اصول المظفر الجزء الاول كلمة الناشر:
بسم الله الرحمن الرحيم
يعد كتاب «أصول الفقه» لآية الله الشيخ محمد رضا المظفر أحد الكتب التي حاولت منهجة دروس الحوزة لتكون بداية لتنظيم الدراسة فيها، و محاولة حذف الفضول من الكتب القديمة كالقوانين و الفصول، محاولا هو و رفاقه من رواد هذا الاتجاه، منهم آية الله الشيخ عبد الحسين الرشتي- و هو أحد فطاحل مدرسة الآخوند الخراساني- تيسير المناهج و تسهيل المطالب، و لكنه مع ذلك لم يخل من بحوث عميقة المحتوى، صعبة المستوى.
و من أول المحاولات لتيسير معرفة مطالب أصول الفقه و محاولة حل رموزه هو هذا الكتاب المتمثل في طبعته الأولى، و قد بدا له أن يرقى بمستوى هذا الشرح ليناسب طلاب المرحلة المتأخرة، و قد جمع فيه ما استفاده من أساتذته في دراسته للمرحلة، و ما وسعه اقتناصه من كتب هي في مجالها تعتبر رائدة مثل بعض شروح الكفاية، و منتهى الأصول و غيره.
و إننا إذ نقدمه للقراء في هذه الطبعة الجديدة التي تضاعف مقدار شرحها عن سابقتها نرجو أن يكون هذا الشرح قد سد بعض الثغرات السابقة، و أن يفيد به الجميع طلابا و أساتذة.
الناشر
٦
{*empty#}صفحة فارغة (مطابق للمطبوع){#empty*}
٧
مقدمة الشارح
بسم الله الرحمن الرحيم
و الصلاة و السلام على خاتم الأنبياء و المرسلين محمّد و آله الطيبين الطاهرين، و اللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين.
و بعد:
فإنّ كتاب أصول الفقه للشيخ محمّد رضا المظفّر (قدس سره) يعتبر من الكتب الدراسيّة الهامّة جدّا من دراسات السطوح، الذي بدراسته يسهل على الطالب فهم مطالب الرسائل و الكفاية.
و لما كانت له من الأهميّة القصوى في مجال الدرس و التحصيل؛ وقع نبراسا للممارسين بتعليم علم الأصول. و من المؤسف إنّ هذا الكتاب الدراسي لم يعط أهميّة في مجال الشرح و البسط، مع ما فيه من المعضلات من العبارات الغامضة التي تحتاج إلى شرح، إلا أنه قد يتوهّم أنّ هذا الكتاب سهل المنال، مدّعيا سهولة عبارة المصنف.
إلا أن تجربتي الشخصيّة تقول عكس هذه المقولة، فإنّ الكثير من مطالب هذا الكتاب القيّم تحتاج إلى شرح دقيق، و تصوير واضح، بل لا يفهم ما في هذا الكتاب بأحسن وجه ممكن إلا بعد دراسة كتاب الرسائل و الكفاية.
و ما هذه المقولة إلا نتيجة عدم محاسبة الطالب نفسه؛ و لذا من المهمّ جدّا لكلّ طالب علم أن ينصف نفسه في مستوى فهم أيّ كتاب يدرسه، فإنّ بعض الطلاب يدّعون أنّهم درسوا و فهموا الكتاب الفلاني و الكتاب الفلاني، و لكن حينما تعيش مع واقعهم الدراسي تجد أنّهم يعيشون طقوس عبارة المصنف، و غالبا ما تكون بعيدة عن مرادات المصنف الجديّة. و بهذا الواقع المشكل تقع في طريق طالب العلم مشكلة كبيرة، و لكي يجتازها لا بدّ أن يكون شجاعا و أن ينصف نفسه بأن يحاسبها، و لا يسمح لنفسه أن تفوته عبارات لم يفهمها، و إلا سوف يبكي بدل الدموع دما.
هذا، و لمّا كان لهذا الكتاب الدراسي القيّم من أهميّة قصوى، و في الوقت نفسه لا يوجد له شرح، سارعت لسدّ هذا الفراغ في شرح هذا الكتاب؛ و الهدف في كلّ
٨
هذا خدمة الدين، و طلّاب العلوم الدينيّة، و تحريك عجلة التقدّم إن شاء الله تعالى.
و لا يخفى أن هذا الكتاب (أصول الفقه) يحمل الكثير من المطالب العلميّة الهامّة في علم الأصول، إلا أنّ مصنفه لم يوفّق في إخراج المقصد الرابع من الأصول العمليّة تماما، و قد صدر منه قسم مختصر في الاستصحاب فقط، و أما باقي الأصول العمليّة: أصالة البراءة، و أصالة الاشتغال، و أصالة التخيير، فلم يصدر منه؛ فكان من الواجب عليّ أن أضيف بقيّة الأصول العمليّة، و قد وفّقنا الله لذلك. و ذلك لحصولنا على كتاب متمّم للأصول العمليّة بقلم حجّة الإسلام و المسلمين الشيخ ميرزا غلام رضا عرفانيان اليزدي الخراساني «حفظه الله تعالى»، فجعلته مثل ما كان يريد متمّما للأصول العمليّة من هذا الكتاب القيّم.
و لا يخفى: أنّ الشيخ الجليل ميرزا غلام رضا عرفانيان سار في كتابته للأصول العمليّة الثلاثة على نفس النهج الذي كتب به الشيخ المظفّر (رحمه الله). و كما لا يخفى- أيضا- أنّ الشيخ عرفانيان قد أجاد في كتابته لهذه التتمّة؛ من حيث المنهجيّة، و السلاسة و الوضوح، و التعليقات الإيضاحية، جزاه الله و رعاه. و بهذا رفع عنّي مسئوليّة شرح هذه التتمّة إلا بعض المواقع القليلة. هذا و قد تطرّقنا إلى نبذة مختصرة عن تاريخ علم الأصول.
و في الختام، أقول: قد وفّقنا الله في شرح هذا الكتاب بأسلوب مراعيا فيه البيان الواضح و السلاسة، و طرح الأمثلة البيانيّة؛ لكي يستفيد منه عامّة طلاب العلوم الدينية. و مع كلّ ما واجهناه من الظروف القاسية و العراقيل الكثيرة، إلا أنّي قد تغلبت على هذه الظروف بعون من الله «سبحانه و تعالى» في شرح هذا الكتاب و طبعه. و كما لا يخفى: أنّ هذا الشرح قد خضع تحت مراجعة بعض الفضلاء؛ لكي يخرج هذا الشرح في موقع يستفيد منه طالب العلم؛ إذ اعتاد العلماء من المؤلفين و الباحثين في بحوثهم أن يعتمدوا في بحوثهم و تأليفاتهم على مصادر شفهية و تحريرية كما هو في هذا الشرح من الطبعة الأولى. و من جملة هذه المصادر بعض الأساتذة الأفاضل كفضيلة العلامة الشيخ هادي آل راضي، و فضيلة العلامة الشيخ باقر الإيرواني. و بعض الأصدقاء و الزملاء من العلماء الأفاضل كفضيلة الشيخ جعفر العالي الستري، كما راجعه فضيلة الشيخ عبد الجليل المقداد «حفظهم الله تعالى»، و جعلهم ذخرا للإسلام و المسلمين. و دون ذلك فهو كذب. هذا بالنسبة إلى الشرح
٩
في الطبعة الأولى.
و أمّا الشرح في الطبعة الثانية: فهو يزيد عن الطبعة الأولى ثلاثة أضعاف الطبعة الأولى كمّا و كيفا، حيث جعلته شرحا وافيا و مزيدا لمطالب الشيخ المظفر، و حرصت في طرحي في الشرح على مطالب ثمينة من الكفاية، و ركزت على آراء صاحب الكفاية الشيخ الآخوند الخراساني (قدس سره) و غيرهم من العلماء الأجلاء. هذا و أسأل الله القبول.
و آخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
١٠
لمحات من حياة الشيخ المظفّر (١)
لا بأس من ذكر ترجمة مختصرة عن حياة الشيخ المظفّر (قدس سره)، معتمدا في ذلك على ما في كتاب عقائد الإماميّة.
أسرته:
أسرة المظفّر من الأسر العلميّة في النجف الأشرف، عرفت فيها في أواسط القرن الثاني عشر، و قطن بعض رجالها الجزائر التابعة للواء البصرة.
و كان الفقيه المجتهد الشيخ محمّد بن عبد الله والد الفقيه الشيخ محمّد رضا المظفّر من علماء النجف و مراجع التقليد فيها نشأ في النجف و ترعرع فيها، و كان في عنفوان شبابه منقطعا إلى الجدّ و التحصيل، مكبّا على العبادة و التدريس، إلى أن برع في الفقه و عرف بجودة التحقيق فيه، و ألّف موسوعة فقهيّة جليلة شرح فيها كتاب «شرائع الإسلام» و سمّاها ب «توضيح الكلام» و قد استقصى فيها الفقه من مبدئه إلى منتهاه (٢).
ولادته:
ولد الشيخ محمّد رضا المظفّر في اليوم الخامس من شعبان عام ١٣٢٢ ه بعد وفاة والده بخمسة أشهر، فلم يقدّر الله تعالى أن يظفر الطفل الرضيع برؤية والده، و لا الوالد أن يظفر برؤية ولده، فكفله أخوه الأكبر الشيخ عبد النبي المتوفّى سنة ١٣٣٧ ه، و أولاه من عنايته و عطفه ما أغناه عن عطف الأبوّة.
نشأته الفكرية:
نشأ الشيخ المظفّر في البيئة النجفيّة، و تقلّب في مجالسها و نواديها و حلقاتها و محاضرها و مدارسها، و حضر فيها حلقات الدراسة العالية، و تخرّج على كبار مراجع التقليد و التدريس، و ترعرع في هذا البيت العريق من بيوتات النجف العلمية،
____________
(١) فصل مستل من كتاب (مدرسة النجف).
(٢) آل المظفر: الشّيخ محمود المظفر.
١١
و تعهد رعايته و تربيته أخواه العلمان: الشيخ عبد النبي و الشيخ محمّد حسن.
و ابتدأ حياته الدراسيّة بما يتعارف عليه الطالب النجفي من حضور الدراسات الأدبيّة و الفقهيّة و الأصوليّة و العقليّة. و تتلمذ على الشيخ محمّد طه الحويزي في الأدب و الأصول، كما أتقن الشعر، و برع في ذلك كلّه. و تتلمذ على غيره من أساتذة دروس مرحلة السطوح في ذلك الوقت، و برز الشيخ الفقيد في ذلك كلّه.
و بعد أن أنهى الدور الإعدادي (السطوح)، تفرّغ للدراسات العالية في الفقه و الأصول و الفلسفة. و حضر فيها على أخيه الشيخ محمّد حسن مع أخيه الآخر الشيخ محمّد حسين، كما حضر درس الشيخ آقا ضياء الدين العراقي في الأصول، و درس الشيخ ميرزا محمّد حسين النائيني في الفقه و الأصول، و حضر بصورة خاصّة أبحاث الشيخ محمّد حسين الأصفهاني (رحمه الله) في الفقه و الأصول و الفلسفة الإلهيّة العالية.
و انطبع الشيخ المظفّر كثيرا بآراء أستاذه الشيخ الأصفهاني في الأصول و الفقه و الفلسفة، و جرى على نهجه في البحث في كتابه «أصول الفقه» حيث تبع منهجه في تبويب الأصول، كما يشير هو إلى ذلك في ابتداء الكتاب، كما تأثّر بمبانيه الخاصّة على ما يظهر ذلك من خلال كتابه الكبير «أصول الفقه»، فيما أجيز له أن يتحدث عنه، و يخلص له الحب و الاحترام أكثر مما يخلص تلميذ لأستاذه. و يلمس القارئ هذا الشعور و الوفاء فيما كتب المظفّر عن أستاذه في مقدّمات كتبه الفقهيّة و الفلسفيّة، و في مقدّمة الأسفار و غيرها من رسائله و مقالاته.
و تخرّج كذلك على مشايخه في الفقه و الأصول و الفلسفة، و استقلّ هو بالاجتهاد و النظر و البحث، و شهد له شيوخه بذلك. و كان خلال ذلك كلّه يشتغل بالتدريس على مستوى الدراسات الإعداديّة، و الدراسات العالية في الفقه و الأصول و الفلسفة.
ذلك كلّه خارج مدارس منتدى النشر و كلّيّتها، أمّا فيها فقد نذر حياته على تنميتها و تطويرها بمختلف الألوان. و كان يقوم فيها بتدريس الأدب و المنطق و الفلسفة و الفقه و الأصول من المستوى الأوّلي إلى المستوى العالي، لا تمنعه من ذلك مكانته المرموقة في الحوزة، و لا إمكانياته الفكريّة العالية!
و كم رأينا الشيخ محمّد رضا المظفّر يحاضر على الصفوف الأولى من مدارس منتدى النشر، و يتلقّى أسئلتهم برحابة صدر، و يدفعهم إلى البحث و الدرس و التفكير،
١٢
و يحشر نفسه معهم! حتى كان يبدو للإنسان لأوّل وهلة: أنّه يخاطب زملاء له في الدراسة، لا طلّابا بهذا المستوى.
و كان الشيخ يمتاز فوق ذلك كلّه بعمق النظر، و دقّة الالتفاتة، و سلامة الذوق، و بعد التفكير فيما تلقّينا عنه من الفقه و الأصول و الفلسفة.
و قد حاول الشيخ في بدء حياته الدراسيّة: أن يلمّ بعلوم الرياضيات و الفلك و الطبيعة و العروض. فقد اتّفق أن وقعت يد الشيخ على طرف من الثقافة العصريّة و هو في بدء شبابه، فتذوّقها و حاول أن يشقّ طريقا إلى هذا اللون الجديد من الثقافة، و اتّفق مع آخرين ممّن كانوا يتذوّقون هذا اللون الجديد من الثقافة، على أن يراسلوا بعض المجلّات العلميّة كالمقتطف، و بعض دور النشر؛ لتبعث إليهم هذه الصحف و الكتب التي تحمل إليهم هذا اللون الجديد من الفكر.
و أتيح للشيخ فيما بعد أن يستمرّ على هذه الحالة و يواكب الحركة الفكريّة الناشئة، و يأخذ نصيبا وافرا من هذه العلوم الجديدة، كما كانوا يسمّونها، و يتأثّر بها تأثّرا بالغا إلى جنب تأثّره بشيوخه في الفقه و الأصول و الفلسفة.
آثاره العلمية:
كان النشاط العلمي و الكتابة و التأليف يشكّل جزء مهمّا من رسالة الشيخ محمّد رضا المظفّر و نشاطه.
و إذا ضممنا نشاطه العلمي في التأليف و النشر، إلى نشاطه الإصلاحي على الصعيد العامّ و الصعيد الدراسي: للمسنا جانبا من هذا الجهد الكبير الذي كان يبذله الشيخ في حياته.
و في كتابات الشيخ يقترن جمال التعبير و سلامة الأداء و جدة الصوغ و روعة العرض، بخصوبة المادّة و دقّة الفكرة و عمق النظرة و جدة المحتوى، و يتألّف منها مزيج من العلم و الأدب يشبع العقل و يروي العاطفة.
فقد كان يجري في الكتابة كما يجري الماء، من غير أن يظهر عليه شيء من الكلفة أو التصنّع، و ينساق القارئ معه كما ينساق الماء على منحدر من الأرض، من دون أن يعرقل سيرة شيء، و لا يصطنع في الكتابة هذه المحسّنات البديعيّة التي تصرف الكاتب عن الانسياق مع الفكرة، و تصرف القارئ عن مجاراة الموضوع.
و المواضيع التي كان يتناولها بالكتابة و البحث مواضيع علميّة؛ كالأصول و المنطق
١٣
و الفلسفة، يعسر على الأديب أن يصوغها صياغة أدبيّة أو يفرغها في قالب أدبي من التعبير. و قد وفّق الشيخ إلى أن يضمّ إلى عمق المادة جمال العرض، و أكثر ما يبدو هذا التوفيق في كتابه «أحلام اليقظة»، حيث يناجي فيها صدر المتألّهين و يتحدّث معه فيما يتعلّق بنظرياته في الفلسفة الإلهيّة العالية، و يتلقّى منه الجواب بصورة مشروحة و بعرض قصصي جميل.
و لا أبالغ إذا قلت: إنّ الكتاب فتح كبير في الكتابة الفلسفيّة، فلا تشكو الفلسفة شيئا كما تشكو الكتابة التي لا تخضع لها أداتها. و قد حاول الشيخ المظفّر أن يخضع الكتابة للفلسفة، أو يخضع الفلسفة للكتابة، و يجمع بينهما في كتابه هذا.
و تمتاز كتابات الشيخ المظفّر- بعد ذلك- بروعة العرض و التنسيق حتى أنّ كلّ نقطة من البحث تأتي في موضعها الطبيعي، و لا تتغيّر عن مكانها الخاص حتى تختلّ أطراف البحث و يبدو عليه الاضطراب.
و يتجلّى توفيق الكاتب في التنسيق في كتاب «المنطق» أكثر من غيره، ففي هذا الكتاب يجد القارئ كيف تأخذ المواضيع بعضها برقاب بعض، و كيف يترتّب كلّ موضوع على سابقه في تسلسل طبيعي، من غير أن يحيل الطالب إلى موضوع آخر في غير هذا الكتاب، أو إلى ما يمرّ عليه فيما بعد.
و يعتبر الكتاب بالانضمام إلى شقيقاته «الأصول» و «الفلسفة»- التي لم يقدّر الله لها أن تظهر كاملة- تجديدا في كتابة الكتب الدراسيّة، و فتحا في هذا الباب.
و عسى أن يقيّض الله من يتابع خطوات الشيخ المظفّر في هذا السبيل.
و يجد الباحث بعد ذلك في كتب الشيخ المظفّر جدة البحث و التفكير التي تطبع كتاباته جميعا، و يجد ملامح هذه الجدة في البحث و التحليل واضحة قويّة في كتابه «السقيفة» عند ما يحلّل اجتماع المسلمين في سقيفة بني ساعدة، و ما حدث هناك، و عند ما يتحدّث عن موقف المهاجرين و الأنصار من مسألة الخلافة و موقف الإمام مع الخلفاء.
كما يجد هذه الجدة في المنطق عند ما يستعير العلامات المستعملة في الرياضيّات للنسب الأربع، أو عند ما يعرض للقارئ بحث القسمة، أو في غير ذلك ممّا يزدحم به هذا السفر القيّم من تجديد البحث و جمال العرض و ترابط الفكرة.
١٤
شعره:
و كان الشيخ المظفّر يمارس النظم في شبابه بين حين و آخر، و له شعر متين رقيق الديباجة، تجده منشورا في بعض الكتب و الصحف، و يجد القارئ فيه صورا شعريّة طريفة، و يلتقي فيه بآفاق أدبيّة جديدة. و انصرف عنه بعد ذلك إلى غيره من الشئون الفكريّة البنّاءة.
دور الشيخ في تطوير مناهج الدراسة و الإصلاح:
كان الشيخ المظفّر يحتلّ القمّة من النشاط الإصلاحي في النجف الأشرف، فقد ساهم في جميع الحركات الإصلاحية التي أدركها، و كان فيها العضو البارز الذي يشار إليه بالبنان.
إلا أن الفكرة الإصلاحية على قوّتها و إيمان أصحابها بضرورة تحقيقها في الحوزة العلمية، كان يفقدها الوضوح و التفكير المنهجي في العلاج.
و قد قدّر للشيخ فيما قدّر له، بفضل تجاريه الطويلة، أن تتبلور لديه فكرة الإصلاح و تنظيم الدراسة و الدعوة أكثر ممّا تقدّم.
و أتيح له بفضل ما أوتي من نبوغ و حكمة في معالجة هذه القضايا أن يكشف عن الجذور الأولى للمشكلة، و يدعو إخوانه و أبناءه بإخلاص إلى معالجة المشكلة من هذه الجذور.
و المشكلة فيما كان يبدو للشيخ تواجهنا في جهتين: في مجال الدراسة، و في مجال الدعوة.
ففي مجال الدراسة: لاحظ أن التدريس في مدرسة النجف الأشرف ينتظم في مرحلتين:
١- مرحلة المقدّمات و السطوح.
٢- مرحلة البحث الخارجي.
و تعتبر مرحلة السطوح دورا إعداديّا، بينما تعتبر مرحلة الخارج دورا للتخصّص في الاجتهاد. و طبيعة هذه المرحلة تأبى أيّ تعديل في شكلها و محتواها، و لا يمكن إخضاع هذه المرحلة من الدراسة لأيّ تنظيم منهجي خاص. و لا تتبع الدراسة في هذه المرحلة تنظيما خاصّا، و لا تكاد تشبه الدراسة بالمعنى المنهجي الذي يفهمه من الدراسة.
١٥
و طبيعة هذا البحث لا تتحمّل أيّ تحديد و تنظيم، و لا يمكن حصر النقاش أو تحديد البحث بحدّ خاص، كما لا يمكن أن يكون الامتحان داعيا إلى البحث و الدرس في هذا الدور.
و الدور الأوّل وحده هو الذي يعاني شيئا من النقص، و يحتاج إلى شيء من التوجيه و التنظيم. و لاحظ أن أسباب ذلك ترجع إلى نقص في المادّة و ضعف في الأسلوب.
أمّا من حيث المادّة التي يتلقاها الطالب النجفي في هذا الدور من الدراسة، فلا تزال في كثير من الأحوال تقتصر على دراسة النحو و الصرف و البلاغة و المنطق و التفسير و الفقه و الأصول، مع توسّع في المادّتين الأخيرتين.
و هذه المواد على ما لها من الأهميّة في تكوين ذهنيّة الطالب لا تنهض وحدها بواجبات الطالب الرساليّة؛ من توجيه دعوة و تبشير و تثقيف. و لا يستطيع الطالب أن يقتصر على هذه المادة التي يتلقّاها في هذا الدور لو أراد القيام بدوره من التوجيه و الدعوة على أوسع نطاق.
و من حيث الأسلوب: لاحظ الشيخ المظفّر أنّ الكتب الدراسيّة التي يتعاطاها الطالب النجفي في هذا الدور لا يزال يطغى عليها طابع الغموض و التعقيد، ممّا يحوج الطالب إلى أن يصرف جهدا كثيرا في فهم العبارة و ما يظهر عليها من غموض و تعقيد، ذلك بالإضافة إلى سوء التنظيم في تنسيق الأبحاث. ذلك فيما يخصّ تنظيم الدراسة.
أمّا ما يخصّ الدعوة و التوجيه: فقد وجد الشيخ المظفّر أنّ أداة الدعوة المفضّلة هي الخطابة و الكتابة، و الدعوة الإسلاميّة تعاني ضعفا في هذين الجانبين.
أمّا فيما يخصّ الخطابة فقد كان (رحمه الله) يلاحظ أنّ أسلوب الخطابة في النجف بوضعها الحاضر لا يفي برسالة النجف بالشكل الذي يليق بمركزها الديني، و لا يتمّ للخطيب أن يقوم بواجبه الإسلامي على نطاق واسع ما لم يطّلع على آفاق الفكر الحديث، و شئون المعرفة التجريبيّة، بالإضافة إلى الإحاطة الكاملة بشئون الفكر الإسلامي؛ من فقه و تفسير و حديث و تاريخ و ما إلى ذلك.
و فيما يخصّ الكتابة الإسلاميّة، كان يلاحظ أنّ مكانة النجف الدينيّة تتطلب منها أن تساهم في نشر الفكر الإسلامي على نطاق أوسع من الشكل الحاضر، و أن
١٦
تنطلق الدعوة الإسلاميّة منها عن طريق الكتابة و التأليف و الصحافة و النشر على أوسع مجال، و أن يشمل هذا التيار الفكري الذي ينطلق عنها و الذي يحمل معه الإيمان و الإصلاح في وضوح و جلاء أقطار العالم، و أينما يحلّ إنسان على ظهر هذا الكوكب، في الوقت الذي كان يلاحظ فيه أنّ مدرسة النجف لا تعوزها في كثير من الأحيان مادّة الكتابة و البحث.
و من جهة ثانية، كان يلاحظ أنّ طابع الفرديّة هو الذي يغلب على الكتابة النجفيّة، و الأبحاث التي يعرضها الكاتب النجفي، فهي أقرب إلى الجهد الفردي منه إلى الجهد الجماعي.
و من جهة ثالثة، لم تتوفّر في النجف في ذلك العهد مطابع مجهّزة، و لا دور جاهزة للنشر تليق بالمادّة العلميّة التي تعرضها النجف على المطبعة.
و كذلك أتيح للشيخ المظفّر أن يدرس الحالة في النجف بموضوعيّة و شمول تامّين، و لكنه كان يعلم في نفس الوقت: إنّ عرض المشكلة لا يؤدي إلى شيء ما لم تتضافر الجهود مخلصة صادقة لتلافي النقص. و كان يعلم إنّ الأساليب السلبيّة لا تنفع لمواجهة الحالة، و الهدم لا يفيد و لا ينهض بشيء ما لم يكن هناك بناء وراء ذلك، و إنّ العمل الإصلاحي لا ينفع في مثل هذه الظروف ما لم يكن مقرونا إلى دراسة الوضع دراسة موضوعيّة شاملة، و إلى الرويّة و التدرج في العلاج.
أدرك الشيخ كلّ ذلك، و فكّر في ذلك كلّه طويلا، و شمّر عن ساعد الجدّ ليخوض ميدان العمل؛ و هو يدري أنّ هناك عقبات صعابا تعرقل سيره في هذا الطريق.
و أوّل ما بدا له إيجاد جماعة واعية من إخوانه فضلاء الحوزة تفهم ملابسات الحياة النجفيّة، و تعي واقع الرسالة الفكريّة الضخمة التي تحملها النجف.
و في رابع شوال عام ١٣٥٣ ه المصادف ١٠/ ١/ ١٩٣٥ م قدّم ثلّة من الشباب الروحانيين- فيهم الشيخ- بيانا إلى وزارة الداخليّة يطلبون فيه تأسيس جمعيّة دينيّة بالنجف الأشرف باسم (منتدى النشر)، مصحوبا بالنظام الأساسي. و بعد اللتيا و التي أجازت الوزارة فتح المنتدى (١).
____________
(١) نظام منتدى النشر.
١٧
و أعقبها بمحاولة لتنظيم الدراسة، و تبسيط الكتب الدراسيّة و توسيع المناهج الدراسية، و وجد أنّ الدراسة المنهجيّة هي الخطوة الأولى في هذا الطريق، و مهما كانت ضرورة الدراسة الفرديّة، و مهما قيل في جدواها فلا بدّ أن ينضم إلى هذا اللون من الدراسة لون آخر من الدراسة، يعتمد على نظام خاص. و بهذا الشكل حاول أن يحقّق جزء من الإصلاح.
فوضع في سنة ١٣٥٥ ه الخطّة لتأسيس مدرسة عالية للعلوم الدينيّة، أو كلّيّة للاجتهاد بفتح الصف الأوّل الذي كان يدرّس فيه أربعة علوم: الفقه الاستدلالي، و التفسير، و علم الأصول، و الفلسفة، على شكل محاضرات توضع بلغة سهلة واضحة، فتبرّع بتدريس الأوّل و الثاني الشيخ عبد الحسين الحلّي، و تبرّع بتدريس الثالث و الرابع الشيخ عبد الحسين الرشتي.
و كان تبرّع هذين العلمين بالتدريس دراسة منظمة من أهمّ الأحداث في تاريخ النجف الأشرف، و يعدّ تضحية نادرة منهما تذكر مدى الدهر بالتقدير و الإعجاب بروحهما الإصلاحيّة. و لم تأت العطلة الصيفيّة إلا و تعطّل هذا الصف ليعود بعدها، و لكنّه أبى، و لا يدري غير بعض أعضاء مجلس الإدارة أ كان إباؤه عن دلال أم ملال، أم عن شيء آخر غير منتظر حتى من مثل هذين العلمين نفسهما؟! قاتل الله الشجاعة الأدبيّة كيف تعزّ في أشدّ ظروف الحاجة إليها (١).
و في سنة ١٣٧٦ ه بعد محاولات عديدة و تجارب طويلة أسّس الشيخ المظفّر كلّيّة الفقه في النجف الأشرف، و اعترفت بها وزارة المعارف العراقيّة سنة ١٣٧٧ ه.
يدرّس فيها: الفقه الإمامي، و الفقه المقارن، و أصول الفقه، و التفسير و أصوله، و الحديث و أصوله (الدراية) و التربية و علم النفس، و الأدب و تأريخه، و علم الاجتماع، و التاريخ الإسلامي، و الفلسفة الإسلاميّة، و الفلسفة الحديثة، و المنطق، و التاريخ الحديث، و أصول التدريس، و النحو و الصرف، و إحدى اللغات الأجنبيّة.
و قد بذل فقيدنا الشيخ حياته في سبيل تنمية هذه المؤسّسة بإخلاص و إيمان يعزّ مثله في نفوس المجاهدين، فكان يقوم بتدريس الفلسفة الإسلاميّة، و إدارة الصفوف عند غياب بعض المدرسين في سائر العلوم. و كان في الوقت نفسه يعدّ مجلدات
____________
(١) منتدى النشر أعماله و آماله ٨- ٩: الشيخ محمّد رضا المظفر.
١٨
كتابه القيّم «أصول الفقه» للتدريس في كلّيّة الفقه، و يباشر مهام الإدارة و العمادة و التأليف، و حتى تدوين السجلات في بعض الأحيان.
و كم رأيت الشيخ و هو يقوم بتدوين بعض سجلات الطلبة، أو طباعة بعض الرسائل بالآلة الطابعة؟
و كذلك قامت المؤسسة على عاتق الشيخ الفقيد، و أودعها حياته و شيّدها بحبات قلبه، و بذل في سبيلها جميع إمكانياته.
كلّ ذلك إلى جنب المؤسّسات و المشاريع الثقافية الإسلاميّة الأخرى التي أسّسها الشيخ، و أتيح لها الاستمرار أو أصابها الفشل، و إلى جنب حركة النشر و التأليف التي بعثها الشيخ في النجف كانت منها مجلتا البذرة و النجف.
و كان الشيخ المظفّر محور الحركة في مختلف وجوه هذا النشاط، و باعثها في كثير من الأحيان، و لم يظهر على حديثه أو قلمه طيلة هذه المدّة ما يشعر بأنّه شيء يذكر في هذه المؤسّسة، إلا عند ما يأتي حساب المسئوليّة فيظهر الشيخ على المسرح ليتحمّل هذه المسئوليّة بنفس ثابتة و إيمان قوي.
و ما أكثر ما شوهد الشيخ يلقي دروسا على طلابه الناشئين، أو يلقي عليهم نصائح و إرشادات، أو يقوم بتوجيههم بنفسه في روحانيّة و بساطة.
و لم يعرف الشيخ الفقيد حينا من الزمن معنى لكلمة (أنا)، لما يلابس هذه الكلمة من بعض و حبّ في غير ذات الله.
فقد كانت نفسه الكبيرة تضيق بما يسمى بالبغض، و لا تعرف معنى للخصومة و العداء، فاستمع إليه كيف يحدّد موقفه من خصومه، أو بالأحرى من خصوم المؤسّسة «... و أنا أكثر إخواني عذرا لجماعة كبيرة ممن وقف موقف المخاصم لمشروعنا، و لا سيما الذين نطمئنّ إلى حسن نواياهم و يطمئنّون إلى حسن نوايانا».
و قلّما نعهد أن تبلغ التضحية و نكران الذات في من رأينا من أصحاب الأفكار هذا الحد في سبيل الفكرة التي يؤمن بها الإنسان.
و إنّ من أحبّ الأشياء إليّ أن أختم هذا الحديث بهذه الجملة الرقيقة، التي تشفّ عن نفسيّة كاتبها الكبيرة: «و نحن مستعدّون لتضحية جديدة بأنفسنا، فنتنحّى عن العمل عند ما نجد من يحبّون أن ينهضوا به دوننا، خصوصا إذا اعتقدوا أنّهم سيعطون المشروع صبغة عامة بدخولهم، و ليثقوا أنّا عمّال للمشروع أينما كنّا و مهما
١٩
كانت صبغتنا فيه، و لا نريد أن نبرهن بهذا القول على حسن نوايانا. إنّ هذا لا يهمّنا بقليل و لا كثير بعد الذي كان، إنّما الذي يهمّنا أن ينهض المشروع نهضة تليق بسمعة النجف، و يؤدّي الواجب الملقى على عاتقه كاملا و بأيّ ثمن، حتى إذا كان ثمنه أرواحنا. و ما أرخصها في سبيل الواجب!
و قد صرّحنا مرارا: إنّنا لم نخط حتى الآن إلا خطوة قصيرة في سبيل ما يقصد من أهدافه». و كذلك كانت قصة النفس الكبيرة.
***
٢٠
نبذة تاريخيّة عن علم الأصول
١- تعريف علم أصول الفقه:
أصول الفقه: هو العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة التي هي: الكتاب العزيز، و السنّة الشريفة، و إجماع أهل الحلّ و العقد، و دليل العقل.
و هناك تعريف جامع مانع ذكره السيد الصدر (قدس سره): «علم الأصول: هو العلم بالعناصر المشتركة لاستنباط جعل شرعي».
٢- موضوع علم الأصول:
لكلّ علم من العلوم لا بدّ أن يكون له موضوع تدور حوله بحوثه، فمثلا علم النحو موضوعه الكلمة؛ لأنه يبحث عن حالات إعرابها و بنائها و رفعها و نصبها.
فموضوع علم الأصول: «الأدلّة المشتركة في عمليّة الاستنباط».
و قيل: إن موضوع علم الأصول الأدلّة الأربعة، إلا أن هذا مردود في محلّه.
٣- علم الأصول منطق الفقه:
بما أنّ علم المنطق بمراعاته يحصن الفكر عن الوقوع في الخطأ، كذلك علم الأصول- بمراعاة قوانينه- يحصن الفقيه في تفكيره الفقهي عن الوقوع في الخطأ في عمليّة استنباط الأحكام. غاية ما في الأمر: أنّ المنطق يوضح المناهج العامّة للاستدلال، بينما علم الأصول يبحث عن نوع خاص من عمليّة التفكير و هو التفكير الفقهي في عمليّة استنباط الأحكام.
٤- أهمية علم الأصول في عملية الاستنباط:
يقول السيّد (قدس سره): لسنا بحاجة إلى التأكيد على أهمية علم الأصول و خطورة دوره في عالم الاستنباط؛ لأنه ما دام يقدّم لعملية الاستنباط عناصرها المشتركة و يضع لها نظامها العام، فهو عصب الحياة فيها. و بدون علم الأصول يواجه الشخص في الفقه ركاما متناثرا من النصوص و الأدلة، دون أن يستطيع استخدامها و الاستفادة منها في الاستنباط؛ كإنسان يواجه أدوات النجارة و يعطى منشارا و فأسا
٢١
و ما إليها من أدوات؛ دون أن يملك أفكارا عامة عن عملية النجارة، و طريقة استخدام تلك الأدوات.
و كما أن العناصر المشتركة ضرورية لعملية الاستنباط فكذلك العناصر الخاصة التي تختلف من مسألة إلى أخرى، كمفردات الآيات و الروايات المتناثرة، فإنها الجزء الضروري الآخر فيها، فلا يكفي مجرد الاطلاع على العناصر المشتركة التي يمثلها علم الأصول؛ و من يحاول الاستنباط على أساس الاطلاع الأصولي فحسب نظير من يملك معلومات نظرية عامة عن عملية النجارة، و لا يوجد لديه فاس و لا منشار و ما إليهما من أدوات النجارة.
فكما يعجز هذا عن صنع سرير خشبي مثلا كذلك يعجز الأصولي عن الاستنباط، إذا لم يفحص بدقة العناصر الخاصة المتغيرة من مسألة إلى أخرى.
فالعناصر المشتركة و العناصر الخاصة قطبان مندمجان في عملية الاستنباط، و لا غنى للعملية عنهما معا.
٥- أدوار أصول الفقه و مراحله:
مرّ علم الأصول بأدوار و مراحل، و يمكن طرحها على شكل مدارس أربع:
المدرسة الأولى أو مدرسة ما قبل التأليف:
إن بذرة الفكرة الأصولية قد وجدت لدى فقهاء أصحاب الأئمة (عليهم السلام) منذ أيام الصادقين (عليهم السلام)، و من الشواهد التاريخية على هذا الزعم:
الروايات المروية في كتب الحديث التي لها ارتباط تام بجملة من العناصر المشتركة في عملية الاستنباط.
و لا بأس في طرح بعض المصاديق: و من الشواهد التي وردت في حجية الظواهر و العموم: أنه روى الطوسي ... قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء؟
فقال: «يعرف هذا و أشباهه من كتاب الله، قال الله تعالى: ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» (١)
فإنّ استدلال الإمام بالآية يدلّ على حجيّة ظواهر الكتاب و العمل بعموم الآيات.
____________
(١) أعيان الشيعة ١: ٣٨٧.
٢٢
و من جملة الرّوايات التي وردت في الجواز بالعمل بالعام و المطلق و نحوها، و جواز التفريع على الأصول الكليّة:
روى ابن إدريس، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إنّما علينا أن نلقي إليكم الأصول و عليكم التفريع» (١).
و روي أيضا من كتاب أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن الرضا (عليه السلام) قال: «علينا إلقاء الأصول و عليكم التفريع» (٢).
و من جملة الروايات التي وردت في أصل البراءة:
ذكر الصدوق عن الصادق (عليه السلام): «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (٣).
و روي في الخصال ... عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال النبي (صلى الله عليه و آله): وضع عن أمتي ستة أشياء، و عدّ منها: ما لا يعلمون» (٤).
و روى الكليني في الكافي ... عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» (٥).
و عن أبيه ... قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «من عمل بما علم كفي ما لم يعلم» (٦).
و روى الطوسي ... عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث من أحرم في قميصه قال: «أيّ رجل ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه» (٧).
و من جملة الروايات التي وردت في أصالة الحل في المشتبه مع عدم العلم:
روى الصدوق و الطوسي ... عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «كل شيء فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه» (٨).
____________
(١) أعيان الشيعة ١: ٣٨٧.
(٢) أعيان الشيعة ١: ٣٨٧.
(٣) أعيان الشيعة ١: ٣٨٨.
(٤) أعيان الشيعة ١: ٣٨٨.
(٥) أصول الكافي ١: ١٦٤، ح ٣.
(٦) أعيان الشيعة ١: ٣٨٨.
(٧) أعيان الشيعة ١: ٣٨٨.
(٨) أعيان الشيعة ١: ٣٨٩.
٢٣
و عن أحمد بن محمّد الكوفي. عن أبي عبد الله (عليه السلام) في «الجبن» قال:
«كل شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان أنّ فيه ميتة» (١).
و من جملة الروايات التي وردت في حجية خبر الواحد الثقة:
روى الكليني ... عن أبي الحسن (عليه السلام) قال سألته و قلت: من أعامل؟
و عمّن آخذ؟ و قول من أقبل؟
فقال: «العمري ثقتي فما أدّى إليك عني، فعنّي يؤدّي، و ما قال لك عنّي، فعنّي يقول ...» (٢).
و روى الكشّي في كتاب الرجال ... عن الرضا (عليه السلام) قال: قلت لا أكاد أصل إليك أسألك عمّا أحتاج إليه من معالم ديني، أ فيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ قال: «نعم.» (٣).
و من جملة الروايات التي وردت في عدم جواز التكليف بما لا يطاق:
روى الكليني ... عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إنّ الله أكرم من أن يكلّف النّاس ما لا يطيقون.» (٤).
و روى الطوسي ... قال سألته عن المريض لا يستطيع الجلوس؟ قال: «و لن يكلّفه الله ما لا طاقة له به.» (٥).
و من جملة الروايات التي وردت في وجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة:
روى الكليني ... قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل معه إناءان فيهما ماء، وقع في أحدهما قذر لا يدري أيّهما هو؟ و ليس يقدر على ماء غيره؟
قال: «يريقهما جميعا و يتيمّم» (٦).
و من جملة الروايات التي وردت في الاستصحاب:
روي عن الصدوق. أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل يجد في إنائه
____________
(١) أعيان الشيعة ١: ٣٨٩.
(٢) أعيان الشيعة ١: ٣٩٠.
(٣) أعيان الشيعة ١: ٣٩٠.
(٤) أعيان الشيعة ١: ٣٩١.
(٥) أعيان الشيعة ١: ٣٩١.
(٦) أعيان الشيعة ١: ٣٩١.
٢٤
فأرة و قد توضأ من ذلك الإناء مرارا، أو اغتسل منه، أو غسل ثيابه؟
فقال: «إن كان رآها في الإناء فعليه أن يغسل ثيابه، و يغسل كلّ ما أصابه ذلك الماء، و يعيد الوضوء و الصلاة، و إن كان إنّما رآها بعد ما فرغ من ذلك و فعله فلا يمس من الماء شيئا، و ليس عليه شيء، لأنّه لا يعلم متى سقطت فيه، ثم قال: لعلّه أن يكون إنّما سقطت فيه تلك الساعة التي رآها» (١).
و روى الطوسي ... عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «الماء كلّه طاهر حتى يعلم أنّه قذر ...» (٢). و إذا أردت التفصيل فعليك بمراجعة كتاب علم الأصول تاريخا و تطورا للشّيخ علي الفاضل القائني.
المدرسة الثانية أو بداية عصر التأليف:
«وصفنا هذه المرحلة بأنّها مرحلة بداية عصر التأليف؛ لأن أصحابنا قد بدءوا يصنّفون في هذا العلم، و إن كانت هذه المصنّفات ابتدائية غير متطورة، علاوة على إنها لم تكن تفي بالغرض المطلوب في هذا العلم. و كان المعلم في هذه المدرسة أو المؤسس لها هو ابن أبي عقيل، و ابن الجنيد، و أبو منصور الصرام، و ابن داود، و الشّيخ المفيد، و السيّد المرتضى» (٣).
و كان نتيجة هذا الجهد العظيم و ثمراته حدوث المدرسة الآتية:
المدرسة الثالثة:
«و العصر الذي اختمرت فيه تلك البذور و أثمرت، و تحدّدت معالم الفكر الأصوليّ و انعكست على مجالات البحث الفقهيّ في نطاق واسع؛ هو عصر شيخ الطائفة الإماميّة الطوسيّ و من بعده الرجالات الكبار، كابن إدريس الحلّيّ، و سديد الدين محمود الحمصي. صاحب المنقذ من التقليد و المرشد إلى التوحيد و المصادر في أصول الفقه. و أبو القاسم المحقق الحلّيّ، و العلامة الحلّيّ، و الشهيد الأوّل و الثّاني، و الشّيخ حسين العاملي صاحب العقد الطهماسبي، و ابنه الشّيخ بهاء الدّين العاملي صاحب زبدة الأصول، و الحسن بن زين الدّين صاحب معالم الدين، و الآقا حسين
____________
(١) أعيان الشيعة ١: ٣٩٢.
(٢) أعيان الشيعة ١: ٣٩٢.
(٣) علم الأصول تاريخا و تطورا للشّيخ علي الفاضل القائني.
٢٥
الخوانساري، و جمال الدّين الخوانساري، و الملا صالح المازندراني، و الملا ميرزا الشيرواني، و سلطان العلماء، و الفاضل التوني صاحب الوافية، و صدر الدّين الرضوي شارح الوافية و غيرهم من أعلام الأصوليين» (١).
المدرسة الرابعة:
«و نقصد بهذا المرحلة التي بلغ فيها هذا العلم شوطا ممتازا، بحيث أنّه وصل إلى الصورة التي نراه عليها أيّامنا هذه».
و كان ذلك بصرف جهود جبّارة، و عناية كبيرة على يد الوحيد البهبهاني. و في هذه المرحلة أخذ هذا العلم ينمو و يتطوّر حتى وصل إلى درجة رفيعة و مرتبة سامية، و كان هذا التطوّر و التكامل نتيجة سير ثلاث مراحل تعاقبت بعد الوحيد البهبهاني.
١- المرحلة الأولى، أو الدورة الابتدائية:
و حصل هذا التطوّر في هذه المرحلة على يد تلامذة الوحيد البهبهاني و هم:
السيّد مهدي الطباطبائي بحر العلوم.
و الشيخ جعفر كاشف الغطاء النجفي.
و الميرزا أبو القاسم الجيلاني القمي.
و السيّد علي صاحب الرياض.
و الشّيخ أسد الله التستري.
٢- المرحلة الثّانية:
و حصل التقدم في هذه المرحلة على متخرّجي أساتذة المرحلة الأولى، و هم:
الشّيخ محمّد تقي بن عبد الرحيم الأصفهاني.
و شريف العلماء المازندراني.
و السيّد محسن الأعرجي الكاظمي.
