اللّه) في مسألة الاجتماع؟ و ما دليله عليه؟
١٢. ما هي ثمرة النزاع في مسألة الاجتماع؟
١٣. ما هي الأقوال في مسألة «الخروج من المغصوب»؟ و ما وجه القول بالوجوب و وجه القول بالحرمة؟ و ما هو الحق؟
١٤. كيف دفع القول بأنّ الخروج من المغصوب واجب غيريّ.
١٥. هل الصلاة حال الخروج صحيحة أم لا؟
التمرين الثاني ١. هل مسألة «الاجتماع» من المسائل الأصوليّة التي تدخل في باب الملازمات العقليّة غير مستقلّة أم لا؟
بيّن أقوال العلماء و ما فيها.
٣٥٠
المسألة الخامسة: دلالة النهي على الفساد
تحرير محلّ النزاع
هذه المسألة من أمّهات المسائل الأصوليّة التي بحثت من القديم. و لأجل تحرير محلّ النزاع فيها و توضيحه، علينا أن نشرح الألفاظ الواردة في عنوانها، و هي كلمة الدلالة، النهي، الفساد.
و لا بدّ من ذكر المراد من الشيء المنهيّ عنه أيضا؛ لأنّه مدلول عليه بكلمة «النهي»؛ إذ النهي لا بدّ له من متعلّق. إذن ينبغي البحث عن أربعة أمور:
١. الدلالة، فإنّ ظاهر اللفظة يعطي أنّ المراد منها الدلالة اللفظيّة، و لعلّه لأجل هذا الظهور البدويّ أدرج بعضهم هذه المسألة في مباحث الألفاظ (١)، و لكنّ المعروف أنّ مرادهم منها ما يؤدّي إليه لفظ «الاقتضاء»، حسبما يفهم من بحثهم المسألة و جملة من الأقوال فيها، لا سيّما المتأخّرون من الأصوليّين.
و عليه، فيكون المراد من الدلالة خصوص الدلالة العقليّة (٢)؛ و حينئذ يكون المقصود من النزاع «البحث عن اقتضاء طبيعة النهي عن الشيء فساد المنهيّ عنه عقلا»، و من هنا يعلم أنّه لا يشترط في النهي أن يكون مستفادا من دليل لفظيّ. و في الحقيقة يكون النزاع هنا عن ثبوت الملازمة العقليّة بين النهي عن الشيء و فساده، أو عن الممانعة و المنافرة عقلا بين النهي عن الشيء و صحّته، و لا فرق بين التعبيرين.
و لأجل هذا أدرجنا نحن هذه المسألة في قسم الملازمات العقليّة.
نعم، قد يدّعي بعضهم (٣) أنّ هذه الملازمة- على تقدير ثبوتها- من نوع الملازمات البيّنة بالمعنى الأخصّ. و حينئذ يكون اللفظ الدالّ بالمطابقة على النهي دالّا بالدلالة الالتزاميّة
____________
(١). و هو بعيد؛ لأنّهم أهل الدقّة و النظر. بل إنّهم لمّا لم يفرّدوا بابا للبحث عن الملازمات العقليّة فأدرجوها في مباحث الألفاظ.
(٢). و ذهب المحقّق العراقيّ إلى أنّ المسألة من المسائل اللفظيّة لا من المسائل العقليّة. نهاية الأفكار ٢: ٤٥٢.
(٣). كالمحقق المشكينيّ في حاشية الكفاية. راجع كفاية الأصول «المحشّى» ١: ٢٨٣.
٣٥١
على فساد المنهيّ عنه، فيصحّ أن يراد من الدلالة ما هو أعمّ من الدلالة اللفظيّة و العقليّة.
و نحن نقول: هذا صحيح على هذا القول، و لا بأس بتعميم الدلالة إلى اللفظيّة و العقليّة في العنوان حينئذ، و لكنّ النزاع مع هذا القائل أيضا يقع في الملازمة العقليّة قبل فرض الدلالة اللفظيّة الالتزاميّة، فالبحث معه أيضا يرجع إلى البحث عن الاقتضاء العقليّ. فالأولى أن يراد من الدلالة في العنوان الاقتضاء العقليّ؛ فإنّه يجمع جميع الأقوال و الاحتمالات، لا سيّما أنّ البحث يشمل كلّ نهي و إن لم يكن مستفادا من دليل لفظيّ.