و ملا أحمد النراقي الكاشاني.
و الشيخ محمّد حسن صاحب الجواهر النجفي.
٣- المرحلة الأخيرة:
و حصلت هذه المرحلة على يد تلامذة المرحلة السّابقة، و كان هذا التقدّم و التطوّر
____________
(١) تصدير المحقق لكتاب فرائد الأصول.
٢٦
العظيم على يد المؤسس الشّيخ مرتضى الأنصاري (رحمه الله)، الذي انتهى بهذا العلم إلى درجة عظيمة بحيث لم يسبقه سابق و لم يصل إليه لاحق، فقد بلغ بالعلم و التحقيق ذروته النهائية و كماله السامي إلا و قد اغترف من ينبوع هذا العالم الكبير، و سيظلّ هذا الينبوع فيّاضا إلى ما شاء الله.
فيكون هذا المحقق أكبر من تخرّج في تلك المدارس الثّلاث، و كان ثمرتها الثمينة. و في هذا المرحلة نما و ظهر رجال عباقرة، و كان لهم دور عظيم في تعريف مدرسة الشّيخ الأنصاري و تطوير مبانيه العلمية، منهم:
السيّد ميرزا حسن الشيرازي المجدد.
و المحقق الشّيخ محمّد كاظم الخراساني المعروف ب «الآخوند».
و المحقق الميرزا حسين النائيني.
و المحقق الشيخ ضياء الدين العراقي.
و المحقق الشّيخ محمّد حسين الأصفهاني المعروف ب «الكمباني» (١)، و بهذا النموذج البسيط (في تاريخ علم الأصول) نكتفي.
و الحمد لله ربّ العالمين.
____________
(١) علم الأصول تاريخا و تطوّرا للشّيخ الفاضل القائني.
٢٧
المدخل
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمده على آلائه و نصلي على خاتم النبيين محمّد و آله الطاهرين المعصومين.
تعريف علم الأصول (١):
علم أصول الفقه هو: «علم يبحث فيه عن قواعد تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الشرعي».
____________
(١) تمهيد: قبل الدخول في تعريف علم الأصول بالتعريف الاصطلاحي نذكر معناه اللغوي، ثم مرتبته من حيث الشرف، و من حيث التعليم و التعلم بالنسبة إلى الفقه، و بالنسبة إلى سائر العلوم.
نقول:
- الأصول في اللغة: القوانين و القواعد التي يبنى عليها العلم (المنجد).
- مرتبة علم الأصول: مرتبة علم الأصول من حيث الشرف متأخر عن علمي الكلام و الفقه، كما أن علم الكلام متقدّم على علم الفقه أيضا؛ لأنّ شرافة العلم بشرافة موضوعه و غايته، و موضوع علم الكلام- و هو المبدأ و المعاد- أشرف الموضوعات، و غايته- و هي معرفة أصول الدين- أفضل الغايات و أعظمها.
و أما مرتبته من حيث التعليم و التعلّم: فهو أفضل من علم الفقه باعتباره مقدمة لعلم الفقه أي: بعلم الأصول يستطيع الفقيه أن يستنبط الحكم الشرعي، فلا بدّ إذا أن يتعلم علم الأصول أولا، و من هنا يتضح مقدمية علم الأصول على علم الفقه للفارق بينهما ... فالأصول من حيث المرتبة بداية الاجتهاد، و نهاية العلوم الدخيلة في استنباط الحكم الشرعي.
أمّا بالنسبة إلى سائر العلوم: فهو متأخر عن جملة من العلوم العربية و علم المنطق، فإن علم المنطق أعم من علم الأصول؛ لأنّ علم المنطق يعلمك القواعد العامة للتفكير الصحيح في جميع العلوم، و لذا عرفوا علم المنطق بأنه (آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر). بينما علم الأصول يعلمك القواعد العامة للتفكير الصحيح في خصوص استنباط الحكم الشرعي، و هذا خاص بالفقهاء فقط.
بينما علم المنطق ليس خاصا بالفقهاء؛ بل القواعد العامة بيد جميع المكلفين الفقهاء منهم و العوام.
ما هو الفرق بين القاعدة الفقهية و المسألة الأصولية؟
- الفرق الأول: أن القواعد الفقهية يشترك فيها الفقيه و غيره كسائر الأحكام الإلهية، بخلاف المسائل الأصولية، فإنها تختص بالعلماء و الفقهاء.
- الفرق الثاني: القواعد الفقهية غالبها من المسلّمات بين الفقهاء، بخلاف المسائل الأصولية، فلهم فيها اختلاف كثير.
- الفرق الثالث: أن القاعدة الفقهية قاعدة تشتمل على حكم شرعي عام- مستنبطة من القاعدة
٢٨
(مثاله): إن الصلاة واجبة في الشريعة الإسلامية المقدسة، و قد دلّ على وجوبها
____________
الأصولية- تطبق على أفرادها في الخارج، بينما القاعدة الأصولية هي قاعدة عامة يستنبط من خلالها أحكاما شرعية كلية مغايرة لذلك الحكم العام على حد تعبير فضيلة العلامة الأستاذ الشيخ باقر الإيرواني، ثم يبين في المقام مثالا لأجل التوضيح: قاعدة الطهارة التي هي قاعدة فقهية، و التي تنص على أن كل شيء يشك في نجاسته فهو محكوم بالطهارة. إنّ هذه القاعدة تتضمن حكما شرعيا عاما، و إذا طبقناها على مواردها لم نحصل على أحكام أخرى تتغاير و مضمونها؛ بل على أحكام تتفق و مضمونها، بيد أنها أضيق، فإذا كان لدينا ملابس نشك في نجاستها، فمن خلال تطبيقها عليها نحكم بأنها طاهرة. و الحكم بالطهارة على الملابس التي يشك في نجاستها هو بنفسه مضمون قاعدة الطهارة، و ليس شيئا غيره، غايته أنّه أضيق و خاص بالملابس.
و هذا بخلاف قاعدة حجية خبر الثقة التي هي قاعدة أصولية، فإنّه من خلال تطبيقها نستفيد حرمة العصير العنبي إذا غلى فيما إذا دلّ خبر ثقة على ذلك، و الحرمة المذكورة ليست مصداقا لمضمون حجية خبر الثقة؛ بل هما شيئان متغايران تمام التغاير، إلا أن أحدهما يستنبط منه الثاني و يستحصل عليه من خلاله.
إذا: القاعدة الفقهية حكم شرعي عام يستفاد من خلال تطبيقها أحكام شرعية جزئية هي مصاديق لذلك الحكم العام، بخلافه من القاعدة الأصولية، فإن ما يستحصل عليه منها هي أحكام شرعية مغايرة لذلك الحكم العام.
و يمكن أن نعبّر عن هذا الفارق الأول بتعبير ثان و هو: أن القاعدة الفقهية يستفاد منها في مجال التطبيق على مصاديقها، بينما القاعدة الأصولية يستفاد منها في مجال الاستنباط؛ على حد تعبير فضيلة العلامة الأستاذ الشيخ باقر الإيرواني في قواعده الفقهية.
- الفرق الرابع: أن القاعدة الفقهية تقدّم لنا من خلال تطبيقها أحكاما جزئية، بخلاف القاعدة الأصولية فإنها تقدم لنا أحكاما كلية، فبتطبيق قاعدة الطهارة على مواردها نستفيد: أن هذا الماء طاهر، و ذاك الطعام طاهر، بينما نستفيد من خلال تطبيق قاعدة حجيّة خبر الثقة: أن العصير العنبي الكلي إذا غلى حرم؛ لا أن هذا العصير أو ذاك العصير الخاص يحرم إذا غلى.
تعريف علم الأصول: الأصول جمع أصل، و أصل الشيء في اللغة: أساسه القائم عليه، و لذا قال أهل اللغة: الأصول هي القوانين و القواعد التي يبنى عليها العلم (المنجد). هذا المعنى اللغوي هو المراد بأصول الفقه، و قالوا في تعريف علم الأصول: هو «العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الحكم الشرعي».
- فالقواعد: جنس عام يشمل كل قاعدة، فمعنى أصول الفقه أي: قواعده.
- ممهدة لاستنباط الحكم الشرعي: تخصه بقواعد هذا العلم و تخرج قواعد علم العربية و المنطق مثلا، فإنها و إن كانت تفيد في الاستنباط و لكن لم تمهد له.
- و الشرعية: تخرج أحكام أصول الدين التي تعرف بالعقل.
- و الفرعية: تخرج أحكام أصول الدين التي تعرف بالعقل.
٢٩
من القرآن الكريم قوله تعالى:
____________
و في مقام توضيح هذا التعريف نقول: إن الفقيه إذا وقف أمام الآية الكريمة: وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها. [النساء: ٨٦]، و يريد أن يستدل على وجوب رد التحية من هذه الآية. ما هو العمل؟ يستعين الفقيه بقواعد خاصة من خلالها يصل إلى الحكم، فيستعين بظهور صيغة الأمر في الوجوب، و يستعين أيضا بحجية الظهور. فهاتان القاعدتان ممهدتان لاستنباط الحكم الشرعي بوجوب رد التحية إذا: نفهم من خلال هذا أن الفقيه استعان بقاعدتين هما:
١- الأمر ظاهر في الوجوب ... صغرى.
٢- كل ظهور حجة ... كبرى.
النتيجة: رد التحية واجب.
إذا: ظهور الأمر في الوجوب و الظهور حجة تشكلان قاعدتين أصوليتين لأنهما وقعتا في طريق الاستنباط للحكم الشرعي، و كل قاعدة وقعت في طريق استنباط الحكم الشرعي فهي قاعدة أصولية.
و ذهب إلى هذا التعريف مشهور الفقهاء إلى أن جاء صاحب الكفاية و عرفه «بأنها ما يعرف بها القواعد التي تقع في طريق استنباط الأحكام أو التي ينتهي إليها في مقام العمل». و سوف نعرف لما ذا اختار صاحب الكفاية (قدس سره) هذا التعريف دون الأول.
و بعد هذا السرد المختصر للتعريف المشهور نذكر الاعتراضات التي وجهت إليه، و هذه الاعتراضات ذكرها السيّد محمّد باقر الصدر في حلقاته الأصولية و هي أربعة:
الاعتراض الأوّل: على تعريف المشهور لهذا العلم لا يشمل الأصول العمليّة مع أنها من أمّهات المسائل الأصوليّة، و الوجه مع عدم شموله لها: أن الأدلّة التي يستعين بها الفقيه في مقام الاستنباط قسمان: أمارات و أصول عمليّة، فإذا شكّ الفقيه أن التدخين حرام أو لا فإن كانت لديه أمارة- كخبر الثقة- تدل على الحرمة مثلا ثبت عنده حينذاك الحكم الشرعي و هو أن التدخين حرام، فإن الأمارة هنا وقعت في طريق الاستنباط الحكم الشرعي، أما إذا لم تتوفر للفقيه أمارة يحدد من خلالها الوظيفة الشرعية للمكلف ما ذا يصنع الله «عزّ و جل»؟ هل يجعل الله المكلف في حيرة في مقام العمل بأن لا يدري هل التدخين حرام أم حلال؟ و لأجل رفع هذه الحيرة عند المكلف نصب الله عزّ و جل الأصول العمليّة.
إذا: الأصول العملية تأتي في مرتبة متأخرة بعد فقدان الأمارة و العجز منها عن تحديد الحكم الشرعي فتقول الأصول العملية: إذا عجزت عن تحديد الحكم الشرعي من خلال الأمارة فوظيفتك العمليّة إباحة التدخين، فإن الأصول العمليّة لا يكون مفادها حكما شرعيا، و لا يتوصل بها إلى حكم شرعي كالأصول العقلية من البراءة و الاشتغال، فإن مفادها ليس إلا المعذرية أو المنجزية.
إذا: الأصول العملية ليست من المسائل الأصوليّة بمقتضى تعريف المشهور؛ لأنها لا تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي بل و صلاحيتها فقط تحديد الوظيفة الشرعية عند فقدان الأمارة.
الجواب على هذا الاعتراض: ظل تعريف المشهور لعلم الأصول هو السائد، إلى أن خالفه صاحب الكفاية نتيجة لبعض الاشكالات
٣٠
وَ أَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ، إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً.
____________
و الإيرادات التي وردت على هذا التعريف و من جملتها الاعتراض المذكور أعلاه. و لأجل رفع هذا الاعتراض عرف صاحب الكفاية علم الأصول بأنه (العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الحكم الشرعي، أو التي ينتهي إليها في مقام العمل التي هي عبارة عن الأصول العملية، حيث أن المجتهد بعد فقدان الأمارات ينتهي إلى الأصول العملية في مقام العمل لتحديد وظيفته العملية عند جهله بالحكم الشرعي.
و النقطة التي يفترق بها صاحب الكفاية في تعريفه عن تعريف المشهور هي: زيادته القيد الأخير في تعريفه، و هو (أو التي ينتهي إليها في مقام العمل)، و بهذا القيد تدخل الأصول العملية؛ لأنها ينتهى إليها في مقام العمل و ذلك بتحديدها الوظيفة العملية للمكلف.
- و هناك جواب آخر على هذا الاعتراض ذكره العلماء، و أنا أنقله من الحلقة الثالثة في أسلوبها الثاني لفضيلة الأستاذ الشّيخ باقر الإيرواني و محصله: ما هو مذكور في كلمات السيّد الخوئي (قدس سره) و استصوبه السيّد الشهيد (قدس سره) في تقريرات درسه، و هو تفسير الاستنباط بتفسير جديد، فسابقا كان يفسّر بتحصيل الحكم و استخراجه من الأدلة الشرعية، و بناء على هذا يكون الإشكال تاما، حيث أن الأدلة التي يستحصل منها الحكم هي خصوص الأمارات دون الأصول، و الآن يفسّر الاستنباط بالتنجيز و التعذير، فكل قاعدة تنجز الحكم الشرعي أو تكون معذرة عند مخالفته فهي أصولية، و واضح كما أن الأمارات تنجّز و تعذّر كذلك الأصول العملية، فالتدخين إذا كنا لا نعرف أنه حرام واقعا أو لا فمتى ما دلت أمارة- كخبر الثقة مثلا- على أنه حرام واقعا كانت منجزة للحرمة، و إذا دلت على إباحته كانت عذرا في مخالفة الحرمة على تقدير ثبوتها واقعا (١). هذا في الأمارة، و هكذا في الأصل فإنه منجّز و معذّر أيضا، فالأصل الذي نتمسّك به إذا كان أصل البراءة أفادنا العذر من مخالفة الحرمة لو كانت ثابتة واقعا، و إذا كان أصل الاحتياط فهو منجز للحرمة لو كانت ثابتة واقعا.
الاعتراض الثاني: إن تعريف المشهور لعلم الأصول لا يختص بالمسائل الأصولية بل يشمل القواعد الفقهية، و على سبيل المثال نذكر القاعدة المعروفة «كل معاملة إذا كان في صحيحها ضمان ففي فاسدها ضمان أيضا».
و المقصود من هذه القاعدة على حد تعبير فضيلة الأستاذ باقر الإيرواني: إنك لو اشتريت كتابا لتدرس فيه مثلا و في الطريق تلف لسبب و آخر فعلى من تكون خسارته؟ فهل خسارته على البائع أو على المشتري؟ الصحيح إنها على المشتري لأن ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده.
إذا: في البيع الصحيح خسارة الكتاب لو تلف و ضمانه- لا بدّ من الالتفات إلى أن المقصود من الضمان في القاعدة هو الخسارة و التلف- على المشتري، و لو فرض أن البيع كان فاسدا- كما إذا كان
____________
(١) مصطلح التنجيز يستعمل عند ما تدل الأمارة أو الأصل على حكم الزامي و هو الوجوب أو الحرمة، فيتنجز كل واحد منهما على تقدير ثبوته واقعا، بينما مصطلح التعذير يستعمل عند ما يدلان على الإباحة، حيث يكونان عذرا من مخالفة الحرمة أو الوجوب لو كانا ثابتين واقعا.
٣١
و لكن دلالة الآية الأولى، متوقفة على ظهور صيغة الأمر- نحو
أَقِيمُوا
هنا-
____________
قد أجري بالفارسيّة بناء على اشتراط العربية في العقد- و كان المتبايعان يتخيّلان أنه صحيح و اتضح لديهما بعد ذلك أنه فاسد. و لكن قبل اتضاح فساده لهما نفرض أن الكتاب تلف فعلى من تكون خسارته؟ إنها على المشتري أيضا فهو الذي ينقص من كيسه مقدار قيمة الكتاب، و لا يحق له الرجوع على البائع و مطالبته بالثمن؛ لأن البيع ما دامت خسارة الكتاب فيه على المشتري لو كان صحيحا فكذلك خسارته عليه لو كان فاسدا، و من هنا قيل: كل معاملة إذا كان في صحيحها ضمان ففي فاسدها ضمان أيضا.
و إذا فرض الأمر بالعكس بأن لم يكن في المعاملة الصحيحة ضمان ففي الفاسدة أيضا لا ضمان، فمثلا: لو استأجرت بيتا و بعد مدة تهدّمت بعض جدرانه من دون تفريط منك فهل تخسر هذا النقصان الطارئ أم لا؟ الصحيح لا تخسره.
هذا لو كانت الإجارة صحيحة. أما لو كانت فاسدة و فرض تهدّم بعض الجدران قبل اطلاعك على فساد الإجارة فهل تضمن هذا النقصان؟ كلا لا تضمن، لأن الإجارة لو كان صحيحة فليس فيها ضمان فكذلك لو كانت فاسدة، و من هنا قيل: كل ما يضمن بصحيحه- الباء بمعنى «في»- يضمن بفاسده، و كل ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده، و قد بحث الشّيخ الأنصاري (قدس سره) هذه القاعدة مفصلا في كتاب المكاسب.
إذا: هذه القاعدة الفقهية تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي، حيث نستنبط منها أن البيع الفاسد فيه ضمان، باعتبار أن البيع الصحيح فيه ضمان، و نستنبط منها أيضا: إن الإجارة الفاسدة ليس فيها ضمان باعتبار إن الإجارة الصحيحة ليس فيها ضمان و هكذا.
إذا: يلزم من هذا أن تدخل هذه القاعدة الفقهية في علم الأصول.
و أيضا تدخل في علم الأصول قاعدتا لا ضرر و لا حرج، و بعض القواعد الفقهية العملية كقاعدة الفراغ و التجاوز، فإنّها جميعا يستنبط منها الحكم الشرعي أيضا كلّ بحسب مورده.
و الجواب على الاعتراض الثاني: بأن القاعدة الأصولية لا تكون أصولية إلا إذا توفّر فيها ركنان:
١- أن يستنبط منها حكم شرعي. ٢- أن يكون ذلك الحكم حكما كليا.
قال فضيلة الأستاذ باقر الإيرواني: إن كلا من هذين الركنين مفقود في القواعد الفقهية، أما الركن الأول: فلأن مثل قاعدة «كل معاملة يضمن في صحيحها يضمن في فاسدها» هي بنفسها حكم شرعي لا إنه يستنبط منها حكم شرعي، نعم هذه القاعدة قاعدة كلية قد تطبق على هذه المعاملة أو تلك و يثبت من خلال التطبيق الضمان في بعض المعاملات و عدمه في بعض آخر، بيد إن هذا تطبيق و ليس استنباطا، و فرق واضح بين التطبيق و الاستنباط، ففي الاستنباط يكون لدينا شيئان متغايران أحدهما يثبت الآخر، و ينجز من دون أن يكون مصداقا و فردا له: نظير حجيّة خبر الثقة، فإنه إذا كان حجة فقد يستفاد منه حرمة العصير العنبي أو وجوب قراءة السورة، و معلوم إن حجية خبر الثقة ليست هي نفس حرمة العصير بل هما حكمان متغايران، غاية الأمر: أحدهما يثبت الآخر و ينجزه، هذا في الاستنباط. أما في التطبيق: فأحد المطلبين يكون مصداقا و فردا للآخر دون أن يغايره- و هذا كما في
٣٢
في الوجوب، و متوقفة أيضا على أن ظهور القرآن حجة يصح الاستدلال به.
____________
قاعدة «كل ما يضمن في صحيحه يضمن في فاسده» حيث نقول: إن البيع ما دام في صحيحه ضمان ففي فاسده ضمان أيضا، فإن البيع مصداق من مصاديق تلك القاعدة لا إنه شيء مباين لها- و بواسطة تطبيقه على أفراده نستفيد أحكاما جزئية أحدها مختص بالبيع و الآخر بالإجارة و ثالث بمعاملة أخرى.
و من خلال هذا يتضح اختلال الركن الثاني أيضا حيث أن المستحصل عليه من خلال تطبيق القاعدة الفقهية أحكام جزئية في موارد خاصة لا أحكام كلية، و الحال أن المقصود من الحكم الشرعي في التعريف هو الحكم الشرعي الكلي لا الحكم الجزئي.
فقول السيّد محمّد باقر الصدر (قدس سره) في أن الأحكام المستفادة من القواعد الفقهية ... إنما هي من باب تطبيق مضامينها بأنفسها على مصاديقها و أفرادها في الخارج، و ليست من باب الاستنباط غير تام، و ذلك لعدم اختصاص القواعد الفقهية بالقواعد التطبيقية بل منها ما يستنبط به الحكم بنحو التوسيط.
بمعنى: «أن القواعد الفقهية الاستدلالية، و هي القواعد التي يقررها الفقيه في الفقه و يستند إليها في استنباط الحكم الشرعي، كقاعدة ظهور الأمر بالغسل في الإرشاد إلى النجاسة التي تشبه قاعدة ظهور الأمر بشيء في وجوبه. و هذان القسمان لا يمكن إخراجهما عن تعريف المشهور لعلم الأصول إلا بإجراء تعديل في التعريف.
و التعديل المقترح لذلك هو إضافة قيد (الاشتراك)، فيكون الميزان في أصولية القاعدة عدم اختصاص مجال الاستفادة و الاستنباط منها بباب فقهي معين، و بذلك يخرج القسمان المذكوران أعلاه من التعريف؛ لأن قاعدة الطهارة أو القواعد الفقهية الاستدلالية و إن كانت عامة في نفسها و لكنها لا تبلغ درجة من العمومية تجعلها مشتركة في استنباط الحكم في أبواب فقهية متعددة. و هذا هو الذي يبرر أن يكون البحث عن كلّ واحدة منها في المجال الفقهي المناسب لها، بخلاف القواعد الأصولية المشتركة في أبواب فقهية مختلفة لا تختص بباب دون باب في الفقه» (١).
الاعتراض الثالث: إن التعريف المذكور لعلم الأصول يعم المسائل اللغوية، كظهور كلمة الصعيد مثلا لدخلها في استنباط الحكم.
فعند ما نريد أن نستنبط حكم التيمم من قوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً نحتاج إلى الاستعانة باللغة لمعرفة معنى الصعيد، فإذا عرفنا أنه عبارة عن مطلق وجه الأرض- و إن لم يكن ترابا- كان الحكم هو وجوب التيمم بكل ما يصدق عليه عنوان و إن لم يكن ترابا. على حد تعبير فضيلة الأستاذ باقر الإيرواني ... إذا: بظهور كلمة الصعيد في مطلق وجه الأرض استعنا بها في مقام استنباط الحكم الشرعي، فيلزم من ذلك أن يكون من علم الأصول.
و قبل الرد على هذا الاعتراض نذكر إشكالا ذكره فضيلة الأستاذ الشّيخ باقر الإيرواني في إن ظهور
____________
(١) مباحث الدليل اللفظي، ج ١. (بتصرف).
٣٣
و هاتان المسألتان يتكفل ببيانهما (علم الأصول).
____________
كلمة الصعيد ليس مشمولا للتعريف حتى نحتاج إلى إخراجه باعتبار إنه ليس قاعدة، و إنما مختص بمادة الصعيد و ليس له شموليّة.
و الجواب: إنه قاعدة إذ تقول هكذا: كلمة الصعيد ظاهرة في مطلق وجه الأرض، نظير قولك: صيغة (افعل) ظاهرة في الوجوب، فإذا سلمت أن الثانية قاعدة فلا بدّ و أن تسلّم أن الأولى قاعدة أيضا. و حلّ الإشكال أن يقال: إن القاعدة لا تكون قاعدة إلا إذا كان لها شموليّة و استيعاب، و من الواضح أن قولنا: كلمة الصعيد ظاهرة في مطلق وجه الأرض له شموليّة أيضا؛ لأنه يشمل كلمة الصعيد في أي حكم وردت فيه، فهي تشمل كلمة الصعيد الواردة في دليل التيمم و تشمل كلمة الصعيد الواردة في دليل جواز السجود على الصعيد لو كان عندنا مثل هذا الدليل، و تشمل كلمة الصعيد الواردة في الأحكام الأخرى لو فرضت.
- و بعبارة أوضح نقول: القاعدة هي قضية كلية لها عدة مصاديق تتكون من موضوع و محمول. و ليس كل معنى كلي تكون قاعدة؛ و إلا شمل الحيوان الذي هو جنس، فإنه معنى كلي له مصاديق كثيرة.
إذا: القاعدة هي قضية كلية بأن يكون موضوعها جامعا بين موضوعات جزئية، و محمولها جامعا بين محمولات جزئية.
مثلا: ظهور كلمة الصعيد في مطلق الأرض ... حجة
هذا موضوع كلي له مصاديق ... محمول كلي له مصاديق
كلمة الصعيد الواردة في الآية ... حجة
كلمة الصعيد الواردة في الصوم ... حجة
كلمة الصعيد الواردة في الصلاة ... حجة
كلمة الصعيد الواردة في الطهارة ... حجة
نجد أن كلمة الصعيد الظاهرة في مطلق وجه الأرض له شموليّة و استيعاب؛ لأنّه يشمل كلمة الصعيد في أي حكم وردت فيه، فهي إذا قاعدة.
و على هذا البيان يرتفع الإشكال المذكور.
الجواب على الاعتراض الثالث: قد ذكر له السيّد الصدر (قدس سره) إجابتين:
الجواب الأول: ما ذكره الشّيخ النائيني (قدس سره): من إن القاعدة لا تكون أصولية إلا إذا توفر فيها ركنان:
أ- أن تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي.
ب- أن تقع كبرى في الدليل. و عليه: يكون تعريف علم الأصول هو: العلم بالقواعد التي تقع كبرى في قياس استنباط الحكم الشرعي.
و عليه: تخرج كلمة الصعيد من كونها مسألة أصولية لوقوعها صغرى في قياس الاستنباط.
- و بعبارة أخرى نقول:
كلمة «الصعيد» ظاهرة في مطلق وجه الأرض ... صغرى
٣٤
فإذا علم الفقيه من هذا العلم أن صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب، و أن ظهور
____________
و كل ظهور حجّة ... كبرى
إذا: كلمة «الصعيد» ظاهرة في مطلق وجه الأرض ليست أصولية. لأنها لم تقع كبرى في قياس الاستنباط.
و هذه المحاولة منه (قدس سره) و إن وفقت في إخراج جملة من المسائل غير الأصولية التي قد يحتاج إليها الفقيه، كوثاقة الراوي مثلا لكونها لا تقع كبرى قياس الاستنباط. إلا أنه (قدس سره) بأخذ قيد الكبروية في التعريف أخرج الكثير من المسائل الأصولية لعدم وقوعها كبرى في قياس الاستنباط، و عليه: لا معنى لمقالة الميرزا: إن كل قاعدة وقعت صغرى في دليل الاستنباط فهي ليست أصولية، و للتدليل على صدق هذا القول نذكر ثلاثة أمثلة ذكرها فضيلة الأستاذ باقر الإيرواني في شرح الحلقة الثالثة (مع التصرف في الأسلوب) و هي ما يلي:
١- في باب التيمم نقول مثلا: صيغة «تيمموا» التي هي مصداق لصيغة «افعل» ظاهرة في الوجوب صغرى.
و كل ظهور حجة ... كبرى
فإنا نلاحظ الصغرى هي مسألة أصولية.
٢- في كلمة العقود نقول مثلا: كلمة «العقود» الواردة في قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ التي هي جمع محلى بالألف و اللام ظاهرة في العموم.
«العقود» جمع المحلى بالألف و اللام ظاهرة في العموم ... صغرى
و كل ظهور حجة ... كبرى
ففي هذا المثال نرى أن الصغرى هي قاعدة أصولية، حيث أن من جملة القواعد الأصولية أن الجمع المحلى بالألف و اللام ظاهر في العموم.
٣- من جملة المسائل الأصولية: مسألة أن الأمر و النهي هل يمكن اجتماعهما في مورد واحد أو لا؟
فإذا دخل إنسان دارا مغصوبة و حان وقت الصلاة كان أمر أَقِيمُوا الصَّلاةَ يأمره بالصلاة؛ بينما نهي «لا تغصب» ينهاه عن الغصب، فإذا قلنا باستحالة هذا الاجتماع في نظر العقل كانت بين «صلّ» و «لا تغصب» معارضة و تكاذب لامتناع اجتماعهما، و معه فاللازم تطبيق قواعد الدليلين المتعارضين التي هي تقديم الأقوى سندا أو الموافق للكتاب أو المخالف للعامّة و هكذا. فإذا قدّمنا دليل «صلّ» كان الشخص المصلي في الدار المغصوبة ممتثلا بلا عصيان، و لو قدّمنا «لا تغصب» كان عاصيا بلا امتثال.
أما إذا قلنا: بجواز الاجتماع بتقريب أن الأمر متعلق بعنوان الصلاة، و النهي بعنوان الغصب، و عند تعدد العنوان لا استحالة في توجيه التكليفين إلى المكلف، إذا قلنا بهذا لم يتحقق تعارض بينهما بل صح أن نقول: إن مقتضى إطلاق «صلّ» أن الصلاة مطلوبة و لو في الدار المغصوبة، و مقتضى إطلاق «لا تغصب» حرمة الغصب و لو كان متمثلا بالصلاة، فيكون المكلّف عاصيا و ممتثلا في آن واحد.
و بهذا نعرف أن مسألة اجتماع الأمر و النهي مع أنها من أمهات المسائل الأصوليّة لم تقع كبرى في الدليل بل صغرى، حيث نقول: يمتنع اجتماع «صلّ» و «لا تغصب»، و كلما امتنع اجتماعهما تحقق
٣٥
القرآن حجة، استطاع أن يستنبط من هذه الآية الكريمة المذكورة أن الصلاة
____________
بينهما تعارض، ف «صلّ» و «لا تغصب» بينهما تعارض و لا بدّ من تقديم أحدهما، أو نقول: يجوز اجتماع «صلّ» و «لا تغصب»، و إذا جاز اجتماعهما لم يكن بينهما تعارض بل أمكن صدقهما و التمسّك بإطلاق كل منهما. و من خلال هذا يتجلى أن القول بامتناع الاجتماع يحقق التعارض بين الدليلين، بينما القول بالجواز يرفع التعارض و يجعلنا قادرين على التمسّك بإطلاق كل من الدليلين.
الجواب الثاني: ما ذكره السيّد الخوئي (قدس سره): من أن القاعدة لا تكون أصوليّة إلا إذا توفر فيها ركنان:
أ- أن تقع في طريق الاستنباط.
ب- أن لا تحتاج حين استنباط الحكم الشرعي منها إلى ضم قاعدة أصولية أخرى، فإذا توفر هذان الشرطين تكون القاعدة قاعدة أصولية. و أما إذا احتاجت عند استنباط الحكم الشرعي إلى قاعدة أصولية أخرى لا تكون هذه القاعدة أصولية. و على هذا يكون التعريف حينئذ كالتالي: «إنّ علم الأصول هو العلم بالقواعد التي تقع بنفسها في طريق استنباط الأحكام الشرعية الكلية الإلهية من دون حاجة إلى ضميمة كبرى أو صغرى أصولية أخرى إليها. (محاضرات في أصول الفقه، ج ١، ص ٨).
و بناء على هذا: لا يكون ظهور كلمة «الصعيد» في مطلق وجه الأرض من المسائل الأصولية على حد تعبير الشيخ باقر الإيرواني، لأنا حين استنباط حكم التيمم لا يكفينا ظهور كلمة «الصعيد» وحده في تحصيل الحكم بوجوب التيمم بمطلق وجه الأرض، بل نحتاج إلى قاعدة أخرى ظاهرة في الوجوب و هي أن صيغة «افعل»- التي تنطبق على صيغة «تيمموا»- ظاهرة في الوجوب، و هذه القاعدة الأخرى أصولية.
ثمّ أورد على السيّد الخوئي (قدس سره) بنقوض مع الإجابة عليها، و هي ترجع إلى نقضين رئيسيين، و نكتفي هنا بذكر نقطة واحدة و هي: أن النقض ببحوث الدلالات بأجمعها، فإنّها لا تقع إلا صغرى الظهور، فتكون بحاجة إلى ضمّ كبرى حجية الظهور.
و بعبارة أكثر وضوحا: يلزم من كلام السيّد الخوئي (قدس سره) خروج كثير من المسائل الأصوليّة من بحوث الدلالات من علم الأصول؛ مثل: صيغة «افعل» ظاهرة في الوجوب، و صيغة «لا تفعل» ظاهرة في الحرمة، و الجملة الشرطية ظاهرة في المفهوم، و الجمع المحلى بالألف و اللام ظاهرة في العموم و هكذا في جميع بحوث الدلالات كلها تخرج من علم الأصول لأن جميع هذه المسائل تحتاج عند عملية الاستنباط إلى ضم قاعدة أصولية أخرى إليها، و هي قاعدة حجية الظهور.
أجاب (قدس سره) عنه: بأنّ حجية الظهور قاعدة مسلّمة و مفروغ عن صحّتها عند جميع العقلاء، فلا تكون مسألة أصوليّة.
يرد على هذه الإجابة إشكالان: هذه الإجابة للسيّد الخوئي (قدس سره) أشكل عليها السيّد الصدر (قدس سره) بإشكالين:
١- أن السيّد الخوئي (قدس سره) ادعى إن شرط القاعدة الأصولية عدم احتياجها إلى ضم قاعدة أصوليّة أخرى، و نحن نسأل عن المقصود من عدم الاحتياج فهل يراد به عدم الاحتياج دائما و في
٣٦
جميع الموارد أو عدم الاحتياج و لو في مورد واحد؟ فإن كان المقصود هو الأوّل لزم خروج كثير من المسائل الأصوليّة عن علم الأصول مثل: مسألة أن صيغة «افعل» ظاهرة في الوجوب، و صيغة «لا تفعل» ظاهرة في الحرمة، و الجملة الشرطيّة ظاهرة في المفهوم، و هكذا فيما لو فرض أن صيغة «افعل» أو «لا تفعل» أو الجملة الشرطيّة وردت في روايات ظنيّة الصدور يرويها الثقات، فإن تحصيل الحكم من مثل الروايات المذكورة بحاجة إلى ضم قاعدة أخرى أصولية و هي أن خبر الثقة حجّة، إذ من دون ضم هذه القاعدة لا يمكن الأخذ بالرواية و استنباط الحكم منها.
و إن كان المقصود هو الثاني- أي: أن المراد من عدم الاحتياج هو عدم الاحتياج و لو في مورد واحد- فاللازم من ذلك دخول مسألة ظهور الصعيد في علم الأصول فيما إذا وردت كلمة «الصعيد» في رواية قطعيّة من حيث السند و الدلالة و بقيّة الجهات؛ بحيث لا يكون تحصيل الحكم بحاجة لشيء سوى معرفة معنى كلمة «الصعيد»، بنحو لو عرفنا أن معناها مطلق وجه الأرض مثلا كان الحكم بوجوب التيمم بذلك- أي: بمطلق وجه الأرض- ثابتا بلا حاجة إلى شيء آخر (١).
٢- إن السيّد الخوئي (قدس سره) ذكر: بأنّ حجية الظهور قاعدة مسلّمة و مفروغ عن صحّتها عند جميع العقلاء، فلا تكون مسألة أصوليّة.
أجاب السيّد الصدر (قدس سره) على هذا قائلا: كون المسألة مسلّمة بها و مفروغ عنها و واضحة عند جميع العقلاء لا يصير سببا لعدم كونها أصوليّة (٢).
و من خلال هذا السرد: يتضح: إن كلتا الإجابتين عن الإشكال و الاعتراض الثالث ليست تامة، و عليه:
يكون الإشكال الثالث واردا على التعريف. و من هنا تنشأ الحاجة إلى التفكير للوصول إلى تعريف جامع مانع ليسلم من ورود الإشكال الثالث و أي إشكال، و لذا ذهب السيّد محمد باقر الصدر إلى تعريف جامع مانع و هو أن علم الأصول عبارة عن «العلم بالعناصر المشتركة في استنباط الحكم الشرعي»، و نلاحظ أن المائز بين تعريف السيّد الصدر و تعريف المشهور هو اشتمال تعريفه (قدس سره) على كلمة مشتركة، و إلا فكلمة عناصر نفس كلمة القواعد على حد تعبير الشيخ باقر الإيرواني.
قال السيّد محمود الهاشمي (٣): و نلاحظ أنّ هذا التعريف يضع للمسألة الأصوليّة عدة خصائص.
الأولى: أن تكون عنصرا مشتركا لا يختصّ بباب دون باب من أبواب الفقه.
و توضيح ذلك: إنّ الأدلة التي يمارسها الفقيه في مجال استنباط الحكم الشرعي تكون على قسمين:
١- ما يكون دليلا خاصا معتمدا في استنتاج حكم فقهي معيّن، من قبيل البحث عن مدلول كلمة (الصعيد) لغة، فإنّه قد يستند إليه الفقيه كدليل على إثبات حكم شرعي في الفقه؛ إلا إنه لا يكون عنصرا مشتركا يستدل به في أبواب فقهية متنوعة.
٢- ما يكون دليلا مشتركا سيالا في مختلف الأبواب الفقهية، كالبحث عن تحديد مدلول صيغة
____________
(١) الحلقة الثالثة في أسلوبها الثاني، ج ١.
(٢) مباحث الدليل اللفظي، ج ١.
(٣) مباحث الدليل اللفظي ج ١، ص ٣١.
٣٧
الأمر أو النهي، فإنّه يوفّر للفقيه قاعدة عامة في تشخيص مداليل النصوص الشرعية المتكفلة لأمر أو نهي، و الأمر و النهي لا يختصّان بباب فقهي دون باب.
و قد لوحظ من خلال توسّع الممارسات الفقهية الاستدلالية و تطوّرها تدريجيا: أنّ القسم الثاني من عناصر الاستنباط هذه باعتبار اشتراكه في أكثر من باب فقهي و عموميته في عمليات الاستنباط يكون أوسع من البحث الفقهي في هذا الباب أو ذاك، بحيث لم يكن من الصحيح اعتباره جزء من بحوث مسألة فقهية معيّنة، أو تكرار البحث عنه في كلّ مسألة. بل الصحيح إفراد الحديث عنه في فصل مستقل تدرس فيه تلك العناصر كبرويا ثم تطبق النتائج المنقحة هناك في البحوث الفقهية كمصادرات مفروغ عنها سلفا. و من هنا بدأ البحث عن هذا القسم من عناصر الاستنباط ينفصل شيئا فشيئا عن البحوث الفقهية؛ حتى أصبح على شكل علم مستقل له خصائصه المتميزة و منهجه الخاص.
فهذه الخصوصية من أهمّ مميزات المسألة الأصوليّة، و بها تخرج مسائل اللغة التي لم يبحثها الأصوليّون عن التعريف، و كذلك جملة من القواعد الفقهية، لأنّها لا تشكّل عناصر مشتركة.
الثانية: أن يكون هذا العنصر المشترك من عناصر الاستدلال الفقهي، و نعني بالاستدلال الفقهي:
الاستدلال الذي يقوم به الفقيه لتحديد الوظيفة تجاه الجعل الشرعي الكلّي، فما لا يدخل في نطاق هذا الاستدلال لا يكون أصوليا، كقاعدة الفراغ أو أصالة الصحة، لأنّها و إن كانت عنصرا مشتركا و لكنّها مختصّة بالشبهات الموضوعية، و لا تقع عنصرا في الاستدلال المحدد للوظيفة تجاه جعل شرعي كلي.
الثالثة: أن يكون هذا العنصر المشترك مرتبطا بطبيعة الاستدلال الفقهي خاصة، و ليس من العناصر المشتركة في عمليات الاستدلال على العموم، و إلا كان بحثه من وظيفة علم المنطق لا الأصول، فإنّ علم الأصول بمثابة المنطق للفقه خاصة فهو يبحث العناصر المشتركة في الاستدلال الفقهي، بينما يبحث المنطق عن العناصر المشتركة في طبيعي الاستدلال.
الرابعة: أن يكون هذا العنصر المشترك ممّا يستعمله الفقيه في الاستدلال الفقهي دليلا على الجعل الشرعي الكلّي، و من دون فرق بين أنحاء الدليلية من كونها لفظية أو عقلية أو شرعية.
و توضيح ذلك: أنّ الأدلّة التي يعتمد عليها الفقيه في استدلاله الفقهي على أقسام:
١- الدليل اللفظي- و يراد به: كل دليل تكون دلالته على أساس الوضع اللغوي أو العرفي العام، فيشمل دلالة الفعل و التقرير أيضا.
٢- الدليل العقلي البرهاني- و هو الدليل الذي تكون دلالته على أساس علاقات و ملازمات واقعية، تثبت بحكم العقل البديهي أو بتوسّط برهان.
٣- الدليل العقلي الاستقرائي- و هو الدليل القائم دلالته على أساس حساب الاحتمالات، الذي هو الأساس العام في الأدلة الاستقرائية.
٤- الدليل الشرعي- و هو ما جعله الشارع دليلا لتشخيص الوظيفة العملية تجاه الحكم الشرعي المشتبه.
٥- الدليل العقلي العملي- و هو كلّ كبرى عقلية تشخص الوظيفة تجاه الواقع المشكوك تعذيرا أو
٣٨
تنجيزا، كقاعدتي البراءة و الاحتياط العقليين.
و القسم الأول من هذه الأقسام يشمل مباحث الألفاظ و الدلالات، فإنّها طرّا يكون البحث فيها عن الدليلية اللفظية، و تحديد مدلول ألفاظ عامة تعتبر عناصر مشتركة لاستنباط الحكم الشرعي في أبواب فقهية متنوّعة.
و القسم الثاني يشمل بحوث الملازمات العقلية الثابتة بين الأحكام أو بينها و بين متعلقاتها، كبحث وجوب المقدمة، و اقتضاء الأمر بشيء للنهي عن ضدّه، و اجتماع الأمر و النهي، و اقتضاء النهي للفساد، و بحوث اشتراط القدرة في متعلق التكليف، و إمكان أخذ القيود المختلفة في موضوع التكليف أو متعلّقه، و غير ذلك من المسائل العقلية الأصوليّة التي يكون البحث فيها عن سنخ العلاقة الثابتة بين حكمين أو بين الحكم و متعلّقه أو موضوعة، و التي يستدلّ بها الفقيه على إثبات حكم آخر أو نفيه أو تحديد موضوع الحكم أو متعلّقه، و يكون ملاك الدلالة في جميع هذه البحوث عقليا برهانيا.
و القسم الثالث يشمل مسألة حجيّة الإجماع و السيرة و التواتر، فإنّ دليلية مثل هذه الأدلة تكون استقرائية لا برهانية، إذا استثنينا بعض المسالك في حجية الإجماع، و هو المسلك الذي اختاره الشيخ الطوسي (قدس سره) المعبر عنه بقاعدة اللطف، إذ بناء عليه تكون دليلية الإجماع برهانية.
و القسم الرابع يشمل بحوث الحجج و القواعد المقرّرة شرعا لإثبات الوظيفة العملية، و هي على قسمين:
الأمارات و الأصول العملية.
و القسم الخامس يشمل مسألة البراءة و الاحتياط و التخيير العقلية، التي يشخص العقل في مواردها ما هو الوظيفة تجاه الحكم الشرعي المشتبه، فكل هذه الأقسام تدخل في نطاق علم الأصول، لأنّها عناصر مشتركة و مستعملة من قبل الفقيه كأدلة على الجعل الشرعي الكلي.
و بهذه الخصوصية تخرج مسائل علم الرجال، كوثاقة الراوي، و أدلة الرجالي، كقاعدة أنّ ترحم الإمام هل يدل على الوثاقة أو لا؟ و ذلك لأن مسائل الرجال و أدلته و إن كانت عناصر مشتركة في الاستدلال الفقهي بمعنى: أنّ الفقيه يستفيد منها في مختلف الأبواب، و لكنّها لا تكون لديه أدلة على الجعل الشرعي الكلي كما هو شأن المسألة الأصولية.
و بعبارة أخرى: «إنه ليس كل ما يكون عنصرا مشتركا هو من علم الأصول؛ بل يلزم توفر خصوصية ثانية، و هي أن يكون العنصر المشترك مما يستعمله الفقيه كدليل على الحكم الشرعي، فمسألة حجية الظهور مثلا مسألة أصولية حيث أنها- مضافا إلى كونها من العناصر المشتركة- تشتمل على الخصوصيّة الثانية، فإن الفقيه يستعمل الظهور كدليل على الحكم الشرعي، و هذا بخلافه في وثاقة زرارة فإنه يجعل الخبر الذي في سنده زرارة دليلا على الحكم الشرعي، و لا يجعل نفس الوثاقة دليلا عليه، و إنما هي تثبت كون الرواية حجة و صالحة لأن تكون دليلا على الحكم الشرعي» (١).
الاعتراض الرابع: على التعريف في كلمة «الممهّد» أي: المدوّنة، يفهم من التعريف: أن القاعدة الأصولية تكتسب أصوليتها لكونها مدونة في كتب الأصول لغرض استنباط الحكم الشرعي منها.
____________
(١) الحلقة الثالثة في أسلوبها الثاني.
٣٩
واجبة (١).
و هكذا في كلّ حكم شرعي مستفاد من أيّ دليل شرعي (٢) أو عقلي (٣)، لا بدّ أن يتوقف استنباطه من الدليل على مسألة أو أكثر من مسائل هذا العلم.
____________
بمعنى: لو لم تكن مدونة و مكتوبة لما كانت أصولية و هذا باطل. و العكس هو الصحيح، فالمسألة بعد الفراغ من أصوليتها تكتب و تدون في الكتب.
و هذا الإشكال الرابع مبني على قراءة الممهدة بفتح الهاء. فلو قرأناها بكسر الهاء لارتفع الاعتراض.
فيكون التعريف حينئذ: «علم الأصول هو العلم بالقواعد الأصولية الممهدة، أي تمهد و تساعد على استنباط الحكم الشرعي. و في النهاية يرى السيّد محمد باقر الصدر (قدس سره) أن الأصح أن يكون التعريف لعلم الأصول هو: «العلم بالعناصر المشتركة لاستنباط جعل شرعي» (١).
(١) و بعبارة أخرى: دلالة الآية وَ أَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ في وجوب الصلاة متوقفة على مسألتين أصوليتين، تقعان في قياس الاستنباط و بيانه هو:
صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب ... صغرى
ظهور القرآن الكريم حجة ... كبرى
إذا: الصلاة واجبة.
فمن خلال الصغرى و الكبرى الأصوليتين استنبط الفقيه وجوب الصلاة.
(٢) كما إذا كانت كلتا مقدّمتيه أصوليتين، كما في مثال: أَقِيمُوا الصَّلاةَ ... فإن الصيغة ظاهرة في الوجوب، و الظهور حجة.
فوجوب الصلاة حكم شرعي مستفاد من دليل شرعي متوقف على أكثر من مسألة أصولية؛ و هما ظهور الصيغة في الوجوب، و الظهور حجة، و كلتاهما أصوليتان.
و أما الحكم الشرعي المستفاد من دليل شرعي، فمتوقف على مسألة أصولية واحدة في نفس المثال المذكور في حالة تبني القول القائل: بأن حجية الظهور ليست مسألة أصولية. حينئذ الحكم الشرعي (وجوب الصلاة) المستفاد من الدليل الشرعي أَقِيمُوا الصَّلاةَ ...، متوقف على مسألة واحدة، و هي ظهور صيغة أَقِيمُوا ... في الوجوب.
(٣) كما في استنباط بطلان الصلاة في ظرف عصيان الأمر بالإزالة من قاعدة الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده، فهنا استنبطنا الحكم الشرعي من قاعدة أصولية واحدة من بعد ضمها إلى حكم الشارع بوجوب إزالة النجاسة من المسجد، فعلى هذه القاعدة لو دخل المسجد و فيه نجاسة و لم يزلها و صلى حينئذ تكون صلاته باطلة.
و بعبارة أكثر وضوحا نقول:
الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده بحكم العقل ... صغرى.
____________
(١) الحلقة الثالثة، ج ١، ص ١٣
٤٠
الحكم، واقعيّ و ظاهريّ. و الدّليل: اجتهاديّ و فقاهتيّ (١).
ثم لا يخفى: أن الحكم الشرعي الذي جاء ذكره في التعريف السابق على نحوين:
١- أن يكون ثابتا للشيء بما هو في نفسه فعل من الأفعال، كالمثال المتقدم، أعني: وجوب الصلاة، فالوجوب ثابت للصلاة بما هي صلاة في نفسها و فعل من الأفعال، مع قطع النظر عن أي شيء آخر. و يسمى مثل هذا الحكم (الحكم الواقعي). و الدليل الدال عليه (الدليل الاجتهادي).
____________
و الإدراك العقلي حجة ... كبرى.
فاستفدنا الحكم الشرعي؛ و هو بطلان الصلاة في ظرف عصيان الأمر بالإزالة من دليل عقلي صغراه أصولية، و كبراه مسألة غير أصولية، على قول إنها كلامية.
و مثال آخر: يمكن استفادة الحكم الشرعي (وجوب الوضوء) من دليل عقلي (مقدمة الواجب واجبة) على أكثر من مسألة أصولية.
فمقدمة الواجب واجبة بحكم العقل ... صغرى.
و الإدراك و الحكم العقلي حجة ... كبرى.
فالحكم الشرعي (وجوب الوضوء) متوقف على هاتين المسألتين الأصوليتين؛ (الصغرى و الكبرى).
(١) لا يخفى: أنه يوجد للحكم الظاهري ثلاثة مصطلحات أصولية، و هي كالتالي:
المصطلح الأوّل: ما ذكره المصنّف، و حاصله: أن الحكم الظاهري هو الذي يقابل الحكم الواقعي، و إن كان الحكم الواقعي مستفادا من الأدلة الاجتهادية الظنيّة، فإذا قام الدّليل القطعي على وجوب الصلاة، فإنها ناظرة إلى الصلاة بما هي فعل من الأفعال، مع غض النظر عن أي شيء آخر، و كذلك الأمارة إذا قامت على حلّية شيء، فإنها ناظرة إلى ذلك الشيء بما هو فعل من الأفعال؛ و هذا ما يسمى بالحكم الواقعي.
و بعبارة أخرى: إذا وقف الفقيه لتحديد حكم لحم الأرنب واقعا؛ تارة يحصل له دليل قطعي من القرآن في بيان الحكم الواقعي، كبيان حكم حرمة لحم الأرنب، و تارة تقوم عنده أمارة على حكم لحم الأرنب في بيان الحكم الواقعي، كأن يقوم خبر الثقة مثلا على حرمة لحمه.
فالدّليل القطعي و الظنيّ كلاهما يحدّدان الحكم الواقعي، و لذا سمّوا الحكم المستفاد من الأدلة القطعيّة أو الظنيّة حكما واقعيا.
و أما إذا كان الحكم الثّابت ليس ناظرا لشيء بما هو فعل من الأفعال، بل بما هو مجهول و مشكوك حكمه الواقعي، و بعبارة أخرى نقول: إذا كان الحكم ليس ثابتا للشيء بما هو هو، بل ثبت للشيء في حالة الشكّ في حكمه الواقعي؛ و هذا ما يسمى بالدليل الظاهري. فمثلا: إذا لم يقم عند الفقيه دليل قطعي و لا ظنيّ على ثبوت حكم لحم الأرنب، حينئذ سيشكّ هل لحم الأرنب حلال أم حرام؟ هنا
٤١
٢- أن يكون ثابتا للشيء بما أنه مجهول حكمه الواقعي، كما إذا اختلف الفقهاء في حرمة النظر إلى الأجنبيّة، أو وجوب الإقامة للصلاة. فعند عدم قيام الدليل على أحد الأقوال لدى الفقيه يشك في الحكم الواقعي الأوّلي المختلف فيه؛ و لأجل ألا يبقى في مقام العمل متحيرا لا بدّ له من وجود حكم آخر و لو كان عقليا، كوجوب الاحتياط أو البراءة أو عدم الاعتناء بالشكّ. و يسمى مثل هذا الحكم الثانوي (الحكم الظاهري). و الدليل الدال عليه (الدليل الفقاهتي)، أو (الأصل العملي).
و مباحث الأصول، منها: ما يتكفل للبحث عمّا تقع نتيجته في طريق استنباط الحكم الواقعي، و منها: ما يقع في طريق الحكم الظاهري. و يجمع الكلّ «وقوعها في طريق استنباط الحكم الشرعي»، على ما ذكرناه في التعريف.
____________
تأتي الأصول العملية لكي ترفع هذا التردد بتحديدها الوظيفة العملية، بأن تقول: كل شيء حلال حتى تعلم بحرمته، و عليه يكون الحكم: الأرنب حلال.
المصطلح الثّاني: يقول السيّد الصّدر «رضي الله عنه» في تعريف الحكم الظاهري: هو كلّ حكم افترض في موضوعه الشّك في حكم مسبق، و عليه فالأمارة تكون حكما واقعيا؛ لأنه لم يؤخذ في موضوعها الشّك، أي: الأمارة بما هي أمارة لم يؤخذ في موضوعها الشك، و إنّما تكون الأمارة حكما ظاهريا بلحاظ الحجّية، و هذا سرّ جعل السيّد الصّدر «رضي الله عنه» الأمارات من الأحكام الظاهرية.
فحينما تقوم الأمارة على حرمة الفقاع ثم نشكّ في حجّيتها، أي: نشكّ في حجّية الأمارة التي قامت على حرمة الفقاع بأنها حجّة أم لا؟ حينئذ يجعل الشارع الحجّية لها فيكون جعل الحجّية في ظرف الشّكّ في حجّية الأمارة حكما ظاهريا.
المصطلح الثّالث: و هو كل حكم ثبت ظاهرا عند الجهل بالحكم الواقعي الثّابت في علم الله تعالى، فيشمل الحكم الثّابت بالأمارات و الأصول معا.
الملاحظة الأولى: س: ما وجه تسمية الدّليل الدالّ على الحكم الواقعي دليلا اجتهاديا، و ما وجه تسمية الدّليل الدالّ على الحكم الظاهري دليلا فقاهتيا، أو أصلا عمليا؟
ج: لما عرّفوا الاجتهاد بأنه بذل الوسع لتحصيل الحكم الواقعي، ناسب أن يسمّوا الدّليل الدالّ على الحكم الواقعي دليلا اجتهاديا، و لمّا عرّفوا الفقه بأنه العلم بالحكم الشرعي الظاهري، ناسب أن يسمّوا الدّليل الدالّ على الحكم الظاهري دليلا فقاهتيا.
الملاحظة الثّانية: لا يخفى: أن عنوان هذا البحث فيه خطأ صرفيّ، و ذلك فإن النسبة إلى الفقه لا بدّ أن تكون فقهيا لا فقاهتيا؛ لأن النسبة إلى المختوم بالتاء لا بدّ أن تحذف في النسبة.
٤٢
موضوع علم الأصول (١):
إن هذا العلم غير متكفّل للبحث عن موضوع خاص؛ بل يبحث عن موضوعات شتى تشترك كلها في غرضنا المهم منه؛ و هو استنباط الحكم الشرعي. فلا وجه لجعل
____________
(١) موضوع علم الأصول: تكلم الأصوليون، و أطالوا الكلام حول موضوع علم الأصول هل هو الأدلة الأربعة (الكتاب و السنة و الإجماع و العقل بما هي أدلة) أو بما هي هي، بصرف النظر عن وصف الأدلة، أو لا موضوع لعلم الأصول واقعا، أو لا لزوم لأن يكون لكل علم موضوع كما يختاره المصنف لعدم الدليل عليه؟
قال الكثير من العلماء: إنه من الخطأ تحديد علم الأصول في خصوص الأدلة الأربعة (الكتاب و السنة و الإجماع و العقل) بما هي أدلة كما ذهب إليه صاحب القوانين. و قبل الرد على هذا القول لا بدّ من توضيح المراد من قول الميرزا (قدس سره) في قوله: «موضوع علم الأصول هي الأدلة الأربعة بما هي أدلة» المراد به بما هي حجة، فتكون الحجية جزء من الموضوع. بمعنى: موضوع علم الأصول هي الأدلة الأربعة بقيد الحجية ... فالكتاب بما هو حجة يكون موضوع علم الأصول، و السنة بما هي حجة تكون موضوع علم الأصول، و الإجماع بما هي حجة يكون موضوع علم الأصول، و العقل بما هو حجة يكون موضوع علم الأصول.
- و لكن أشكل على الميرزا القمي (قدس سره) بخروج مباحث الحجج من علم الأصول، و المقصود من مباحث الحجج هي مثلا: مبحث حجية خبر الواحد، و مبحث حجية الإجماع، و مبحث حجية العقل و غيرها. لأن البحث عن حجية خبر الواحد بحث عن وجود الموضوع، و هذا ليس من مسائل العلم بل هذا بحث عن مبادئ العلم.
فالذي يدخل في مسائل العلم هو البحث عن عوارض الموضوع.
- و بعبارة أخرى: عند ما نبحث عن الكلمة متى ترفع؟ و متى تنصب؟ و متى تجر؟ و متى تصير فاعلا أو مفعولا ...؟ هذا بحث عن عوارض الكلمة المعبر عنها بحث عن مفاد كان الناقصة. و هذا يعد من مسائل العلم. و أما إذا أردنا أن نبحث عن الكلمة أنها موجودة أو غير موجودة في لغة العرب؟ هذا بحث عن وجود الموضوع و هذا ليس من العلم بل من مبادئه و يعبر عنه بمفاد كان التامة. فإذا اتضح هذا نقول: قول الميرزا القمي (قدس سره) في موضوع علم الأصول هي الأدلة الأربعة بما هي أدلة أي:
بما هي حجة، فالحجية أخذت جزء في الموضوع، فالبحث فيها يكون بحثا عن وجود الموضوع، فيلزم خروجها من موضوع علم الأصول.
فعند ما نقول: خبر الواحد حجة أو ليس بحجة هذا بحث عن وجود الموضوع و عدم وجوده، إذا:
مباحث هذه الحجج و غيرها ليست من علم الأصول.
لما ذا البحث عن الحجية و عدم الحجية يصير بحثا عن وجود الموضوع و ليس من عوارضه؟
الجواب: لأننا بحسب الفرض افترضنا الموضوع الأدلة الأربعة بما هي حجة أي: بقيد الحجية، فالموضوع إذا مركب من هذين الجزءين، و نحن نبحث عن حجية الخبر أي: خبر الواحد حجة أم لا؟
٤٣
يعني: حجية موجودة للخبر أو ليست موجودة، و قلنا: إن الحجية جزء من الموضوع، فالبحث عن الحجية و عدم الحجية يعني: أن جزء الموضوع موجود أو غيره موجود، فيكون البحث عن جزء الموضوع لا بحث عن عوارض الموضوع، و الذي نعده من علم الأصول هو البحث عن عوارض الموضوع.
- قال صاحب الفصول: موضوع علم الأصول هي الأدلة الأربعة بما هي هي، يعني: مع قطع النظر عن حجيتها، بمعنى: البحث يكون عن ذات الكتاب، و ذات السنة، و ذات العقل، و ذات الإجماع هذه الأدلة الأربعة هي موضوع علم الأصول. و الحجية بالنسبة إلى هذه الأدلة الأربعة أمر خارج، عنها و بالتالي البحث عن الحجية بحث عن عوارض الموضوع فتصير أصولية.
- قال الآخوند صاحب الكفاية: موضوع علم الأصول لا ما قاله الميرزا القمي (قدس سره)، و لا ما قاله صاحب الفصول (قدس سره)، أي: ليس موضوع علم الأصول الأدلة الأربعة بما هي أدلة، و لا بما هي هي مع قطع النظر عن حجيتها، فإن كلا هذين التحديدين باطل. لما ذا؟ لأنه يلزم من هذين التحديدين خروج كثير من مباحث الأصول مثل: مبحث حجية الخبر يلزم أن لا يكون أصوليا لما ذا؟ لأن السنة هي نفس قول الإمام (عليه السلام) و تقريره و فعله، و الخبر ليس نفس السنة بل حاكي عن السنة، و ليس هو سنة. إذا: البحث عن حجيته حينئذ لا يكون بحثا عن عوارض الموضوع أي: الأدلة الأربعة، فيلزم أن يكون هذا البحث ليس أصوليا هذا بناء على أن السنة عبارة عن المحكي (أي: نفس قول الإمام و فعله و تقريره)، دون الحاكي (أي: الناقل لكلام الإمام أو فعله أو تقريره).
- الشيخ الأنصاري عنده محاولة لدفع هذا الإشكال و محصله هو: قال الشيخ الأنصاري: حتى مع افتراض أن الخبر حاك للسنة يكون البحث عن حجيته بحث عن السنة. و ذلك عند ما نقول: خبر الواحد حجة أو ليس بحجة هذا بحث عن عوارض السنة.
و بعبارة أوضح: عند ما نقول: إن السنة هل تثبت بالخبر فتكون حجة، أو لا تثبت بالخبر فلا تكون حجة، فالبحث على هذا الأساس بحث عن عوارض السنة، لأن البحث على أن السنة هل تثبت بالخبر أم لا؟ مبني على أن الموضوع هي السنة و الخبر هو الحاكي عن هذه السنة، و مع هذا يكون البحث عن حجية الخبر بحثا عن عوارض السنة هذا ما أفاده الشّيخ الأنصاري في محاولته لدفع الإشكال المذكور.
إلا أن الآخوند صاحب الكفاية يرى هذا الرد الذي ذكره الشّيخ باطل. لأن البحث عن السنة هل تثبت بالخبر أم لا هذا بحث على أن السنة توجد بالخبر أم لا، و هذا بحث عن الثبوت و عدمه، و هذا ليس من البحث عن عوارض الموضوع فلا يكون من مسائل العلم.
هذا مبني على حالة واحدة و هي: إذا كان مقصود الشيخ الأنصاري (قدس سره) هل تثبت السنة بالخبر أم لا؟ مقصوده الثبوت التكويني الحقيقي و الخارجي، أي: هل حقيقة السنة (قول الإمام أو فعله أو تقريره) تثبت بالخبر أم لا؟
لأنه إذا كان هذا هو المقصود يكون البحث حينئذ عن وجود الموضوع و عدم وجوده. و أما إذا كان مقصود الشيخ (قدس سره) من الثبوت و عدمه الثبوت التعبدي أي: هل تثبت السنة تعبدا أم لا؟
٤٤
تدخل في مسائل العلم.
هذا إذا قلنا أن الثبوت التعبدي بمعنى: وجوب العمل من عوارض الخبر الذي يحكي عن السنة هل يجب العمل به أم لا؟ إذا: وجوب العمل تعبدا أو عدم وجوب العمل من عوارض الخبر. و الخبر ليس أحد الأدلة الأربعة فالبحث ليس من عوارض الأدلة. هذا كله على تقرير أن السنة هي نفس فعل الإمام (عليه السلام) أو قوله أو تقريره و الخبر عنه حاكي.
- أما إذا فسرنا السنة بالحاكي و المحكي يكون حينئذ خبر زرارة مثلا سنة، فلا يأتي الإشكال السابق بناء على هذا التفسير و هو خروج مبحث حجية خبر الواحد لما ذا؟ لأن خبر الواحد بهذا التفسير أصبح من السنة. إلا أن إشكالا آخر يأتي هنا و هو خروج بعض المباحث الأصولية من الأصول مثل: بحث الأمر ظاهر في الوجوب أم لا؟ هذا من مباحث الأصول جزما إلا أنه يخرج عن الأصول لأنه لا يخص الأدلة الأربعة، و إنما هو بحث عام لكل أمر سواء كان ورد في الأدلة الأربعة أم ورد في غير الأدلة الأربعة. لأن ظهور الأمر في الوجوب الثابت بواسطة خارجية أعم على رأي المشهور من الأعراض الغريبة- و ليس من الأعراض الذاتية- و هو ليس من أبحاث علم الأصول.
- و بعبارة أخرى: عند ما نقول: الأمر ظاهر في الوجوب؛ هل ثبوت الظهور للأمر بواسطة خاصة أو عامة؟ هي واسطة عامة، بمعنى: عند ما نقول: الأمر ظاهر في الوجوب لا لكونه أمرا ورد في الكتاب بل لأجل كونه أمرا صدر من مولى، سواء ورد في الكتاب أو في السنة، أو ورد في دليل آخر فيكون هذا عارضا على الموضوع بواسطة خارجية أعم، و العارض بواسطة خارجية أعم على رأي المشهور من الأعراض الغريبة و هو ليس داخلا في علم الأصول.
هذا الإشكال أورد على رأي المشهور. أما على رأي الآخوند صاحب الكفاية لا يتوجه هذا الإشكال؛ لأن رأي الآخوند صاحب الكفاية في العارض بواسطة خارجية أعم من عدها من الأعراض الذاتية.
اتضح من خلال هذا الطرح المبسط و الواضح: إنه لا يمكن أن يكون موضوع علم الأصول هو خصوص الأدلة الأربعة.
- و مما يؤيد ذلك تعريف المشهور لعلم الأصول: «هو العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية»، فلو كان موضوع علم الأصول خصوص الأدلة الأربعة لقالوا: «علم الأصول هو العلم بالأدلة الأربعة التي تقع في استنباط الحكم الشرعي» و هذا لم يحصل، و هذا يؤيد إن موضوع علم الأصول ليس خصوص الأدلة الأربعة (١).
- و لبطلان هذا التحديد اضطر بعض علماء الأصول إلى أن يذهب إلى عدم الضرورة لوجود الموضوع للعلم؛ إذ لا دليل على ذلك كما ذهب إليه المصنف. بل يدعي بعض الأصوليّين باستحالة وجود الموضوع في بعض العلوم، إذا: يوجد في المقام اتجاهان، أحدهما يقول: بعدم ضرورة وجود الموضوع لكل علم، و ثانيهما يقول: بضرورة ذلك.
____________
(١) ما ذكرناه في موضوع علم الأصول إلى هنا مصدره: تقريراتي لدرس الكفاية في مبحث موضوع علم الأصول لفضيلة العلامة الأستاذ الشيخ باقر الإيرواني (بتصرف).
٤٥
و استدل أصحاب الاتجاه الأخير بدليلين: الدليل الأول: إن هناك كلاما مشهورا يقول: إن العلوم يمتاز بعضها عن البعض الآخر بواسطة الموضوعات، فعلم النحو يمتاز عن علم الطب بأن ذاك يبحث عن الكلمة و الكلام، و هذا يبحث عن بدن الإنسان، و اختصاص كل منهما بموضوعه الخاص سبّب استقلالية و امتياز ذاك عن هذا، و لو لا هذا الامتياز في الموضوع لما كان علم النحو و الطب علمين؛ بل كانا علما واحدا. و إذا صح هذا الكلام: كان اللازم منه: ثبوت الموضوع لكل علم؛ ليتم من خلاله امتياز علم عن علم.
و يرد هذا الدليل: إن جعل الامتياز في الموضوع سببا لامتياز العلوم بعضها عن بعض موقوف على التسليم باشتمال كل علم على موضوع خاص به، أما إذا أنكرنا ذلك فلا بد و أن يكون الامتياز بواسطة طريق آخر غير الموضوع؛ كأن يقال مثلا: إن الامتياز بواسطة الغرض، فالغرض من علم النحو- بما أنه صون اللسان عن الخطأ- صار ذلك سببا لامتيازه عن علم المنطق- الذي له غرض آخر و هو صون التفكير عن الخطأ- إذا: هذا الدليل يشتمل على المصادرة، أي: أنه استدل بشيء يحتاج إلى التسليم بالمدعى المتنازع فيه.
الدليل الثاني: إنا نسأل و نقول: بم تمتاز بعض العلوم عن البعض الآخر؟ فإن أجيب بأنه يحصل عن طريق التمايز بين الموضوعات- كما ذكر ذلك في الدليل الأوّل- فهذا معناه التسليم بوجود موضوع لكل علم حتى يحصل عن طريق التمايز فيه التمايز بين العلوم، و إن أنكر ذلك و قيل: أن التمايز بين العلوم يحصل عن طريق التمايز بين الأغراض- كما ذكر ذلك في الإجابة عن الدليل الأوّل- فهذا أيضا يستلزم الاعتراف بوجود الموضوع لكل علم؛ لأن كل علم و إن كان له غرض غير الغرض الثابت في العلم الآخر إلا أنه- الغرض- في كل علم شيء واحد، فالغرض من علم النحو مثلا: شيء واحد، و هو صون اللسان عن الخطأ، و حين ذاك نسأل عن هذا الغرض الواحد بم يحصل؟ لا بدّ و أن يكون الجواب بحصوله بواسطة المسائل، فإن لعلم النحو مسائل متعددة مثل: «الفاعل مرفوع» و «المفعول منصوب» و «المضاف إليه مجرور» و هكذا، و هذه المسائل هي التي تحصل الغرض و توجب صون اللسان لمن اطلع عليها، و لكن هذه المسائل هي أشياء متعددة و الأشياء المتعددة كيف تحصّل غرضا واحدا؟ إن هذا غير ممكن إذ لازمه صدور الواحد من الكثير، و هو مستحيل، فإن الواحد لا يصدر إلا من شيء واحد.
إذا: لا بدّ و أن نفترض أن مجموع تلك المسائل المتعددة يرجع إلى قضية واحدة كيما تكون تلك القضيّة الواحدة هي المحصّلة لذلك الغرض الواحد، و تلك القضيّة الواحدة- لكي تكون جامعة بين تلك المسائل المتعددة- لا بدّ و أن تكون ذات موضوع واحد كلي يسع جميع موضوعات تلك المسائل، و ذات محمول واحد كلي يسع جميع محمولات تلك المسائل. و تلك القضيّة الواحدة يمكن فرضها هكذا: الكلمة لها حكم إعرابي، إن الموضوع في هذه القضية هو الكلمة التي هي شاملة للفاعل و المفعول به و المضاف إليه، و المحمول هو الحكم الإعرابي الذي هو جامع بين مرفوع و منصوب و مجرور، و إذا سلّمت هذه القضيّة الواحدة: فلازم ذلك: التسليم بضرورة وجود الموضوع لعلم النحو و هو الأمر الجامع بين موضوعات المسائل. هذه حصيلة الدليل الثاني.
٤٦
موضوع هذا العلم خصوص (الأدلة الأربعة) فقط (١)، و هي الكتاب و السنة و الإجماع و العقل، أو بإضافة الاستصحاب، أو بإضافة القياس و الاستحسان، كما صنع المتقدّمون.
و لا حاجة إلى الالتزام بأن العلم لا بدّ له من موضوع يبحث عن عوارضه الذاتية في ذلك العلم، كما تسالمت عليه كلمة المنطقيين، فإن هذا لا ملزم له و لا دليل عليه (٢).
____________
و أجاب علماء الأصول عنه و من أراد الاطلاع على هذه الإجابة فعليه بمراجعة الحلقة الثالثة في أسلوبها الثاني، كما أن مصدر الدليلين هو نفسه.
- ذهب السيد محمد باقر الصدر- في الحلقة (٣) ج ١ ص ١٤ (بتصرف) في موضوع علم الأصول:
موضوع علم الأصول: «هو الأدلة المشتركة في الاستدلال الفقهي في تحصيل الحكم الشرعي».
فكل عنصر يقع في طريق استنباط الحكم الشرعي هو موضوع علم الأصول. و البحث الأصولي يدور دائما حول دليليتها أي: حجيتها أي: أن العناصر المشتركة التي تقع في طريق الاستنباط الحكم الشرعي نبحث عن حجيتها، و من هذه العناصر الذي نبحث عن حجيتها خبر الواحد، و الإجماع، و الأصول العملية مثل: الاستصحاب، و البراءة.
- ثم عقب السيّد الشهيد (قدس سره): و عدم تمكن بعض المحققين من تصوير موضوع العلم على النحو الذي ذكرناه، أدى إلى التشكيك في ضرورة أن يكون لكل علم موضوع، و وقع ذلك موضعا للبحث.
(١) هذا القول ما ذهب إليه صاحب القوانين.
(٢) ذهب بعض إلى أنه يجب أن يكون لكل علم موضوع، و نتيجة لذلك التزموا بأن يكون لعلم الأصول موضوع، و اختلفوا في موضوعه، و من المخالفين المصنّف، حيث ذهب إلى أنه لا يجب أن يكون لكل علم موضوع، فإنه لا دليل على ذلك، و نتيجة لذلك التزم بأن علم الأصول ليس له موضوع خاص به، بل هو يبحث عن موضوعات مشتتة لها دخل في استنباط الحكم الشرعي.
و في بيان مفصل في تحديد الموضوع لكل علم نقول: ذكر صاحب الكفاية (قدس سره) تحديدا لموضوع العلم.
قال: «إن موضوع كل علم ما يبحث في ذلك العلم عن عوارضه الذاتية». فمثلا في النحو «الكلمة» هي: الموضوع؛ لأنه يبحث عن عوارضها الذاتية الطارئة عليها كالفاعلية و المفعولية ... إلخ. فكذلك علم الأصول موضوعه ذلك الشيء الذي يبحث العلم عن عوارضه الذاتية.
و بعبارة أخرى: إن موضوع كل علم هو ما يتّحد مع موضوعات مسائله، فمثلا في علم النحو من جملة مسائله؛ الفاعل مرفوع، و المفعول منصوب، و المضاف إليه مجرور ... إلخ.
فنقول: ما هو ذلك الشيء الذي يتّحد مع هذه الموضوعات لهذه المسائل؟، أي: ما هو المتّحد مع
٤٧
فائدته:
إن كل متشرع يعلم أنه ما من فعل من أفعال الإنسان الاختيارية إلا و له حكم في الشريعة الإسلامية المقدسة من وجوب أو حرمة، أو نحوهما من الأحكام الخمسة.
و يعلم أيضا: إن تلك الأحكام ليست كلها معلومة لكل أحد بالعلم الضروري؛ بل يحتاج أكثرها لإثباتها إلى إعمال النظر و إقامة الدليل، أي: إنها من العلوم النظرية (١).
و علم الأصول هو العلم الوحيد المدوّن للاستعانة به على الاستدلال على إثبات الأحكام الشرعية، ففائدته إذا: الاستعانة على الاستدلال للأحكام من أدلتها (٢).
____________
موضوعات هذه المسائل الذي صار فاعلا في المسألة الأولى، و مفعولا في الثّانية، و مضافا إليه في الثالثة؟
ذلك الشيء المتّحد معها هو «الكلمة». فالكلمة شيء كلي متّحد مع الفاعل و المفعول و المضاف إليه؛ فالكلمة موضوع لعلم النحو.
و في الجملة أقول: إن موضوع كل علم هو: ذلك الأمر الكلي الذي يتّحد مع موضوعات مسائله اتحادا خارجيا لا اتحادا مفهوميا، فمثلا في علم النحو نقول: الفاعل مرفوع و المفعول منصوب و المضاف إليه مجرور. فموضوع المسألة الأولى هو الفاعل، و موضوع المسألة الثّانية المفعول، و موضوع المسألة الثّالثة المضاف إليه، و الجامع الكلي الذي يجمع هذه الموضوعات هي الكلمة، فهي إذا: ذلك الشيء الذي يتّحد مع موضوعات المسائل، هو موضوع علم النحو؛ لأنه متّحد مع موضوعات المسائل اتحادا خارجيا، ففي الخارج الفاعل هو نفس الكلمة؛ لأن كل فاعل كلمة. و إن كان بينهما مغايرة في المفهوم، مغايرة الطبيعي مع أفراده و مغايرة الكلي مع مصاديقه، كالإنسان مع زيد فاتحادهما خارجي، لأن زيد الخارجي هو إنسان، و لكن بينهما تغاير في عالم المفهوم، فإن مفهوم الإنسان يغاير زيدا.
كذلك في الفاعل و الكلمة.
(١) ما المراد من العلم الضروري و النظري؟ هذان مصطلحان منطقيان يراد بهما كالتالي:
١- العلم الضروري: يسمى في المنطق بالبديهي و هو ما لا يحتاج في حصوله إلى كسب و نظر و فكر، فيحصل بالبداهة التي هي المفاجأة و الارتجال من دون توقف، كتصورنا لمفهوم الوجود و العدم، و مفهوم الشيء، و كتصديقنا بأن الكل أعظم من الجزء، و بأن النقيضين لا يجتمعان، و بأن الشمس طالعة، و أن الواحد نصف الاثنين و هكذا.
٢- العلم النظري: و هو ما يحتاج حصوله إلى كسب و نظر و فكر، كتصورنا لحقيقة الروح و الكهرباء، و كتصديقنا بأن الأرض ساكنة أو متحركة حول نفسها و حول الشمس و يسمى أيضا (الكسبي) (١).
(٢) الكتاب و السنة و الإجماع و العقل.
____________
(١) مصدر العلم النظري و الضروري: منطق المظفر، ص ١٩.
٤٨
تقسيم أبحاثه:
تنقسم مباحث هذا العلم إلى أربعة أقسام (١).
١- (مباحث الألفاظ) (٢): و هي تبحث عن مداليل الألفاظ و ظواهرها؛ من جهة عامة نظير البحث عن ظهور صيغة افعل في الوجوب و ظهور النهي في الحرمة.
و نحو ذلك.
٢- (المباحث العقلية) (٣): و هي ما يبحث عن لوازم الأحكام في أنفسها و لو لم تكن تلك الأحكام مدلولة للّفظ، كالبحث عن الملازمة بين حكم العقل و حكم
____________
تقسيم أبحاثه: (١) و هذا التقسيم حديث تنبه له شيخنا العظيم الشّيخ محمّد حسين الأصفهاني (قدس سره) المتوفى سنة ١٣٦١، أفاده في دورة بحثه الأخيرة ... و هو التقسيم الصحيح الذي يجمع مسائل علم الأصول و يدخل كل مسألة في بابها، فمثلا؛ مبحث المشتق كان يعد من المقدمات، و ينبغي أن يعد من مباحث الألفاظ، و مقدمة الواجب و مسألة الإجزاء و نحوهما كانت تعد من مباحث الألفاظ و هي من بحث الملازمات العقلية ... و هكذا. (المصنّف).
(٢) و هذا ما يوصل الفقيه إلى معرفة الحكم الشرعي بعلم تعبدي، و هذا ما يكون البحث فيه عن الصغرى بعد إحراز الكبرى و الفراغ عنها؛ و هي مباحث الألفاظ بأجمعها، فإن كبرى هذه المباحث و هي مسألة حجية الظهور محرزة و مفروغ عنها و ثابتة من جهة بناء العقلاء و قيام السيرة القطعية عليها، و لم يختلف فيها اثنان، و لم يقع البحث عنها في أي علم، على حد تعبير السيّد الخوئي (قدس سره).
و بعبارة أخرى: هل صيغة افعل ظاهرة في الوجوب ... صغرى
لو ثبت ظهورها في الوجوب تكون حجة ... كبرى
فإذا ثبت ظهور صيغة (افعل) في الوجوب لا شك أن الحجية ثابتة لها (١).
(٣) و هي ما يتوصل الفقيه إلى معرفة الحكم الشرعي بعلم وجداني، و يعبر عنها بمباحث الاستلزامات العقلية. كمبحث مقدمة الواجب، فإنه بعد القول بثبوت الملازمة بين وجوب شيء و وجوب مقدمته- مثلا- يترتب عليه العلم الوجداني بوجوب المقدمة عند وجوب ذيها؛ بعد ضم الصغرى إلى هذه الكبرى. و لا بأس بقيام القياس في هذا المثال لأجل التوضيح.
وجوب الصلاة ... صغرى
و إذا وجب شيء يحكم العقل بلزوم وجوب مقدمته ... كبرى
- النتيجة: وجوب الوضوء عقلا و شرعا.
____________
(١) راجع محاضرات في أصول الفقه، ج ١، ص ٦- ٨. (بتصرف).
٤٩
الشرع، و كالبحث عن استلزام وجوب الشيء لوجوب مقدمته المعروف هذا البحث باسم مقدمة الواجب، و كالبحث عن استلزام وجوب الشيء لحرمة ضده المعروف باسم مسألة الضد، و كالبحث عن جواز اجتماع الأمر و النهي. و غير ذلك.
٣- (مباحث الحجة) (١): و هي ما يبحث فيها عن الحجية و الدليلية، كالبحث عن حجية خبر الواحد، و حجية الظواهر، و حجية ظواهر الكتاب، و حجية السنة و الإجماع، و العقل، و ما إلى ذلك.
٤- (مباحث الأصول العملية) (٢): و هي تبحث عن مرجع المجتهد عند فقدان الدليل الاجتهادي، كالبحث عن أصل البراءة و الاحتياط و الاستصحاب و نحوها.
فمقاصد الكتاب- إذا- أربعة. و له خاتمة تبحث عن تعارض الأدلة و تسمى (مباحث التعادل و التراجيح)، فالكتاب يقع في خمسة أجزاء (٣) إن شاء الله تعالى (٤).
____________
(١) و هو ما يكون البحث فيه عن الكبرى. و يعبر عنها بمباحث الحجج (و هذا بعد إحراز الصغرى و الفراغ عنها) كمبحث حجية خبر الواحد و الإجماعات المنقولة و الشهرات الفتوائية و ظواهر الكتاب.
و يدخل فيه مبحث الظن الانسدادي- بناء على الكشف- و مبحث التعادل و الترجيح، فإن البحث فيه في الحقيقة عن حجية أحد الخبرين المتعارضين في هذا الحال (١).
(٢) و هو ما يبحث عن الوظيفة العملية الشرعية للمكلفين في حال العجز عن معرفة الحكم الواقعي و اليأس عن الظفر بأي دليل اجتهادي، من عموم أو إطلاق بعد الفحص بالمقدار الواجب، و ما هو وظيفة العبودية في مقام الامتثال؛ و هي مباحث الأصول العملية الشرعية، كالاستصحاب و البراءة و الاشتغال.
و أما الأصول العملية العقلية: فهي ما يبحث عن الوظيفة العملية العقلية في مرحلة الامتثال في فرض فقدان ما يؤدي إلى الوظيفة الشرعية، من دليل اجتهادي أو أصل عملي شرعي، و هي مباحث الأصول العملية العقلية، كالبراءة و الاحتياط العقليين (٢).
(٣) و قد وضعه المؤلّف «طاب مثواه» بعدئذ في أربعة أجزاء، حيث ألحق (مباحث التعادل و التراجيح) في الجزء الثّالث ضمن مباحث الحجة، و قد أوضح أسباب ذلك في مقدمة الجزء الثّالث. (الناشر).
(٤) و من هذا التقسيم تظهر فائدة علم الأصول و هي: (تعيين الوظيفة في مقام العمل الذي هو موجب لحصول الأمن من العقاب). و حيث أن المكلف الملتفت إلى ثبوت الأحكام في الشريعة يحتمل العقاب
____________
(١) راجع محاضرات في أصول الفقه، ج ١، ص ٧.
(٢) راجع محاضرات في أصول الفقه، ج ١، ص ٧.
٥٠
و قبل الشروع لا بد من مقدمة يبحث فيها عن جملة من المباحث اللغوية التي لم يستوف البحث عنها في العلوم الأدبية أو لم يبحث عنها.
____________
وجدانا، فلا محالة يلزمه العقل بتحصيل مؤمّن منه، و حيث أن طريقه منحصر بالبحث عن المسائل الأصولية، فإذا يجب الاهتمام بها، و بما أن البحث عنها منحصر بالمجتهدين دون غيرهم فيجب عليهم تنقيحها و تعيين الوظيفة منها في مقام العمل لنفسهم و لمقلديهم، حتى يحصل لهما الأمن في هذا المقام، على حد تعبير السيّد الخوئي (قدس سره) (١).
____________
(١) راجع محاضرات في أصول الفقه، ج ١، ص ٧.
٥١
المقدمة
تبحث عن أمور لها علاقة بوضع الألفاظ و استعمالها و دلالتها، و فيها أربعة عشر مبحثا:
١- حقيقة الوضع (١)
لا شك إن دلالة الألفاظ على معانيها في أية لغة كانت ليست ذاتية، كذاتية
____________
حقيقة الوضع: (١) الوضع و علاقته بالدلالات الثّلاث:
قال الشّهيد الصدر: الدلالة التصورية هي في حقيقتها علاقة سببية بين تصور اللفظ، و تصور المعنى، و لما كانت السببية بين شيئين لا تحصل بدون مبرر اتجه البحث إلى تبريرها، و من هنا نشأت عدة احتمالات.
- الاحتمال الأوّل: احتمال السببية الذاتية بأن يكون اللفظ بذاته دالا على المعنى و سببا لإحضار صورته. و لا شك في سقوط هذا الاحتمال، و ذلك لما نراه من الانجليزي الجاهل باللغة العربية حينما يسمع لفظة الماء، فإنه لا يحضر في ذهنه المعنى، و هذا برهان واضح على بطلان هذا الاحتمال.
- الاحتمال الثاني: يفترض أن العلاقات اللغوية بين اللفظ و المعنى نشأت من الوضع، و ذلك لأن الوضع هو الذي أوجد هذه السببية. و الوضع عبارة عن الاعتبار. و حاصل هذا الاحتمال هو إنكار الدلالة الذاتية، و افتراض أن العلاقات اللغوية بين اللفظ و المعنى نشأت في كل لغة على يد الشخص الأوّل أو الأشخاص الأوائل الذين استحدثوا تلك اللغة، و تكلموا بها، فإن هؤلاء خصصوا ألفاظا معينة لمعان خاصة، فاكتسبت الألفاظ نتيجة لذلك التخصيص علاقة بتلك المعاني، و أصبح كل لفظ يدل على معناه الخاص، و ذلك التخصيص الذي مارسه أولئك الأوائل، و نتجت عنه الدلالة يسمى ب (الوضع)، و يسمى الممارس له (واضعا)، و اللفظ (موضوعا)، و المعنى (موضوعا له).
ثم عقب السيّد الصّدر (قدس سره) على ذلك بقوله: في الحقيقة إن هذا الاتجاه و إن كان على حق في إنكاره للدلالة الذاتية، و لكنه لم يتقدم إلا خطوة قصيرة في حل المشكلة الأساسيّة التي لا تزال قائمة حتى بعد الفرضية التي يفترضها أصحاب هذا الاتجاه، فنحن إذا افترضنا معهم أن العلاقة السببية نشأت نتيجة لعمل قام به مؤسسو اللغة خصصوا كل لفظ لمعنى خاص، فلنا أن نتساءل ما هو نوع هذا العمل الذي قام به هؤلاء المؤسسون؟ فسوف نجد إن المشكلة لا تزال قائمة لأن اللفظ و المعنى ما داما لا يوجد بينهما علاقة ذاتية، و لا أي ارتباط مسبق فكيف استطاع مؤسس اللغة أن يوجد علاقة السببية بين شيئين لا علاقة بينهما؟ و هل يكفي مجرد تخصيص المؤسس للفظ و تعيينه له سببا لتصور
٥٢
دلالة الدخان- مثلا- على وجود النار، و إن توهم ذلك (١) بعضهم، لأن لازم هذا
____________
المعنى، لكي يصبح سببا لتصور المعنى حقيقة؟ و كلنا يعلم أن المؤسس و أي شخص آخر يعجز أن يجعل من حمرة الحبر الذي يكتب به سببا لحرارة الماء، و لو كرر المحاولة مائة مرة قائلا: خصصت حمرة الحبر (الذي أكتب به) لكي تكون سببا لحرارة الماء، فكيف يستطيع أن ينجح في جعل اللفظ سببا لتصور المعنى بمجرد تخصيصه لذلك دون أي علاقة سابقة بين اللفظ و المعنى؟ و هكذا نواجه المشكلة كما كنا نواجهها سابقا، فلا يكفي لحلها أن نفسر علاقة اللفظ بالمعنى على أساس عملية يقوم بها مؤسس اللغة، بل يجب أن نفهم محتوى هذه العملية لكي نعرف كيف قامت السببية بين شيئين لم تكن بينهما علاقة.
- الاحتمال الثّالث: و هي نظرية التعهد، و التعهد: هو عبارة عن التزام الواضع و تعهده بأن لا يأتي بلفظ الأسد إلا عند إرادة تفهيم معنى الحيوان المفترس. و لكن يرد على هذا المسلك.
ب أوّلا: بأن التعهد خلاف ما هو مألوف عند العرف، لأن التعهد معناه الالتزام بأنه لا يستعمل اللفظ استعمالا مجازيا؛ لأن المتعهد حينما يتعهد يقول: لا استعمل كلمة الأسد إلا عند إرادة تفهيم المعنى أي: الحيوان المفترس، فلو فرضنا أنه أراد أن يستخدم لفظ الأسد في الرجل الشجاع هذا يكون خلاف تعهده، و هذا معناه: أن الواضع لا يستعمل المجاز مطلقا، و هذا خلاف ما هو المألوف عند العرب و الناس، فعليه: إن الوضع ليس بمعنى التعهد.