و العبارة تكون أكثر استقامة لو عبّر عن عنوان المسألة بما عبّر به صاحب الكفاية (قدّس سرّه) بقوله: «اقتضاء النهي الفساد» (١)، فأبدل كلمة «الدلالة» بكلمة «الاقتضاء»، و لكن نحن عبّرنا بما جرت عليه عادة القدماء في عنوان المسألة متابعة لهم.
٢. النهي، إنّ كلمة «النهي» ظاهرة- كما تقدّم في الجزء الأوّل (٢)- في خصوص الحرمة، و قلنا هناك: «إنّ الظهور ليس من جهة الوضع بل بمقتضى حكم العقل»، أمّا نفس الكلمة من جهة الوضع فهي تشمل النهي التحريميّ و النهي التنزيهيّ- أي الكراهة-، و لعلّ كلمة «النهي» في مثل عنوان المسألة ليس فيها ما يقتضي عقلا ظهورها في الحرمة، فلا بأس من تعميم النهي في العنوان لكلّ من القسمين بعد أن كان النزاع قد وقع في كلّ منهما (٣).
و كذلك كلمة «النهي»- بإطلاقها- ظاهرة في خصوص الحرمة النفسيّة دون الغيريّة، و لكنّ النزاع أيضا وقع في كلّ منهما؛ فإذن ينبغي تعميم كلمة «النهي» في العنوان للتحريميّ و التنزيهيّ، و للنفسيّ و الغيريّ، كما صنع صاحب الكفاية (قدّس سرّه) (٤).
و شيخنا النائينيّ (قدّس سرّه) جزم باختصاص النهي في عنوان المسألة بخصوص التحريميّ النفسيّ (٥)؛ لأنّه يجزم بأنّ التنزيهيّ لا يقتضي الفساد، و كذا الغيريّ.
____________
(١). كفاية الأصول: ٢١٧.
(٢). تقدّم في الصفحة: ١١٥.
(٣). خلافا للشيخ الأنصاريّ؛ فإنّه خصّ النزاع بالنهي التحريميّ. مطارح الأنظار: ١٥٧.
(٤). كفاية الأصول: ٢١٨. و اختاره السيّد الإمام الخمينيّ في المناهج ٢: ١٥١.
(٥). فوائد الأصول ٢: ٤٥٦. و المحقّق الخوئيّ اختصّ النزاع بالنهي النفسيّ التحريميّ و النهي التنزيهيّ المتعلّق بذات العبادة، راجع المحاضرات ٥: ٥- ٧.
٣٥٢
و الذي ينبغي أن يقال له: أنّ الاختيار شيء و عموم النزاع في المسألة شيء آخر، فإنّ اختياركم بأنّ النهي التنزيهيّ و الغيريّ لا يقتضيان الفساد ليس معناه اتّفاق الكلّ على ذلك، حتّى يكون النزاع في المسألة مختصّا بما عداهما، و المفروض أنّ هناك من يقول بأنّ النهي التنزيهيّ و الغيريّ يقتضيان الفساد. فتعميم كلمة «النهي» في العنوان هو الأولى.
٣. الفساد: إنّ الفساد كلمة ظاهرة المعنى، و المراد منها ما يقابل الصحّة (١) تقابل العدم و الملكة على الأصحّ (٢)، لا تقابل النقيضين، و لا تقابل الضدّين. و عليه، فما له قابليّة أن يكون صحيحا يصحّ أن يتّصف بالفساد، و ما ليس له ذلك لا يصحّ وصفه بالفساد.
و صحّة كلّ شيء بحسبه، فمعنى صحّة العبادة مطابقتها لما هو المأمور به من جهة تمام أجزائها، و جميع ما هو معتبر فيها (٣)، و معنى فسادها عدم مطابقتها له من جهة نقصان فيها.
و لازم عدم مطابقتها لما هو مأمور به عدم سقوط الأمر، و عدم سقوط الأداء و القضاء.
و معنى صحّة المعاملة مطابقتها لما هو المعتبر فيها من أجزاء و شرائط و نحوها، و معنى فسادها عدم مطابقتها لما هو معتبر فيها. و لازم عدم مطابقتها عدم ترتّب أثرها المرغوب فيه عليها من نحو: النقل، و الانتقال في عقد البيع و الإجارة، و من نحو: العلقة الزوجيّة في عقد النكاح ... و هكذا.
____________
(١). نسب إلى المشهور أنّ الصحّة هي التماميّة، و الفساد هو النقصان. راجع كفاية الأصول: ٣٩ و ٢٣٠؛ نهاية الأفكار ١: ٧٣.
و قال الشيخ البهائيّ: « [قال] المتكلّمون: صحيح العبادات ما وافق الشرع. و الفقهاء: ما أسقط القضاء». زبدة الأصول: ٤٥.
(٢). و هذا مختار أكثر المحقّقين. فراجع كفاية الأصول: ٢١٩؛ نهاية الأفكار ١: ٧٧؛ نهاية الأصول: ٢٥٥.
(٣). هذا بناء على اعتبار الأمر في عباديّة العبادة*، أمّا إذا قلنا بكفاية الرجحان الذاتيّ في عباديّتها إذا قصدها متقرّبا بها إلى اللّه (تعالى)- كما هو الصحيح-، فيكون معنى صحّة العبادة ما هو أعمّ من مطابقتها لما هو مأمور به و من مطابقتها لما هو راجح ذاتا و إن لم يكن هناك أمر.- منه (رحمه اللّه)-. بها إلى اللّه (تعالى)- كما هو الصحيح-، فيكون معنى صحّة العبادة ما هو أعمّ من مطابقتها لما هو مأمور به و من مطابقتها لما هو راجح ذاتا و إن لم يكن هناك أمر.- منه (رحمه اللّه)-.
(*) كما ذهب إليه صاحب الجواهر، فراجع جواهر الكلام ٢: ٨٨ و ٩: ١٥٥- ١٥٦.
٣٥٣
٤. متعلّق النهي، لا شكّ في أنّ متعلّق النهي- هنا- يجب أن يكون ممّا يصحّ أن يتّصف بالصّحّة و الفساد ليصحّ النزاع فيه، و إلّا فلا معنى لأن يقال- مثلا-: إنّ النهي عن شرب الخمر يقتضي الفساد أو لا يقتضي.
و عليه، فليس كلّ ما هو متعلّق للنهي يقع موضعا للنزاع في هذه المسألة، بل خصوص ما يقبل وصفي الصحّة و الفساد. و هذا واضح.
ثمّ إنّ متعلّق النهي يعمّ العبادة و المعاملة اللتين يصحّ وصفهما بالفساد، فلا اختصاص للمسألة بالعبادة، كما ربّما ينسب إلى بعضهم (١).
و إذا اتّضح المقصود من الكلمات التي وردت في العنوان يتّضح المقصود من النزاع و محلّه هنا؛ فإنّه يرجع إلى النزاع في الملازمة العقليّة بين النهي عن الشيء و فساده، فمن يقول بالاقتضاء فإنّما يقول بأنّ النهي يستلزم عقلا فساد متعلّقه، و قد يقول مع ذلك بأنّ اللفظ الدالّ على النهي دالّ على فساد المنهيّ عنه بالدلالة الالتزاميّة. و من يقول بعدمه إنّما يقول بأنّ النهي عن الشيء لا يستلزم عقلا فساده.
أو فقل: إنّ النزاع هنا يرجع إلى النزاع في وجود الممانعة و المنافرة عقلا بين كون الشيء صحيحا و بين كونه منهيّا عنه، أي إنّه هل هناك ممانعة من الجمع بين صحّة الشيء و النهي عنه أو لا؟
و لأجل هذا تدخل هذه المسألة في بحث الملازمات العقليّة، كما صنعنا.
و لمّا كان البحث يختلف اختلافا كثيرا في كلّ واحدة من العبادة و المعاملة عقدوا البحث في موضعين: العبادة، و المعاملة، فينبغي البحث عن كلّ منهما مستقلّا في مبحثين:
المبحث الأوّل: النهي عن العبادة
المقصود من العبادة التي هي محلّ النزاع في المقام العبادة بالمعنى الأخصّ- أي خصوص ما يشترط في صحّتها قصد القربة-، أو فقل: هي خصوص الوظيفة التي شرعها اللّه (تعالى) لأجل التقرّب بها إليه.
____________
(١). لم أعثر على الناسب و لا المنسوب إليه.