ثانيا: إن الدلالة اللفظية، و العلقة اللغوية بموجب هذا المسلك تتضمن استدلالا منطقيا من انتقال من اللازم إلى الملزوم، و هذا لا يدركه الإنسان العادي قبل أن يصل إلى مرحلة يستطيع أن يدرك هذا الاستدلال و الانتقال من اللازم إلى الملزوم، مع أن هذه العلقة اللفظية الموجودة بين اللفظ و المعنى موجودة في أوّل مراحل الإنسان أي: مرحلة الطفولة، و قبل أن ينضج أي فكر استدلالي له. فالطفل عند ما يستعمل اللفظ (ماما) لا يوجد عنده التعهد كما هو واضح. و هذا يكشف عن أن الوضع أبسط من ذلك.
- الاحتمال الرّابع: و هي نظرية الاقتران، و من هنا نصل إلى المسلك الأخير، و هو الصحيح كما هو المختار عند السيّد الصّدر (قدس سره) فالتحقيق أن يقال: إن الوضع هو عبارة عن عملية الاقتران الحاصلة بين اللفظ و المعنى، هذا الربط الأكيد الموجود بين اللفظ و المعنى هو عبارة عن الوضع، و هذا الربط الحاصل بين تصور اللفظ و تصور المعنى تارة: يحصل بصورة عفويّة، كالرّبط بين سماع الزئير و رؤية الأسد، و أخرى: يحصل بالعناية التي يقوم بها الواضع إذ يربط بين اللفظ و تصوّر معنى مخصوص في ذهن الناس، فينتقلون من سماع اللفظ إلى تصور المعنى. و الاعتبار الذي تحدّثنا عنه في الاحتمال الثّاني ليس إلا طريقة يستعملها الواضع في إيجاد ذلك الربط و القرن المخصوص بين اللفظ و صورة المعنى. فمسلك الاعتبار هو الصحيح، و لكن بهذا المعنى (نظرية الاقتران) و لذلك صح أن يقال: أن الوضع قرن مخصوص بين تصور اللفظ و تصور المعنى بنحو أكيد بحيث يستتبع عند ذكر اللفظ الانتقال إلى المعنى في الذهن.
(١) أي: توهم أن دلالة الألفاظ على معانيها دلالة ذاتية.
٥٣
الزعم أن يشترك جميع البشر في هذه الدلالة، مع إن الفارسي مثلا لا يفهم الألفاظ العربية و لا غيرها من دون تعلم، و كذلك العكس في جميع اللغات. و هذا واضح.
و عليه، فليست دلالة الألفاظ على معانيها إلا بالجعل و التخصيص من واضع تلك الألفاظ لمعانيها. و لذا تدخل الدلالة اللفظية (١) هذه في الدلالة الوضعية (٢).
____________
(١) كدلالة لفظ الأسد على الحيوان المفترس.
(٢) الدلالة الوضعية أحد أقسام الدلالة، و القسمان الآخران هما: الدلالة العقلية و الطبعية. و توضيح ذلك نقول: ما هو مفهوم الدلالة؟ و ما هي أقسامها؟
تعريف الدلالة: قال أهل المنطق: إذا سمعت طرقة بابك ينتقل ذهنك- لا شك- إلى أن شخصا على الباب يدعوك. و ليس ذلك إلا لأن هذه الطرقة كشفت عن وجود شخص يدعوك. و إن شئت قلت:
إنها (دلت) على وجوده.
إذا: طرقة الباب (دال)، و وجود الشخص الداعي (مدلول)، و هذه الصفة التي حصلت للطرقة (دلالة).
و هكذا، كل شيء إذا علمت بوجوده، ينتقل ذهنك منه إلى وجود شيء آخر نسميه (دالا)، و الشيء الآخر (مدلولا)، و هذه الصفة التي حصلت له (دلالة).
فيتضح من ذلك: أن الدلالة هي: «كون الشيء بحالة إذا علمت بوجوده انتقل ذهنك إلى وجود شيء آخر».
أقسام الدلالة: لا شك إن انتقال الذهن من شيء إلى شيء لا يكون بلا سبب. و ليس السبب إلا رسوخ العلاقة بين الشيئين في الذهن. و هذه العلاقة الذهنية أيضا لها سبب. و سببها العلم بالملازمة بين الشيئين خارج الذهن. و لاختلاف هذه الملازمة- من كونها ذاتية أو طبعية أو بوضع واضع و جعل جاعل- قسموا الدلالة إلى أقسام ثلاثة: عقلية و طبعية و وضعية.
١- الدلالة العقلية: و هي فيما إذا كان بين الدال و المدلول ملازمة ذاتية في وجودهما الخارجي، كالأثر و المؤثر. فإذا علم الإنسان- مثلا- أن ضوء الصباح أثر لطلوع قرص الشمس، و رأى الضوء على الجدار ينتقل ذهنه إلى طلوع الشمس قطعا، فيكون ضوء الصبح دالا على الشمس دلالة عقلية. و مثله إذا سمعنا صوت متكلم من وراء جدار فعلمنا بوجود متكلم ما.
٢- الدلالة الطبعية: و هي فيما إذا كانت الملازمة بين الشيئين ملازمة طبعية، أعني: التي يقتضيها طبع الإنسان، و قد يتخلف و يختلف باختلاف طباع الناس، لا كالأثر بالنسبة إلى المؤثر الذي لا يتخلف و لا يختلف.
و أمثلة ذلك كثيرة، فمنها: اقتضاء طبع الإنسان أن يقول: (أخ) عند الإحساس بالألم، و (آه) عند التوجع، و (أف) عند التأسف و التضجر. و منها: اقتضاء طبع البعض أن يفرقع أصابعه أو يتمطى عند الضجر و السأم، أو العبث بما يحمل من أشياء أو بلحيته أو بأنفه، أو يضع إصبعه بين أعلى أذنه و حاجبه عند التفكير، أو يتثاءب عند النعاس ... فإذا علم الإنسان بهذه الملازمات فإنه ينتقل ذهنه من أحد المتلازمين إلى الآخر، فعند ما يسمع بكلمة (أخ) ينتقل ذهنه إلى أن متكلمها يحس بالألم، و إذا رأى
٥٤
٢- من الواضع (١)؟
و لكن من ذلك الواضع الأوّل في كل لغة من اللغات؟
قيل: إن الواضع لا بد أن يكون شخصا واحدا يتبعه جماعة من البشر في التفاهم بتلك اللغة. و قيل- و هو الأقرب إلى الصواب- أن الطبيعة البشرية حسب القوة المودعة من الله تعالى فيها تقتضي إفادة مقاصد الإنسان بالألفاظ، فيخترع من عند نفسه لفظا مخصوصا عند إرادة معنى مخصوص- كما هو المشاهد من الصبيان عند أول أمرهم- فيتفاهم مع الآخرين الذين يتصلون به، و الآخرون كذلك يخترعون من أنفسهم ألفاظا لمقاصدهم، و تتألف على مرور الزمن من مجموع ذلك طائفة صغيرة من الألفاظ، حتى تكوّن لغة خاصة، لها قواعدها يتفاهم بها قوم من البشر، و هذه اللغة قد تتشعب بين أقوام متباعدة، و تتطور عند كل قوم بما يحدث فيها من التغيير
____________
شخصا يعبث بمسبحته يعلم بأنه في حالة تفكير ... و هكذا.
٣- الدلالة الوضعية: و هي فيما إذا كانت الملازمة بين الشيئين تنشأ من التواضع و الاصطلاح على أن وجود أحدهما يكون دليلا على وجود الثاني، كالخطوط التي اصطلح على أن تكون دليلا على الألفاظ، و كإشارات الأخرس و إشارات البرق و اللاسلكي، و الرموز الحسابية و الهندسية، و رموز سائر العلوم الأخرى، و الألفاظ التي جعلت دليلا على مقاصد النفس.
فإذا علم الإنسان بهذه الملازمة و علم بوجود الدال ينتقل ذهنه إلى الشيء المدلول.
و ذكرت للدلالة الوضعية قسمان: الدلالة اللفظية و غير اللفظية. و من أراد التفصيل فعليه بمراجعة المنطق للمظفر، ص ٣٤.
من الواضع؟ (١) قيل: إن الواضع هو الله «عزّ و جل». جعل لكل معنى لفظا مخصوصا باعتبار مناسبة بينهما مجهولة عندنا، و جعله «تبارك و تعالى» واسطة بين جعل الأحكام الشرعية المحتاج إيصالها إلى إرسالها إلى إرسال رسل و إنزال كتب، و جعل الأمور التكوينية التي جبل الإنسان على إدراكها كحدوث العطش عند احتياج المعدة إلى الماء و نحو ذلك. فالوضع جعل متوسط بينهما لا تكويني محض حتى لا يحتاج إلى أمر آخر، لا تشريعي صرف حتى يحتاج إلى تبليغ نبي أو وصي، بل يلهم الله «تبارك و تعالى» عبادة- على اختلافهم- كل طائفة بلفظ مخصوص عند إرادة معنى خاص. و بما يؤكد المطلب: إنا لو فرضنا جماعة أرادوا إحداث ألفاظ جديدة بقدر ألفاظ أي لغة، لما قدروا عليه، فما ظنك بشخص واحد، مضافا إلى كثرة المعاني التي يتعذر تصورها من شخص أو أشخاص متعددة (١)؟
____________
(١) راجع محاضرات في أصول الفقه، ج ١، ص ٣٤.
٥٥
و الزيادة، حتى قد تنبثق منها لغات أخرى فيصبح لكل جماعة لغتهم الخاصة.
و عليه، تكون حقيقة الوضع هو جعل اللفظ بإزاء المعنى و تخصيصه به. و مما يدل على اختيار القول الثاني في الواضع أنه لو كان الواضع شخصا واحدا لنقل ذلك في تاريخ اللغات، و لعرف عند كل لغة واضعها.
٣- الوضع تعييني و تعيني (١)
ثم أن دلالة الألفاظ على معانيها الأصل فيها (٢) أن تكون ناشئة من الجعل و التخصيص (٣) و يسمى الوضع حينئذ: (تعيينيا). و قد تنشأ الدلالة من اختصاص اللفظ بالمعنى الحاصل هذا الاختصاص من الكثرة في الاستعمال على درجة من الكثرة أنه تألفه الأذهان، بشكل إذا سمع اللفظ ينتقل السامع منه إلى المعنى. و يسمى
____________
الوضع تعييني و تعيني: (١) قبل أن يقع الكلام عن أقسام الوضع و أي منهم ممكن، و أي منهم غير ممكن لا بدّ أولا أن نعرف حقيقة الوضع. و في تعريف حقيقته أقوال.
الأول: الوضع عبارة عن تخصيص اللفظ للمعنى؛ بأن تخصص كلمة (الأسد) للحيوان المفترس.
الثاني: قال صاحب «تشريح الأصول»: «إنّه عبارة عن تعهد الواضع و التزامه بإرادة المعنى من اللفظ و استعمالاته للفظ بلا قرينة». (تشريح الأصول: ٣٥).
الثالث: و قال جمع من العلماء: الوضع «هو عبارة عن جعل اللفظ علامة على إرادة المعنى الفلاني».
(تشريح الأصول: ٣٥).
الرابع: عرفه صاحب الكفاية في كفايته: «بأنّه نحو اختصاص اللفظ بالمعنى و ارتباط خاصّ بينهما ناش من تخصيصه به تارة، و من كثرة استعماله فيه أخرى».
و بعبارة أوضح نقول: قال صاحب الكفاية في رده على القول الأول: بأنه تعريف غير صحيح؛ بل المناسب أن نقول: الوضع هو عبارة عن اختصاص و ارتباط بين اللفظ و المعنى. لما ذا هذا أنسب من القول الأول على رأي صاحب الكفاية؟ لأن به يمكن أن نقسم الوضع إلى تعييني و تعيني. لأن هذا الارتباط إذا نشأ من التخصيص؛ أي: تخصيص لفظ الأسد للحيوان المفترس فهو وضع تعييني.
- و إذا نشأ من كثرة الاستعمال- أي: لفظ الأسد- اختص بالحيوان المفترس عن طريق كثرة الاستعمال، أي: كثر استعمال الناس للفظ الأسد للحيوان المفترس. و نتيجة لهذا الاستعمال الكثير:
تعين لفظ الأسد للحيوان المفترس.
و أما على القول الأول: لا يمكن أن نقسم الوضع إلى تعييني و تعيني؛ بل فقط لتعييني. و بعد معرفة حقيقة الوضع يمكن بحث موضوع أقسام الوضع.
(٢) أي: في الدّلالة.
(٣) أي: تخصيص اللفظ بالمعنى؛ كأن أخصّص كلمة (الأسد) للحيوان المفترس.
٥٦
الوضع حينئذ: (تعيّنيا).
٤- أقسام الوضع
لا بد في الوضع من تصور اللفظ و المعنى، لأن الوضع حكم على المعنى و على اللفظ، و لا يصح الحكم على الشيء إلا بعد تصوره و معرفته بوجه من الوجوه و لو على نحو الإجمال، لأن تصور الشيء قد يكون بنفسه، و قد يكون بوجهه، أي:
بتصور عنوان عام ينطبق عليه و يشار به إليه؛ إذ يكون ذلك العنوان العام مرآة و كاشفا عنه، كما إذا حكمت على شبح من بعيد أنه أبيض مثلا و أنت لا تعرفه بنفسه أنه أي شيء هو، و أكثر ما تعرف عنه- مثلا- أنه شيء من الأشياء أو حيوان من الحيوانات.
فقد صح حكمك عليه بأنه أبيض مع إنك لم تعرفه و لم تتصوره بنفسه و إنما تصورته بعنوان أنه شيء أو حيوان لا أكثر و أشرت به إليه. و هذا ما يسمى في عرفهم (تصور الشيء بوجهه)، و هو كاف لصحة الحكم على الشيء. و هذا بخلاف المجهول محضا فإنه لا يمكن الحكم عليه أبدا.
و على هذا، فإنه يكفينا في صحة الوضع للمعنى أن نتصوره بوجهه، كما لو كنا تصورناه بنفسه.
و لما عرفنا أن المعنى لا بد من تصوره و إن تصوره على نحوين- فإنه بهذا الاعتبار و باعتبار ثان هو أن المعنى (١) قد يكون خاصا أي: جزئيا (٢) و قد يكون عاما (٣) أي:
كليا، نقول: إن الوضع ينقسم إلى أربعة أقسام عقلية:
١- أن يكون المعنى المتصور جزئيا و الموضوع له نفس الجزئي، أي: أن الموضوع له معنى متصور بنفسه لا بوجهه. و يسمى هذا القسم (الوضع خاص و الموضوع له خاص) (٤).
٢- أن يكون المتصور كليا و الموضوع له نفس ذلك الكلي، أي: أن الموضوع له كلي متصور بنفسه لا بوجهه. و يسمى هذا القسم (الوضع عام و الموضوع له
____________
(١) أي: المعنى الذي يريد الواضع أن يضع له اللفظ.
(٢) كمعنى زيد.
(٣) كمعنى الإنسان.
(٤) و بتعبير آخر: أن يكون المعنى المتصور جزئيا، و الموضوع له اللفظ نفس ذلك الجزئي، من قبيل أن يتصور الواضع معنى جزئيا كزيد، و يضع لفظ زيد للمعنى المتصور، أي: يوضع لفظ زيد لمعنى زيد.
٥٧
عام) (١).
٣- أن يكون المتصور كليا و الموضوع له أفراد الكلي لا نفسه، أي: أن الموضوع له جزئي غير متصور بنفسه بل بوجهه، و يسمى هذا القسم (الوضع عام و الموضوع له خاص) (٢).
٤- أن يكون المتصور جزئيا و الموضوع له كليا لذلك الجزئي، و يسمى هذا القسم (الوضع خاص و الموضوع له عام) (٣).
إذا عرفت هذه الأقسام المتصورة العقلية، فنقول: لا نزاع في إمكان الأقسام الثلاثة الأولى، كما لا نزاع في وقوع القسمين الأولين. و مثال الأول: الأعلام الشخصية كمحمد و علي و جعفر، و مثال الثاني: أسماء الأجناس كماء و سماء و نجم و إنسان و حيوان.
و إنما النزاع وقع في أمرين: الأول: في إمكان القسم الرابع، و الثاني: في وقوع الثالث بعد التسليم بإمكانه. و الصحيح عندنا استحالة الرابع و وقوع الثالث، و مثاله:
الحروف و أسماء الإشارة و الضمائر و الاستفهام و نحوها على ما سيأتي.
٥- استحالة القسم الرابع
أما استحالة الرابع و هو الوضع الخاص و الموضوع له العام فنقول في بيانه: إن
____________
(١) و بتعبير آخر: أن يكون المعنى المتصور كليا، و الموضوع له اللفظ نفس ذلك الكلي، من قبيل أن يتصور الواضع معنى كليا، كالإنسان (فإنه يمكن أن يتصور- بنفسه، و بحده التام- بكونه حيوانا ناطقا)، و يضع لفظ الإنسان لذلك المعنى الكلي المتصور، أي: يوضع لفظ الإنسان لمعنى الإنسان، و يسمى (الوضع عاما و الموضوع له عاما).
(٢) و بتعبير آخر: أن يكون المعنى المتصور كليا، و الموضوع له جزئيا. من قبيل أن يتصور الواضع عنوان الإنسان، و هذا العنوان مشير إلى كل أفراد الإنسان المتحققة في الخارج، فإن قلت: إن المصداق لم يتصوره، و قد قلت سابقا: بأن الوضع حكم على المعنى و لا بدّ من تصور المعنى المحكوم عليه. أقول:
إن المعنى الجزئي للمصداق متصور، و لكن إجمالا أي: بواسطة عنوان عام يشير إليه.
(٣) و بتعبير أوضح نقول: أن يكون المعنى المتصور جزئيا، و الموضوع له كليا، و هذا القسم مستحيل، و ذلك لأن الوضع الخاص بمعنى: أن الوضع أحضر معنى جزئيا في ذهنه و هو مثلا: شخص زيد، و يريد أن يضع اللفظ (الإنسان) للحيوان الناطق، فهذا غير معقول، و ذلك لأن الحيوان الناطق ليس متصور بنفسه بحسب الفرض، و لا بوجهه لأن الجزئي ليس وجها للعام كما هو واضح، و إنما العام يكون وجها و كاشفا عن الجزئي كشفا إجماليا.
٥٨
النزاع في إمكان ذلك ناشئ من النزاع في إمكان أن يكون الخاص وجها و عنوانا للعام، و ذلك لما تقدم أن المعنى الموضوع له لا بد من تصوره بنفسه أو بوجهه لاستحالة الحكم على المجهول، و المفروض في هذا القسم: إن المعنى الموضوع له لم يكن متصورا و إنما تصور الخاص فقط، و إلا لو كان متصورا بنفسه- و لو بسبب تصور الخاص- كان من القسم الثاني (١) و هو الوضع العام و الموضوع له العام. و لا كلام في إمكانه بل في وقوعه كما تقدم.
فلا بد حينئذ- للقول بإمكان القسم الرابع- من أن نفرض أن الخاص يصح أن يكون وجها من وجوه العام و جهة من جهاته حتى يكون تصوره كافيا عن تصور العام بنفسه و مغنيا عنه (٢)، لأجل أن يكون تصورا للعام بوجه.
و لكن الصحيح الواضح لكل مفكر: إن الخاص ليس من وجوه العام بل الأمر بالعكس من ذلك، فإن العام هو وجه من وجوه الخاص و جهة من جهاته. و لذا قلنا بإمكان القسم الثالث و هو (الوضع العام و الموضوع له الخاص)؛ لأنا إذا تصورنا العام فقد تصورنا في ضمنه جميع أفراده بوجهه، فيمكن الوضع لنفس ذلك العام من جهة تصوره بنفسه، فيكون من القسم الثاني، و يمكن الوضع لأفراده من جهة تصورها بوجهها (٣)، فيكون من الثّالث. بخلاف الأمر في تصور الخاص فلا يمكن الوضع معه إلا لنفس ذلك الخاص، و لا يمكن الوضع للعام لأنا لم نتصوره (٤) أصلا لا بنفسه بحسب الفرض، و لا بوجهه إذ ليس الخاص وجها له (٥). و يستحيل الحكم على المجهول المطلق.
____________
استحالة القسم الرابع: (١) بمعنى: لو كان لفظ الإنسان متصورا في زيد لكان من القسم الثاني، بمعنى: وضع لفظ الإنسان لمعنى زيد بما هو إنسان صار هذا من القسم الثاني؛ و هو الوضع عام و الموضوع له عام. فإن كان القسم الرابع من هذا القبيل نقول: صحيح.
(٢) أي: عن تصور العام بنفسه.
(٣) أي: وجه الأفراد و العنوان المشير إليها هو العام.
(٤) أي: نتصور العام.
(٥) أي: وجها للعام.
٥٩
٦- وقوع الوضع العام و الموضوع له الخاص و تحقيق المعنى الحرفي
أما وقوع القسم الثالث، فقد قلنا: إن مثاله وضع الحروف و ما يلحق بها من أسماء الإشارة و الضمائر و الموصولات و الاستفهام و نحوها (١).
و قبل إثبات ذلك لا بد من (تحقيق معنى الحرف و ما يمتاز به عن الاسم)، فنقول:
الأقوال في وضع الحروف و ما يلحق بها من الأسماء ثلاثة:
١- إن الموضوع له في الحروف هو بعينه الموضوع له في الأسماء المسانخة لها في المعنى، فمعنى (من) الابتدائية هو عين معنى كلمة الابتداء بلا فرق. و كذا معنى على معنى كلمة الاستعلاء، و معنى (في) معنى كلمة الظرفية ... و هكذا.
و إنما الفرق في جهة أخرى، و هي أن الحرف وضع لاجل أن يستعمل في معناه إذا لوحظ ذلك المعنى حالة و آلة لغيره (٢)، أي: إذا لوحظ المعنى غير مستقل في نفسه،
____________
(١) و أما وقوع القسم الثّالث فقد قلنا: بأن مثاله وضع الحروف، فإن الواضع حينما يريد وضع (من) الابتدائية لمعنى خاص لا بدّ أن يتصور معنى الابتداء كمفهوم عام. و بعبارة أوضح أقول: إن الواضع لما أراد أن يضع للنسب الجزئية باعتبار أنها غير محصورة، و لا يمكن تصور النسب بأجمعها احتاج الواضع إلى عنوان مشير إليه، و يحكي عنها إجمالا- و هو مفهوم النسب الابتدائية الذي هو ليس بنسبة- فيتصور الواضع مفهوم النسبة الابتدائية، و من خلاله يتصور إجمالا جزئيات النسب الخارجية، حينئذ: يقوم بعملية الوضع كوضع (من) الابتدائية لمعنى خاص في مثل: سرت من النجف، سرت من المدرسة، و غيرها من مصاديق هذا المعنى الكلي المتصور عند الواضع، و كذلك حينما يريد وضع (في) الظرفية لمعنى خاص لا بدّ أن يتصورها كمعنى كلي أي: يتصور معنى الظرفية كمفهوم عام، ثم يقوم بعملية الوضع كوضع (في) الظرفية لمعنى خاص في مثل: زيد في الدار، عمرو في المدرسة و غيرها من مصاديق هذا المعنى الكلي المتصور عند الواضع. و هكذا في بقية الحروف، و ما يلحق بحكم الحروف من حيث كونها آلة للغير، و متقومة بالطرفين و لا وجود لها إلا بالطرفين كأسماء الإشارة، و الضمائر، و الموصولات، و الاستفهام و نحوها، فإنها موضوعة للنسب، و هي دائما متقومة بالطرفين، فإن الضمير في مثل (هو) دائما يشار به للمفرد المذكر الغائب، ف (هو) متقوم بطرفين مشار و مشار إليه، و كذلك في أسماء الإشارة، و كذلك في أسماء الموصولات، ففي مثل: جاء الذي ضربته، فإن اسم الموصول هنا (الذي) موضوع ليشار به للمفرد المذكر المعهود، فإنه متقوم من المشير المشار له، كذلك في الاستفهام، فإنه موضوع للنسبة بين المستفهم و المستفهم منه، و لا وجود للاستفهام إلا بهذين الطرفين كما في بقية النسب. إذا: الوضع في الحروف و ما يلحق بها عام، و الموضوع له خاص.
وقوع الوضع العام و الموضوع له الخاص و تحقيق المعنى الحرفي: (٢) ففي حرف (في) لا يمكن أن أتصور معنى الظرفية منها إلا بما هي في جملة و متقومة بالطرفين في (زيد في الدار) فهي معنى آلي.
٦٠
و الاسم وضع لأجل أن يستعمل في معناه إذا لوحظ مستقلا في نفسه.
مثلا- مفهوم (الابتداء) معنى واحد وضع له لفظان أحدهما لفظ (الابتداء) و الثاني: كلمة (من)؛ لكن الأول: وضع له لأجل أن يستعمل فيه عند ما يلاحظ المستعمل مستقلا في نفسه، كما إذا قيل: «ابتداء السير كان سريعا». و الثاني (١) وضع له (٢) لأجل أن يستعمل فيه عند ما يلاحظه المستعمل غير مستقل في نفسه، كما إذا قيل: «سرت من النجف».
فتحصّل: أن الفرق بين معنى الحرف و معنى الاسم أن الأول: يلاحظه المستعمل حين الاستعمال آلة لغيره و غير مستقل في نفسه، و الثاني: يلاحظه حين الاستعمال مستقلا، مع أن المعنى في كليهما واحد. و الفرق بين وضعيهما إنما هو الغاية فقط (٣).
و لازم هذا القول: أن الوضع و الموضوع له في الحروف عامّان (٤). و هذا القول منسوب إلى الشيخ الرضي نجم الأئمة، و اختاره المحقق صاحب الكفاية (٥).
____________
(١) (من).
(٢) (لمفهوم الابتداء).
(٣) و بعبارة أخرى: الفرق بين معنى الحرف، و معنى الاسم من حيث اللحاظ، فإذا لوحظ الابتداء بلحاظ استقلالي فهو معنى اسمي، و إذا لحظ «الابتداء في من» بما هو متقوم بالطرفين فهو معنى حرفي.
(٤) و ذلك لأنه قال: الموضوع له في الحروف بعينه الموضوع له في الأسماء؛ يلزم من ذلك أن يكون الموضوع له و الوضع في الحروف عامين أي: نفس الأسماء. فالحاصل على رأي الآخوند: يكون مفهوم الابتداء الذي هو من المفاهيم الكلية وضع له لفظان أحدهما لفظ الابتداء و الآخر لفظ (من)، فكل من لفظة الابتداء، و لفظة (من) موضوعا المفهوم العام و هو مفهوم الابتداء. فاتضح من ذلك أنه على رأيه (قدس سره) يكون الموضوع له الحرف و الاسم عاما.
(٥) و محصل هذه النقطة: أنه ورد إشكال على رأي صاحب الكفاية في الحروف بأن قد يقال للآخوند: إذا كان معنى كلمة (من) و كلمة (الابتداء) واحدا، فإذا: بناء على رأيك لم يبق فرق بين الحروف و الأسماء، فيلزم أن يكونا مترادفين أي: يمكن استخدام أحدهما مكان الآخر، و هذا واضح البطلان؛ لأنه لا يمكن أن نقول مكان (ابتداء سيري الكوفة)، (من سيري الكوفة)، فإذا: لا بدّ أن نقول: أن بين المعنيين اختلاف.
الجواب: نقول: إنما لم يصح استعمال أحدهما موضع الآخر، لاختلاف الوضع في الحروف عن الأسماء، فالوضع في الحرف مثل (من) يختلف عن نحو الوضع في الكلمة (الابتداء). لأن الواضع عند ما أراد أن يضع قال: عند ما نلحظ معنى الابتداء مثلا مستقلا فقد وضعت له كلمة (الابتداء)،
٦١
٢- إن الحروف لم توضع لمعان أصلا، بل حالها حال علامات الإعراب في إفادة كيفية خاصة في لفظ آخر، فكما أن علامة الرفع في قولهم: (حدثنا زرارة) تدل على أن زرارة فاعل الحديث، كذلك (من) في المثال المتقدم تدل على أن النجف مبتدأ منها و السير مبتدأ به.
٣- إن الحروف موضوعة لمعان مباينة في حقيقتها و سنخها للمعاني الاسمية، فإن المعاني الاسمية في حد ذاتها معان مستقلة في أنفسها، و معاني الحروف لا استقلال لها بل هي متقومة بغيرها (١).
و الصحيح هذا القول الثالث. و يحتاج إلى توضيح و بيان:
إن المعاني الموجودة في الخارج على نحوين:
الأول: ما يكون موجودا في نفسه (٢)، (كزيد) الذي هو من جنس الجوهر (٣)، و (قيامه) مثلا الذي هو من جنس العرض (٤)، فإن كلا منهما موجود في نفسه.
و الفرق أن الجوهر موجود في نفسه لنفسه، و العرض موجود في نفسه لغيره.
الثاني: ما يكون موجودا لا في نفسه، كنسبة القيام إلى زيد.
و الدليل على كون هذا المعنى لا في نفسه: أنه لو كان للنسب و الروابط وجودات
____________
و متى ما نلحظ معنى الابتداء حالة قائمة بالغير فقد وضعت له كلمة (من)، فاتضح إذا: أن سبب عدم إمكان استعمال أحدهما موضع الآخر هو اختلاف نحو الوضع كما قلنا.
و لكن قد يشكل على الآخوند بأن نقول: سلمنا اختلاف الحروف عن الأسماء في نحو الوضع، و أن الواضع عند ما لاحظ الابتداء مستقلا وضع له (الابتداء)، و عند ما لاحظه حالة قائمة بالغير وضع له (من)، و لكن لازم ذلك: أن المستعمل لو استعمل (من) في موضوع (الابتداء) لم يحصل من استعماله إلا عصيان الواضع، و الاستعمال يكون صحيحا لأنه في المعنى الموضوع له، مع أننا بالوجدان نرى أن استعمال أحدهما موضع الآخر ليس فقط يسبب عصيان الواضع بل بطلان أصل الاستعمال، و هذا يوضح لنا اختلاف معنى الحرف عن معنى الاسم، و عدم اتحادهما و هو خلاف لرأي الآخوند (قدس سره).
(١) هذا القول ما ذهب إليه المشهور من المحققين بعد صاحب الكفاية.
(٢) أي: له تحقق في نفسه، و لو وجود استقلالي.
(٣) يعرّف الجوهر بتعريف هو: الموجود لا في موضوع، فإن زيدا من جنس الجوهر باعتباره موجودا لا في موضوع، أي: لزيد تحقق في نفسه و له وجود استقلالي.
(٤) و يعرّف العرض بتعريف هو: الموجود في موضوع، كالقيام الموجود في زيد، فمن دون الموضوع لا قيام.
٦٢
استقلالية للزم وجود الرابط بينها (١) و بين موضوعاتها، فننقل الكلام إلى ذلك الرابط، و المفروض: أنه موجود مستقل، فلا بد له من رابط أيضا ... و هكذا ننقل الكلام إلى هذا الرابط فيلزم التسلسل، و التسلسل باطل (٢).
فيعلم من ذلك أن وجود الروابط و النسب في حد ذاته متعلق بالغير و لا حقيقة له (٣) إلا التعلق بالطرفين.
ثم أن الإنسان في مقام إفادة مقاصده كما يحتاج إلى التعبير عن المعاني المستقلة؛ كذلك يحتاج إلى التعبير عن المعاني غير المستقلة في ذاتها، فحكمة الوضع تقتضي أن توضع بإزاء كل من القسمين ألفاظ خاصة، و الموضوع بإزاء المعاني المستقلة هي الأسماء، و الموضوع بإزاء المعاني غير المستقلة هي الحروف و ما يلحق بها. و هذه المعاني غير المستقلة لما كانت على أقسام شتى فقد وضع بإزاء كل قسم لفظ يدل
____________
(١) أي: بين النسب.
(٢) و بعبارة أكثر وضوحا نقول: إذا وجد عندنا كلمتان: زيد و قائم، فإن كلمة قائم لها وجود مستقل، و كلمة زيد كذلك لها وجود مستقل فإذا ربطنا بينهما كأن نقول: زيد قائم فنفس الربط يسمى بالنسبة (نسبة القيام لزيد)، فهذه النسبة ليس لها وجود مستقل بل وجودها مربوط بزيد و القيام.
إذا: وجود النسبة متوقف على غيرها. و الدليل على ذلك أنه لو قلنا: إن النسب و الروابط لها وجودات استقلالية للزم التسلسل.
و توضيح ذلك نقول: لو قلنا: إن الرابط بين القيام و زيد له وجود مستقل للزم أن يكون له رابط يربط بينه و بين زيد، و كذلك بين القيام و هكذا. فيلزم التسلسل.
و توضيح ذلك بالشكل البياني:
فإذا فرضنا الرابط الذي يربط بين القيام و زيد رابط مستقل حينئذ يحتاج إلى رابط يربط بينه و بين القيام، و رابط يربط بينه و بين زيد.
و توضيحه بالشكل البياني التالي:
و إذا فرضنا هذا الرابط الحادث مستقل كما هو الفرض، فيحتاج إلى رابط بينه و بين القيام، و رابط يربط بينه و بين زيد.
و توضيحه بالشكل البياني التالي:
و هكذا إلى ما لا نهاية. و هذا عين التسلسل الباطل.
(٣) أي: لا حقيقة للروابط.
٦٣
عليه (١)، أو هيئة لفظية (٢) تدل عليه (٣).
مثلا- إذا قيل: «نزحت البئر في دارنا بالدلو»، ففيه عدة نسب مختلفة و معان غير مستقلة، أحدها: نسبة النزح إلى فاعله و الدال عليها هيئة الفعل للمعلوم، و ثانيتها:
نسبته إلى ما وقع عليه أي: مفعوله و هو البئر و الدال عليها هيئة النصب في الكلمة، و ثالثتها: إلى المكان و الدال عليها كلمة (في)، و رابعتها: نسبته إلى الآلة و الدال عليها لفظ الباء في كلمة (بالدلو).
و من هنا يعلم: أن الدال على المعاني غير المستقلة ربما يكون لفظا مستقلا كلفظة من، و إلى، و في. و ربما يكون هيئة في اللفظ كهيئات المشتقات و الأفعال (٤) و هيئات الإعراب (٥).
(النتيجة):
فقد تحقق مما بيناه: أن الحروف لها معان تدل عليها كالأسماء، و الفرق أن المعاني الاسمية مستقلة في أنفسها و قابلة لتصورها في ذاتها، و إن كانت في الوجود الخارجي محتاجة إلى غيرها كالأعراض (٦)، و أما المعاني الحرفية فهي معان غير مستقلة و غير قابلة للتصور إلا في ضمن مفهوم آخر. و من هنا يشبّه كل أمر غير مستقل بالمعنى الحرفي.
____________
(١) أي: يدل على المعاني غير المستقلة.
(٢) كهيئة الجملة الخبرية و الإنشائية و الشرطية.
(٣) أي: تدل على المعاني غير المستقلة.
(٤) في مثل: اسم الفاعل (ضارب)، و اسم المفعول (مضروب)، و الفعل المضارع (يضرب)، و الفعل الماضي (ضرب)، و فعل الأمر (اضرب)، فهيئة المفعول دالة على النسبة الرابطة بين الحدث (الضرب) و من وقع عليه الحدث (المضروب). و هيئة الفاعل دالة على النسبة الرابطة بين الحدث و من وقع منه الحدث. و هيئة الفعل المضارع دالة على نسبة الحدث إلى فاعله.
(٥) مثل هيئة النصب الدالة على المفعول به، مثل: ضربت الكلب، فإن نصب الكلب يدل على النسبة الرابطة بين الحدث و من وقع عليه الحدث، و كذلك هيئة الرّفع الدالة على الفاعل، فإن الرفع يدل على النسبة الرابطة بين الحدث و من وقع منه الحدث- الضرب-.
و كذلك هيئة الجر- في مثل قولك: زيد في الدار- الدالة على الظرفية، و الدال هو (في).
فائدة: المعنى الحرفي مصطلح أصولي يعبّر به عن كلّ نسبة سواء كانت مدلولة للحرف، أو لهيئة الجملة الناقصة أو التامة، و أمّا المعنى الاسمي فيعبر به عمّا سوى ذلك من المدلولات.
(٦) كالقيام. فالقيام في «قام زيد» محتاج إلى «زيد»، فلا قيام من دون زيد.
٦٤
(بطلان القولين الأولين)
و على هذا، يظهر القول الثاني القائل إن الحروف لا معاني لها و كذلك القول الأول القائل أن المعنى الحرفي و الاسمي متحدان بالذات مختلفان باللحاظ.
و يرد هذا القول أيضا: أنه لو صح اتحاد المعنيين لجاز استعمال كل من الحرف و الاسم في موضع الآخر، مع إنه لا يصح بالبداهة حتى على نحو المجاز (١)، فلا يصح بدل قولنا: زيد في الدار- مثلا- أن يقال زيد الظرفية الدار.
و قد أجيب عن هذا الإيراد: بأنه إنما لا يصح أحدهما في موضع الآخر لأن الواضع اشترط ألا يستعمل لفظ الظرفية إلا عند لحاظ معناه مستقلا، و لا يستعمل لفظ (في) إلا عند لحاظ معناه غير مستقل و آلة لغيره. و لكنه جواب غير صحيح لأنه لا دليل على وجوب اتباع ما يشترطه الواضع إذا لم يكن اشتراطه يوجب اعتبار خصوصية في اللفظ و المعنى (٢). و على تقدير أن يكون الواضع ممن تجب طاعته، فمخالفته توجب العصيان لا غلط الكلام (٣).
(زيادة إيضاح): إذ قد عرفت أن الموجودات (٤) منها ما يكون مستقلا في
____________
(١) لعدم وجود العلاقة بين- في- الذي هو معنى حرفي آلي، و بين- الظرفية- الذي هو معنى اسمي استقلالي، و إضافة إلى ذلك أنه ينافي الذوق السليم.
(٢) و بعبارة أخرى: إذا كان اشتراط الواضع يوجب أخذ خصوصية في المعنى الموضوع له اللفظ أو اللفظ الموضوع للمعنى، فحينئذ: تجب طاعته في ذلك، فمثلا: لو اشترط أن لفظ الإنسان موضوع لطبيعة الإنسان بشرط الإطلاق، فهذا الشرط أوجب خصوصية في نفس المعنى الموضوع له اللفظ، ففي مثل هذا تجب إطاعته. أما في المقام فاشتراط الاستقلالية و الآلية ليس هما مأخوذين في المعنى الموضوع له الاسم أو الحرف بل الاسم موضوع للظرفية، و كذلك الحرف (في) موضوع للظرفية من دون أخذ أي خصوصية في المعنى الموضوع له، و خصوصيتا الاستقلالية و الآلية إنما هما خارجيتان عن حريم اللفظ و المعنى، و هما تابعتان لمقام الاستعمال، و في مقام الاستعمال لا دليل على وجوب اتباع الواضع، ففي مقام الاستعمال تارة: يلحظ الابتداء بما هو مقوم بالطرفين، فهذا يعبر عنه باللحاظ الآلي و المعنى الحرفي، و تارة يلحظ الابتداء في نفسه، و يعبر عنه باللحاظ الاستقلالي و المعنى الاسمي.
(٣) تعليق: إننا نشعر الغلطية بالوجدان، و هذا يدل على إن الظرفية لا يصح وضعها مكان (في) سواء اشترط الواضع أم لم يشترط.
(٤) ينبغي أن يقال للتوضيح: أن الموجودات على أربعة أنحاء:
١- موجود في نفسه بنفسه، و هو الله «سبحانه و تعالى»، فإنه موجود في نفسه لنفسه، أي: لا لأجل غيره، و بنفسه أي: هو قائم بنفسه و لم يوجد بسبب موجد.
٦٥
الوجود (١)، و منها ما يكون رابطا بين موجودين (٢)- فاعلم أن كل كلام مركب من كلمتين أو أكثر إذا ألقيت كلماته بغير ارتباط بينهما فإن كل واحد منها كلمة مستقلة في نفسها لا ارتباط لها بالأخرى (٣)، و إنما الذي يربط بين المفردات و يؤلفها كلاما واحدا هو الحرف أو إحدى الهيئات الخاصة. فأنت إذا قلت مثلا: أنا. كتب.
قلم لا يكون بين هذه الكلمات ربط و إنما هي مفردات صرفة منثورة. أما إذا قلت:
كتبت بالقلم- كان كلاما واحدا مرتبطا بعضه مع بعضه مفهما للمعنى المقصود منه. و ما حصل هذا الارتباط و الوحدة الكلامية إلا بفضل الهيئة المخصوصة لكتبت و حرف الباء و أل.
و عليه: يصح أن يقال: أنّ الحروف هي روابط المفردات المستقلة و المؤلفة للكلام الواحد و الموحدة للمفردات المختلفة (٤)، شأنها شأن النسبة بين المعاني المختلفة و الرابطة بين المفاهيم غير المربوطة. فكما أن النسبة رابطة بين المعاني و مؤلفة بينها (٥) فكذلك الحرف الدال عليها رابط بين الألفاظ و مؤلف بينها.
و إلى هذا أشار سيد الأولياء أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله المعروف في تقسيم الكلمات: «الاسم ما أنبأ عن المسمى، و الفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، و الحرف ما أوجد معنى في غيره». فأشار إلى أن المعاني الاسمية معان استقلالية، و معاني
____________
٢- و موجود في نفسه لنفسه بغيره، و الموجود في نفسه لنفسه أي: لا لأجل غيره، و هو الجوهر كالجسم و النفس، و بغيره أي: وجد بسبب موجد و هو الله «سبحانه و تعالى».
٣- و موجود في نفسه لغيره، أي: ما هو موجود في نفسه لأجل غيره، و هو موجود بسبب موجد و هو العرض كالقيام.
٤- موجود في غيره، و هو أضعفها، و هو المعنى الحرفي المعبر عنه بالرابط. فالأقسام الثّلاثة الأول وجودات مستقلة، و الرّابع هو المعنى الحرفي الذي لا وجود له إلا بوجود طرفيه.
(١) مثل: الجوهر (زيد) و العرض (القيام).
(٢) كنسبة القيام لزيد. فالربط هو الذي يربط بين القيام و زيد.
(٣) فلو رأيت كلمة «زيد» مستقلة، و كلمة القيام مستقلة فإن لكل منهما معنى مستقل لا علاقة فيما بينهما و لا ارتباط.
(٤) أي: أن الحروف هي التي تربط بين المعاني المستقلة، فتربط بين كلمة «زيد» و «الدار» في زيد في الدار.
(٥) كنسبة القيام لزيد في زيد قائم.
٦٦
الحروف غير مستقلة في نفسها و إنما هي تحدث الربط بين المفردات. و لم نجد في تعاريف القوم للحرف تعريفا جامعا صحيحا مثل هذا التعريف.
الوضع في الحروف عام و الموضوع له خاص (١)
إذا اتضح جميع ما تقدم يظهر أن كل نسبة حقيقتها متقومة بطرفيها، على وجه لو قطع النظر عن الطرفين لبطلت و انعدمت، فكل نسبة في وجودها الرابط مباينة لأية نسبة أخرى و لا تصدق عليها، و هي في حد ذاتها مفهوم جزئي حقيقي.
و عليه: لا يمكن فرض النسبة مفهوما كليا ينطبق على كثيرين و هي متقومة بالطرفين؛ و إلا لبطلت و انسلخت عن حقيقة كونها نسبة.
ثم إنّ النسب غير محصورة فلا يمكن تصور جميعها للواضع، فلا بد في مقام الوضع لها من تصور معنى اسمي يكون عنوانا للنسب غير المحصورة حاكيا عنها و ليس العنوان في نفسه نسبة، كمفهوم لفظ (النسبة الابتدائية) المشار به إلى أفراد النسب الابتدائية الكلامية، ثم يضع لنفس الأفراد غير المحصورة التي لا يمكن التعبير عنها إلا بعنوانها. و بعبارة أخرى: إن الموضوع له هو النسبة الابتدائية بالحمل الشائع، و أما النسبة الابتدائية بالحمل الأولي فليست بنسبة حقيقة (٢)؛ بل تكون طرفا للنسبة كما لو قلت: الابتداء كان من هذا المكان (٣).
و من هذا يعلم حال أسماء الإشارة و الضمائر و الموصولات و نحوها. فالوضع في
____________
(١) و لأجل الفائدة نقول: إن زيدا إنسان بالحمل الشائع، لأن الحمل الشائع هو الاتحاد في المصداق، و المغايرة في المفهوم، مفهوم الإنسان مفهوم كلي يغاير مفهوم زيد الذي هو مفهوم جزئي فلا ينطبق إلا على نفسه، فكذلك الكلام في النسبة، فإن مصداق النسبة- كالظرفية الجزئية الموجودة في الخارج كزيد في الدار- هي نسبة بالحمل الشائع، و ذلك لاتحاد عنوان الظرفية الخاصّة مع مفهوم الظرفية في مصداق هذه الظرفية الخاصّة الخارجيّة، و تغايرهما في المفهوم، فإن مفهوم الظرفية معنى كلي ينطبق على جميع مصاديقه بخلاف الظرفية الخاصّة، فإنّها معنى جزئي لا ينطبق إلا على نفسه.
و أما الحمل الأولي: فملاكه هو الاتحاد في المفهوم و المغايرة اعتبارية، و مثاله: الإنسان حيوان ناطق، فإن مفهوم الإنسان هو عين مفهوم الحيوان الناطق، و إنّما الاختلاف من حيث الإجمال و التفصيل.
و كذلك مفهوم النسبة كما لو قلت: النسبة هي الرابط بين الطرفين، فإن مفهوم النسبة عين مفهوم الربط بين الطرفين، و الاختلاف من حيث الإجمال و التفصيل.
(٢) لأن النسبة الابتدائية مفهوم اسمي مستقل.
(٣) الابتداء طرف للنسبة، و المكان طرف آخر لها، و الرابط ما بينهما.
٦٧
الجميع عام و الموضوع له خاص (١).
٧- الاستعمال حقيقي و مجازي
استعمال اللفظ في معناه الموضوع له (حقيقة) (٢)، و استعماله في غيره المناسب له (مجاز) (٣)، و في غير المناسب (غلط) (٤)، و هذا أمر محل وفاق.
و لكنه وقع الخلاف في الاستعمال المجازي في أن صحته هل هي متوقفة على ترخيص الواضع و ملاحظة العلاقات (٥) المذكورة في علم البيان (٦)، أو أن صحته
____________
(١) بعد اتضاح بطلان رأي صاحب الكفاية كما أبطله المصنّف؛ لا بأس بشرح رأي صاحب الكفاية و محصله كالتالي:
الضمائر على قسمين: ضمائر للخطاب مثل: (إياك)، و ضمائر للإشارة للغائب مثل: (هو، هي)، و هناك أسماء لا تكون إلا للإشارة مثل (هذا، هذه ... إلخ). إذا اتضح هذا نقول: أسماء الإشارة مثل:
(هذا) موضوعة لكلي المفرد المذكر المشار إليه.
قد يقال: إننا بالوجدان نشعر أن أسماء الإشارة تستعمل في الجزئي مثل: (هذا الولد)، فكيف يكون معناها كليا؟
الجواب: إن استعمال أسماء الإشارة يستدعي الإشارة الخارجية، و هي تستدعي التشخيص و الجزئية، فالتشخيص آت من قبل الاستعمال، و كل ما يأتي من قبل الاستعمال لا يمكن أخذه في المعنى الموضوع له أو المستعمل فيه؛ لأن الاستعمال متأخر عن الوضع، فالوضع يستدعي تصور المعنى الموضوع له قبل الاستعمال، فإذا: لا يمكن أخذ ما هو من المتأخر في المتقدم، هذا في أسماء الإشارة.
الضمائر: قلنا: إن الضمائر تارة خطابية، و تارة للإشارة للغائب. هنا نقول: إن (إيّاك) مثلا: موضوعة لكلي المفرد المذكر المخاطب، و كذا (هو) موضوعة لكلي المفرد المشار إليه، و الخصوصية التي نشعر بها آتية من قبل الاستعمال، لأن الاستعمال هنا يستدعي التخاطب و الإشارة و هما يستدعيان التشخص، فالتشخص من لوازم الاستعمال لا من جهة أن معنى (هو) أو (إيّاك) جزئي.
الاستعمال حقيقي و مجازي: (٢) استعمال لفظ الأسد في الحيوان المفترس حقيقة.
(٣) استعمال لفظ الأسد في الرجل الشجاع مجازي.
(٤) استعمال لفظ الأسد في الرجل الجبان غلط؛ لعدم وجود العلاقة بينهما.
(٥) المراد من العلاقات في عبارة المصنّف: هي قوانين علم البيان في علاقات بحث المجاز.
(٦) كعلاقة الأيلولة، و ذلك فيما إذا أطلق اسم الشيء على ما يؤول إليه كقوله تعالى: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً أي: عنبا يؤول أمره إلى خمر، و علاقة السببية، و هي كون الشيء المنقول عنه سببا و مؤثرا في غيره، و ذلك فيما إذا ذكر لفظ السبب و أريد منه المسبب نحو: رعت الماشية الغيث- أي:
النبات- لأن الغيث أي: (المطر) سبب فيه. و قرينته (لفظية) و هي (رعت) لأنّ العلاقة تعتبر من جهة المعنى المنقول عنه. و نحو: لفلان عليّ يد، تريد باليد: النّعمة، لأنه سبب فيها. و غيرها من العلاقات.
٦٨
طبعية تابعة لاستحسان الذوق السليم؟ فكلما كان المعنى غير الموضوع له مناسبا للمعنى الموضوع له و استحسنه الطبع صح استعمال اللفظ فيه، و إلا فلا.
و الأرجح القول الثاني (١) لأنا نجد صحة استعمال الأسد في الرجل الشجاع مجازا، و إن منع منه الواضع، و عدم صحة استعماله مجازا في كريه رائحة الفم- كما يمثلون- و إن رخص الواضع. و مؤيد ذلك اتفاق اللغات المختلفة غالبا في المعاني المجازية، فترى في كل لغة يعبر عن الرجل الشجاع باللفظ الموضوع للأسد. و هكذا في كثير من المجازات الشائعة عند البشر.
____________
(١) و هذا القول ما ذهب إليه الشّيخ الآخوند (قدس سره) حيث قال: إن المدار على الطبع لا على الوضع شهادة الوجدان، فالوجدان يقضي بأنه متى ما استحسن الطبع استعمال لفظ الأسد في الرجل الشجاع مجازا يكون الاستعمال صحيح حتى لو منع الواضع من هذا الاستعمال.
- هل يجوز استعمال اللفظ و إرادة جنسه أو نوعه أو صنفه أو مثله أو شخصه؟
قبل الإجابة على هذا السؤال نوضح هذا السؤال بمواده المذكورة في السؤال.
- أولا: ما المراد باستعمال اللفظ و إرادة شخصه؟ أي: شخص اللفظ و ذلك لو قال: زيد لفظ، و قصده من زيد هو زيد التي خرجت من لساني، فطرحت لفظ زيد و أردت به شخصه يعني نفسه. إذا:
المقصود من استعمال اللفظ و إرادة شخصه هو قولك: «زيد لفظ» إذا أردت به شخص زيد الموجود في شخص هذا القول.
- ثانيا: ما المراد باستعمال اللفظ و إرادة نوعه؟
بمعنى: أن أطلق اللفظ و أريد نوعه مثل: ضرب كلمة، هنا أطلقت «ضرب» و أردت منها نوع «الضرب» الشامل «لضرب» في المثال و لكل «ضرب».
- ثالثا: ما المراد باستعمال اللفظ و إرادة صنفه؟
إطلاق اللفظ و إرادة صنفه بأن أقول: «زيد في ضرب زيد فاعل» و يكون المقصود من «زيد» الذي وقع بعد «ضرب» لا كل زيد، فهنا أطلقت كلمة «زيد» الذي وقعت في أول الكلام، و أردت منها صنف زيد، فقولك «فاعل» في المثال لا يشمل «زيد» الذي وقع في أول الكلام، و إنما يشمل غيره. و لذا يقال: إن هذا الاستعمال من قبيل إطلاق اللفظ و إرادة الصنف.
فالفرق بين النوع و الصنف واضح كما هو مبين في المثالين.
- رابعا: ما المراد باستعمال اللفظ و إرادة مثله؟
إطلاق اللفظ و إرادة مثله و مثاله: «زيد في ضرب زيد فاعل». هنا أطلقت لفظ «زيد» الأولى و أردت من «زيد» الأولى مثله الذي وقع بعد ضرب. و يسمى هذا إطلاق اللفظ و إرادة مثله.
- و بعد هذا نرجع إلى السؤال: هل يجوز استعمال اللفظ و إرادة نوعه أو صنفه أو مثله؟
لا شبهة في صحة استعمال اللفظ و إرادة نوعه أو صنفه أو مثله.
٦٩
- خامسا: ما المراد باستعمال اللفظ و إرادة جنسه؟
إطلاق اللفظ و إرادة جنسه في قولك: «ضرب لفظ» إذا لم تقصد به الموجود في شخص هذا القول:
حيث أنه حينئذ يشمل كلا نوعه من الاسمية و الفعلية (١).
و بعد هذه المقدمة التوضيحية نرجع إلى السؤال المطروح هل يجوز استعمال اللفظ و إرادة نوعه أو صنفه أو مثله أو جنسه؟
قال الأصوليون: لا شبهة في صحة استعمال اللفظ و إرادة نوعه أو صنفه أو مثله أو جنسه. و الدليل على ذلك: الدليل على جواز استعمال اللفظ في المعنى المجازي، و صحته راجعة إلى استحسان الطبع.
و يؤكد على هذا شهادة الوجدان، فالوجدان يقتضي بأنه متى ما استحسن الطبع استعمال اللفظ و إرادة جنسه أو نوعه أو صنفه أو مثله يكون الاستعمال صحيحا.
و إنما الإشكال في صحة استعمال اللفظ و إرادة شخصه، ذهب صاحب الفصول إلى عدم إمكان ذلك؛ لأن إطلاق اللفظ و إرادة شخصه يلزم منه أحد المحذورين و هما:
١- إما أن يتحد الدال و المدلول.
٢- و إما يلزم تركّب القضية من جزءين.
و توضيح ذلك نقول: عند ما أقول: «زيد لفظ» هنا كلمة زيد أجعلها حاكية عن شخص «زيد» الذي خرج من لساني. و عند ما لا أجعل كلمة «زيد» حاكية عن شخص «زيد» بل أجعل «شخص زيد» هو نفسه الموضوع من دون أن يكون هناك شيء يحكي عنه ... فإذا قلت: أن أجعله حاكيا عن نفسه بأن أقول: «زيد» و أقصد من «زيد» نفسه بمعنى: أجعله حاكيا عن نفسه، هنا يلزم اتحاد الحاكي و المحكي، و هذا معناه: اتحاد الدال و المدلول. و هو ممتنع، ضرورة أن الحاكي فان في المحكي، فيكون النظر إلى الحاكي آليا، و إلى المحكي استقلاليا، و لازم اتحادهما: اجتماع الضدين أي: يلزم أن: يكون «نفس زيد» دالا و مدلولا و حاكيا و محكيا و هو محال.
إلا أن هذا المحذور الذي أورده صاحب الفصول خلاف الفرض؛ لأن الفرض استعمال اللفظ و إرادة شخصه أي: لفظ زيد حاكي عن ذات زيد (المحكي).
- و إن لم تعتبر دلالته على نفسه لزم المحذور الثاني، و هو تركب القضية من جزءين، مع لزوم تركبها من ثلاثة أجزاء (موضوع و محمول و نسبة).
- و في توضيح ذلك نقول: عند ما أقول: زيد قائم. فكلمة زيد هي الموضوع تحكي عن ذات زيد، فذات زيد هي الموضوع، و أما لفظ زيد حاكي، و ليس هو موضوع، و كلمة قائم هي حاكية عن معنى القيام. و النسبة هي الرابطة بين زيد و القيام. إذا: كل قضية مركبة من موضوع و محمول و نسبة رابطة بينهما. و يوجد للنسبة حاكي و هي هيئة الجملة في «زيد قائم». إذا: توجد عندنا قضية حاكية و قضية محكية، فالحاكية هي نفس الألفاظ مثل: لفظ زيد و قائم و الهيئة الخاصة، و المحكية هي القضية المعنوية و هي ذات زيد و ذات القيام و الربط بينهما. نسميها قضية محكية بهذه القضية اللفظية.
____________
(١) منتهى الأصول، ج ١، ص ٥٩.
٧٠
فإذا اتضح ذلك ندخل في صميم المحذور الثاني ... فإذا جعلت كلمة زيد حاكية عن نفسها أي:
جعلتها في نفسها موضوعا من دون توسيط الحاكي ففي مثل ذلك يلزم أن القضية المحكية مركبة من جزءين لا من ثلاثة أجزاء. مركبة من محمول و هي كلمة «لفظ» في زيد لفظ، فإن كلمة لفظ تحكي عن معنى اللفظ. فالمحمول يوجد له حاكي و محكي، و بالنسبة إلى الهيئة تحكي عن الربط أي: عن النسبة المعنوية. يبقى الموضوع و هو لا يوجد شيء يحكي عنه لأن المفروض إنه لا يوجد حاكي عنه، فإذا لا يوجد شيء يحكي عن الموضوع فلا يوجد محكي فيلزم من هذا تركب القضية المحكية من جزءين و هذا مستحيل؛ لأن النسبة لا تكون إلا بين منتسبين «الموضوع و المحمول»، فمن دونهما لا نسبة و لا ربط (١).
- صاحب الكفاية يرفع كلا المحذورين الذي أوردهما صاحب الفصول قائلا: بالنسبة إلى المحذور الأول القائل بلزوم اتحاد الدال و المدلول غير وارد، و ذلك باكتفاء تعدد الدال و المدلول اعتبارا، بمعنى: أن المغايرة الاعتبارية كافية في المقام يعني: لفظ «زيد» من حيث أنها صدرت من لساني و تلفظه بها تكون حاكية، و من حيث أني قصدتها و أردتها في قلبي تكون محكية. إذا: لفظية «زيد» من حيث أنها صادرة من لساني تكون دالا. إذا: لفظة «زيد» حاكية و محكية، و لكن بمغايرة اعتبارية، و هذا يكفي في رفع المحذور. فإن اتحاد الحاكي و المحكي مستحيل إذا: مغايرة اعتبارية لا توجد و إلا فلا.
و أما بالنسبة إلى المحذور الثاني القائل بلزوم تركب القضية من جزءين قال صاحب الكفاية: لا يلزم هذا المحذور لأن القضية بأجزائها الثلاثة: (موضوع و محمول و نسبة) موجودة. و توضيح ذلك نقول: زيد لفظ، فالقضية هنا مركبة من ثلاثة أجزاء:
١- محمول: و هو «لفظ»، فإنه يحكي عن معنى «لفظ».
٢- النسبة: و هي «الهيئة الخاصة في المثال»، فهي تحكي عن النسبة الحاصلة بين لفظ و زيد في «زيد لفظ».
٣- الموضوع: و هو موجود بنفسه أي: نفس لفظ زيد جعلته موضوعا من دون وجود حاكي. و هذا لا بأس على قول صاحب الكفاية، و لا يضر على وجود الموضوع عدم وجود الحاكي عنه. ففي المقام نقول: زيد لفظ، فلفظة زيد هي بنفسها أريد أن أحكم عليها أي: أنا لا أريد أن أحكم على ذات «زيد»، إنما أريد أن أحكم على نفس لفظ «زيد» من دون توسيط الحاكي عنه. و هذا لا يلزم منه وجود النسبة من دون نسبتين.
إلا أن هذا الجواب مردود، و ذلك لما ذكرنا: من أن كلمة زيد بنفسها جعلتها موضوعا من دون توسيط حاكي فلا يكون الاستعمال متحققا في جانب الموضوع؛ لأن الحاكي و المحكي لا يكون الاستعمال متحققا في جانب الموضوع لأن الحاكي و المحكي غير موجود بل الاستعمال موجود في جانب المحمول و النسبة؛ لأن في جانب المحمول و النسبة يوجد حاكي و محكي، فكلمة لفظ تحكي عن
____________
(١) مزج ما بين تقريري لدرس الشيخ باقر الإيرواني للكفاية و متن الكفاية، ج ١، ص ٥٨- ٥٩. و منتهى الأصول، ج ١، ص ٦٠ (بتصرف).
٧١
٨- الدلالة تابعة للإرادة
قسموا الدلالة إلى قسمين: التصورية و التصديقية (١):
١- (التصورية): و هي أن ينتقل ذهن الإنسان إلى معنى اللفظ بمجرد صدوره من لافظ، و لو علم إن اللافظ لم يقصده، كانتقال الذهن إلى المعنى الحقيقي عند استعمال اللفظ في معنى مجازي، مع إن المعنى الحقيقي ليس مقصودا للمتكلم، و كانتقال الذهن إلى المعنى من اللفظ الصادر من الساهي أو النائم أو الغالط.
٢- (التصديقية): و هي دلالة اللفظ على أنّ المعنى مراد للمتكلم في اللفظ و قاصد لاستعماله فيه. و هذه الدلالة متوقفة على عدة أشياء: (أولا): على إحراز كون المتكلم في مقام البيان و الإفادة، (و ثانيا): على إحراز أنه جاد غير هازل، و (ثالثا): على إحراز أنه قاصد لمعنى كلامه شاعر به، و (رابعا): على عدم نصب قرينة
____________
معنى اللفظ أو الهيئة تحكي عن النسبة. و أما كلمة زيد لا يوجد شيء يحكي عنها بل نفسها جعلتها موضوعا، فالاستعمال لا يوجد في طرف الموضوع (١).
(١) قسموا الدلالة إلى قسمين: تصورية و تصديقية. و التصديقية أيضا تنقسم إلى قسمين: دلالة تصديقية أولى، و دلالة تصديقية ثانية.
الدلالة التصورية: هي الدلالة المعلولة للوضع.
و بعبارة أوضح: هي عبارة عن المدلول الذي ينتقل إليه ذهن الإنسان بمجرد سماع اللفظ، أي: هي عبارة عن انتقال الذهن إلى المعنى عند سماع اللفظ سواء صدر ذلك اللفظ من إنسان ملتفت أو صدر من احتكاك حجرين، فيكون اللفظ ظاهرا بالظهور التصوري في ذلك المعنى.
الدّلالة التصديقية الأولى: و هي عبارة عن إخطار المعنى في ذهن السامع.
و بعبارة أخرى: هي عبارة عن مجموع الدّلالة التصورية+ إرادة استعمالية.
الدّلالة التصديقية الثانية: و هي عبارة عن مجموع الدّلالة التصورية+ إرادة استعمالية+ إرادة جدية، و بعبارة أخرى: إذا أراد المتكلم أن يخطر صورة مجيء الأسد في ذهن السامع، غرضه و مقصوده أن يحكي عن واقع هو يعتقد به، و هو عبارة عن نسبة المجيء إلى الأسد، إذا: قصده الحكاية و الإخبار، و ليس غرضه الدعاية و الهزل كما هو في الدلالة التصديقية الأولى، و هذه الدّلالة التصديقية هي المهم، و يدور عليها معرفة مراد الشّارع في الأدلة الشرعية.
____________
(١) مزج ما بين تقريري لدرس الشيخ باقر الإيرواني. و متن الكفاية، ج ١، ص ٥٨- ٦١. و محاضرات في أصول الفقه، ج ١، (بتصرف).
٧٢
على إرادة خلاف الموضوع له و إلا كانت الدلالة التصديقية على طبق القرينة المنصوبة.
و المعروف أن الدلالة الأولى (التصورية) معلولة للوضع، أي: أن الدلالة الوضعية هي الدلالة التصورية. و هذا هو مراد من يقول: «إن الدلالة غير تابعة للإرادة بل تابعة لعلم السامع بالوضع» (١).
و الحق (٢): أن الدلالة تابعة للإرادة، و أول من تنبه لذلك فيما نعلم الشيخ نصير الدين الطوسي «أعلى الله مقامه»، لأن الدلالة في الحقيقة منحصرة في الدلالة التصديقية، و الدلالة التصورية التي يسمونها دلالة ليست بدلالة، و إن سميت كذلك فإنه من باب التشبيه و التجوز (٣)، لأن التصورية في الحقيقة هي من باب تداعي المعاني الذي يحصل بأدنى مناسبة (٤). فتقسيم الدلالة إلى تصديقية و تصورية تقسيم الشيء إلى نفسه (٥) و إلى غيره (٦).
و السر في ذلك: أن الدلالة حقيقة- كما فسرناها في كتاب المنطق الجزء الأول
____________
(١) الشّيخ المظفّر يريد أن يقول في هذه العبارة: إن تصور المعنى غير تابع للإرادة؛ (لا إنه يريد أن يقول إن تصور المعنى غير معلول للوضع). و إذا كان غير تابع للإرادة، فهو إذا: لا يسمى دلالة. فإذا:
المصنّف يناقش في تسمية تصور المعنى من سماع اللفظ بالدلالة؛ لا إنه يناقش في كون تصور المعنى ليس معلولا للوضع، فإن هذا متفق عليه.
فعليه: إن تصور اللفظ من غير قصد لا يعتبر دلالة، و إنّما تكون طرقة الباب ذات دلالة إذا حصلت من شخص قاصد للطلب فإنها تدل على شخص مريد لك.
(٢) هذا النزاع الحاصل بين المصنّف و المشهور نزاع لفظي، و ذلك لأن المشهور لما قالوا بأن الدّلالة غير تابعة للإرادة قصدهم من الدلالة هي التصورية، و لم ينتبهوا إلى إن التصورية ليست بدلالة، و المصنّف و الشّيخ نصير الدين الطوسي لما قالوا بأن الدّلالة تابعة للإرادة قصدهم الدّلالة التصديقية، فالنزاع إذا:
لفظي و لا خلاف ما بينهما.
(٣) و وجه الشبه هو: أنه في كلا الدلالتين (التصديقية و التصورية) يحصل الانتقال، فالدلالة التصديقية يحصل انتقال من الدال إلى المدلول، و لكنه بقصد، بينما الدلالة التصورية يحصل انتقال من الدال إلى المدلول، و لكنّه من دون قصد.
(٤) فحينما يصدر لفظ من النائم فإن السّامع ينتقل ذهنه إلى المعنى، و ذلك لتداعي المعاني الحاصلة بين اللفظ و المعنى، و الاقتران الحاصل بينهما.
(٥) هي التصديقية فهي عين الدّلالة.
(٦) كالتصورية فهي غير الدّلالة.
٧٣
بحث الدلالة- هي أن يكشف الدال عن وجود المدلول، فيحصل من العلم به العلم بالمدلول، سواء كان الدال لفظا أو غير لفظ.
مثلا- إن طرقة الباب يقال أنها دالة على وجود شخص على الباب طالب لأهل الدار، باعتبار أن المطرقة موضوعة لهذه الغاية. و تحليل هذا المعنى أن سماع الطرقة يكشف عن وجود طالب قاصد للطلب، فيحصل من العلم بالطرقة العلم بالطارق و قصده، و لذلك يتحرك السامع إلى إجابته. لا إنه ينتقل ذهن السامع من تصور الطرقة إلى تصور شخص ما، فإن هذا الانتقال قد يحصل بمجرد تصور معنى الباب أو الطرقة من دون أن يسمع طرقة و لا يسمى ذلك دلالة. و لذا إن الطرقة- لو كانت على نحو مخصوص يحصل من حركة الهواء مثلا- لا تكون دالة على ما وضعت له المطرقة و إن خطر في ذهن السامع معنى ذلك.
و هكذا نقول في دلالة الألفاظ على معانيها بدون فرق، فإن اللفظ إذا صدر من المتكلم على نحو يحرز معه أنه جاد فيه غير هازل و أنه عن شعور و قصد و أن غرضه البيان و الإفهام، و معنى إحراز ذلك أن السامع علم بذلك، فإن كلامه يكون حينئذ دالا على وجود المعنى أي: وجوده في نفس المتكلم بوجود قصدي، فيكون علم السامع بصدور الكلام منه يستلزم علمه بأن المتكلم قاصد لمعناه لأجل أن يفهمه السامع. و بهذا يكون الكلام دالا كما تكون الطرقة دالة. و ينعقد بهذا للكلام ظهور في معناه الموضوع له أو المعنى الذي أقيمت على إرادته قرينة.
و لذا نحن عرفنا الدلالة اللفظية في المنطق (١/ ٢٦) بأنها «هي كون اللفظ بحالة ينشأ من العلم بصدوره من المتكلم العلم بالمعنى المقصود به». و من هنا سمي المعنى معنى، أي: المقصود، من عناه إذا قصده (١).
و لأجل أن يتضح هذا الأمر جيدا: اعتبر باللافتات التي توضع في هذا العصر للدلالة على أن الطريق مغلوق- مثلا- أو أن الاتجاه في الطريق إلى اليمين أو اليسار، و نحو ذلك. فإن اللافتة إذا كانت موضوعة في موضعها اللائق على وجه منظم بنحو يظهر منه أن وضعها لهداية المستطرقين كان مقصودا لواضعها، فإن وجودها
____________
(١) لأن المعنى اسم مفعول بمعنى: مقصود، فإذا صدرت اللفظة من احتكاك حجرين فإن ما يتبادر إلى الذهن من سماع اللفظ لا يسمى معنى؛ لأنه ليس مقصودا، فإذا: التصورية لا تسمى دلالة.
٧٤
هكذا يدل حينئذ على ما يقصد منها من غلق الطريق أو الاتجاه. أما لو شاهدتها مطروحة في الطريق مهملة أو عند الكاتب يرسمها، فإن المعنى المكتوب يخطر في ذهن القارئ و لكن لا تكون دالة عنده على أن الطريق مغلوقة أو أن الاتجاه كذا، بل أكثر ما يفهم من ذلك أنها ستوضع لتدل على هذا بعد ذلك، لا أن لها الدلالة فعلا.
٩- الوضع شخصي و نوعي (١)
قد عرفت في المبحث الرابع أنه لا بدّ في الوضع من تصور اللفظ و المعنى، و عرفت هناك أن المعنى تارة يتصوره الواضع بنفسه و أخرى بوجهه و عنوانه. فاعرف هنا أن اللفظ أيضا كذلك ربما يتصوره الواضع بنفسه و يضعه للمعنى كما هو الغالب في الألفاظ، فيسمى الوضع حينئذ: (شخصيا). و ربما يتصوره بوجهه و عنوانه، فيسمى الوضع (نوعيا).
و مثال الوضع النوعي الهيئات، فإن الهيئة غير قابلة للتصور بنفسها، بل إنما يصح تصورها في مادة من مواد اللفظ كهيئة كلمة ضرب مثلا- و هي هيئة الفعل الماضي- فإن تصورها لا بدّ أن يكون في ضمن الضاد و الراء و الباء أو ضمن الفاء و العين و اللام في فعل. و لما كانت المواد غير محصورة، و لا يمكن تصور جميعها فلا بدّ من الإشارة إلى أفرادها بعنوان عام، فيضع كل هيئة تكون على زنة فعل مثلا أو زنة فاعل أو غيرهما، و يتوصل إلى تصور ذلك العام بوجود الهيئة في إحدى المواد؛ كمادة فعل التي جرت
____________
(١) و محصّله: لما كان الواضع حاكما على اللفظ، فلا بدّ أن يتصور اللفظ لكي لا يحكم على المجهول.
و تصور اللفظ تارة: يكون بنفسه، و تارة: بوجهه.
و مثال الأوّل: وضع لفظ الإنسان لمعنى الإنسان، فإن الواضع حينما أراد أن يضع لفظ الإنسان لمعناه تصوره بنفسه أي: تصور لفظ الإنسان و وضعه لمعناه.
و مثال الثّاني:- أي: وضع اللفظ مع تصوره بوجهه- و هو وضع الهيئة، فإن الهيئة لا يمكن تصورها إلا في ضمن مادة، و لما كانت المواد كثيرة إحصاؤها اضطروا لوضع لفظ يدل على الهيئة المخصوصة، و يكون هذا عبارة عن عنوان عام يشير إلى أفراده، فمثلا: لفظ على وزن «فاعل» يعتبر عنوانا عاما مشيرا إلى أفراده، فكل هيئة تكون على وزن «فاعل» تكون فردا و مصداقا له.
فمثلا: قاتل و ضارب و قائم كلها مصاديق ل «فاعل»، فهنا لما أراد الواضع وضع هيئة قاتل و ضارب و قائم لم يتصورها بنفسها، و إنّما تصورها بعنوانها العام المشير إليها و هو ما كان على وزن فاعل، و قال:
كل لفظ على وزن فاعل فهو موضوع لنسبة الحدث للذات. و هذا هو الوضع النوعي.
٧٥
الاصطلاحات عليها عند علماء العربية.
١٠- وضع المركبات (١)
ثم الهيئة الموضوعة لمعنى تارة: تكون في المفردات كهيئات المشتقات التي تقدمت الإشارة إليها، و أخرى: في المركبات كالهيئة التركيبية بين المبتدأ و الخبر لإفادة حمل شيء على شيء، و كهيئة تقديم ما حقه التأخير لإفادة الاختصاص (٢).
و من هنا تعرف إنه لا حاجة إلى وضع الجمل و المركبات في إفادة معانيها، زائدا على وضع المفردات بالوضع الشخصي (٣) و الهيئات بالوضع النوعي (٤)- كما قيل- بل هو لغو محض. و لعل من ذهب إلى وضعها أراد به: وضع الهيئات التركيبية لا الجملة بأسرها بموادها و هيئاتها زيادة على وضع أجزائها. فيعود النزاع حينئذ: لفظيا.
١١- علامات الحقيقة و المجاز (٥)
قد يعلم الإنسان- إما من طريق نص أهل اللغة أو لكونه نفسه من أهل اللغة- أن
____________
(١) في قولنا: (زيد قائم)، هذه قضية تشتمل على ثلاث مفردات. الأوّل: زيد، و هذا موضوع بالوضع الشخصي. الثّاني: قائم بهيئته موضوع بالوضع النوعي. الثّالث: الهيئة الرابطة بين زيد و قائم، و هذه موضوعة بالوضع النوعي، و لا إشكال في ثبوت الوضع بهذه المفردات و يتأدى المعنى و هو حمل القيام على زيد بها و لا حاجة إلى وضع جديد لمجموع الجملة، أعني: مجموع ثلاثة الأجزاء و إلا للزمت اللغوية إن كان وضع الجملة بلا غرض، أو لزم تحصيل الحاصل إن كان بغرض إفادة المعنى، و هو حمل القيام على زيد.
و بعبارة أخرى نقول: في قولنا: (زيد قائم) لا نحتاج أكثر من وضع (زيد) و كذا (قائم) لمعانيها، و وضع الهيئة الاسمية- مثلا- الناشئة من ضم الثّاني إلى الأوّل للنسبة و الإخبار، و لو كان هناك وضع ثالث لمجموع المركب من المفردات و الهيئة لمجموع المعنى المستفاد للزم محذوران:
الأوّل: لزوم لغوية الوضع الثّالث، لحصول المقصود من الجملة من دونه.
الثّاني: لزوم تحصيل للحاصل. إذا اتضح هذا نقول: لعل مراد من قال بلزوم الوضع لمجموع المركب هو نفس وضع الهيئات الاسمية أو الفعلية للحكاية أو للإنشاء، و نحن نسلم بوجود وضع للهيئة و يسمى بالوضع النوعي.
(٢) و مثاله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ.
(٣) كزيد.
(٤) كقائم أو الهيئة التركيبية مثل: زيد قائم.
(٥) يأتي بحث علامات الحقيقة و المجاز في فرض أن الإنسان شك في لفظ الأسد مثلا هل موضوع للحيوان المفترس أم لا؟ و قبل الدخول في أصل البحث نقول: إن الشّك على نحوين: شك في أصل
٧٦
لفظ كذا موضوع لمعنى كذا و لا كلام لأحد في ذلك، فإنه من الواضح: أن استعمال اللفظ في ذلك المعنى حقيقة و في غيره مجاز.
و قد يشك في وضع لفظ مخصوص لمعنى مخصوص، فلا يعلم إن استعماله فيه هل كان على سبيل الحقيقة فلا يحتاج إلى نصب قرينة عليه، أو على سبيل المجاز فيحتاج إلى نصب القرينة. و قد ذكر الأصوليون لتعيين الحقيقة من المجاز- أي لتعيين أنه موضوع لذلك المعنى أو غير موضوع- طرقا و علامات كثيرة نذكر هنا أهمها:
(الأولى- التبادر)
دلالة كل لفظ على أي معنى لا بد لها من سبب. و السبب لا يخلو فرضه عن أحد أمور ثلاثة: المناسبة الذاتية، و قد عرفت بطلانها، أو العلقة الوضعية (١) أو القرينة
____________
الوضع اللغوي، و آخر شك في مراد المتكلم بعد العلم بالوضع اللغوي و مثاله: بأن أعلم أن لفظ الأسد موضوع للحيوان المفترس، و لكن أشك في مراد المتكلم منها هل مراده المعنى الحقيقي، أو المعنى المجازي (الرجل الشجاع)، و محل كلامنا هو الشّك الأوّل، و هو الشّك في أصل الوضع، و في مقام تشخيص الوضع اللغوي عند الشّك في أصله تذكر علامات.
علامات الحقيقة و المجاز التبادر:
(١) إن العلاقة الحاصلة بين الألفاظ و المعاني لا بدّ لها من سبب، و من هنا نشأت عدة احتمالات لتبرير العلاقة الموجودة بين الألفاظ و معانيها.
الاحتمال الأوّل: احتمال السببية الذاتية؛ بأن يكون اللفظ بذاته دالا على المعنى و سببا لإحضار صورته، و لا شك: في سقوط هذا الاحتمال؛ لما هو معروف بالخبرة و الملاحظة من عدم وجود أية دلالة للفظ لدى الإنسان قبل الاكتساب و التعلم، و إلا لزم أن يعرف الإنجليزي معاني ألفاظ اللغة العربية قبل التعلم، و هذا باطل كما هو واضح.
الاحتمال الثّاني: احتمال أن العلاقة بين الألفاظ و معانيها نشأت من العلقة الوضعية أعني من الوضع، و إن اختلف في حقيقة الوضع هل هو نوع اعتبار أم هو نوع تعهد أم عملية قرن؟ المهم هو أن العلاقة نشأت من الوضع، و على الاحتمال الثّاني نقول: إن انسباق الذهن إلى معنى من المعاني عند سماع لفظ مجرد عن القرينة يكون كاشفا عن المعنى الحقيقي، و هذا معنى قولهم: التبادر علامة على الحقيقة، إذا: التبادر هو عبارة عن انتقال الذهن إلى المعنى من دون ضم قرينة، فهذا التبادر علامة على أن اللفظ موضوع لذلك المعنى و مجاز في غيره، و لكن يرد إشكال و هو لزوم الدور، و بيان ذلك نقول: إن التبادر موقوف على العلم بالوضع و العلم موقوف على التبادر. و هذا ليس إلا دور صريح، و دفعه هو أن نقول: إن التبادر يتوقف على العلم الإجمالي الارتكازي، و العلم التفصيلي يتوقف على التبادر، و بيان معنى العلم الإجمالي الارتكازي المغفول عنه هو أنك عند ما تسمع جماعة يستعملون لفظ الأسد في
٧٧
الحالية أو المقالية (١). فإذا علم أن الدلالة مستمدة إلى نفس اللفظ من غير اعتماد على قرينة فإنه يثبت أنها (٢) من جهة العلقة (٣) الوضعية.
و هذا هو المراد بقولهم: «التبادر علامة الحقيقة». و المقصود من كلمة التبادر هو:
انسباق المعنى من نفس اللفظ مجردا عن كل قرينة.
و قد يعترض على ذلك: بأن التبادر لا بدّ له من سبب، و ليس هو إلا العلم بالوضع، لأن من الواضح: إن الانسباق لا يحصل من اللفظ إلى معناه في أية لغة لغير العالم بتلك اللغة، فيتوقف التبادر على العلم بالوضع. فلو أردنا إثبات الحقيقة و تحصيل العلم بالوضع بسبب التبادر- لزم الدور المحال (٤)- فلا يعقل- على هذا- أن
____________
معنى الحيوان المفترس و يكثر ذلك، حينئذ: سوف يحصل في ذهنك علم إجمالي بأن الحيوان المفترس معنى للفظ الأسد، و لا تعلم تفصيلا بأنه موضوع له، ثم إذا التفتّ إلى ذلك، و رأيت أن معنى الحيوان المفترس هو المعنى المتبادر من لفظ الأسد فسوف تعلم أنه موضوع له تفصيلا لأن التبادر علامة الحقيقة. إذا: المراد من العلم الإجمالي هنا: هو العلم غير الملتفت إليه لا العلم الإجمالي في الاصطلاح الأصولي، و التبادر مهمته أن يخرج هذا المعلوم من منطقة اللاشعور إلى منطقة الشعور بجعله ملتفتا إليه بعد أن كان مغفولا، و جعله معلوما تفصيلا بعد أن كان معلوما إجمالا.
(١) أي: اللفظ يكون دالا على المعنى بسبب قرينة مقالية أو حالية.
(٢) يثبت أن دلالة اللفظ على المعنى.
(٣) أي: العلم بوضع هذا اللفظ لهذا المعنى.
(٤) اعترض على أن التبادر علامة على الحقيقة مستحيل، و ذلك للزوم الدور.
و بيانه ما يلي: إن التبادر الحاصل من كلمة «الأسد» إلى «الحيوان المفترس» لا بدّ له من سبب، و ليس هو إلا العلم بالوضع أي: العلم بوضع لفظ «الأسد» إلى «الحيوان المفترس»، فإذا علم أن كلمة «الأسد» موضوعة «للحيوان المفترس» حينئذ: يحصل للسامع التبادر إلى «الحيوان المفترس» عند استماعه للفظ «الأسد».
- أما إذا لا نعلم بالوضع لا يحصل التبادر كما لو سمع الإنجليزي الذي يجهل اللغة العربية لفظة «الأسد» لا يتبادر إلى ذهنه معنى «الحيوان المفترس».
إذا: التبادر موقوف على العلم بالوضع، و العلم بالوضع موقوف على التبادر حسب الفرض، و هذا يلزم منه الدور المحال. لأن كل منهما متوقف على الآخر. و على هذا لا يعقل أن يكون التبادر علامة للحقيقة يستفاد منه العلم بالوضع، و المفروض: أنه موقوف عليه.
- و أجيب على محذور الدور: بأن التبادر يتوقف على العلم الإجمالي الارتكازي المغفول عنه، و العلم التفصيلي يتوقف على التبادر. و بيان العلم الإجمالي الارتكازي المغفول عنه هو: أنك عند ما تسمع جماعة يستعملون لفظ «الأسد» في معنى «الحيوان المفترس»، و يكثر ذلك حينئذ: سوف يحصل في
٧٨
يكون التبادر علامة للحقيقة يستفاد منه العلم بالوضع، و المفروض: أنه مستفاد من العلم بالوضع.
و (الجواب): أن كل فرد من أية أمة يعيش معها لا بدّ أن يستعمل الألفاظ المتداولة عندها تبعا لها، و لا بد أن يرتكز في ذهنه معنى اللفظ ارتكازا يستوجب انسباق ذهنه إلى المعنى عند سماع اللفظ، و قد يكون ذلك الارتكاز من دون التفات تفصيلي إليه و إلى خصوصيات المعنى. فإذا أراد الإنسان معرفة المعنى و تلك الخصوصيات توجهت نفسه إليه، فإنه يفتش عما هو مرتكز في نفسه من المعنى، فينظر إليه مستقلا عن القرينة، فيرى أن المتبادر من اللفظ الخاص ما هو من معناه الارتكازي، فيعرف أنه حقيقة فيه.
فالعلم بالوضع لمعنى خاص بخصوصياته التفصيلية- أي: الالتفات التفصيلي إلى الوضع و التوجه إليه- يتوقف على التبادر، و التبادر إنما هو موقوف على العلم الارتكازي بوضع اللفظ لمعناه غير الملتفت إليه.
و الحاصل: أن هناك علمين، أحدهما: يتوقف على التبادر و هو العلم التفصيلي، و الآخر يتوقف التبادر عليه و هو العلم الإجمالي الارتكازي.
هذا الجواب بالقياس إلى العالم بالوضع، و أما بالقياس إلى غير العالم به: فلا يعقل حصول التبادر عنده لفرض جهله باللغة. نعم يكون التبادر أمارة على الحقيقة عنده إذا شاهد التبادر عند أهل اللغة، يعني: أن الأمارة عنده تبادر غيره من أهل اللغة.
____________
ذهنك علم إجمالي بأن «الحيوان المفترس» معنى للفظ «الأسد»، و لا تعلم تفصيلا بأنه موضوع له، ثم إذا: التفت إلى ذلك، و رأيت أن معنى «الحيوان المفترس» هو المعنى المتبادر من لفظ «الأسد» فسوف تعلم تفصيلا أنه موضوع له حقيقة؛ لأن التبادر علامة الحقيقة.
إلا أن السيّد محمد باقر الصدر يرد على الاعتراض بالدور قائلا: لا محل له أساسا لأنه مبني على افتراض أن انتقال الذهن إلى المعنى من اللفظ فرع العلم بالوضع، مع أن التبادر فرع نفس الوضع أي:
وجود عملية القرن الأكيد بين تصور اللفظ و تصور المعنى في ذهن الشخص، فالطفل الرضيع الذي اقترنت عنده كلمة «ماما» برؤية أمه يكفي نفس هذا الاقتران الأكيد ليتصور أمه عند ما يسمع كلمة «ماما»، مع إنه ليس عالما بالوضع؛ إذ لا يعرف معنى الوضع، فالتبادر إذا: يتوقف على وجود عملية القرن الأكيد بين التّصوّرين في ذهن الشخص، و المطلوب من التبادر تحصيل العلم بالوضع أي: العلم بذلك القرن الأكيد فلا دور. إذا: العلم بالوضع يتوقف على التبادر، و التبادر يتوقف على وجود عملية القرن الأكيد بين التصورين في الذهن. فلا دور لوجود المغايرة.
٧٩
مثلا: إذا شاهد الأعجمي من أصحاب اللغة العربية انسباق أذهانهم من لفظ الماء المجرد عن القرينة إلى الجسم السائل البارد بالطبع، فلا بد أن يحصل له العلم بأن هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى عندهم. و عليه: فلا دور هنا لأن عمله يتوقف على التبادر، و التبادر يتوقف على علم غيره.
(العلامة الثانية- عدم صحة السلب و صحته، و صحة الحمل و عدمه)
ذكروا: أن عدم صحة سلب اللفظ عن المعنى الذي يشك في وضعه له علامة أنه حقيقة فيه، و أن صحة السلب علامة على أنه مجاز فيه.
و ذكروا أيضا: أن صحة حمل اللفظ على ما يشك في وضعه له علامة الحقيقة، و عدم صحة الحمل علامة على المجاز.
و هذا ما يحتاج إلى تفصيل و بيان، فلتحقيق الحمل و عدمه و السلب و عدمه نسلك الطرق الآتية:
١- نجعل المعنى الذي يشك في وضع اللفظ له (موضوعا)، و نعبر عنه بأي لفظ كان يدل عليه (١).
ثم نجعل اللفظ المشكوك في وضعه لذلك المعنى (محمولا) بما له من المعنى الارتكازي.
ثم نجرب أن نحمل بالحمل الأولي اللفظ بما له من المعنى المرتكز في الذهن على ذلك اللفظ الدال على المعنى المشكوك وضع اللفظ له. و الحمل الأولي ملاكه الاتحاد في المفهوم و التغاير بالاعتبار (٢).
و حينئذ: إذا أجرينا هذه التجربة فإن وجدنا عند أنفسنا صحة الحمل و عدم صحة السلب علمنا تفصيلا بأن اللفظ موضوع لذلك المعنى. و إن وجدنا عدم صحة
____________
(١) و بعبارة واضحة نقول: نجعل المعنى (الحيوان الناطق) الذي يشك في وضع اللفظ له موضوعا، ثم نجعل اللفظ (الإنسان) الذي نشك في وضعه لذلك المعنى محمولا.
ثم نجرب الحمل على نحو الحمل الأولي للفظ الإنسان على ذلك المعنى (الحيوان الناطق)، فإذا صح الحمل و لم يصح السلب علمنا تفصيلا أن الإنسان موضوع للحيوان الناطق على نحو الحقيقة.
و إذا لم يصح الحمل و صح السلب علمنا إنه ليس موضوعا لذلك المعنى، فيكون استعماله فيه مجازا.
و سمي بالحمل الأولي باعتبارهما متحدين في المفهوم فإن مفهوم، الإنسان متحد مع مفهوم الحيوان الناطق من دون فرق إلا في الإجمال و التفصيل.
(٢) و قد شرحنا الحمل و أقسامه في الجزء الأوّل من المنطق ص ٧٦. من الطبعة الثّانية. (المصنف).
٨٠
الحمل و صحة السلب علمنا إنه ليس موضوعا لذلك المعنى بل يكون استعماله فيه مجازا.
٢- إذا لم يصح عندنا الحمل الأولي نجرب أن نحمله هذه المرة بالحمل الشائع الصناعي الذي ملاكه الاتحاد وجودا (١) و التغاير مفهوما (٢).