٣٥٤
و لا يشمل النزاع العبادة بالمعنى الأعمّ، مثل غسل الثوب من النجاسة؛ لأنّه- و إن صحّ أن يقع عبادة متقرّبا به إلى اللّه (تعالى)- لا يتوقّف حصول أثره المرغوب فيه- و هو زوال النجاسة- على وقوعه قربيّا، فلو فرض وقوعه منهيّا عنه كالغسل بالماء المغصوب فإنّه يقع به الامتثال، و يسقط الأمر به، فلا يتصوّر وقوعه فاسدا من أجل تعلّق النهي به.
نعم، إذا وقع محرّما منهيّا عنه فإنّه لا يقع عبادة متقرّبا به إلى اللّه (تعالى)؛ فإذا قصد من الفساد هذا المعنى فلا بأس في أن يقال: «إنّ النهي عن العبادة بالمعنى الأعمّ يقتضي الفساد»؛ فإنّ من يدّعي الممانعة بين الصحّة و النهي يمكن أن يدّعي الممانعة بين وقوع غسل الثوب صحيحا- أي عبادة متقرّبا به إلى اللّه (تعالى)- و بين النهي عنه.
و ليس معنى العبادة هنا أنّها ما كانت متعلّقة للأمر فعلا؛ لأنّه مع فرض تعلّق النهي بها فعلا لا يعقل فرض تعلّق الأمر بها أيضا، و ليس ذلك ك «باب اجتماع الأمر و النهي» الذي فرض فيه تعلّق النهي بعنوان غير العنوان الذي تعلّق به الأمر؛ فإنّه إن جاز هناك اجتماع الأمر و النهي فلا يجوز هنا؛ لعدم تعدّد العنوان، و إنّما العنوان الذي تعلّق به الأمر هو نفسه صار متعلّقا للنهي.
و على هذا، فلا بدّ أن يراد بالعبادة المنهيّ عنها ما كانت طبيعتها متعلّقة للأمر، و إن لم تكن شاملة- بما هي مأمور بها- لما هو متعلّق النهي، أو ما كانت من شأنها أن يتقرّب بها لو تعلّق بها أمر.
و بعبارة أخرى جامعة أن يقال: إنّ المقصود بالعبادة هنا هي الوظيفة التي لو شرعها الشارع لشرعها لأجل التعبّد بها و إن لم يتعلّق بها أمر فعليّ لخصوصيّة المورد.
ثمّ إنّ النهي عن العبادة يتصوّر على أنحاء:
أحدها: أن يتعلّق النهي بأصل العبادة، كالنهي عن صوم العيدين، و صوم الوصال، و صلاة الحائض و النفساء.
و ثانيها: أن يتعلّق بجزئها، كالنهي عن قراءة سورة من سور العزائم في الصلاة.
و ثالثها: أن يتعلّق بشرطها أو بشرط جزئها، كالنهي عن الصلاة باللباس المغصوب،
٣٥٥
أو المتنجّس.
و رابعها: أن يتعلّق بوصف ملازم لها أو لجزئها، كالنهي عن الجهر بالقراءة في موضع الإخفات، و النهي عن الإخفات في موضع الجهر (١).
و الحقّ أنّ النهي عن العبادة يقتضي الفساد، سواء كان نهيا عن أصلها، أو جزئها، أو شرطها، أو وصفها؛ للتمانع الظاهر بين العبادة التي يراد بها التقرّب إلى اللّه (تعالى) و مرضاته، و بين النهي عنها المبعّد عصيانه عن اللّه (تعالى)، و المثير لسخطه، فيستحيل التقرّب بالمبعّد، و الرضا بما يسخطه، و يستحيل أيضا التقرّب بما يشتمل على المبعّد المبغوض المسخط له، أو بما هو مقيّد بالمبعّد، أو بما هو موصوف بالمبعّد (٢).
و من الواضح أنّ المقصود من القرب و البعد من المولى القرب و البعد المعنويّان، و هما يشبهان القرب و البعد المكانيّين، فكما يستحيل التقرّب المكاني بما هو مبعّد مكانا كذلك يستحيل التقرّب المعنويّ بما هو مبعّد معنى.