و حينئذ، فإن صح الحمل علمنا أن المعنيين متحدان وجودا، سواء كانت النسبة التساوي أو العموم من وجه (٣) أو مطلقا، و لا يتعين واحد منها (٤) بمجرد صحة الحمل (٥)، و إن لم يصح الحمل و صح السلب علمنا أنهما (٦) متباينان.
٣- نجعل موضوع القضية أحد مصاديق المعنى المشكوك وضع اللفظ له لا نفس المعنى المذكور. ثم نجرب الحمل- و ينحصر الحمل في هذه التجربة بالحمل الشائع- فإن صح الحمل علم منه حال المصداق من جهة كونه أحد المصاديق الحقيقية لمعنى اللفظ الموضوع له، سواء كان ذلك المعنى نفس المعنى المذكور أو غيره المتحد معه وجودا (٧).
____________
(١) أي: مصداقا.
(٢) ففي قولنا: الإنسان ناطق لا يصح الحمل هنا بالحمل الأولي، باعتبار أن مفهوم الإنسان غير مفهوم الناطق، و الضابطة في الحمل الأولي هو: الاتحاد في المفهوم، فإذا لم يصح أن نحمله بالحمل الأولي نحمله بالحمل الشائع الذي ملاكه الاتحاد في المصداق، و الاختلاف في المفهوم، و في المثال:
فإن مصداق الناطق هو نفس الإنسان، و كذا العكس، فكل ناطق إنسان، و كل إنسان ناطق، فصحة الحمل هنا لا تثبت إلا الاتحاد، أي: بأن المعنيين متحدان مصداقا سواء كانت النسبة التساوي في مثل:
الإنسان ناطق، و كذا الضاحك، فإن كل إنسان ضاحك و كل ضاحك إنسان، أو العموم من وجه في مثل: الإنسان أبيض، فمادة الاجتماع في الإنسان الأبيض، و مادة افتراق الإنسان عن الأبيض في الكتاب الأسود، أو مطلقا في مثل: الإنسان حيوان، فإن النسبة بينهما خصوص و عموم مطلق، فكل إنسان حيوان، و ليس كل حيوان إنسان.
(٣) إنما يفرض العموم من وجه إذا كانت القضية مهملة. (المصنّف).
(٤) أي: و لا يتعين واحد من هذه النسب.
(٥) لأن الحمل الشائع الصناعي غاية ما يثبته لنا الاتحاد في المصداق، و أما إن المعنيين متحدان في جميع المصاديق أو بعضها على نحو المطلق أو العموم من وجه فهذا لا يفهم من نفس الحمل، و إنّما يفهم من قرائن خارجية.
(٦) أي: أن المعنيين.
(٧) مثلا: لو شككنا في أن لفظ الإنسان هل هو موضوع لمعنى الحيوان الناطق أم لا؟
هذه الطريقة تقول: نأخذ مصداقا من مصاديق المعنى المشكوك مثل: زيد، فنجعله موضوعا ثم نحمل
٨١
كما يستعلم منه حال الموضوع له في الجملة من جهة شموله لذلك المصداق. بل قد يستعلم منه تعيين الموضوع له. مثلما إذا كان الشك في وضعه لمعنى عام أو خاص، كلفظ (الصعيد) المردد بين أن يكون موضوعا لمطلق وجه الأرض أو لخصوص التراب الخالص، فإذا وجدنا صحة الحمل و عدم صحة السلب بالقياس إلى غير التراب الخالص من مصاديق الأرض يعلم بالقهر تعيين وضعه لعموم الأرض.
و إن لم يصح الحمل و صح السلب علم إنه ليس من أفراد الموضوع له و مصاديقه الحقيقية (١)، و إذا كان قد استعمل فيه اللفظ فالاستعمال يكون مجازا إما فيه رأسا أو في معنى يشمله و يعمه (٢).
تنبيه:
إن الدور الذي ذكر في التبادر يتوجه إشكاله هنا أيضا. و الجواب عنه نفس الجواب هناك، لأن صحة الحمل و صحة السلب إنما هما باعتبار ما للفظ من المعنى المرتكز إجمالا، فلا تتوقف العلامة إلا على العلم الارتكازي، و ما يتوقف على
____________
اللفظ (الإنسان) عليه، فنقول: زيد إنسان، فإذا صح الحمل علمنا بأنه متحد معه مصداقا سواء كان ذلك المعنى نفس المعنى المذكور أو غيره المتحد معه وجودا كما لو شككنا في أن لفظ الإنسان هل هو موضوع لمعنى الناطق أم لا.
فهنا كما هو المعروف نأخذ مصداقا من مصاديق المعنى المشكوك مثل زيد، و نجعله موضوعا، ثم نحمل لفظ الإنسان على زيد، فنقول: زيد إنسان. فالحمل هنا صحيح إلا أن معنى مفهوم الإنسانية غير معنى مفهوم الناطقية، و لكن يتحدان من حيث الوجود و المصداق، فإن كل إنسان ناطق، و كل ناطق إنسان.
و إذا لم يصح الحمل علمنا أن زيدا يباين معنى الإنسان.
(١) كما لو شككنا في أن الحجر هل موضوع للحيوان الناطق أم لا، حينئذ: نأخذ مصداقا من مصاديق المعنى المشكوك كزيد مثلا فنحمل عليها الحجر، فنقول: زيد حجر، فنجد إنه لا يصح، فنعلم إن زيدا ليس فردا من أفراد المعنى الموضوع له الحجر.
(٢) كما لو شككنا في لفظ الأسد هل هو موضوع للحيوان الناطق أم لا، فحينئذ نأخذ زيدا و نحمل عليه لفظ الأسد فنقول: زيد أسد، فنجد إنه لا يصح الحمل، فنعلم إن زيدا ليس من مصاديق معنى الأسد، و لكن يمكن أن يكون لفظ الأسد مستعملا في زيد على نحو المجاز، و يكون الاستعمال المجازي في زيد مباشرة من دون توسط معنى مجازي عام لكي يكون زيد فردا من المعنى المجازي العام، و تارة:
يكون اللفظ المستعمل مجازا مستعملا في معنى عام يشمل هذا الفرد فلا يكون الاستعمال المجازي رأسا بل بتوسط العنوان العام المجازي، مثلا: لو استعمل لفظ الأسد في معنى الإنسان مجازا فاستعمال الأسد في زيد استعمال غير مباشر و إنّما هو استعمال في معنى يشمله و يعمه.
٨٢
العلامة هو العلم التفصيلي.
هذا كله بالنسبة إلى العارف باللغة. و أما الجاهل بها فيرجع إلى أهلها في صحة الحمل و السلب و عدمهما كالتبادر.
(العلامة الثالثة- الاطراد) (١)
و ذكروا من جملة علامات الحقيقة و المجاز الاطراد و عدمه، فالاطراد علامة الحقيقة و عدمه المجاز.
و معنى الاطراد: إن اللفظ لا تختص صحة استعماله بالمعنى المشكوك بمقام دون مقام و لا بصورة دون صورة، كما لا يختص بمصداق دون مصداق.
و الصحيح إن الاطراد ليس علامة للحقيقة، لأن صحة استعمال اللفظ في معنى بما له من الخصوصيات مرة واحدة تستلزم صحته دائما، سواء كان حقيقة أم مجازا.
فالاطراد لا يختص بالحقيقة حتى يكون علامة لها (٢).
____________
العلامة الثالثة- الاطراد: (١) المقصود من الاطراد: هو صحة استعمال اللفظ المشكوك في جميع الحالات، و في جميع الصور و في جميع المصاديق، فإذا صح استعمال اللفظ في المعنى المشكوك في جميع الحالات صار اللفظ مطردا نحو: لفظ الأسد فإنه يطرد استعماله في المشكوك، و هو الحيوان المفترس في جميع الحالات، و لا يختص بمقام دون آخر، و لا بمصداق دون آخر بل يستعمل في الحيوان المفترس سواء كان قائما أو جالسا، أو غير ذلك من الحالات، كما و أنه يستعمل في جميع أفراد الأسد بلا فرق بينهما.
(٢) في مقام الرد على هذا الإشكال نقول: المقصود من شياع استعمال اللفظ في معنى معين لوجود علاقة و حيثية معينة، بمعنى: إذا استعمل اللفظ في مورد لحيثية معينة، و صح استعماله في مورد ثاني لنفس الحيثية المعينة، و كذلك صح استعماله في مورد ثالث و رابع و خامس لنفس الحيثية المعنية و هكذا ... هذا دليل على أن هذا اللفظ موضوع لتلك الحيثية، هذا هو المقصود من أن الاطراد علامة على الحقيقة.
- و مثال على ذلك: كلمة «الإنسان» يصح استعمالها في «زيد» لما ذا؟ لأنه حيوان ناطق، و يصح استعمالها في «عمر» لأنه حيوان ناطق، و يصح استعمالها في «خالد» لأنه حيوان ناطق، و يصح استعمالها في «إبراهيم» لأنه حيوان ناطق، و يصح استعمالها في «جعفر» لأنه حيوان ناطق. و هذا يدل على أن لفظ «الإنسان» موضوع «للحيوان الناطق» و هذا معنى: الاطراد علامة على الحقيقة.
- قد يوجه إشكال على هذا النوع من الاطراد و ذلك بوجوده في المجاز، فإن لفظ «الأسد» يصح استعماله في «الرجل الشجاع» لعلاقة الشجاعة. فهل على هذا تكون كلمة «الأسد» موضوعه حقيقة في «الرجل الشجاع».
٨٣
- أجاب الآخوند: صحيح أن كلمة «الأسد» استعمالها في «الرجل الشجاع» لعلاقة بينهما و هي علاقة خاصة، علاقة المشابهة في «الشجاعة»، و المطلوب أن تكون العلاقة بينهما علاقة نوعية لا خاصة، فاستعمال لفظ «الأسد» مثلا في «الرجل الشجاع» بعلاقة المشابهة بينهما و إن كان مطردا، إلا أن اطراده هذا إنما هو بملاحظة شخص هذه العلاقة أعني: علاقة المشابهة بينه و بين الرجل الشجاع بخصوصه، و لذا لا يحسن استعماله في «العصفور الشجاع» مع وجود الشجاعة. و هذا بخلاف الاطراد في الحقائق المقصودة في البحث، فإنه يكون بملاحظة أنواع العلائق من دون خصوصيته لمورد الاستعمال فيه، و لذا نرى أنّ لفظ «العالم» مثلا بلحاظ وضعه يصح و يطرد استعماله في كل من اتصف بالإدراك من دون خصوصيته لمن استعمل فيه، فيطرد استعماله في «زيد» و «عمر» و غيرهما من الذوات المتصفة بالإدراك، فيكون هذا كاشفا عن أنه حقيقة في هذا المعنى «أعني: الذات المتصفة بالإدراك»، فالاطراد علامة للحقيقة، و عدمه بالنسبة إلى نوع العلاقة علامة المجاز.
- «ثمّ أنه ربّما يتوهم: إنّه على فرض تمامية هذه العلامات (التبادر، و صحة السلب و عدمها، و الاطراد و عدمه) لا ثمرة لها إلا بناء على حجّية أصالة الحقيقة تعبدا.
بيان ذلك: أنّه لو استكشفنا أنّ لفظا بواسطة إحدى هذه العلامات حقيقة في المعنى الفلاني، و لكن ليس له ظهور فيه بواسطة احتفافه بما يصلح للقرينية على خلاف ذلك المعنى فلا فائدة في هذا الاستكشاف، إلا بناء على لزوم الأخذ بالمعنى الحقيقي عند الشك تعبدا، و لو لم يكن ظاهرا فيه.
و أما بناء على ما هو التحقيق من أنّ الأخذ دائر مدار وجود الظهور، و هو موضوع الحجّية، سواء كان مستندا إلى حاقّ اللفظ أو إلى القرينة، فكونه حقيقة فيه لا فائدة فيه.
و بعبارة أخرى: المدار على ظهور اللفظ في المعنى، سواء كان المعنى الظاهر حقيقيا أو مجازيا، فإذا أحرزنا الظهور أخذنا به و لا ننظر إلى أنّه معنى حقيقي أو مجازي، كما أنّه لو لم نحرز الظهور لم نأخذ به و لو كان معنى حقيقيا.
- و أنت خبير: بأنّ نفس كون اللفظ حقيقة في معنى؛ موجب لحصول الظهور في ذلك المعنى عند الشك في المراد، و عدم نصب قرينة على خلاف المعنى الحقيقي.
- و بعبارة أخرى: أصالة الحقيقة عبارة عن أنّ العقلاء لو شكّوا في أن مراد المتكلم هو المعنى الحقيقي أو المعنى المجازي حكموا بإرادة المعنى الحقيقي، ما لم تنصب قرينة على الخلاف، فيرون أن اللفظ ظاهر فيه.
و هذا الظهور لا يسلب عنه إلا بمجيء القرينة على الخلاف، و منشأ هذا الظهور بهذه الكيفية هو بناء العقلاء و أهل العرف على ذلك في محاوراتهم» (١).
- إذا: العلامة الثالثة- الاطراد: و هو لغة بمعنى: الشيوع، و اختلف في المقصود من الاطراد الذي هو علامة، فعند صاحب الكفاية: هو شيوع استعمال لفظ في معنى بملاحظة نوع العلاقة الرابطة بين
____________
(١) المصادر: ١- منتهى الأصول، ج ١، ص ٧٢ (بتصرف).
٢- تقريراتي لفضيلة الأستاذ الشيخ باقر الإيرواني لدروس الكفاية. (بتصرف).
٨٤
١٢- الأصول اللفظية (١)
تمهيد:
اعلم إن الشك في اللفظ على نحوين:
١- الشك في وضعه لمعنى من المعاني.
٢- الشك في المراد منه بعد فرض العلم بالوضع، كأن يشك في أن المتكلم أراد
____________
اللفظ و المعنى، فإن استعمال «الإنسان» في «الحيوان الناطق» لا يختص ببعض الأفراد دون بعض، بل كل معنى كان حاملا لنوع العلاقة و هي «الحيوانية الناطقية»، فهو «إنسان»، و يصح استعمال لفظة «إنسان» عليه «كزيد»، و «خالد» و «عمر» إلخ ...
بخلاف استعمال لفظ «الأسد» في «الرجل الشجاع»، فإنه ليس بملاحظة نوع العلاقة و هي «الشجاعة»؛ و إلّا لجاز استعمال لفظة «الأسد» في العصفور الشجاع، بل الملاحظ شخص العلامة و هو نوع «الشجاعة» الموجودة في «الإنسان» فقط.
فإذا اطرد استعمال لفظ في معنى بملاحظة نوع العلاقة فهو معنى حقيقي، و إذا كان بملاحظة شخص العلاقة فهو مجازي.
- رأي صاحب الفصول: إن الاطراد يكون علامة للحقيقة إذا كان على وجه الحقيقة أو بلا تأوّل. فإذا علمنا أن استعمال لفظ «أسد» في «الحيوان المفترس» باطراد كان على وجه الحقيقة أو بلا تأول- بمعنى: بذل العناية بتوسعة المعنى الحقيقي ليشتمل المعنى المجازي على نحو الحقيقة الادّعائية كما هو رأي السكاكي- حينئذ: يكون الاطراد علامة على كون «الحيوان المفترس» معنى حقيقي «للأسد»؛ و إلّا- أي: إذا لم نعلم- فلا يكون علامة.
الجواب: إذا قيّدنا الاطراد- الذي هو علامة- بكونه على وجه الحقيقة ... فهذا يستلزم اللغوية، بمعنى:
أنه إذا علمنا من الخارج أن استعمال لفظ «الأسد» في «الحيوان المفترس» كان على وجه الحقيقة فما الحاجة إذا لاستعلام ذلك من الاطراد؟ و هذا ليس إلا من باب تحصيل الحاصل، و مستلزم للدور لتوقف الاطراد حينئذ على معرفة المعنى الحقيقي، مع فرض توقف معرفة المعنى الحقيقي على الاطراد. و ينبغي أن نذكر هنا أنه لا يمكن التخلّص من محذور الدور هنا بما تخلّصنا به عن محذور الدور في التبادر و صحة الحمل، لانحصار الاطراد في العلم التفصيلي، و توقفه عليه، فلا يمكن استعمال لفظ في معنى مطردا إلا مع العلم التفصيلي بكون ذلك المعنى معنى حقيقيا، و لا يمكن الاطراد مع العلم الإجمالي و الارتكازي (١).
(١) الأصول اللفظية إنما سميت بذلك لكونها ترتبط بالألفاظ، أي: لأنها تعيّن لنا المعنى المراد من اللفظ عند الشّك، و في مقابل هذه الأصول: الأصول العملية.
____________
(١) المصادر: ١- تقريراتي لدروس فضيلة الأستاذ الشيخ باقر الإيرواني لدروس الكفاية. (بتصرف).
٢- منتهى الدراية في شرح الكفاية.
٨٥
بقوله: (رأيت أسدا) معناه الحقيقي أو معناه المجازي، مع العلم بوضع لفظ الأسد للحيوان المفترس و بأنه غير موضوع للرجل الشجاع.
أما (النحو الأول): فقد كان البحث السابق معقودا لأجله، لغرض بيان العلامات المثبتة للحقيقة أو المجاز، أي: المثبتة للوضع أو عدمه. و هنا نقول: إن الرجوع إلى تلك العلامات و أشباهها- كنصّ أهل اللغة- أمر لا بد منه في إثبات أوضاع اللغة أية لغة كانت، و لا يكفي في إثباتها أن نجد في كلام أهل تلك اللغة استعمال اللفظ في المعنى الذي شك في وضعه له، لأن الاستعمال كما يصح في المعنى الحقيقي يصح في المعنى المجازي، و ما يدرينا لعل المستعمل اعتمد على قرينة حالية أو مقالية في تفهيم المعنى المقصود له، فاستعمله فيه على سبيل المجاز. و لذا اشتهر في لسان المحققين حتى جعلوه كقاعدة قولهم: «إن الاستعمال أعم من الحقيقة و المجاز».
و من هنا نعلم بطلان طريقة العلماء السابقين لإثبات وضع اللفظ بمجرد وجدان استعماله في لسان العرب، كما وقع ذلك لعلم الهدى السيد المرتضى (قدس سره) فإنه كان يجري أصالة الحقيقة في الاستعمال، بينما أن أصالة الحقيقة إنما تجري عند الشك في المراد لا في الوضع، كما سيأتي.
و أما (النحو الثاني): فالمرجع فيه لإثبات مراد المتكلم الأصول اللفظية. و هذا البحث معقود لأجلها. فينبغي الكلام فيها من جهتين:
أولا- في ذكرها و في ذكر مواردها.
ثانيا- في حجيتها و مدرك حجيتها.
أما من (الجهة الأولى) فنقول: أهم الأصول اللفظية ما يأتي:
١- أصالة الحقيقة (١):
و موردها: ما إذا شك في إرادة المعنى الحقيقي أو المجازي من اللفظ بأن لم يعلم وجود القرينة على إرادة المجاز مع احتمال وجودها، فيقال حينئذ: (الأصل الحقيقة)، أي: الأصل أن نحمل الكلام على معناه الحقيقي، فيكون حجة فيه للمتكلم على
____________
(١) فائدة: لا يقال: أن أصالة الحقيقة تجري عند الشّك في الوضع، كما أنّها تجري عند الشّك في المراد. إذا: ما هو الدليل على جريانها عند الشّك في المراد دون الشّك في أصل الوضع؟
ج: الدليل على ذلك: هي السيرة العقلانية.
٨٦
السامع و حجة فيه للسامع على المتكلم، فلا يصح من السامع الاعتذار في مخالفة الحقيقة، بأن يقول للمتكلم: لعلك أردت المعنى المجازي، و لا يصح الاعتذار من المتكلم بأن يقول للسامع: إني أردت المعنى المجازي.
٢- أصالة العموم (١):
و موردها: ما إذا ورد لفظ عام و شك في إرادة العموم منه أو الخصوص، أي:
شك في تخصيصه، فيقال حينئذ: (الأصل العموم)، فيكون حجة في العموم على المتكلم أو السامع.
٣- أصالة الإطلاق (٢):
و موردها: ما إذا ورد لفظ مطلق له حالات و قيود يمكن إرادة بعضها منه، و شك في إرادة هذا البعض لاحتمال وجود القيد، فيقال: (الأصل الإطلاق)، فيكون حجة على السامع و المتكلم كقوله تعالى:
أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ
، فلو شك- مثلا- في البيع أنه هل يشترط في صحته أن ينشأ بألفاظ عربية، فإننا نتمسك بأصالة إطلاق البيع في الآية لنفي اعتبار هذا الشرط و التقييد به، فنحكم حينئذ: بجواز البيع بالألفاظ غير العربية.
٤- أصالة عدم التقدير:
و موردها: ما إذا احتمل التقدير في الكلام و ليس هناك دلالة (٣) على التقدير، فالأصل عدمه (٤).
و يلحق بأصالة عدم التقدير أصالة عدم النقل (٥) و أصالة عدم الاشتراك (٦).
____________
(١) و مثاله: ما إذا ورد لفظ عام نحو: أكرم العلماء، ثم حصل لنا شك في إنه لا يريد عموم العلماء لاحتمال وجود قرينة صارفة، ففي مثل هذه الحالة نجري أصالة العموم أي: بأن المراد بالإكرام عموم العلماء.
(٢) و مثاله: ما إذا ورد لفظ مطلق نحو: أعتق رقبة، و نشك في إرادة خصوص الإيمان، ففي مثل هذه الحالة نتمسك بالإطلاق لنفي قيد الإيمان.
(٣) أي: قرينة.
(٤) الأصل عدم التقدير.
(٥) فعند ما نحتمل أن هذا اللفظ نقل إلى معنى ثان، فالأصل عدم النقل كما إذا احتمل نقل لفظ الحج من معنى القصد إلى معنى ثان، و هو الأفعال و الأركان المخصوصة. فالأصل عدم النقل، و إذا ثبت ذلك تعين مراد المتكلم، و هو كونه يريد المعنى الثّابت.
(٦) فعند ما نعلم بأن هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى، و شككنا في أنه هل هو موضوع لمعنى ثان أيضا
٨٧
و موردهما ما إذا احتمل معنى ثان موضوع له اللفظ، فإن كان هذا الاحتمال مع فرض هجر المعنى الأول- و هو المسمى بالمنقول- فالأصل (عدم النقل)، و إن كان مع عدم هذا الفرض- و هو المسمى بالمشترك- فإن الأصل (عدم الاشتراك)، فيحمل اللفظ في كل منهما على إرادة المعنى الأول ما لم يثبت النقل و الاشتراك. أما إذا ثبت النقل فإنه يحمل على المعنى الثاني (١)، و إذا ثبت الاشتراك فإن اللفظ يبقى مجملا لا يتعين في أحد المعنيين إلا بقرينة على القاعدة المعروفة في كل مشترك (٢).
____________
أم لا، هنا نتمسك بأصالة عدم الاشتراك، و إذا تمسكنا بأصالة عدم الاشتراك يتعين لنا مراد المتكلم، و هو خصوص المعنى الأوّل.
(١) لأن المعنى الأوّل قد هجر فلا معنى لأن نحمل مراد المتكلم عليه.
(٢) الألفاظ المتداولة في المحاورات لها حالات خمس و هي:
١- الحقيقة
٢- المجاز
٣- الاشتراك
٤- النقل
٥- الإضمار
إن أطلق اللفظ و علم الحال و المراد منه و لو من القرائن- مقالية أو حالية- وجب اتباعه، و إلا فتصل النوبة إلى الأصول العقلائية المتداولة بينهم في محاوراتهم، كأصالة عدم القرينة فيحكم بالحقيقة، و أصالة الإطلاق و العموم التي ترجع إلى عدم القرينة فيحكم بالحقيقة، و أصالة الإطلاق و العموم التي ترجع إلى عدم القرينة أيضا، و كأصالة عدم النقل و أصالة عدم الوضع ثانيا، فيحكم بعدم الاشتراك.
و مع عدم جريان مثل هذه الأصول يحكم عليه بالإجمال، سواء جرى الأصل و سقط بالتعارض، أم لم يجر لاختلال أركانه، و أما الاستحسانات التي تذكر لتعيين حال اللفظ عند التعارض، فمقتضى الأصل: عدم الاعتبار بها ما لم يوجب الظهور كما ذكره المحقق صاحب الكفاية في كفايته. لأن المتبع في باب الألفاظ: الظهورات العرفية التي قد جرت على متابعتها السيرة العقلانية في مسألة الاحتجاج و اللجاج، دون الاستحسانات العقلية، و الأمور الظنية، إذ لم يترتب عليها أي أثر شرعي إلا إذا كانت موجبة للظهور العرفي، كما ذكرت ... فحينئذ: العمل بالظهور، لا بها كما لا يخفى، فلا وجه لإطالة الكلام في ذلك أصلا.
ثم هناك بحث في بيان المراد من دوران الأمر بين الإضمار و الاشتراك و النقل و التخصيص من بعد أن ذكرنا دوران الأمر ما بين الحقيقة و المجاز. و قلنا: أن نحمله على الحقيقة لأصالة الحقيقة و هنا نحتاج إلى توضيح بقية المصطلحات، و لأجل التوضيح نذكر أولا: إذا دار الأمر بين المعنى الحقيقي و بين الاشتراك؟ بمعنى: إذا كان للفظ معنى حقيقي و لكن احتمل أنه وضع لمعنى ثاني، هنا نحمله على أي منهما؟ هل نقول: إنه
٨٨
٥- أصالة الظهور:
و موردها: ما إذا كان اللفظ ظاهرا في معنى خاص لا على وجه النص فيه الذي لا يحتمل معه الخلاف، بل كان يحتمل إرادة خلاف الظاهر، فإن الأصل حينئذ: أن يحمل الكلام على الظاهر فيه.
و في الحقيقة (١): إن جميع الأصول المتقدمة راجعة إلى هذا الأصل، لأن اللفظ مع احتمال المجاز- مثلا- ظاهر في الحقيقة، و مع احتمال التخصيص ظاهر في العموم، و مع احتمال التقييد ظاهر في الإطلاق، و مع احتمال التقدير ظاهر في
____________
مشترك و قد أريد به المعنى الثاني؟ أو نحمله على المعنى الحقيقي؟
الجواب: يحمل اللفظ على معناه الحقيقي؛ لأن الاشتراك ليس ثابت و لأن الاشتراك مجرد احتمال.
ثانيا: إذا دار الأمر بين المعنى الحقيقي و بين النقل على أي منهما نحمله؟ مثاله: كلمة الصلاة لها معنى حقيقي و هو «الدعاء»، و يحتمل أنها نقلت إلى معنى ثاني مع هجران المعنى الأول، هنا نحمل اللفظ «الصلاة» على أيهما؟ نحمله على المعنى الحقيقي لأن النقل مجرد احتمال يحتاج في ثبوته إلى قرينة، و لا قرينة في المقام.
ثالثا: إذا دار الأمر بين المعنى الحقيقي و بين التخصيص مثاله: أكرم العلماء فإن المعنى الحقيقي هو العموم، و لكن يحتمل أن يكون مراده خصوص العدول، هنا نحمله على أي واحد منهما، هل نحمله على العموم و هو المعنى الحقيقي، أو نحمله على المعنى الخاص و هو العدول؟
الجواب: نحمله على المعنى الحقيقي إذ المعنى الخاص يحتاج إلى قرينة و لا قرينة في المقام.
رابعا: إذا دار الأمر بين المعنى الحقيقي و بين المعنى المضمر و مثاله: إذا قيل لي: أكرم زيدا، هنا يدور الأمر ما بين إكرام نفس زيد، أو أن مقصوده من إكرام زيد هو ابن زيد فعلى أي واحد منهما نحمل اللفظ عليه؟
الجواب: نحمل اللفظ على المعنى الحقيقي و هو نفس زيد.
و من هنا نعرف أن الألفاظ في حالة دورانها في هذه الموارد تحمل على المعنى الحقيقي كما تم بيانه (١).
(١) هنا إشارة إلى نزاع وقع بينهم، و هو هل أن هذه الأصول اللفظية كلها ترجع إلى أصل واحد، أم كل أصل بمفرده مستقل؟ قال الشّيخ المظفر: هي في الحقيقة راجعة إلى أصل واحد، و هو أصالة الظهور. فمثلا: عند ما نشك في مراد المتكلم هل هو يريد المعنى الحقيقي أم المجازي؛ فمقتضى أصالة الظهور هو المعنى الحقيقي، و عليه: فقس.
____________
(١) راجع: محاضرات في أصول الفقه، ج ١، ص ١٢٥/ تهذيب الأصول، ج ١، ص ٢٣/ منتهى الأصول، ج ١، ص ٧٤ (بتصرف).
٨٩
عدمه. فمؤدى أصالة الحقيقة نفس مؤدى أصالة الظهور في مورد احتمال المجاز ...
و هكذا في باقي الأصول المذكورة.
فلو عبرنا بدلا عن كل من هذه الأصول بأصالة الظهور كان التعبير صحيحا مؤديا للغرض، بل كلها يرجع اعتبارها إلى اعتبار أصالة الظهور، فليس عندنا في الحقيقة إلّا أصل واحد هو أصالة الظهور، و لذا لو كان الكلام ظاهرا في المجاز و احتمل إرادة الحقيقة انعكس الأمر، و كان الأصل من اللفظ المجاز، بمعنى: أن الأصل الظهور، و مقتضاه الحمل على المعنى المجازي، و لا تجري أصالة الحقيقة حينئذ.
و هكذا لو كان الكلام ظاهرا في التخصيص (١) أو التقييد (٢).
حجية الأصول اللفظية:
و هي الجهة الثانية من البحث عن الأصول اللفظية، و البحث عنها يأتي في بابه و هو باب مباحث الحجة. و لكن ينبغي الآن أن نتعجل في البحث عنها لكثرة الحاجة إليها، مكتفين بالإشارة فنقول:
إن المدرك و الدليل في جميع الأصول اللفظية واحد؛ و هو تباني العقلاء في الخطابات الجارية بينهم على الأخذ بظهور الكلام و عدم الاعتناء باحتمال إرادة خلاف الظاهر، كما لا يعتنون باحتمال الغفلة أو الخطأ أو الهزل أو إرادة الإهمال و الإجمال، فإذا احتمل الكلام المجاز أو التخصيص أو التقييد أو التقدير لا يوقفهم ذلك عن الأخذ بظاهره، كما يلغون أيضا احتمال الاشتراك و النقل و نحوهما.
و لا بدّ أن الشارع قد أمضى هذا البناء و جرى في خطاباته على طريقتهم هذه، و إلّا لزجرنا و نهانا عن هذا البناء في خصوص خطاباته، أو لبين لنا طريقته لو كان له غير طريقتهم طريقة خاصة يجب اتباعها و لا يجوز التعدي عنها إلى غيرها. فيعلم من ذلك على سبيل الجزم: أن الظاهر حجة عنده كما هو عند العقلاء بلا فرق.
____________
(١) أي: إذا كان الكلام ظاهرا في التخصيص، و احتمل إرادة العموم لانعكس الأمر، و كان الأصل من اللفظ التخصيص، و مقتضاه: الحمل على التخصيص، و لا تجري أصالة العموم.
(٢) أي: إذا كان الكلام ظاهرا في التقييد، و احتمل إرادة الإطلاق لانعكس الأمر، و كان الأصل من اللفظ التقييد، و لا تجري أصالة الإطلاق.
٩٠
١٣- الترادف و الاشتراك (١)
لا ينبغي الإشكال في إمكان الترادف و الاشتراك، بل في وقوعهما في اللغة العربية، فلا يصغى إلى مقالة من أنكرهما. و هذه بين أيدينا اللغة العربية و وقوعهما فيها واضح لا يحتاج إلى بيان.
____________
الترادف و الاشتراك: (١) اختلف العلماء في وقوع الاشتراك اللفظي على أقوال:
١- أنه ممكن مطلقا- في القرآن و في غيره- و هو الصحيح.
٢- أنه مستحيل مطلقا.
٣- التفصيل بين القرآن و غيره فمستحيل في الأول دون الثاني.
٤- أنه واجب و ضروري الوقوع.
أدلة إمكان وقوع الاشتراك اللفظي مطلقا: ١- النقل: فإن أهل اللغة نقلوا لنا وقوع الاشتراك في جملة من الألفاظ- كعين.
٢- التبادر: أي: انسباق المعاني المتعددة من اللفظ، و عدم تعين المراد إلّا بقرينة.
٣- عدم صحة السلب عن كلا المعنيين و المعاني، فلا يمكن أن نقول: الذهب ليس بعين أو الناظرة ليس بعين، و من الواضح: أن التبادر و عدم صحة السلب علامة على الحقيقة و الوضع.
دليل من قال باستحالة الاشتراك اللفظي مطلقا: هو أن الاشتراك من هذا القسم ينافي حكمة الوضع، و هي التفهيم، فإنها لا تحصل مع إجمال المعنى المراد، و اختفاء القرائن الدالة عليه.
جواب هذا الدليل بوجهين: الأول: أن الدليل أخص من المدعى في قوله: «اختفاء القرائن»، و ذلك لإمكان الاعتماد على القرائن الواضحة لتعيين المعنى المراد من اللفظ المشترك، فلا يلزم المنافاة لحكمة الوضع.
الثاني: إنا نمنع انحصار الحكمة من الوضع في التفهيم، بل قد يتعلق الفرض بالإجمال، فلو أجمل لم يكن مخلا بالحكمة، لوجودها في نفس الإجمال.
دليل من قال بالتفصيل بين القرآن و غيره: هو أن استعمال المشترك في القرآن مستحيل لاستلزامه أحد محذورين:
١- التطويل بلا طائل.
٢- الإخلال بالغرض، و كلاهما مستحيل على الله «عزّ و جل»، و ذلك لأنه إن استعمل المشترك مع الاعتماد على القرينة استلزم التطويل بلا طائل؛ و ذلك لإمكان استعمال الألفاظ المختصة بمعانيها بلا حاجة إلى قرائن. و إن استعمل المشترك بلا اعتماد على القرينة: استلزم الإخلال بالغرض من الواضع و هو التفهيم، حيث يلزم إجمال المعنى المراد.
جواب القول بالتفصيل: إن استعمال المشترك في القرآن لا يلزم منه كلا المحذورين.
٩١
و لكن ينبغي أن نتكلم في نشأتهما، فإنه يجوز أن يكونا من وضع واضع واحد بأن يضع شخص واحد لفظين لمعنى واحد أو لفظا لمعنيين، و يجوز أن يكونا من وضع واضعين متعددين، فتضع قبيلة- مثلا- لفظا لمعنى و قبيلة أخرى لفظا آخر
____________
أما التطويل بلا طائل: فلأننا نمنع تحققه عند استعمال المشترك و نصب القرينة. فضلا عن أن الكلام مع الحبيب يقتضي التطويل فلا يكون بلا طائل.
و إما الإخلال بالغرض: فلأنه لا يلزم منه الإجمال، و ذلك لما قلنا: من أنه يمكن تعلّق الغرض بإيراد اللفظ مجملا، فيكون لائقا به سبحانه، كيف؟ و قد صرّح سبحانه و تعالى في القرآن الكريم بوجود المتشابه فيه، و هو المجمل المعنى، فقوله تعالى: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ إن وقوع الشيء أول دليل على إمكانه.
دليل من قال بلزوم الاشتراك: و هو يتركب من مقدمتين:
الأولى: إن الألفاظ متناهية لتركبها من الحروف الهجائية المتناهية، و المركب من المتناهي متناهي.
الثانية: إن المعاني غير متناهية، و من المعلوم: إن المتناهي لا يفنى بغير المتناهي، فلا بدّ من وضع اللفظ لعدة معاني و الاشتراك اللفظي لنفي الألفاظ بالمعاني.
جواب دليل اللزوم: بأربعة أوجه: الأول: أنا نمنع عدم تناهي المعاني، و ذلك لأنه لو كانت المعاني غير متناهية لاقتضت وضعا غير متناهي، مع أن الوضع متناهي فلا بدّ من أن تكون المعاني أيضا متناهية، فلا حاجة إلى الاشتراك اللفظي.
الثاني: أنا لو سلّمنا إمكان الاشتراك في المعانى الغير متناهية، و وضع اللفظ لها بوجه لكن نقول: إن هذا غير ممكن أيضا لمحذور لأنا نقول: إن الواضع إما أن يدعى أنه هو الله «سبحانه و تعالى». و هو قادر على الإحاطة بغير المتناهي فيضع الألفاظ للمعاني الغير متناهية، لكن نقول: إن استعمالات البشر للألفاظ متناهية أيضا، فلا بدّ من أن تكون المعاني التي يستعمل البشر فيها الألفاظ متناهية فيكون الوضع الزائد عن حاجة البشر لغوا، و هو محال على الله تعالى. و إما أن يدعى أن الواضع هو غير الله فنقول أيضا: هنا يلزم محذور و هو انتفاء الغرض من وضع الألفاظ المخالف لحكمة الوضع. فلا فائدة من وضع الألفاظ لمعاني لا يحتاج البشر لتفهمها و تفهيمها.
الثالث: إن المعاني الغير متناهية هي المعاني الجزئية، و يمكن الاستغناء عن الوضع للمعاني الجزئية بالوضع للمعاني الكلية، فلا داعي للاشتراك اللفظي ما دام يمكن الاشتراك المعنوي.
الرابع: إن باب التفهيم و التفهم ليس منحصرا بالاستعمال الحقيقي، بل يمكن الإفهام بالاستعمال المجازي؛ لأن باب المجاز واسع، فلا داعي للاشتراك و تكرر الوضع (١).
____________
(١) المصادر: ١- تقريراتي لدرس الكفاية لفضيلة الشيخ باقر الإيرواني. (بتصرف).
٢- محاضرات في أصول الفقه، ج ١، ص ١٩٨- ٢٠٢.
٣- منتهى الدراية في شرح الكفاية، ج ١، ص ١٦٩- ١٧٦.
٩٢
لذلك المعنى. أو تضع قبيلة لفظا لمعنى و قبيلة أخرى ذلك اللفظ لمعنى آخر، و عند الجمع بين هذه اللغات باعتبار أن كل لغة منها لغة عربية صحيحة يجب اتباعها يحصل الترادف و الاشتراك.
و الظاهر أن الاحتمال الثاني أقرب إلى واقع اللغة العربية كما صرح به بعض المؤرخين للغة، و على الأقل فهو الأغلب في نشأة الترادف و الاشتراك و لذا نسمع علماء العربية يقولون: لغة الحجاز كذا و لغة حمير كذا و لغة تميم كذا ... و هكذا.
فهذا دليل على تعدد الوضع بتعدد القبائل و الأقوام و الأقطار في الجملة. و لا تهمنا الإطالة في ذلك.
استعمال اللفظ في أكثر من معنى (١):
و لا شك في جواز استعمال اللفظ المشترك في أحد معانيه بمعونة القرينة
____________
(١) اللفظ تارة: يكون له معنى واحد، فيجوز استعماله في معناه بلا نقاش و أخرى: لا. فنقول: و كذا لا نقاش في جواز استعمال المشترك في أحد معانيه منفردا من دون استعمال في المعاني الأخرى، و أما استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى على سبيل الانفراد و الاستقلال، بأن يراد من اللفظ كل واحد من المعاني؛ كما لو استعمل في أحدها مستقلا فقد اختلفوا في جوازه على أقوال، أظهرها عدم جواز ذلك مطلقا، و الدليل هو الامتناع العقلي.
دليل المنع من استعمال اللفظ في أكثر من معنى: هو أن استعمال اللفظ في معناه يعني: ملاحظته فانيا فيه، و هذه هي علة سريان الحسن و القبح من المعنى إلى اللفظ فانيا فيه، و ليس الاستعمال هو مجرد جعل اللفظ علامة على المعنى و وجها و عنوانا له.
إذا اتضح ذلك و أن الاستعمال هو فناء في المعنى يتبين: وجه المنع من استعمال اللفظ في أكثر من معنى، فلا يجوز أن تجعل اللفظ عنوانا لمعنيين بل لمعنى واحد، و ذلك لأن جعله عنوانا لمعنى يستتبع ملاحظته فانيا فيه، فلا يمكن ملاحظته فانيا في معنى آخر بإرادة أخرى في استعمال واحد، نعم يجوز ذلك في الاستعمالين، فالمستعمل لا يمكن أن يلاحظ اللفظ فانيا في معنيين على نحو الاستعمال في استعمال واحد؛ إلا مع فرض كون اللاحظ أحول العينين.
هل يختلف الحكم بين المفرد و المثنى و الجمع؟ إذا ثبت المنع عن استعمال اللفظ المفرد في أكثر من معنى- و ذلك لأن علامة التثنية و الجمع لا تدل إلّا على مجرد تكرار ما أريد من المفرد- فلا يمكن إرادة معنيين أو أكثر في التثنية و الجمع.
هل يختلف الحكم بين المجاز و الحقيقة: إذا ثبت المنع من استعمال اللفظ حقيقة في أكثر من معنى للعلة السابقة، ثبت أيضا لنفس العلة المنع عن الاستعمال المجازي مع إرادة معنيين على نحو الاستقلال.
ذكر أدلة أخرى على المنع من استعمال اللفظ في أكثر من معنى: لو لا امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى عقلا فلا وجه لعدم جوازه، و لكن ذكر بعضهم وجوها
٩٣
غير الامتناع العقلي سيظهر لك عدم صحتها.
الدليل الأول: ذكر صاحب المعالم- في وجه المنع عن استعمال اللفظ في أكثر من معنى- أن اللفظ وضع للمعنى مقيدا بالوحدة، فاستعماله في أكثر من معنى يكون استعمالا مجازيا بسبب إلغاء قيد الوحدة.
و جواب هذا الدليل: إنه لا يوجد دليل على اعتبار قيد الوحدة في المعنى الموضوع له اللفظ. بل يوجد هناك محذور لتقييد المعنى بقيد الوحدة، و هو ما تقدم من امتناع دخل اللحاظ الناشئ من الاستعمال في الموضوع له.
الدليل الثاني: ذكر صاحب القوانين: أن وجه المنع من استعمال اللفظ في أكثر من معنى هو: أن الوضع حصل في حال وحدة المعنى، و لما كانت اللغات توقيفية لزم الحفاظ عند الاستعمال على جميع ما اعتبر في الوضع حتى الظرف و الحال التي حصل فيها الوضع، فيثبت حينئذ: عدم جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى لما ذكرنا.
جواب هذا الدليل: إن الحال التي حصل فيها الوضع و إن كانت هي وحدة المعنى؛ إلا إن ذلك لا يستلزم عدم جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى؛ ما لم يكن الحال و القيد دخيلا في الوضع أو المعنى الموضوع له، و لا يمكن إثبات كون قيد الوحدة كذلك، أما عدم كونه دخيلا في الوضع: فلأنه يستلزم الدور، و ذلك لأنه لو جعل استعمال اللفظ في المعنى المقيد بالوحدة دخيلا في الوضع للزم توقف الوضع على الاستعمال في المعنى كذلك، مع أن المفروض: هو العكس أي: توقف الاستعمال على الوضع. و أما عدم كونه دخيلا في المعنى الموضوع له: فلما ذكرنا سابقا في جواب الدليل الأول فراجع. هذا و يلزم أيضا وجوب مراعاة سائر الحالات المقارنة للوضع؛ كوقوعه في الليل أو النهار، و في الصيف أو الشتاء، و لا خصوصية لقيد الوحدة المقارن للوضع.
رأي صاحب المعالم في التفصيل بين المفرد و المثنى و الجمع: قد تقدم أننا نمنع استعمال اللفظ في أكثر من معنى مطلقا، و نقصد بالإطلاق هو: إننا لا نفرق بين حالة في المنع عن استعمال اللفظ في أكثر من معنى، فلا فرق بين المفرد و المثنى و الجمع. فكما لا يجوز أن نقول: «جئني بعين» و نريد منها الناظرة و النابعة إلخ ... كذلك لا يجوز أن نقول: «جئني بعين» و تريد الناظرة و النابعة» ... الخ، و كذلك لا يجوز أن نقول: «جئني بعيون و تريد بالجمع هو الناظرة و النابعة و الركبة مثلا» ... الخ. و عللنا ذلك بما حاصله: إن علامة التثنية، و علامة الجمع، لا تدل إلّا على مجرد تكرار ما أريد من المفرد، فكما لا يمكن استعمال المفرد في أكثر من معنى لو كان مجردا عن أداة التثنية و الجمع، كذلك لا يجوز فيه ذلك مع اقترانه بأحدهما و دليلنا في المنع واحد، و هو الامتناع العقلي، و لكن نقول: لو تنزلنا عن الامتناع العقلي الناشئ من اجتماع اللحاظين المتضادين في استعمال واحد، و قلنا بإمكان الاستعمال في أكثر من معنى، نقول: لا وجه لتفصيل صاحب المعالم الذي ادّعى الجواز على نحو الحقيقة في المثنى، و الجمع، و الجواز على نحو المجاز في المفرد.