و نحن إذ نقول ذلك في النهي عن الجزء و الشرط و الوصف، نقول به، لا لأجل أنّ النهي عن هذه الامور يسري إلى أصل العبادة، و أنّ ذلك واسطة في الثبوت، (٣) أو واسطة في العروض- كما قيل (٤)-، و لا لأجل أنّ جزء العبادة و شرطها عبادة، فإذا فسد الجزء و الشرط استلزم فسادهما فساد المركّب و المشروط (٥)، بل نحن لا نستند في قولنا في الجزء و الشرط و الوصف إلى ذلك؛ لأنّه لا حاجة إلى مثل هذه التعليلات، و لا تصل النوبة إليها بعد ما قلناه من أنّه يستحيل التقرّب بما يشتمل على المبعّد، أو بما هو مقيّد أو موصوف بالمبعّد، كما يستحيل التقرّب بنفس المبعّد بلا فرق.
____________
(١). و في المقام قسم آخر، و هو أن يتعلّق النهي بوصفها غير الملازم، كالغصبيّة لأكوان الصلاة المنفكّة عنها. و قال المحقّق الخوئيّ في المحاضرات ٥: ٢٦: «هذا القسم خارج عن محلّ البحث، بل داخل في مسألة اجتماع الأمر و النهي». و لعلّه لم يذكره المصنّف في المقام.
(٢). هكذا قال المحقّق الأصفهاني في نهاية الدراية ١: ٥٩١.
(٣). كما في كفاية الأصول: ٢٢٣- ٢٢٤.
(٤). لاحظ نهاية الدراية ١: ٥٩٠.
(٥). كما في الفصول الغرويّة: ١٤٥.
٣٥٦
على أنّ في هذه التعليلات من المناقشة ما لا يسعه هذا المختصر، و لا حاجة إلى مناقشتها بعد ما ذكرناه. هذا كلّه في النهي النفسيّ.
أمّا النهي الغيريّ المقدّميّ: فحكمه حكم النفسيّ بلا فرق، كما أشرنا إلى ذلك فيما تقدّم (١)؛ فإنّه أشرنا هناك إلى الوجه الذي ذكره بعض أعاظم مشايخنا (قدّس سرّهم) (٢) للفرق بينهما بأنّ النهي الغيريّ لا يكشف عن وجود مفسدة و حزازة في المنهيّ عنه، فيبقى المنهيّ عنه على ما كان عليه من المصلحة الذاتيّة بلا مزاحم لها من مفسدة للنهي، فيمكن التقرّب به بقصد تلك المصلحة الذاتيّة المفروضة، بخلاف النهي النفسيّ الكاشف عن المفسدة و الحزازة في المنهيّ عنه، المانعة من التقرّب به.
و قد ناقشناه هناك بأنّ التقرّب و الابتعاد ليسا يدوران مدار المصلحة و المفسدة الذاتيّتين حتّى يتمّ هذا الكلام، بل- كما ذكرناه هناك- أنّ الفعل المبعّد عن المولى في حال كونه مبعّدا لا يعقل أن يكون متقرّبا به إليه، كالتقرّب و الابتعاد المكانيّين، و النهي و إن كان غيريّا يوجب البعد و مبغوضيّة المنهيّ عنه و إن لم يشتمل على مفسدة نفسيّة.
و يبقى الكلام في النهي التنزيهيّ- أي الكراهة-، فالحقّ أيضا أنّه يقتضي الفساد، كالنهي التحريميّ، لنفس التعليل السابق من استحالة التقرّب بما هو مبعّد بلا فرق، غاية الأمر أنّ مرتبة البعد في التحريميّ أشدّ و أكثر منها في التنزيهيّ، كاختلاف مرتبة القرب في موافقة الأمر الوجوبيّ و الاستحبابيّ. و هذا الفرق لا يوجب تفاوتا في استحالة التقرّب بالمبعّد.
و لأجل هذا حمل الأصحاب الكراهة في العبادة على أقلّيّة الثواب مع ثبوت صحّتها شرعا لو أتى بها المكلّف، لا الكراهة الحكميّة الشرعيّة، و معنى حمل الكراهة على أقلّيّة الثواب أنّ النهي الوارد فيها يكون مسوقا لبيان هذا المعنى، و بداعي الإرشاد إلى أقلّيّة الثواب، و ليس مسوقا لبيان الحكم التكليفيّ المقابل للأحكام الأربعة الباقية بداعي الزجر عن الفعل و الردع عنه.
و عليه، فلو أحرز بدليل خاصّ أنّ النهي بداعي الزجر التنزيهيّ، و لم يحرز من
____________
(١). راجع الصفحة: ٣١١.
(٢). و هو المحقّق النائينيّ في فوائد الأصول ٢: ٤٥٦.