دليل صاحب المعالم في التفصيل: قد تقدم أن صاحب المعالم يرى أن الألفاظ وضعت لمعانيها بقيد الوحدة، فعند ما نستعمل اللفظ المفرد في أكثر من معنى يكون استعمالا مجازيا و في غير ما وضع له،
٩٤
بسبب إلغاء قيد الوحدة حينئذ، و العلاقة المجوزة للاستعمال هنا هي علاقة الكل و الجزء، فالمفرد وضع للمعنى بقيد الوحدة، و هذا هو الكل، أي: المعنى الموضوع له اللفظ مركب من جزءين هما:
١- المعنى.
٢- تقيده بالوحدة.
فعند ما يستعمل المفرد في أكثر من معنى، فقد استعمل في جزء المعنى دون جزئه الآخر و هو تقيده بالوحدة.
و هذا بخلاف المثنى و الجمع، فإنهما عنده بمنزلة تكرار اللفظ الواحد، و لا مانع من استعمال أحد اللفظين أو الألفاظ في معنى أو معاني غير ما استعمل فيه اللفظ و الآخر أو الألفاظ الأخرى.
فيكون استعمال المثنى و الجمع في أكثر من معنى على نحو الحقيقة؛ لأن قولي: «جئني بعينين» في قوة قولي: «جئني بعين و بعين»، و لا شك: في جواز استعمال اللفظ الأول على نحو الحقيقة في معنى غير المعنى الذي استعمل فيه اللفظ الثاني، و كذا قولي: «جئني بعيون» فإنه في قوة قولي: «جئني بعين، و بعين، و بعين».
جواب دليل صاحب المعالم: بوجهين: الوجه الأول: أنا نمنع اعتبار قيد الوحدة في المعنى الموضوع له اللفظ، بل الألفاظ موضوعه لذوات المعاني بلا قيد الوحدة و ملاحظتها، فالدعوى بلا دليل.
الوجه الثاني: لو سلمنا اعتبار قيد الوحدة في المعنى الموضوع له اللفظ، و لكن نمنع من جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى و لو مجازا، و ذلك لعدم تحقق علاقة المجاز، و ما زعمه من تحقق علقة الكل و الجزء فاسد؛ و ذلك لأن استعمال اللفظ في أكثر من معنى ليس استعمالا في جزء المعنى، بل هو استعمال اللفظ فيما باين المعنى الحقيقي، و ذلك لوضوح مباينة المشروط بشيء للمشروط بلا. فالمعنى الحقيقي هو المشروط بشيء و هو الوحدة، و ما أريد استعمال اللفظ فيه- و هو الأكثر من معنى- مشروط بلا أي: بعدم الوحدة، و من الواضح: تباين المشروط بشيء للمشروط بلا، فيكف ادعى أن بينهما علاقة الكل و الجزء؟ هذا في المفرد.
و أما المثنى و الجمع: فنمنع من جواز استعمالهما في أكثر من معنى على نحو الحقيقة، و ذلك لأن الظاهر من المثنى و الجمع هو تكرار ما أريد في المفرد من معنى، لا تكرار اللفظ كما ادّعاه هو، أي:
عند ما يقال: «جئني بعينين» الظاهر منها هو: «جئني بعينين نابعتين أو ناظرتين» ... إلخ. لا إنه يريد بأحدهما النابعة و بالأخرى الناظرة، بل يريد معنى و حقيقة واحدة، و لكن فردان من تلك الحقيقة.
- فإن قلت: يلزم مثل ذلك في تثنية الأعلام و جمعها، فإذا قلت: «جئني بزيدين أو زيود» يلزم أن يراد:
جئني بفردين من معنى و حقيقة واحدة أو جئني بأفراد من معنى واحد، فيلزم عدم جواز تثنية الأعلام و جمعها لهذا المحذور، مع وضوح جوازهما، و هذا دليل على أن المراد من المثنى و الجمع هو طلب فردين مختلفين في المعنى و الحقيقة، أو أفراد كذلك.
- قلت: نعم يلزم من تثنية الأعلام و جمعها ذلك، إلّا أنه يمكن تأويلها بمعنى واحد قابل للتعدد و هو المسمى «بزيد مثلا»، فعند ما أقول: «جئني بزيدين» فالمراد: «جئني بفردين من المسمى بزيد» لا بمعنيين متباينين، ليدل على جواز الاستعمال في أكثر من معنى.
٩٥
هذا فضلا على أنه لو جاز تثنية «العين الباصرة» و «و العين النابعة» بقولنا: «جئني بعينين» لم يدل هذا على جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى، بل هما كتثنية «القمرين، الشمس و القمر». أي: لا تدل التثنية إلا على تعدد المعنى بتكرار اللفظ، و إرادة فردين من معنيين مختلفين، فهو استعمال للمفرد الأول لوحده في معناه، و استعمال للمفرد الثاني لوحده في معناه الآخر، فكأنني قلت: «جئني بعين و عين» باستعمال الأولى في «الباصرة» و الثانية في «النابعة».
نعم: يمكن تصور صدره قد استعمل فيها اللفظ في أكثر من معنى و هي فيما لو قال: «جئني بعينين» و أراد جئني بفردين من الباصرة و بفردين من النابعة، فقد استعملت العينان حينئذ في معنيين مجازا.
و هنا لا يجدي قول صاحب المعالم في أن التثنية بمنزلة تكرار اللفظ فيكون استعمالا حقيقيا، لتعيّن إلغاء قيد الوحدة في مثل هذا الاستعمال، و ذلك لأن المثنى عند صاحب المعالم هو: ما أريد منه فردان من معنيين، مع تقيد كل من المعنيين بقيد الوحدة أو فردان من معنى واحد مع تقيد كل من الفردين بقيد الوحدة أيضا، فمعنى: «جئني بعينين» عنده إما جئني بعين جارية واحدة، و بعين باصرة واحدة، و إما بمعنى: جئني بعين جارية واحدة و بعين جارية أخرى واحدة، فاستعمال العينيين في أربعة أفراد فردين من معنى، و فردين من معنى آخر مجازي لإلغاء قيد الوحدة حينئذ.
- قد يقال: إذا كان المفرد و أيضا المثنى و الجمع، أخذ في الجمع قيد الوحدة في المعنى، فما الفرق حينئذ بين المفرد، و المثنى و الجمع؟
- الجواب: الفرق واضح، و هو أن المراد من المفرد: هو الطبيعة الواحدة المقيدة بكونها في فرد واحد، و المراد من المثنى: هو أيضا إما الطبيعة الواحدة المقيدة بكونها في فردين كل منهما مقيد بقيد الوحدة، و إما الطبيعتين المقيدتين كل منهما بكونهما في فردين من كل منهما فقط لا أكثر. و المراد من الجمع:
هو إما الطبيعة الواحدة المقيدة بكونها في أكثر من فردين كل منهما مقيد بقيد الوحدة. و إما الطبائع المقيدة كل منهما بكونها في فردين من كل منهما.
وهم: إننا يمكن أن نثبت وقوع الاشتراك في ألفاظ القرآن فيها، بأخبار مفادها أن للقرآن بطونا سبعة أو سبعين، و الوقوع أدل دليل على الجواز.
دفع: إن كون القرآن له بطون لا يدل على استعمال ألفاظ القرآن فيها، و أنها مرادة على نحو استعمل اللفظ فيها، بل يمكن توجيهها بأحد وجهين.
الوجه الأول: إمكان أن تكون البطون مرادة بالاستقلال من دون دلالة للألفاظ عليها، و لكنها أريدت مقارنة لاستعمال الألفاظ في معانيها، فالألفاظ لم تدل على تلك المعاني حتى الدلالة الالتزامية.
الوجه الثاني: إمكان أن تكون البطون مرادة بالتبع، على نحو تدل الألفاظ عليها بالدلالة الالتزامية؛ و إن كانت أفهامنا قاصرة عن إدراك لوازم الألفاظ جميعها (١).
____________
(١) المصادر: ١- محاضرات في أصول الفقه، ج ١، ص ٢٠٥- ٢١٣.
٢- تقريراتي لدرس الكفاية لفضيلة الشيخ باقر الإيرواني (بتصرف).
٣- منتهى الدراية في شرح الكفاية، ج ١، ص ١٧٦- ١٩٤.
٤- منتهى الأصول، ج ١، ص ١١٣- ١١٦.
٩٦
المعينة (١)، و على تقدير عدم القرينة يكون اللفظ مجملا لا دلالة له على أحد معانيه.
كما لا شبهة في جواز استعماله (٢) في مجموع معانيه (٣) بما هو مجموع المعاني، غاية الأمر: يكون هذا الاستعمال مجازا (٤) يحتاج إلى القرينة، لأنه استعمال للفظ في غير ما وضع له.
و إنما وقع البحث و الخلاف في جواز إرادة أكثر من معنى واحد من المشترك في استعمال واحد، على أن يكون كل من المعاني مرادا من اللفظ على حدة، و كأن اللفظ قد جعل للدلالة عليه وحده. و للعلماء في ذلك أقوال و تفصيلات كثيرة لا يهمنا الآن التعرض لها. و إنما الحق عندنا عدم جواز مثل هذا الاستعمال.
(الدليل): إن استعمال أي لفظ في معنى إنما هو بمعنى إيجاد ذلك المعنى باللفظ، لكن لا بوجوده الحقيقي، بل بوجوده الجعلي التنزيلي، لأن وجود اللفظ وجود للمعنى تنزيلا. فهو (٥) وجود واحد ينسب إلى اللفظ حقيقة (٦) أولا و بالذات، و إلى المعنى تنزيلا ثانيا و بالعرض (٧)، فإذا أوجد المتكلم اللفظ لأجل استعماله في المعنى؛ فكأنما أوجد المعنى و ألقاه بنفسه إلى المخاطب. فلذلك يكون اللفظ ملحوظا للمتكلم بل للسامع آلة و طريقا للمعنى و فانيا (٨) فيه و تبعا للحاظه، و الملحوظ بالأصالة و الاستقلال هو المعنى نفسه (٩).
____________
(١) في مقابل القرينة الصارفة، و هي صرف المعنى الحقيقي إلى المجازي.
(٢) المشترك.
(٣) كما إذا استعملت لفظ العين في الركبة، و الجاسوس، و الوسط بما هي شيء واحد.
(٤) لأن لفظ العين ليس موضوعا لمجموع المعاني بما هي مجموع أي: بما هي شيء واحد، بل لفظ العين موضوع لكل معنى من معانيه على نحو الاستقلال.
(٥) أي: استعمال اللفظ في المعنى.
(٦) فحينما أقول: أسد فإني أوجدت لفظ الأسد أوّلا و بالذات، و إلى معنى الأسد (الحيوان المفترس) تنزيلا ثانيا و بالعرض، كما هو مثل راكب السفينة المتحركة في البحر، فإن الحركة تنسب حقيقة إلى السفينة أوّلا و بالذات، و حركة الشخص الرّاكب السفينة تنسب له بالعرض و المجاز.
(٧) راجع عن توضيح الوجود اللفظي للمعنى الجزء الأوّل من المنطق ص ٢٢ الطبعة الثّانية للمؤلف.
(المصنّف).
(٨) أي: اللفظ فان في المعنى.
(٩) الملحوظ في الأصل هو المعنى، و لما كان إيجاد المعنى لا يحصل إلا باللفظ نظر إلى اللفظ ليلحظ المعنى منه، لأن المعنى مندكّ في اللفظ.
٩٧
و هذا نظير الصورة في المرآة، فإن الصورة موجودة بوجود المرآة، و الوجود الحقيقي للمرآة، و هذا الوجود نفسه ينسب إلى الصورة ثانيا، و بالعرض. فإذا نظر الناظر إلى الصورة في المرآة فإنما ينظر إليها بطريق المرآة بنظرة واحدة هي للصورة بالاستقلال و الأصالة و للمرآة بالآلية و التبع (١).
فتكون المرآة كاللفظ ملحوظة تبعا للحاظ الصورة، و فانية فيها فناء العنوان في المعنون (٢).
و على هذا: لا يمكن استعمال لفظ واحد إلا في معنى واحد، فإن استعماله في معنيين مستقلا بأن يكون كل منهما مرادا من اللفظ كما إذا لم يكن إلا نفسه، يستلزم لحاظ كل منهما بالأصالة، فلا بد من لحاظ اللفظ في آن واحد مرتين بالتبع، و معنى ذلك اجتماع لحاظين في آن واحد على ملحوظ واحد أعني به: اللفظ الفاني في كل من المعنيين. و هو الحال بالضرورة، فإن الشيء الواحد لا يقبل إلّا وجودا واحدا في النفس في آن واحد.
أ لا ترى إنه لا يمكن أن يقع لك أن تنظر في مرآة واحدة إلى صورة تسع المرآة كلها و تنظر- في نفس الوقت- إلى صورة أخرى تسعها أيضا. إن هذا لمحال.
و كذلك النظر في اللفظ إلى المعنيين، على أن يكون كل منهما قد استعمل فيه اللفظ مستقلا و لم يحك إلّا عنه.
نعم يجوز لحاظ اللفظ فانيا في معنى في استعمال، ثم لحاظه فانيا في معنى آخر في استعمال ثان، مثل ما تنظر في المرآة إلى صورة تسعها، ثم تنظر في وقت آخر إلى
____________
(١) أي: هي آلة لإيجاد الصورة. فلما كان إيجاد الصورة لا يحصل إلا بالنظر إلى المرآة نظر إلى المرآة تبعا.
(٢) أي: كفناء مفهوم لفظ الإنسان (العنوان) في مصداقه (المعنون).
كيف تلحظ المفهوم و تجعله حاكيا عن مصداقه؟ بأن تقول: الإنسان ضاحك، فتشير إلى المصداق، و تحكم عليه بواسطة النظر إلى المفهوم، فنظر الناظر إلى المصداق في المفهوم إنما ينظر إلى المصداق بطريق و واسطة المفهوم فيكون النظر إلى المفهوم بالتبع، و النظر إلى المصداق بالاستقلال، و ذلك لمّا كان النظر إلى المصداق متوقف على النظر إلى المفهوم نظرنا إليه. و عليه: فالحكم متعلق بالمصداق فنقول:
الإنسان ضاحك، فإن مفهوم الإنسان ليس بضاحك و إنّما مصداق الإنسان هو الذي يضحك.
كذلك يكون اللفظ ملحوظا للمتكلم بل للسامع آلة و طريقا للمعنى و فانيا فيه.
٩٨
صورة أخرى تسعها.
و كذا يجوز لحاظ اللفظ في مجموع معنيين في استعمال واحد و لو مجازا؛ مثلما تنظر في المرآة في آن واحد إلى صورتين لشيئين مجتمعين.
و في الحقيقة إنما استعملت اللفظ في معنى واحد هو مجموع المعنيين، و نظرت في المرآة إلى صورة واحدة لمجموع الشيئين.
تنبيهان
(الأول)- إنه لا فرق في عدم جواز الاستعمال في المعنيين بين أن يكونا حقيقيين أو مجازيين أو مختلفين. فإن المانع- و هو تعلق لحاظين بملحوظ واحد في آن واحد- موجود في الجميع، فلا يختص بالمشترك كما اشتهر.
(الثاني)- ذكر بعضهم أن الاستعمال في أكثر من معنى إن لم يجز في المفرد يجوز في التثنية و الجمع، بأن يراد من كلمة عينين- مثلا- فرد من العين الباصرة و فرد من العين النابعة، فلفظ عين- و هو مشترك- قد استعمل حال التثنية في معنيين: في الباصرة و النابعة. و هذا شأنه في الإمكان و الصحة شأن ما لو أريد معنى واحد من كلمة عينين؛ بأن يراد بها فردان من العين الباصرة مثلا، فإذا صح هذا فليصح ذاك بلا فرق.
و استدل على ذلك بما ملخصه: إن التثنية و الجمع في قوة تكرار الواحد بالعطف، فإذا قيل: عينان فكأنما قيل: عين و عين. و إذ يجوز في قولك (عين و عين) أن تستعمل أحدهما في الباصرة و الثانية في النابعة فكذلك ينبغي أن يجوز فيما هو بقوتهما أعني (عينين). و كذا الحال في الجمع.
و الصحيح عندنا عدم الجواز في التثنية و الجمع كالمفرد. و (الدليل) إن التثنية و الجمع و إن كانا موضوعين لإفادة التعدد، إلا أن ذلك من جهة وضع الهيئة في قبال وضع المادة، و هي- أي المادة- نفس لفظ المفرد الذي طرأت عليه التثنية و الجمع، فإذا قيل:
(عينان)- مثلا- فإن أريد من المادة خصوص الباصرة فالتعدد يكون فيها أي: فردان منها، و إن أريد منها خصوص النابعة- مثلا- فالتعدد يكون بالقياس إليها، فلو أريد الباصرة و النابعة فلا بد أن يراد التعدد من كل منهما أي: فرد من الباصرة و فرد من النابعة، لكنه مستلزم لاستعمال المادة في أكثر من معنى، و قد عرفت استحالته.
و أما أن التثنية و الجمع في قوة تكرار الواحد فمعناه: أنها تدل على تكرار أفراد
٩٩
المعنى المراد من المادة لا تكرار نفس المعنى المراد منها. فلو أريد من استعمال التثنية أو الجمع فردان أو فرد من طبيعتين أو طبائع متعددة لا يمكن ذلك أبدا إلا أن يراد من المادة (المسمى بهذا اللفظ) على نحو المجاز، نظير الأعلام الشخصية غير القابلة لعروض التعداد على مفاهيمها الجزئية إلا بتأويل المسمى. فإذا قيل: (محمدان) فمعناه فردان من المسمى بلفظ (محمد)، فاستعملت المادة و هي لفظ محمّد في مفهوم المسمى مجازا.
١٤- الحقيقة الشرعية (١)
لا شك في أنا- نحن المسلمين- نفهم من بعض الألفاظ المخصوصة كالصلاة
____________
(١) المقصود منها هنا: هو ما إذا تحقق وضع الألفاظ (كالصلاة و الصوم و الزكاة و غيرها) في أركانها الخاصة في عهد رسول الله (صلى الله عليه و آله)، و يقابلها الحقيقة المتشرعية، و هي ما إذا تحقق الوضع بعد عهده (صلى الله عليه و آله) كما إذا تحقق في زمانهم (عليهم السلام)، أو زمان الغيبة.
هل الحقيقة الشرعية ثابتة أم لا؟ قد يقال: إنها غير ثابتة بالوضع التعييني- و ذلك لأنّه لو كانت ثابتة بالوضع التعييني بأن وضع رسول الله (صلى الله عليه و آله) كلمة «صلاة» مثلا للأفعال المخصوصة، لنقل لنا التأريخ ذلك، فلمّا لم ينقل نعلم بأنها غير ثابتة.
الجواب: نقول: مع ذلك يمكن القول بثبوت الحقيقة الشرعية، و ذلك لأن للوضع طريقتين إحداهما متعارفة و هي: أن يقول الرسول (صلى الله عليه و آله) لأصحابه: وضعت كلمة «صلاة» لهذا المعنى الجديد، و هذا ما يسمى بالوضع التعييني. و هناك طريقة غير متعارفة، و هي أن يكون الوضع نفس الاستعمال بلا تصريح بالوضع، كما إذا ولد للإنسان طفل لم يقل سمّيته محمّدا بل يناديه «يا محمّد» بقصد الوضع، و هذه الطريقة غير متعارفة، فهذه ممكنة نظريا، فإذا كانت ممكنة فثبوت الحقيقة الشرعية بواسطتها سيكون ممكنا أيضا، بأن يقول الرسول (صلى الله عليه و آله) لأصحابه مثلا: «قوموا للصلاة»، و يقصد بذلك وضع «صلاة» للأركان المخصوصة.
تنبيه: الطريقة غير المتعارفة للوضع «و هي وضع اللفظ للمعنى بنفس الاستعمال» تحتاج إلى إقامة قرينة دالّة على الوضع بنفس الاستعمال، و هذه القرينة غير القرينة الصارفة التي نحتاجها في المجاز في قولنا:
«رأيت أسدا يرمي» فيرمي قرينة صارفة إلى المعنى المجازي للأسد و هو الرجل الشجاع.
إشكال على الطريقة غير المتعارفة للوضع: قد يقال: إن الطريقة هذه غير ممكنة، و ذلك لأنّها تستلزم وجود استعمال غير مجازي و غير حقيقي، و توضيح ذلك:
إذا قلت مباشرة لطفلي: «يا محمّد» قبل أن أضع اللفظ له، و قصدت الوضع بنفس الاستعمال، فهو ليس استعمالا حقيقيا لأنه قبل الوضع، فهو استعمال في غير ما وضع له، و أما إنه غير مجازي، لعدم تحقق العلاقة المطلوبة فيه بين المعنى الحقيقي السابق و المجازي.
الجواب على هذا الإشكال: إنه ليس من الضروري أن يكون الاستعمال إما حقيقيا و إما مجازيا، لعدم
١٠٠
و الصوم و نحوهما معاني خاصة شرعية، و نجزم بأن هذه المعاني حادثة لم يكن يعرفها أهل اللغة العربية قبل الإسلام، و إنما نقلت تلك الألفاظ من معانيها اللغوية إلى هذه المعاني الشرعية.
____________
وجود دليل عقلي، أو نقلي يلزم انحصار الاستعمال في ذلك، فيمكن أن يكون من باب الاستعمال غير المجازي لعدم العلاقة المطلوبة، و غير الحقيقي لأنه استعمال في غير ما وضع له اللفظ كما هو واضح، فهو استعمال قام بالطبع و اقتضاه الطبع من دون الوضع.
أدلة ثبوت الحقيقة الشرعية: يدل على ثبوت الحقيقة الشرعية أمران:
الأوّل: التبادر. و ذلك أنه إذا وردت مفردة من مفردات ألفاظ العبادات في حديث نبوي مثلا، يتبادر إلينا المعنى الشرعي. و هذا دليل على ثبوتها.
الثّاني: لزوم محذور لو لم نقل بثبوتها، و ذلك إذا وردت كلمة «صلاة» مثلا في استعمالات الشارع، فإذا لم نقل بالحقيقة الشرعية، و إن هذا الاستعمال حقيقي، فلا بدّ أن نقول إن هذا الاستعمال- أي:
استعمال «صلاة» مثلا في الأركان المخصوصة- كان مجازيا، و هذا غير صحيح لما ذا؟ لعدم تواجد العلاقة بين هذا المعنى المجازي و هو الأركان المخصوصة، و بين المعنى اللغوي و هو «الدعاء». قد يقال:
لما ذا لا توجد علاقة المجاز، أ ليس بين الصلاة المتعارفة و الدعاء علاقة الكل و الجزء؟ نقول: صحيح هي موجودة، و لكن ليس كل علاقة مصححة للاستعمال، بل يشترط فيها أن يكون الجزء جزء أساسيا من الكل، كالرقبة في الإنسان عند ما نقول: «أعتق رقبة»، و لا يمكن أن نقول: «أعتق» و نريد به الإنسان، فكذلك الدعاء ليس جزء أساسيا من الصلاة لاستحبابه و إمكان تركه. فإذا لم يمكن الاستعمال المجازي، فلا بدّ من القول بأن الشارع (صلى الله عليه و آله) قد وضع و استعمل الصلاة في المعنى الجديد الشرعي و هو «الأركان المخصوصة».
ملاحظة: في البحث السابق، و هو أن إثبات الحقيقية الشرعية بالوجهين السابقين مبني على القول بأن ألفاظ العبادات مستحدثة في زمن الشارع (صلى الله عليه و آله)، و إنها لم تكن موجودة في الملل و الأديان السابقة، و أما بناء على كون هذه الألفاظ غير مستحدثة، و وجود هذه الألفاظ في استعمالات الأديان السابقة كما على ذلك بعض الآيات الشريفة كقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، و قوله: وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ، و قوله تعالى: وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا، فحينئذ: لا معنى للقول بثبوت الحقيقة الشرعية، بل هذه الألفاظ «صلاة، صوم، حج، زكاة ...» الخ مستعملة في المعاني الشرعية في ما قبل زمان الشارع، فهي إذا: حقائق لغوية لا شرعية، و ذلك إن الشارع (صلى الله عليه و آله) لم يضعها، بل استعملها فيما استعملته فيه الأمم السابقة.
قد يقال: إن هذه الألفاظ و إن كانت موجودة في استعمالات الملل السابقة إلا أننا نستبعد اتحاد المعنى الذي استعملوه هم فيه و المعنى الذي استعمله الشارع (صلى الله عليه و آله) فيه، لأننا نرى صلاة اليهود
١٠١
هذا لا شك فيه، و لكن الشك وقع عند الباحثين في أن هذا النقل وقع في عصر الشارع المقدس على نحو الوضع التعييني أو التعيني فتثبت الحقيقة الشرعية، أو أنه وقع في عصر بعده على لسان أتباعه المتشرعة فلا تثبت الحقيقة الشرعية، بل الحقيقة المتشرعية.
____________
و النصارى تختلف عن صلواتنا، فإذا: استعمال الشارع (صلى الله عليه و آله) في المعنى الموجود عند المسلمين مستحدث لم يسبقه أحد في ذلك فعلى ذلك تثبت الحقيقة الشرعية.
نقول: إنه و إن ثبت اختلاف صلاة اليهود و النصارى عن صلاة المسلمين، و لكن هذا الاختلاف لا يوجب اختلاف المعنى المستعمل فيه عندهم و عندنا، بل المعنى متحد و الحقيقة و الماهية واحدة، و هذا الاختلاف المشاهد إنّما هو اختلاف في المحققات و المصاديق، أي: أن الصلاة موضوعة لمعنى واحد و لكن امتثالها في الخارج يختلف باختلاف المحققات، فصلاة العاجز في شرعنا غير صلاة القادر، و صلاة الحاضر غير صلاة المسافر، فكما أن معنى الصلاة يختلف فيه من جهة المصاديق في شرعنا كذلك الاختلاف في صلاة اليهود و النصارى مع صلاة المسلمين.
تنبيه: إذا توجّه هذا الاحتمال و هو كون استعمال ألفاظ العبادات غير مستحدث، بل موجود في الأديان السابقة، فلا يمكن القول بثبوت الحقيقة الشرعية فضلا عن الوثوق و الاطمئنان بثبوتها و القطع بها.
قد يقال: أ لا نتمكن من إثباتها بالوجوه السابقة كالتبادر و لزوم المحذور السابق؟
نقول: حتى الوجوه السّابقة إنّما يمكن التمسّك بها لإثبات الحقيقة الشرعية، مع صرف النظر عن هذا الاحتمال، و إلا مع وجوده لا تدل تلك الوجوه عليها.
اتضح ممّا سبق: بطلان دعوى تحقق الوضع التعيني في زمن الشارع (صلى الله عليه و آله)، فإنه مع وجود هذا الاحتمال لا معنى لتحقق الوضع التعيني، نعم مع غض النظر عن هذا الاحتمال، فدعوى تحقق الوضع التعيني في زمن الشارع في محاوراته و محاورات أصحابه قريبة جدا و إنكارها مكابرة و بلا دليل.
ثمرة القول بثبوت الحقيقة الشرعية: الثمرة في البحث عن ثبوت الحقيقة الشرعية و عدم ثبوتها تظهر فيما إذا علم تاريخ وضع الشارع (صلى الله عليه و آله) للمعاني الشرعية، فحينئذ: إذا وردت لنا لفظة من ألفاظ العبادات مثلا، و علمنا أنها استعملت من قبل الشارع بعد تاريخ الوضع و هذه اللفظة كانت خالية من القرائن المعينة، فحينئذ:
نحملها على المعاني الشرعية، و إذا علمنا أنها كانت قبل تاريخ الوضع نحملها على المعاني اللغوية السّابقة كما إذا علمنا أن تاريخ الوضع هو بعد دخول الرسول (صلى الله عليه و آله) المدينة. و جاءتنا في الرواية عنه (صلى الله عليه و آله) كلمة صلاة خالية عن القرائن فهنا هل نحملها على المعاني اللغوية و هو الدعاء أم على المعاني الشرعية المستحدثة في زمانه (صلى الله عليه و آله)؟ هنا نقول و نسأل: متى كان الاستعمال هل قبل دخوله (صلى الله عليه و آله) المدينة أم بعده؟ فإذا كان قبله حملناها على
١٠٢
و الفائدة من هذا النزاع تظهر في الألفاظ الواردة في كلام الشارع مجردة عن القرينة سواء كانت في القرآن الكريم أم السنة. فعلى القول الأول: يجب حملها على المعاني الشرعية، و على الثاني: تحمل على المعاني اللغوية، أو يتوقف فيها فلا تحمل على المعاني الشرعية و لا على اللغوية، بناء على رأي من يذهب إلى التوقف فيما إذا دار الأمر بين المعنى الحقيقي و بين المجاز المشهور، إذ من المعلوم: أنه إذا لم تثبت الحقيقة الشرعية فهذه المعاني المستحدثة تكون- على الأقل- مجازا مشهورا في زمانه (صلى الله عليه و آله).
و التحقيق في المسألة أن يقال: إن نقل تلك الألفاظ إلى المعاني المستحدثة إما بالوضع التعييني أو التعيني.
أما (الأول): فهو مقطوع العدم لأنه لو كان لنقل إلينا بالتواتر أو بالآحاد على الأقل، لعدم الداعي إلى الإخفاء، بل الدواعي متظافرة على نقله، مع إنه لم ينقل ذلك أبدا.
و أما (الثاني): فهو مما لا ريب فيه بالنسبة إلى زمان إمامنا أمير المؤمنين (عليه السلام)، لأن اللفظ إذا استعمل في معنى خاص في لسان جماعة كثيرة زمانا معتدا
____________
المعنى اللغوي و هو الدعاء، و إذا كان بعده حملناها على المعنى الشرعي المستحدث و هو الأركان المخصوصة. و لكن إذا لم نعلم تاريخ الاستعمال أي: متى استعمل (صلى الله عليه و آله) اللفظة هل بعد دخوله المدينة المنوّرة أم قبل دخوله إياها؟ فهنا يشكل أمر اللفظة كالصلاة المجرّدة من القرائن. قد يقال:
لما ذا يشكل أمرها؟ فهناك عندنا دليل يثبت تأخر الاستعمال عن الوضع. و به نتمكن من حمل الصلاة على معانيها الشرعية لا اللغوية، و ذلك الدليل هو أصالة تأخر الاستعمال عن الوضع، فعند الشّك في أنه متى استعمل النبي محمّد (صلى الله عليه و آله) اللفظة هل قبل تاريخ الوضع و هو دخول المدينة مثلا أم قبله؟ فبواسطة الأصالة تثبت تأخر الاستعمال عن الوضع.
و بالجملة: نقول: ثبوت الحقيقة الشرعية بالوضع التعييني، و الدليل على ثبوت الحقيقة الشرعية بالوضع التعييني: هو التبادر أي: تبادر المعاني الشرعية من الألفاظ المتداولة في لسان النبي (صلى الله عليه و آله)، و هذا خير دليل على ثبوتها. و مثاله: إذا سمعنا حديثا من النبي (صلى الله عليه و آله) في قوله مثلا: «الصلاة قربان كل مؤمن و مؤمنة» يتبادر ذهننا مباشرة من لفظ الصلاة إلى معنى الصلاة المتداولة، و هذا دليل على أنها موضوعة في زمان النبي (صلى الله عليه و آله)، أي: هذا دليل على أن النبي (صلى الله عليه و آله) وضع كلمة الصلاة للمعنى الجديد، و إلا لما كان هناك تبادر، هذا و كذلك تحقق ثبوت الحقيقة الشرعية بالوضع التعيني كما هو واضح.
١٠٣
به- لا سيما إذا كان المعنى جديدا- يصبح حقيقة فيه بكثرة الاستعمال، فكيف إذا كان ذلك عند المسلمين قاطبة في سنين متمادية؟
فلا بد- إذا- من حمل تلك الألفاظ على المعاني المستحدثة فيما إذا تجردت عن القرائن في روايات الأئمة (عليهم السلام).
نعم كونها حقيقة فيها في خصوص زمان النبي (صلى الله عليه و آله) غير معلوم و إن كان غير بعيد، بل من المظنون ذلك، و لكن الظن في هذا الباب لا يغني عن الحق شيئا. غير إنه لا أثر لهذا الجهل، نظرا إلى أن السنة النبوية غير مبتلى بها إلا ما نقل لنا من طريق آل البيت (عليهم السلام) على لسانهم، و قد عرفت الحال في كلماتهم أنه لا بد من حملها على المعاني المستحدثة. و أما القرآن المجيد: فأغلب ما ورد فيه من هذه الألفاظ أو كله محفوف بالقرائن المعينة لإرادة المعنى الشرعي، فلا فائدة مهمة في هذا النزاع (١) بالنسبة إليه.
____________
(١) أي: النزاع في ثبوت الحقيقة الشرعية و عدمها بالنسبة إلى القرآن لا توجد أي فائدة، لأن أكثرها محفوفة بالقرائن.
ما المراد بلفظ الشارع؟ ج: هو لفظ موضوع لمن جعل أحكام الشرع و اخترعها، و هو بهذا المعنى منحصر في الله تعالى شأنه.
هذا هو مقتضى الوضع اللغوي للفظ، و هو المتبادر منه كما هو المستفاد من بعض الآيات، فقد قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً [سورة المائدة ٤٨]، و شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً [سورة الشورى ١٣]، و قد ورد الشارع في أسمائه تعالى. أما إرادة النبي (صلى الله عليه و آله) من لفظ الشارع فهو خلاف المقتضى اللغوي للفظ. نعم إن ثبت كون المراد من الشارع النبي (صلى الله عليه و آله) بنحو الحقيقة العرفية- كما ادعاه بعض- فحينئذ: يمكن حمل اللفظ عليه، نعم لو فسّر الشارع بمعنى المبين للشريعة صدق عليه (صلى الله عليه و آله) كما نصّ على ذلك جماعة من أهل اللغة، و قالوا: بأن شرع سنّ، و قد نصّ في القاموس سنّ بمعنى: بيّن، فشرّع يكون بمعنى: بيّن و ذلك يصدق على النبي (صلى الله عليه و آله)، و لكنه يشمل الأئمة (عليهم السلام) بل سائر العلماء المبيّنين للشريعة.
لكن يرد على ذلك إشكالات أوّلا: الظاهر الاتفاق على عدم صدقه عليهم. ثانيا: أنه خلاف المتبادر منه عرفا. ثالثا: مجيء سنّ بمعنى بين على فرض ثبوته لا يستلزم مجيء شرّع لذلك، و لكن مع ذلك يمكن تصحيح صدقه عليه (صلى الله عليه و آله) على كل من الوجهين للفظ الشارع أي: سواء قلنا بأن المراد من الشارع جاعل الشرع و واضعه أم أن المراد منه المبيّن للشرع. أما على الأوّل: فبأنه (صلى الله عليه و آله) هو الذي جعل الشرع في الظاهر و وضعه بين النّاس و إن كان بتعليم من الله تعالى،
١٠٤
على إن الألفاظ الشرعية ليست على نسق واحد، فإن بعضها كثير التداول كالصلاة و الصوم و الزكاة و الحج، لا سيما الصلاة التي يؤدونها كل يوم خمس مرات، فمن البعيد جدا إلا تصبح حقائق في معانيها المستحدثة بأقرب وقت في زمانه (صلى الله عليه و آله).
الصحيح و الأعم (١)
من ملحقات المسألة السابقة: مسألة (الصحيح و الأعم). فقد وقع النزاع في أن ألفاظ
____________
و هذا القدر كاف في تصحيح صدقه عليه (صلى الله عليه و آله). و أما الثّاني: فيمكن القول بأنه ليس المراد مطلق المبني للشرع لبعده عن الإطلاقات جدا، فعلى فرض مجيئه بالمعنى المذكور ينبغي أن يراد به المظهر له من أوّل الأمر، و المبني له بعد عدم ظهوره رأسا و هو لا يصدق على الأئمة (عليهم السلام) و العلماء. ثم أنه قد يصحح القول بصدق الشارع على النبي (صلى الله عليه و آله) بالبناء على تفويض الأحكام إليه في الجملة؛ للأخبار الكثيرة الدالة عليه المروية من طرق أهل العصمة (عليهم السلام).
الصحيح و الأعم: (١) النقاش في ألفاظ العبادات كالصلاة و الصوم ... إلخ، و الحديث عن ألفاظ المعاملات سيأتي الكلام عنه.
فالنزاع في ألفاظ العبادات وقع هكذا: هل هذه الألفاظ كالصلاة موضوعة لخصوص الفعل الصحيح أو للأعم منه و من الفاسد، و توضيح ذلك بمثال عرفي: إذا نذرت إن رزقني الله ولدا سأتصدق على فقير يصلي. فإذا رزقت ولدا و رأيت في المسجد رجلا فقيرا يصلي بلا استقرار فهل يجزي أن أعطيه الصدقة وفاء للنذر أم لا؟
الجواب: على القول بأن ألفاظ العبادات موضوعة لخصوص الصحيح منها لا يجزي إعطاء هذا الفقير الصدقة، لما ذا؟ لأنّه ليس مصليا، لفساد عمله، و الصلاة موضوعة لخصوص الفعل الصحيح، و على القول بأن ألفاظ العبادات موضوعة للأعم من الصحيح و الفاسد يجزي أن أعطيه الصدقة، و إن كانت صلاته فاسدة، لأنّه يصدق عليها عنوان الصلاة إلا أنها فاسدة.
و لا بد قبل الدخول في هذا البحث من تقديم أمور:
الأمر الأول: هل للمسألة السابقة و هي «ثبوت الحقيقة الشرعية» أثر على هذه المسألة الجديدة و هي «الصحيح و الأعم» أم لا؟ قد يقال: نعم، و قد يقال: لا.
نقول: مما لا إشكال فيه أنه بناء على ثبوت الحقيقة الشرعية، و أن الشارع قد وضع ألفاظ العبادات للمعاني المستحدثة في شرعنا، مما لا ريب فيه أنه يأتي النزاع في الصحيح و الأعم بأن نقول: هل إن الشارع قد وضع ألفاظ العبادات حينما وضع هل وضعها لخصوص الأفعال الصحيحة أي: تامة الأركان و الأفعال، أو وضعها على الأعم، بحيث أطلقها حتى على الفاسدة؟ هذا النزاع يأتي عند القائلين بثبوت الحقيقة الشرعية.
١٠٥
القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية: هل يأتي النزاع عند النافين لثبوت الحقيقة الشرعية أم لا؟ قد يقال: لا، لا يأتي النزاع. لأنه ما لم نسلّم بثبوت الحقيقة الشرعية و أن الشارع قد وضع ألفاظ العبادات للمعاني المستحدثة، لا معنى للنزاع في أنه هل وضعها لخصوص الصحيحة أو للأعم منها و من الفاسدة، لانتفاء أصل الوضع المستحدث، فالنزاع مسلوب بانتفاء الموضوع.
رأي الشّيخ الأنصاري في المسألة: أنه يمكن تصوير النزاع في الصحيح و الأعم، عند النافين لثبوت الحقيقة الشرعية و لكن لا بالشكل السابق، فإنه ممنوع قطعا، و لكن يمكن تصوير النزاع بشكل آخر.
لتوضيح ذلك نقول: إنه من المسلّم لدى الجميع أن الشارع المقدس قد استعمل ألفاظ العبادات في المعاني المستحدثة، كاستعمال لفظ «الصلاة» في الأركان المخصوصة، فهذا أمر مسلّم حتى عند النافين لثبوت الحقيقة الشرعية. و القائلون بأن الشارع لم يؤسس وضعا جديدا في المعاني المستحدثة، بل استعملها في المعاني المستحدثة من باب المجاز مع القرينة.
- نقول: إن للمجازات مراتب طولية، بمعنى: أن الحمل على بعضها أولى من الحمل على البعض الآخر.
توضيح ذلك: إنه بعد وضع اللفظ لمعنى يصبح ذلك المعنى الموضوع له حقيقيا، و من الواضح أن لهذا المعنى الحقيقي علاقة ما بمعاني أخرى تشابهه في بعض الأمور، فيجوز استعمال ذلك اللفظ في المعنى الذي له علاقة بمعناه الحقيقي، و هذا الاستعمال مجازي، لأنه في غير ما وضع له اللفظ، و المعنى الثاني مجازي، و لنسميه بالمجاز الأول، لأنه تربطه بالمعنى الحقيقي علاقة واحدة، و الحمل على المجاز الأول لا يحتاج إلا إلى قرينة صارفة للفظ عن المعنى الحقيقي.
و من باب التوسع في المجاز: جاز استعمال اللفظ أيضا في المعاني التي ترتبط بالمعنى المجازي الأول بعلاقة، فيكون استعمال اللفظ في ذلك المعنى مجازيا أيضا، و لنسميه بالمجاز الثاني.
- و الحمل على المجاز الثاني يحتاج إلى قرينتين، الأولى: القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي، و القرينة الثانية هي المعينة لإرادة المجاز الثاني، و تسمى هذه الطريقة بطريقة سبك المجاز بالمجاز.
فاستعمال اللفظ في المجاز الثاني يكون بتوسط واسطتين، بخلاف استعماله في المجاز الأول فهو بتوسط واسطة واحدة فقط.
بعد تمهيد و توضيح هذا الأمر، نأتي إلى مورد البحث فنقول: قال الشّيخ الأنصاري (رحمه الله) يمكن وقوع النزاع في الصحيح و الأعم عند النافين لثبوت الحقيقة الشرعية و وقوع الوضع الجديد، بطريقة سبك المجاز بالمجاز، بيان النزاع عند النافين يكون هكذا: هل أن الشارع عند ما استعمل لفظ «الصلاة» مثلا في الأركان المخصوصة على نحو المجاز، هل جعل العلاقة ابتداء بين المعنى الحقيقي اللغوي «الدعاء» و بين الأركان المخصوصة الصحيحة، فيكون استعمال الشارع للألفاظ في الفاسدة ثانويا و بتوسط واسطتين «مجاز ثاني»، أو أن الشارع قد جعل العلاقة ابتداء بين المعنى الحقيقي، و بين الأركان المخصوصة الأعم من الفاسدة و الصحيحة، فيكون استعمال الشارع للألفاظ في خصوص الصحيحة ثانويا و بتوسط واسطتين.
و تظهر الثمرة على هذا القول: فيما إذا وردت لفظة «الصلاة» مثلا في كلام الشارع، مع قرينة صارفة
١٠٦
عن إرادة المعنى الحقيقي اللغوي، فهل نحمل اللفظة على إرادة خصوص الصحيح تام الأركان و الأفعال، أو على الأعم منه و من الفاسدة، فالقائلون بالصحيح يحملونها على إرادة الصحيح، و يدعون أنه هو المجاز الأول و هو لا يحتاج إلا إلى قرينة صارفة.
و القائلون بالأعم يحملونها على إرادة الأعم، و يدعون أنه هو المجاز الأول، و الحمل على المجاز الثاني يحتاج إلى قرينة ثانية معينة لإرادته.
جواب صاحب الكفاية على الشّيخ الأنصاري (قدس سره): كل ما تقدم يصح بعد إثبات أن استعمالات الشارع لألفاظ العبادات مبنية على هذه الطريقة «سبك المجاز بالمجاز»، و بعد إثبات السيرة على أنه مع استعمال ألفاظ العبادات بقرينة واحدة يريد المعنى الأول، و بقرينتين يريد المجاز الثاني، و لم يثبت سيرة من هذا القبيل.
توضيح رأي أبي بكر الباقلاني: يقول: إن جميع استعمالات الشارع لألفاظ العبادات كان استعمالا حقيقيا في المعنى اللغوي، و لم يستعملها الشارع في المعاني الشرعية على نحو المجاز و إن كان يريد المعنى الشرعي حين الاستعمال، بأن نقول: إن الشارع لم يستعمل لفظة «الصلاة» مثلا إلا في «الدعاء»: المعنى اللغوي، حتى في حالة إرادته المعنى الشرعي: «الأركان المخصوصة»؛ و ذلك بأن ينصب قرينة لفظية على أنه يريد المعنى الشرعي من قبيل تعدد الدال و المدلول كما في قولنا: «رأيت البحر جالسا يتحدث»، فإني لم استعمل البحر في المعنى المجازي بل استعملتها في معناها الحقيقي «و هو مجمع الماء الكثير المتعارف»، و لكن أردت من البحر «هنا» العالم على نحو تعدد الدال و المدلول بتوسط قرينة «جالسا يتحدث». كذلك مسألتنا.
النزاع في الصحيح و الأعم بناء على مسلك الباقلاني في الألفاظ: اختلف الشّيخ الأنصاري مع المصنّف في أنه هل يمكن تصوير النزاع بين الصحيح و المجاز بناء على مسلك الباقلاني.