٣٥٧
دليل خاصّ صحّة العبادة المكروهة فلا محالة لا نقول بصحّة العبادة المنهيّ عنها بالنهي التنزيهيّ.
هذا فيما إذا كان النهي التنزيهيّ عن نفس عنوان العبادة، أو جزئها، أو شرطها، أو وصفها؛ أمّا: لو كان النهي عن عنوان آخر غير عنوان المأمور به، كما لو كان بين المنهيّ عنه و المأمور به عموم و خصوص من وجه؛ فإنّ هذا المورد يدخل في باب الاجتماع، و قد قلنا هناك بجواز الاجتماع في الأمر و النهي التحريميّ، فضلا عن الأمر و النهي التنزيهيّ، و ليس هو من باب النهي عن العبادة إلّا إذا ذهبنا إلى امتناع الاجتماع فيدخل في مسألتنا.
تنبيه
إنّ النهي الذي هو موضع النزاع- و الذي قلنا باقتضائه الفساد في العبادة- هو النهي بالمعنى الظاهر من مادّته و صيغته- أعني ما يتضمّن حكما تحريميّا أو تنزيهيّا- بأن يكون إنشاؤه بداعي الردع و الزجر.
أمّا: النهي بداع آخر، كداعي بيان أقلّيّة الثواب، أو داعي الإرشاد إلى مانعيّة الشيء، مثل النهي عن لبس جلد الميتة في الصلاة، أو نحو ذلك من الدواعي فإنّه ليس موضع النزاع في مسألتنا، و لا يقتضي الفساد بما هو نهي، إلّا أن يتضمّن اعتبار شيء في المأمور به، فمع فقد ذلك الشيء لا ينطبق المأتيّ به على المأمور به، فيقع فاسدا، كالنهي بداعي الإرشاد إلى مانعيّة شيء، فيستفاد منه أنّ عدم ذلك الشيء يكون شرطا في المأمور به. و لكن هذا شيء آخر لا يرتبط بمسألتنا، فإنّ هذا يجري حتّى في الواجبات التوصّلية، فإنّ فقد أحد شروطها يوجب فسادها.
المبحث الثاني: النهي عن المعاملة
إنّ النهي في المعاملة على نحوين- كالنهي عن العبادة-؛ فإنّه تارة يكون النهي بداعي بيان مانعيّة الشيء المنهيّ عنه، أو بداع آخر مشابه له، و أخرى يكون بداعي الردع و الزجر من أجل مبغوضيّة ما تعلّق به النهي، و وجود الحزازة فيه.
٣٥٨
فإن كان الأوّل فهو خارج عن مسألتنا- كما تقدّم في التنبيه السابق-؛ إذ لا شكّ في أنّه لو كان النهي بداعي الإرشاد إلى مانعيّة الشيء في المعاملة فإنّه يكود دالّا على فسادها عند الإخلال؛ لدلالة النهي على اعتبار عدم المانع فيها، فتخلّفه تخلّف للشرط المعتبر في صحّتها. و هذا لا ينبغي أن يختلف فيه اثنان.
و إن كان الثاني فإنّ النهي إمّا أن يكون عن ذات السبب- أي عن العقد الإنشائي-، أو فقل: عن التسبيب به لإيجاد المعاملة، كالنهي عن البيع وقت النداء لصلاة الجمعة في قوله (تعالى): إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ ... (١)؛ و إمّا أن يكون عن ذات المسبّب- أي عن نفس وجود المعاملة- كالنهي عن بيع الآبق و بيع المصحف.
فإن كان النهي على النحو الأوّل- أي عن ذات السبب-، فالمعروف أنّه لا يدلّ على فساد المعاملة (٢)؛ إذ لم تثبت المنافاة لا عقلا و لا عرفا بين مبغوضيّة العقد و التسبيب به، و بين إمضاء الشارع له بعد أن كان العقد مستوفيا لجميع الشروط المعتبرة فيه، بل ثبت خلافها، كحرمة الظهار التي لم تناف ترتّب الأثر عليه من الفراق.
و إن كان النهي على النحو الثاني- أي عن المسبّب-، فقد ذهب جماعة من العلماء (٣) إلى أنّ النهي في هذا القسم يقتضي الفساد.
و أقصى ما يمكن تعليل ذلك بما ذكره بعض أعاظم مشايخنا (٤) من أنّ صحّة كلّ معاملة مشروطة بأن يكون العاقد مسلّطا على المعاملة في حكم الشارع، غير محجور عليه من قبله من التصرّف في العين التي تجري عليها المعاملة. و نفس النهي عن المسبّب يكون معجّزا مولويا للمكلّف عن الفعل، و رافعا لسلطنته عليه، فيختلّ به ذلك الشرط المعتبر في
____________
(١). الجمعة (٦٢) الآية: ٩.
(٢). ذهب إليه في القوانين ١: ١٥٩، و الفصول: ١٤٠، و درر الفوائد ١: ١٥٧، و فوائد الأصول ٢: ٤٧١، و المحاضرات ٥: ٣١.
(٣). و منهم المحقّق النائينيّ في فوائد الأصول ٢: ٤٧١.
(٤). و هو المحقّق النائينيّ في فوائد الأصول ٢: ٤٧١- ٤٧٢.
٣٥٩
صحّة المعاملة، فلا محالة يترتّب على ذلك فسادها.
هذا غاية ما يمكن أن يقال في بيان اقتضاء النهي عن المسبّب لفساد المعاملة، و لكنّ التحقيق أن يقال:
إنّ استناد الفساد إلى النهي إنّما يصحّ أن يفرض و يتنازع فيه فيما إذا كان العقد بشرائطه موجودا حتّى بشرائط المتعاقدين، و شرائط العوضين، و أنّه ليس في البين إلّا المبغوضيّة الصرفة المستفادة من النهي. و حينئذ يقع البحث في أنّ هذه المبغوضيّة هل تنافي صحّة المعاملة أو لا تنافيها؟
أمّا: إذا كان النهي دالّا على اعتبار شيء في المتعاقدين و العوضين أو العقد، مثل النهي عن أن يبيع السفيه، و المجنون، و الصغير الدالّ على اعتبار [الرشد و] العقل و البلوغ في البائع، و كالنهي عن بيع الخمر، و الميتة، و الآبق، و نحوها الدالّ على اعتبار إباحة المبيع و التمكّن من التصرّف منه، و كالنهي عن العقد بغير العربيّة- مثلا- الدالّ على اعتبارها في العقد، فإنّ هذا النهي في كلّ ذلك لا شكّ في كونه دالّا على فساد المعاملة؛ لأنّ هذا النهي في الحقيقة يرجع إلى القسم الأوّل الذي ذكرناه، و هو ما كان النهي بداعي الإرشاد إلى اعتبار شيء في المعاملة، و قد تقدّم أنّ هذا ليس موضع الكلام من منافاة نفس النهي بداعي الردع و الزجر لصحّة المعاملة.
فالعمدة هو الكلام في هذه المنافاة، و ليس من دليل عليها حتّى تثبت الملازمة بين النهي و فساد المعاملة؛ و كون النهي عن المسبّب يكون معجّزا مولويّا للمكلّف عن الفعل، و رافعا لسلطنته عليه، فإنّ معنى ذلك أنّ النهي في المعاملة شأنه أن يدلّ على اختلال شرط في المعاملة بارتكاب المنهيّ عنه، و هذا لا كلام لنا فيه.
و في هذا القدر من البحث في هذه المسألة الكفاية، وفّقنا اللّه (تعالى) لمراضيه.
٣٦٠
تمرينات (٤١)
١. ما هو محلّ النزاع في مسألة «دلالة النهي على الفساد»؟
٢. ما المراد من «الدلالة» في محلّ النزاع؟
٣. ما المراد من كلمة «النهي» في المقام؟
٤. ما هو رأي المحقّق الخراساني و المحقّق النائيني في المراد من كلمة «النهي» في المقام؟
٥. ما المراد من كلمة «الفساد» في المقام؟
٦. ما المراد من الشيء المنهيّ عنه؟
٧. كيف تدخل هذه المسألة في بحث الملازمات العقليّة؟
٨. ما المراد من العبادة التى هي محلّ النزاع؟
٩. اذكر أنحاء تعلّق النهي بالعبادة، و مثّل لكلّ منها.
١٠. هل النهي عن العبادة يقتضي فسادها أم لا؟
١١. ما هو رأي المحقّق النائيني في النهي عن العبادة؟
١٢. هل النهي التنزيهي يقتضي الفساد؟ ما الدليل عليه؟
١٣. هل النهي عن المعاملة يقتضي الفساد أم لا؟
تعليقات
إرسال تعليق