قال الشيخ الأنصاري (قدس سره): لا يمكن تصوير النزاع، لأنه بناء على مسلك الباقلاني لا معنى لوقوع النزاع. لأن الباقلاني ينفي أصل الوضع للمعاني الشرعية، فلا معنى للنقاش هل وضع الشارع الألفاظ لخصوص الصحيح أو للأعم، فهو سالب بانتفاء الموضوع.
رأي صاحب الكفاية: يمكن تصوير النزاع في الصحيح و الأعم- حتى بناء على مسلك الباقلاني- و ذلك بأن ننقل النزاع من الوضع إلى القرائن المنصوبة على إرادة المعاني الشرعية، فنقول: كيف نصبت القرائن؟ هل نصبت القرائن لإرادة المعنى الشرعي خصوص الصحيح منه، أو أنها نصبت لإرادة الأعم منه و من الفاسد، فاتضح: إمكان وقوع النزاع بناء على مسلك الباقلاني.
- الأمر الثاني: و في توضيح معنى الصحة في قولنا: الألفاظ موضوعة للصحيح أو للأعم.
اختلف الفقهاء مع المتكلمين في تفسير الصحة، فقال الفقهاء: إن معنى أن «الصلاة» صحيحة أي: لا تحتاج إلى قضاء أو إعادة. و قال المتكلمون: إن معنى الصحة هو موافقة العمل للأمر أو الشريعة، فمعنى: أن «الصلاة» صحيحة أي: موافقة للأمر أو الشريعة.
فاتضح: أن الظاهر أن معنى الصحة واحد لدى الجميع، و هو التمامية، فمعنى أن «الصلاة» صحيحة أي: تامة الأجزاء و الشرائط، و هذا التعريف للصحة متفق عليه لدى الجميع و اختلاف الفقهاء مع
١٠٧
المتكلمين السابق ليس اختلافا في معنى الصحة، بل لما كان المهم البحث عند الفقهاء يختلف عنه عند المتكلمين، عرّف كل منهما الصحة بلازمها المهم بنظرة، فلما كان المهم لدى الفقهاء هو الأحكام، فسرّوا الصحة بعدم وجوب القضاء أو الإعادة، و هذا من لوازم كون العبادة تامة، فإذا صلّى الإنسان «صلاة» تامة الأجزاء و الشرائط لا يجب عليه إعادتها و لا قضاؤها.
و لما كان المهم لدى المتكلمين هو استحقاق الثواب أو العقاب، فسروا الصحة بموافقة الأمر أو الشريعة، و هذا من لوازم كون العبادة تامة، فإذا صلى «الإنسان» صلاة تامة فقد وافق الأمر أو الشريعة، و استحق الثواب و سقط عنه العقاب.
تنبيه: إذا اتضح هذا نقول: يتبين إن الخلاف السابق ليس في أصل معنى الصحة، بل في لوازمها، و هو لا يوجب القول بتعدد معنى الصحة، و مثل هذا الاختلاف هو اختلاف «الصلاة» بحسب حالات المكلف من السفر و الحضر و الاختيار و الاضطرار، فإن «صلاة المسافر» تختلف عن «صلاة الحاضر»، و مع ذلك معنى «الصلاة» واحد.
فانقدح مما تقدم: أن الصحة في الفساد من الأمور الإضافية غير الحقيقة و الذاتية، «فالصلاة المقصورة» صحيحة بالإضافة إلى المسافر، فإن «الصلاة المقصورة» بالنسبة إليه تامة. و فاسدة بالإضافة إلى الحاضر، لأن «الصلاة المقصورة» بالنسبة إلى الحاضر ناقصة.
- الأمر الثالث: إنه لا بدّ على كلا القولين: «القول بالوضع للصحيح أو للأعم» لا بدّ من تحصيل جامع يجمع الأفراد الصحيحة أو الأعم منها، لكي يكون لفظة «صلاة» مثلا موضوعة له، و من المتفق عليه لديهم: أن ألفاظ العبادات من ألفاظ «المشترك المعنوي» أي: موضوع كلي ينطبق على أفراد، لا من المشترك اللفظي أي: موضوع مباشرة على المصاديق الخارجية، فإن صلاتي في الخارج ليست هي «الصلاة» بل هي مصداق لمعنى «الصلاة» الكلي التي هي فرضا «الناهية عن الفحشاء و المنكر». فلا بدّ إذا على كل من القائلين بالصحيح أو الأعم أن يصوروا لنا جامعا مناسبا لقولهم، فإن تمكنوا من ذلك فبها، و إلا يتضح بطلان دعواهم.
تصوير الجامع على القول بالوضع للصحيح: مما لا إشكال فيه خلافا للشيخ الأنصاري (قدس سره) أن لأفراد الصحيح جامع يمكن الإشارة إليه بخواصه و آثاره، لاشتراك الأفراد الصحيحة في أثر واحد، و هو مثلا في «الصلاة» كونها ناهية عن الفحشاء و المنكر، و الاتحاد في أثر واحد يدل على وجود مؤثر واحد في جميع أفراد الصحيح، و ذلك المؤثر هو الجامع.
رأي الشيخ الأنصاري: إنه لا يمكن تصوير جامع على القول بالوضع لخصوص الصحيح؛ و ذلك لأنه إما أن نفرض الجامع بسيطا أو مركبا من أجزاء معينة، و كلاهما باطل.
أما بطلان المركب: فلعدم إمكان تحديده في أجزاء معينة، لاختلاف الأجزاء عند اختلاف أحوال المكلفين من صحة و عجز و سفر و حضر ... إلخ.
و أما بطلان البسيط: فلأنه لا يخلو إما أن ندعي إن الجامع مع البسيط هو مفهوم المطلوب، فالصلوات الصحيحة مثلا يجمعها كونها مطلوبة، و إما أن ندعي أن الجامع البسيط ليس هو عنوان المطلوب بل هو لازم لهذا العنوان ككونها ذات مصلحة أو محبوبة، لأن من لوازم كون «الصلاة» مثلا مطلوبة أن
١٠٨
تكون ذات مصلحة ككونها ناهية عن الفحشاء و المنكر، و من لوازم كونها مطلوبة أيضا: أن تكون محبوبة للمولى. على كل حال: فلو فرضنا أن الجامع البسيط هو «نفس عنوان المطلوب» فهو غير صحيح لعدة أوجه:
الوجه الأول: أنه يستلزم الدور فلا يكون معقولا، لأننا نقول: بما ذا يتعلق الطلب حينئذ؟ إن قلت:
يتعلق الطلب بعنوان «المطلوب» الذي هو جامع للأفراد الصحيحة نقول: هذا لا يمكن؛ لأن معنى أن يتعلق الطلب بعنوان «المطلوب» أن الطلب متوقف على تحقق «المطلوب»؛ لاقتضاء توقف الأمر على وجود متعلقه، مع أنه متى يكون الشيء مطلوبا؟ نقول: بعد تعلق الطلب به، و هذا دور مصرح لتوقف الطلب على المطلوب و توقف المطلوب على الطلب، فتوقف الطلب على نفسه.
الوجه الثاني: إنه يلزم الترادف بين كلمة «صلاة» مثلا و كلمة «مطلوب»، لأن الفرض أن «الصلاة» موضوعه «للمطلوب»، و هذا واضح الفساد.
الوجه الثالث: قبل بيان الإشكال نذكر تمهيدا، فنقول: إن المشهور عند القائلين بوضع الألفاظ لخصوص الصحيحة: أنه إذا شك في شيء أنه جزء أو شرط من العبادة فإنهم يجرون البراءة فيه للشك في أصل التكليف، فهنا لو قلنا: إن الجامع هو عنوان «المطلوب» لزم أن يجروا في حال الشك أصالة الاشتغال؛ لأن الشك سيكون في محصل «المطلوب» الذي اشتغلت به الذمة. فمع الاشتغال اليقيني «بالمطلوب»، و الشك في تحقق «المطلوب» «بالصلاة» مثلا من دون ذلك الجزء أو الشرط المشكوك لا بدّ من الفراغ اليقيني بإجراء أصالة الاشتغال و الإتيان بذلك الجزء أو ذلك الشرط.
و لو قلنا: أن الجامع البسيط هو عنوان ملازم «للمطلوب» كعنوان «ذي المصلحة» أو عنوان «المحبوب»، فهو باطل أيضا، لما سبق من الإشكالين و هما: لزوم الترادف بين «صلاة» و «ذي المصلحة أو المحبوب»، و لزوم البناء على خلاف مبنى المشهور عند الشك في شيء أنه جزء من عبادة أو شرط، و ذلك لليقين باشتغال الذمة بعنوان «ذي المصلحة أو المحبوب»، و الشك في محصل ذلك، فلا بدّ من إجراء أصالة الاشتغال حينئذ على خلاف مبنى المشهور؛ و هو البناء على أصالة البراءة.
و من الواضح: إن إشكال الدور لا يأتي على القول بأن الجامع البسيط هو عنوان «ذي المصلحة أو المحبوب»، لعدم توقفهما على الطلب، و إن توقف الطلب عليهما لكونهما متعلقين له.
الجواب على رأي الشيخ الأنصاري: أننا نختار الشق الثاني، أي: أن «الصلاة» مثلا موضوعة للجامع البسيط.
توضيح ذلك: أن المأمور به تارة: يكون أمرا كليا مغايرا لمحصله تغاير المسبب مع سببه، «كالوضوء» على القول بأنه حالة نفسانية نورانية ناتجة عن الغسلات و المسحات، و ليست هي ذات المسحات و الغسلات.
و تارة: يكون المأمور به أمرا كليا متحدا مع محصله كاتحاد الطبيعي مع أفراده «كالوضوء»، على القول بأنه نفس الغسلات و المسحات لا أمر آخر.
و الحكم يختلف على الحالتين:
فعلى الحالة الأولى: أي: فيما لو قلنا: إن «الوضوء» مثلا مسبب عن الغسلات و المسحات، فحينئذ
١٠٩
سيكون الشك في شيء أنه جزء أو شرط من الوضوء شكا في المحصل، للعلم باشتغال الذمة بالحالة النفسانية النورانية، و الشك في محصلها، فهل تحصل بخمس مسحات و غسلات فقط أم بزيادة؟ فهنا تجري أصالة الاشتغال و هذه هي الحالة التي توهمها الشيخ الأنصاري (قدس سره).
و على الحالة الثانية: أي: فيما لو قلنا: إن «الوضوء» مثلا هو نفس الغسلات و المسحات، فعندئذ الشك في شيء أنه جزء أو شرط، سيكون الشك شكا في أصل التكليف لا في المحصل، فكأني أشك هل أوجب الشارع خمس غسلات و مسحات أو أكثر؟ فالأصل الجاري هو البراءة، فكأنه الجامع المأمور به هنا أمر انتزع من أفراده، و لكنه متحد معها اتحاد الطبيعي مع أفراده، فعلى هذه الحالة: لا يأتي إشكال الشيخ السابق لو اخترنا أن الجامع البسيط المأمور به هو ملزوم المطلوب؛ «كذي المصلحة أو المحبوب»، و قلنا: بأن هذه العناوين هي نفس ما يؤتى به في الخارج لا شيء مسبب عنها ليلزم الإشكال.
تصوير الجامع على القول بالأعم: إن تصوير الجامع- على القول بالأعم- غاية الإشكال؛ و ذلك لاستلزامه أمورا مستحيلة لاجتماع النقيضين، أو الترديد في ذاتيات الشيء و غيرها ممّا يتضح فيما يلي، فنقول: ذكر في تصوير الجامع وجوه:
الوجه الأول: إن الجامع بين الصحيح و الباطل هو جملة أجزاء العبادة كأن نقول: بأن الجامع هو ما اشتمل على خصوص الأركان فقط، و غير الأركان مما يؤتى به في المأمور به إنما هو شرط معتبر فيه و ليس هو جزء من المسمى بالكلي و لا شرط في التسمية.
و يشكل على هذا التصوير بأمرين: الأول: أن إطلاق اسم «الصلاة» مثلا حقيقة على مسماها لا يدور مدار وجود الجملة أي: الأركان- في المأتي به- و عدم وجودها، لوضوح: صحة إطلاق الاسم مع الإخلال ببعض أركان «الصلاة»، بل لو أتى بجميع الأركان و ترك جميع ما يعتبر في المأمور به لا يصح إطلاق اسم «الصلاة» عليها بالاتفاق، مع أنه لو كانت الأركان هي الجامع لصح ذلك بلا محذور.
الثاني: لزوم مجازية إطلاق اسم «الصلاة» على ما اشتمل على جميع ما يعتبر فيها من أركان و غيرها.
و ذلك لأن لفظ «الصلاة» لم يوضع للجميع بل لخصوص الأركان كما هو المدعى، فكأنه أطلق الجزء و أراد الكل، و هذا ليس من باب إطلاق الكلي و إرادة الجزئي الذي يريد الأعمي إثباته.
و كلا الإشكالين لا يمكن للقائل بالأعم تسليمها، فتبين بطلان هذا التصوير.
الوجه الثاني: إن الجامع هو معظم أجزاء العبادة مع صدق الاسم عرفا عليه، فمتى ما صدق الاسم عرفا دل على اشتمال المأتي به على المعظم الذي تدور التسمية العرفية عليه، و بهذا يتخلص من الإشكال الأول الوارد على الوجه الأول؛ لوضوح: أن المعظم قد ينطبق على خصوص الأركان أو عليها و على الشرائط، أو على بعض الأركان دون بعض مع صدق الاسم عرفا.
و يشكل على هذا التصوير بثلاثة أمور: الأول: و هو عين الإشكال الثاني الوارد على الوجه الأول، أي: يلزم مجازية إطلاق لفظ «الصلاة» على المشتمل على كل ما يعتبر في المأمور به من شرائط و أركان؛ و ذلك لأن المدّعى إنه لم يوضع لذلك
١١٠
بل وضع لخصوص المعظم من الأجزاء، فإطلاق ما وضع للمعظم مع الكل من باب إطلاق الجزء على الكل لا من باب إطلاق الكلي على الجزئي الذي يريد الأعمي إثباته بهذا التصوير.
الثاني: تبادل ما اعتبر في المسمى، و هو أن يكون الشيء لو وجد كان مقوما أي: جزء من المسمى- و لو فقد لم يكن مقوما- و هذا مستحيل؛ و ذلك لأن الشيء إما أن يكون مقوما دائما أو بالعكس. فإنه بناء على فرض كون اللفظ موضوعا للمعظم يختلف على حسب حالات المكلفين من صحة و مرض و عجز و سفر ... إلخ. فإنه يلزم أن يكون بعض الأشياء داخلا في المعظم على حالة دون حالة.
الثالث: الترديد في المأتي به، و هو أن لا نعلم بعد الإتيان بجميع الأجزاء و ما اعتبر في المأمور به أيا منها مقوما و أيا منها غير مقوم، أي: نشك في كل جزء هل هو جزء من المسمى و شرط في التسمية أم لا؟
فإن إشكال التبادل السابق و الترديد هذان واردان على التصوير الثاني للجامع، خصوصا مع ملاحظة اختلاف المعتبر في العبادات بحسب حالات المكلفين.
الوجه الثالث: أن يكون وضع ألفاظ العبادات كوضع الأعلام الشخصية، فكما لا يضر في صدق العلم الشخصي تبدل حالات المسمى بالصغر و الكبر و النقص و الزيادة، كذلك لا يضر أمثال ذلك في صدق اسم «الصلاة» على مسماها مثلا.
و بهذا التصوير يتخلص من إشكالي التبادل و الترديد السابقين، بل حتى من الإشكال الأول.
و لكن مع ذلك يرد على هذا التصوير: إن قياس وضع ألفاظ العبادات بوضع ألفاظ الأعلام الشخصية قياس مع الفارق، و ذلك لأن الأعلام موضوعة كالأشخاص، و التشخيص يحصل بالوجود الخاص الخارجي، فكما لا يضر بالتشخيص اختلاف حالات المتشخص كذلك لا يضر هذا الاختلاف في صدق التسمية، فإن «زيدا» لما وضع على الفرد الذي تشخص خارجا بجميع حالاته المتغيرة، لم يضر هذا التغيير في صدق الاسم عليه، و هذا بخلاف ألفاظ العبادات الموضوعة للمركبات و المقيدات، فلما كان تشخصها يختلف باختلاف الحالات، فلا بدّ حينئذ من أن تكون موضوعة لما كان جامعا لجميع ما يعتبر في المسمى من أجزاء و شرائط كما قلنا. هذا في الصحيح.
الوجه الرابع: أن ما وضعت له الألفاظ ابتداء هو الصحيح التام الواجد لتمام الأجزاء و الشرائط؛ و لكن العرف تسامحا أطلقها على الفاقد لبعض الأجزاء أو الشرائط تنزيلا له منزلة الواجد تجوزا- و لكن لا من باب المجاز العقلي للسكاكي- بل يمكننا ادعاء تحول الاستعمال في الفاقد إلى استعمال حقيقي بالتنزيل. و يعلل إطلاق العرف اللفظ على الفاقد هو إما الأنس الحاصل من التشابه بين التام و الفاقد في الصورة الخارجية، و إما للاشتراك في الأثر المطلوب من التام، فأسماء العبادات حينئذ تصير كالأسماء الموضوعة على المعاجين الخاصة، و لكن العرف لأحد السببين السابقين يطلقها على الفاقد لبعض مواد المعجون الخارجي؛ كما يكثر ذلك في الأكلات المصنوعة من مواد خاصة.
الإشكال على التصوير الرابع: إن قياس وضع ألفاظ العبادات بوضع ألفاظ المعاجين قياس مع الفارق، و ذلك لأن أسماء المعاجين وضعت لمركبات خارجية، فالتام منها متميز خارجا عن الفاقد و يمكن الإشارة إليه، و هذا بخلاف ألفاظ العبادات فالصحيح فيها غير واضح؛ و ذلك لأن لفظ «الصلاة» و إن
١١١
كانت موضوعة لمركب إلا أنه مركب اعتباري، و النقاش هو في تحديد الصحيح.
الوجه الخامس: أن وضع ألفاظ العبادات كوضع ألفاظ المقادير و الأوزان، فإنه مما لا شبهة فيه إن ألفاظ المقادير و شبهها ليست موضوعة لخصوص ذلك المقدار المعين؛ بل هي موضوعة له و للزائد و الناقص عرفا.
الإشكال على التصوير الخامس: هو نفس الإشكال على التصوير الرابع بأن نقول: إن قياس ألفاظ العبادات بألفاظ المقادير قياس مع الفارق، و ذلك لعدم غير الصحيح مع تميز المقدار الموضوع له الوزن و شبهه.
- الأمر الرابع: الظاهر أن الوضع و الموضوع له في ألفاظ العبادات عامان إلا أن الوضع عام و الموضوع له خاص، لأن ذلك بعيدا لاستلزامه أحد محذورين:
١- أن يكون استعمال الألفاظ في الأحاديث ك إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ في الجامع مجازيا، و هذا بعيد لاحتياج ذلك إلى القرينة المنتفية وجدانا.
٢- أو أن ندعي إن الألفاظ في تلك الأحاديث لم تستعمل في الجامع بل في الخاص منها، و هذا أيضا بعيد، لأن الظاهر: أن المراد من «الصلاة» في أمثال تلك الأحاديث: هي الطبيعة لا خصوصياتها من سفر و حضر و قصر ... إلخ.
- الأمر الخامس: ما هي ثمرة النزاع في وضع ألفاظ العبادات للصحيح أو الأعم؟
الجواب: أن الثمرة تظهر في جواز التمسك بالإطلاق و قرينة الحكمة في رفع ما شك في جزئيته أو شرطيته بناء على القول بالأعم، و عدم جواز التمسك بالإطلاق لذلك على القول بالوضع الصحيح.
- توضيح ذلك نقول: لا يجوز التمسك بالإطلاق إلا بعد تمامية مقدماته و هي:
١- كون المتكلم في مقام البيان.
٢- عدم القرينة.
٣- كون الحكم متعلقا بالطبيعة لا بحصة خاصة، فما لم يحرز توفر هذه المقدمات لا يمكن التمسك بالإطلاق لرفع الشّك في الجزئية أو الشرطية ففي المثال: «ما لو شك مثلا في جزئية السورة أو شرطية الطمأنينة في الصلاة» يستطيع الأعمّي أن يرفع الشّك في أن السورة جزء و في أن الطمأنينة شرط في امتثال الأمر المتعلق بطبيعة الصلاة، نستطيع أن نجري الإطلاق لرفع الشّك في الجزئية أو الشرطية. كل ذلك مع القطع بعدم مدخلية السورة أو الطمأنينة في المسمى بالصلاة؛ و إلا لم يجز الإطلاق للشّك في تحقيق الموضوع.
و هذا بخلاف القول بالوضع للصحيح، فمع الشّك في الجزئية أو الشرطية، فلأنه يقول بالوضع للصحيح، و أن المأمور به هو خصوص الصلاة الصحيحة سيكون الشّك شكا في تحقق الموضوع و عدمه، لأن الأمر ليس متوجها للطبيعة فلا يتمسك بالإطلاق.
نعم على القول بالأعمّي: لا يمكن التمسك بالإطلاق أيضا، مع عدم إحراز المقدمة الأولى من مقدمات الإطلاق و هي: كون المتكلم في مقام البيان، فإنه حينئذ لا فرق بين القول الأعم أو بالصحيح في عدم جواز التمسك بالإطلاق لرفع الشك. فلا بدّ أن يذهب إلى الأصل العملي بأن يتمسك بالبراءة أو
١١٢
بالاشتغال.
و هنا اختلف العلماء و الفقهاء في تعيين الأصل الجاري في المسألة- و هي مسألة دوران الأمر بين الأقل و الأكثر الارتباطين- أي: اللذين لا يمكن امتثال أحدهما من دون امتثال الآخر، في مقابل الاستقلاليين الذين يمكن فيهما ذلك.
و لدوران الأمر بين الأقل و الأكثر الارتباطين فقد اختلف العلماء. فقد ذهب الشّيخ الأنصاري (قدس سره) إلى أصل البراءة عن الزائد- و هو السورة أو الطمأنينة في المسألة السابقة- فإنه يشك في أن أجزاء «الصلاة» هل هي تسعة مثلا أو عشرة بإدخال السورة أو الطمأنينة. و قد ذهب المصنف إلى أصل الاشتغال عن الزائد في المسألة (١).
أدلة القول بالوضع للصحيح: الأول: التبادر، و ذلك لانسباق المعنى الصحيح من ألفاظ العبادات.
و يشكل: كيف يمكن ادعاء التبادر مع أنه تقدم في بحث تصوير الجامع: أن ألفاظ العبادات مجملة.
الجواب: إنه لا منافاة من كونها مجملة من وجه، و مبينة من وجوه ككونها موضوعة لما تنهى عن الفحشاء و المنكر «في الصلاة»، فإن هذا الوصف يتبين لنا الفرد الصحيح.
الثّاني: صحة سلب الاسم عن الفاسدة.
و صحة السلب لا يكون علامة على المجاز إلا إذا كان بملاحظة دقيقة لا مسامحية، لأنه يمكن إطلاق اسم «الصلاة» مثلا على الفاسد منها للإخلال بجزء أو شرط؛ و لكن إطلاقا مسامحيا للأنس بالمشابهة بالصورة الصحيحة، و لكن بالدقة يمكن أن يقال إنها ليست صلاة.
الثّالث: ادعاء أن طريقة الواضعين و ديدنهم جرت على وضع الألفاظ لخصوص المركبات التامة، لأن الحكمة الدّاعية إلى الوضع هي إفهام الأغراض، و هي مترتبة على خصوص التام، و الشارع لم يتعدّ هذه الطريقة.
فإن قيل: كيف يتم ذلك مع أن الحاجة قد تقتضي استعماله في الناقص؟
أجيب: بأن هذا الاستعمال لا يلزم أن يكون على وجه الحقيقة، بل على نحو المجاز و المسامحية، و ذلك تنزيلا للفاقد منزلة الواجد للتشابه في الصورة.
الرابع: استدل على الوضع للصحيح بطائفتين من الأخبار:
الطائفة الأولى: ما أثبت فيها بعض الخواص و الآثار للمسميات ك «الصلاة عمود الدين أو معراج المؤمن، و الصوم جنة من النار ... إلخ». و توضيح الاستدلال بهذه الطائفة: أنه لو كان المراد الأعم من الصحيح و الفاسد لصحّ ترتب هذه الآثار على الفاسد منها، و هذا خلاف الضرورة. و لو قلت: إن
____________
(١) المصادر: ١- تقريراتي لدروس فضيلة الأستاذ الشيخ باقر الإيرواني لدروس الكفاية (بتصرف).
٢- منتهى الأصول، ج ١، ص ٨٩- ١٠٢.
٣- محاضرات في أصول الفقه، ج ١، ص ١٣٤- ١٤٨.
٤- منتهى الدراية في شرح الكفاية، ج ١، ص ١٠٣- ١٢٩.
١١٣
الألفاظ موضوعة للأعم و لكن هنا نقدّر الأخص و هو الصحيح. لقلنا: إن هذا التقدير خلاف الأصل.
الطائفة الثانية: ما نفي فيها الماهية لفقد شرط أو جزء ك «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب»، فإن الظاهر عند الإطلاق أن النفي راجع للماهية أي: حقيقة «الصلاة» لا وصفها أي: الصحة، فدل ذلك على وضع «الصلاة» لخصوص الصحيح.
و أشكل على الاستدلال بالطائفتين: بما حاصله:- أن الاستدلال بهما مبني على ما لو حملنا الألفاظ على معانيها الحقيقة، و معلوم: إنه لا يمكن الحمل على المعنى الحقيقي إلا مع إحراز عدم القرينة على المجاز، و القرينة هنا موجودة و هي شيوع إرادة الصحيح في أمثال الطائفة الأولى، و شيوع إرادة نفي الصحة و الكمال في أمثال الطائفة الثانية، فهذه الشهرة تشكل قرينة مانعة عن إرادة الطبيعة الموضوع لها اللفظ.
و الجواب: أن حمل الأحاديث المثبتة على خصوص الصحيح، و الأحاديث النافية على إرادة نفي الصحة (نفي الوصف لا الماهية)، و الكمال هذا خلاف الظاهر؛ لأن الظاهر عند إطلاق اللفظ هو إرادة الطبيعية، و لا يخالف هذا الظاهر إلا مع نصب القرينة و هي منتفية، بل يمكن ادعاء إرادة نفي الماهية حتى في مثل حديث «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد»، مع الاتفاق على أن المراد هنا: هو نفي الكمال، و ذلك لأن نفي الماهية تارة: على نحو الحقيقة و تارة: على نحو المجاز للمبالغة، و الحديث الأخير على نحو المجاز، فالمنفي هو الماهية لا الصفة و إلا لما دلّ على المبالغة (١).
أدلة الوضع للأعم: الأوّل: التبادر، فيدعى تبادر الأعم عند إطلاقه ألفاظ العبادات.
الثّاني: عدم صحة السلب عن الفاسد، فإن الصلاة الفاسدة لا يصح سلب اسم الصلاة عنها فهي صلاة. فكونها فاسدة لا يسلب كونها صلاة.
الثّالث: صحة التقسيم إلى الصحيح و الفاسد بأن نقول: الصلاة إما صحيحة و إما فاسدة. و توضيح الاستدلال: أنه لو كان لفظ الصلاة موضوعا لخصوص الصحيح لبطلت القسمة السابقة؛ لأنها ستكون من باب تقسيم الشيء إلى نفسه و غيره، و لأنه لا تصح القسمة إلا إذا كان المقسم مشتملا على الأقسام و صادقا عليها.
و يشكل: بأنه لا تتوقف صحة القسمة على كون المقسم موضوعا لجميع الأقسام، بل تتوقف على أن يراد من استعمال المقسم جميع الأقسام و لو مجازا.
و بعبارة أخرى: أن الاستدلال بصحة القسمة متوقف على كون الأصل في الاستعمال الحقيقة، و الأصل لا يرجع إليه إلا مع وجود دليل على خلافه، و هنا أدلة الوضع للصحيح تخالف هذا الأصل، هذا فضلا على أن مختار المصنف هو أن أصالة الحقيقة في الاستعمال إنما تكون حجة مع الشك في
____________
(١) المصادر: ١- تقريري لدروس الكفاية للشيخ باقر الإيرواني (بتصرف).
٢- الكفاية، ج ١، ص ١٣٦.
٣- منتهى الأصول، ج ١، ص ٨٥- ٨٨.
١١٤
المراد مع العلم بالمعنى الحقيقي، و في موضع البحث الشك كائن في كيفية الإرادة مع العلم بالمراد، و الأصل هنا ليس حجة. فإذا: إطلاق لفظ «الصلاة» على الفاسدة في التقسيم إطلاق مجازي و بالعناية.
الرابع: استعمال «الصلاة» و غيرها في كثير من الأحاديث في الفاسدة فمنها:
١- «بنى الإسلام على خمس: الصلاة، و الزكاة، و الصوم، و الحج، و الولاية، و لم يناد بشيء كما نودي بالولاية، فأخذ الناس بأربع و تركوا هذه، فلو أن أحدا صام نهاره و قام ليله و مات بغير ولاية لم يقبل له صوم و لا صلاة».
توضيح الاستدلال: أنه يظهر من بعض الروايات و كما أفتى به بعض الفقهاء كون الولاية شرط في صحة العبادة، فصلاة المخالفين فاسدة، مع أنه بناء على تعبير الإمام (عليه السلام) من أهل الخلاف بأنهم أخذوا بالأربع، لا بدّ من أن تكون ألفاظ العبادات موضوعة للأعم ليصدق أخذهم بالأربع، لوضوح عدم صدق الأخذ مع القول بالصحيح.
٢- قوله (عليه السلام) للحائض «دعي الصلاة أيام أقرائك». توضيح الاستدلال: أنه يشترط في النهي القدرة على متعلق النهي، و هي لا تتحقق إلا بأن نقول: بوضع لفظ «الصلاة» مع الأعم من الصحيح و الفاسد، لوضوح: عدم قدرة الحائض على إتيان «الصلاة» الصحيحة لو كانت منهية عنها على القول الصحيح.
جواب يعم الروايتين: أن الاستعمال أعم من الحقيقة أي: أنه حتى لو أمكن استعمال «الصلاة» مثلا في الروايتين في الفاسدة، فنقول: إنه استعمال مجازي و بالعناية.
جواب مختص بالرواية الأولى: منع استعمال لفظ الصلاة في الفاسدة؛ و ذلك لأن بناء الإسلام على «الصلاة» يشكل قرينة معينة لإرادة خصوص الصحيح، و ذلك لوضوح: عدم بناء الإسلام على الأعمال الفاسدة، فلم تستعمل «الصلاة» في الرواية في الفاسدة.
- فإن قيل: كيف يمكن ادعاء استعمال «الصلاة» هنا في خصوص الصحيح، مع أنه قال في الحديث:
«إنهم أخذوا بالأربع»، فبناء على بطلان صلاة تاركي الولاية «أهل الخلاف» يتعين صدق و إطلاق «الصلاة» على الفاسدة منها، لأن هذا هو مقتضى الأخذ.
الجواب: إنه لا يمكن النقض بهذا، فلعلّ الإمام (عليه السلام) عبر بقوله «فأخذوا بالأربع» بانيا في ذلك على اعتقادهم الخاطئ من صحة صلاتهم، يطلق «الصلاة» على فعلهم على الاعتقاد الصحيح، و هذا الشيء غير مختص بهذه الجملة؛ بل حتى في قوله في الذيل: «فلو أن أحدا صام ... إلخ».
فكيف أطلق الصيام على فعل أهل الخلاف؟ فنقول: إنه (عليه السلام) استعمل اللفظ في خصوص الصحيح، و لكن المخالفين مخطئون في تطبيق «الصلاة» الصحيحة على مصاديقها، فيعتقدون بصحة صلاتهم.
- و يمكن أن نقول: إن اللفظ موضوع لخصوص الصحيح؛ لكن الإمام (عليه السلام) استعمله في الفاسد مجازا بقرينة المشابهة، و المشاكلة بين الصحيح و الفاسد.
جواب مختص بالرواية الثانية: في قوله (عليه السلام): «دعي الصلاة أيام أقرائك» إننا نمنع استعمال
١١٥
«الصلاة» هنا في الفاسدة، و ذلك لأن النهي هنا إرشاد إلى مانعية الحيض من صحة «الصلاة»، و الحيض لا يكون مانعا إلا عن «الصلاة» الصحيحة دون الفاسدة، فهو كالنهي عن «الصلاة» في النجس، لا يدل على حرمة «الصلاة» على الحائض ليقال بإطلاق اللفظ على الفاسد، بل هو إرشاد إلى فسادها لوجود المانع من الصحة، و إرشاد إلى عدم قدرتها على إتيان «الصلاة» صحيحة.
- و الذي يدل على إرشادية النهي هو: استلزام المحذور من ادعاء المولوية، و هو حرمة «الصلاة على الحائض» تحريما ذاتيا، بمعنى: أنه و إن لم تقصد القربة يحرم عليها لاستلزامه التشريع المحرم، بل ذات «الصلاة» بجميع ما يعتبر منها من أركان و شرائط محرمة على الحائض و إن لم تقصد القربة، و يبعد أن يقول المستدل بالرواية بهذا النوع من الحرمة الذاتية.
الخامس: من الوجوه التي استدل بها على الوضع للأعم هو مسألة النذر- توضيح ذلك: مما لا شبهة و لا شك فيه هو صحة تعلق النذر و شبهة بترك «الصلاة» في المكان الذي تكره «الصلاة فيه» كالحمام، و أنه يحصل حنث النذر لو فعلها فيه، مع أنه لو كانت الألفاظ موضوعة لخصوص الصحيح للزم أحد محذورين:
١- المحال: و ذلك لأنه بعد تعلق النذر بترك «الصلاة» و هي (الصحيحة بناء على وضع الألفاظ لخصوص الصحيح كما هو الفرض) تكون «الصلاة» فاسدة حينئذ للنهي عنها بسبب النذر، و مع فساد «الصلاة» تخرج عن متعلق النذر الذي هو الصحيح، فإذا اتضح ذلك نقول: إذا: يلزم من وجود النذر عدمه، و ما يلزم من وجوده عدمه محال.
٢- عدم حصول الحنث بفعل «الصلاة» في المكان الذي تعلق النذر بتركها فيه- على تقدير صحة النذر- و ذلك لأن المنذور تركها هو «الصلاة» الصحيحة كما هو الفرض، و المأتي به في الخارج و في المكان الذي تكره فيه فاسد بسبب النذر، فلا يحصل حنث مع إنه مما لا شبهة في حصوله.
الجواب: إن الاستدلال السابق إن صح فإنه لا يقتضي الأعدام صحة تعليق النذر بالصحيح لا عدم وضع اللفظ شرعا له، أي: إنه لا يستفاد من الدليل أكثر من عدم صحة تعلق النذر بترك الصلاة الصحيحة في المكان الذي تكره فيه، لعدم القدرة على الإتيان بها صحيحة فيه، و لا يستفاد عدم صحة القول بوضع الألفاظ لخصوص الصحيح شرعا، لأنه يأتي ذلك حتى على القول بالوضع للأعم، مع قصد الناذر خصوص ترك الصحيحة، فالاستدلال آت هنا.
فإن قلت: أن الاستدلال السابق يفيدنا على الأقل أن المراد من «الصلاة المنذور تركها» هو الأعم من الصحيح و الفاسد، فإذا ثبت استعمالها في الأعم نقول: الأصل في الاستعمال الحقيقة.
قلنا: هذا مبني على حجية أصالة الحقيقة مع العلم بالمراد و الشك في كيفية الإرادة، مع أنه قد سبق إن العقلاء لا يجرونها إلا مع الشك في المراد، هذا فضلا على أن الاستعمال أعم من الحقيقة و المجاز.
الجواب الآخر على الاستدلال: أن النذر يصح تعلق بما كان صحيحا لو لا النذر، أي: يصح تعلق النذر بالصحيح و لو كان فاسدا بعد النذر. هنا «الصلاة في الحمام صحيحة» لو لا النذر، فصح تعلق النذر بتركها، فلو أتى بها حينئذ حصل الحنث فلا يصح الاستدلال بما سبق. نعم لو كان قصد النادر هو ترك «الصلاة» الصحيحة مطلقا حتى بعد النذر، أي: الصحيح فعلا، فحينئذ يمكن منع حصول
١١٦
العبادات (١) أو المعاملات (٢) أ هي أسام موضوعة للمعاني الصحيحة أو للأعم منها و من الفاسدة (٣).
____________
[مقدمات]
و قبل بيان المختار لا بد من تقديم مقدمات:
(الأولى)
- إن هذا النزاع (٤) لا يتوقف على ثبوت الحقيقة الشرعية، لأنه قد عرفت أن هذه الألفاظ (٥) مستعملة في لسان المتشرعة بنحو الحقيقة و لو على نحو الوضع التعيني عندهم (٦). و لا ريب أن استعمالهم (٧) كان يتبع الاستعمال في لسان الشارع، سواء كان استعماله على نحو الحقيقة أو المجاز.
فإذا عرفنا- مثلا- أن هذه الألفاظ في عرف المتشرعة كانت حقيقة في خصوص الصحيح، يستكشف منه: أن المستعمل فيه في لسان الشارع هو الصحيح أيضا، مهما كان استعماله عنده أ حقيقة كان أم مجازا. كما أنه لو علم أنها كانت حقيقة في الأعم في عرفهم كان ذلك أمارة على كون المستعمل فيه في لسانه هو الأعم أيضا، و إن كان استعماله على نحو المجاز (٨).
الحنث بإتيانها فيه لعدم صحتها حينئذ، و هذا لا يصح الاستدلال على إطلاقه (١).
(١) كالصلاة و الصيام و الزكاة و غيرها.
(٢) كالبيع و الإجارة و النكاح و الطلاق و نحوها.
(٣) و مثاله: الصلاة هي موضوعة لخصوص الصلاة الصحيحة (تامة الأجزاء و الشرائط)، أم هي موضوعة للأعم من الصحيحة و الفاسدة (ناقصة الأجزاء و الشرائط)؟
و لفظة البيع هل هي موضوعة لخصوص البيع الصحيح، أم للأعم من الصحيح و الفاسد؟
(٤) أي: في كون ألفاظ العبادات و المعاملات موضوعة للأخص أو للأعم.
(٥) أي: ألفاظ العبادات و المعاملات.
(٦) الضمير راجع إلى المتشرعة.
(٧) الضمير راجع إلى المتشرعة.
(٨) و بعبارة أخرى نقول: إن استعمال المتشرعة لألفاظ العبادات و المعاملات يتبع استعمال الشارع، فإذا استعمل الشارع لفظ الصلاة في خصوص الصحيحة فالمتشرعة يتبعونه في ذلك؛ فيستعملون لفظ الصلاة في خصوص الصحيحة مهما كان استعمال لفظ الصلاة عند الشارع، سواء كان حقيقيا أو مجازيا، هذا لا يؤثر في كونهم يتبعونه في الاستعمال.
____________
(١) المصادر: ١- تقريري لدرس فضيلة الأستاذ الشيخ باقر الإيرواني في الكفاية (بتصرف).
٢- منتهى الأصول، ج ١، ص ٧٦- ١٠٣.
٣- محاضرات في أصول الفقه، ج ١، في مبحث الصحيح و الأعم.
٤- مباحث الدليل اللفظي، ج ١، ص ٢٠٢- ٢٠٨.
١١٧
(الثانية)
- إن المراد من الصحيحة من العبادة أو المعاملة: هي التي تمت أجزاؤها و كملت شروطها، و الصحيح إذا معناه: تام الأجزاء و الشرائط، فالنزاع يرجع هنا إلى أن الموضوع له خصوص تام الأجزاء و الشرائط من العبادة أو المعاملة، أو الأعم منه و من الناقص.
(الثالثة)
- إن ثمرة النزاع هي: صحة رجوع القاتل بالوضع للأعم- المسمى (بالأعمّي)- إلى أصالة الإطلاق، دون القائل بالوضع للصحيح- المسمى (بالصحيحي)- فإنه لا يصح له الرجوع إلى أصالة إطلاق اللفظ.
توضيح ذلك:
إن المولى إذا أمرنا بإيجاد شيء و شككنا في حصول امتثاله بالإتيان بمصداق خارجي فله صورتان يختلف الحكم فيهما:
١- أن يعلم صدق عنوان المأمور به على ذلك المصداق، و لكن يحتمل دخل قيد زائد في غرض المولى غير متوفر في ذلك المصداق، كما إذا أمر المولى بعتق رقبة، فإنه يعلم بصدق عنوان المأمور به على الرقبة الكافرة، و لكن يشك في دخل وصف الإيمان في غرض المولى فيحتمل أن يكون قيدا للمأمور به.
فالقاعدة في مثل هذا: الرجوع إلى أصالة الإطلاق في نفي اعتبار القيد المحتمل اعتباره فلا يجب تحصيله، بل يجوز الاكتفاء في الامتثال بالمصداق المشكوك، فيمتثل في المثال لو أعتق رقبة كافرة.
٢- أن يشك في صدق نفس عنوان المأمور به على ذلك المصداق الخارجي، كما إذا أمر المولى بالتيمم بالصعيد، و لا ندري أن ما عدا التراب هل يسمى صعيدا أو لا، فيكون شكنا في صدق الصعيد على غير التراب. و في مثله لا يصح الرجوع إلى أصالة الإطلاق لإدخال المصداق المشكوك في عنوان المأمور به ليكتفى به في مقام الامتثال، بل لا بد من الرجوع إلى الأصول العملية، مثل قاعدة الاحتياط أو البراءة.
و من هذا البيان تظهر ثمرة النزاع في المقام الذي نحن فيه، فإنه في فرض الأمر بالصلاة و الشك في أن السورة- مثلا- جزء للصلاة أم لا إن قلنا إن الصلاة اسم للأعم، كانت المسألة من باب الصورة الأولى، لأنه بناء على هذا القول يعلم بصدق عنوان الصلاة على المصداق الفاقد للسورة، و إنما الشك في اعتبار قيد زائد على المسمى، فيتمسك حينئذ: بإطلاق كلام المولى في نفي اعتبار الزائد- و هو كون
١١٨
السورة جزء من الصلاة- و يجوز الاكتفاء في الامتثال بفاقدها.
و إن قلنا: إن الصلاة اسم للصحيح كانت المسألة من باب الصورة الثانية؛ لأنه عند الشك في اعتبار السورة يشك في صدق عنوان المأمور به (أعني: الصلاة) على المصداق الفاقد للسورة، إذ عنوان المأمور به هو الصحيح، و الصحيح هو عنوان المأمور به، فما ليس بصحيح ليس بصلاة. فالفاقد للجزء المشكوك كما يشك في صحته يشك في صدق عنوان المأمور به عليه. فلا يصح الرجوع إلى أصالة الإطلاق لنفي اعتبار جزئية السورة حتى يكتفى بفاقدها في مقام الامتثال، بل لا بد من الرجوع إلى أصالة الاحتياط أو أصالة البراءة على خلاف بين العلماء في مثله سيأتي في بابه إن شاء الله تعالى.
المختار في المسألة:
إذا عرفت ما ذكرناه من المقدمات فالمختار عندنا: هو الوضع للأعم. و الدليل:
التبادر و عدم صحة السلب عن الفاسد، و هما أمارتا الحقيقة- كما تقدم-.
وهم و دفع:
(الوهم)- قد يعترض على المختار فيقال:
إنه لا يمكن الوضع بازاء الأعم، لأن الوضع له يستدعي أن نتصور معنى كليا جامعا بين أفراده و مصاديقه هو الموضوع له، كما في أسماء الأجناس (١). و كذلك الوضع للصحيح يستدعي تصور كلي جامع بين مراتبه و أفراده.
و لا شك: أن مراتب الصلاة- مثلا- الفاسدة و الصحيحة كثيرة متفاوتة، و ليس بينها قدر جامع يصح وضع اللفظ بازائه.
توضيح ذلك: إن أي جزء من أجزاء الصلاة حتى الأركان إذا فرض عدمه يصح صدق اسم الصلاة على الباقي، بناء على القول بالأعم، كما يصح صدقه مع وجوده و فقدان غيره من الأجزاء. و عليه يكون كل جزء مقوما للصلاة عند وجوده غير مقوم عند عدمه، فيلزم التبدل في حقيقة الماهية، بل يلزم الترديد فيها عند وجوده تمام
____________
(١) كما هو في مفهوم الإنسان، فإن الواضع لمّا أراد أن يضع لفظ الإنسان تصور المعنى الكلي و وضع له لفظ الإنسان، و المعنى الكلي هو الجامع بين أفراد الإنسان.
١١٩
الأجزاء؛ لأن أي جزء منها لو فرض عدمه يبقى صدق الاسم على حاله (١).
و كل منهما- أي: التبدل و الترديد في الحقيقة الواحدة- غير معقول؛ إذ أن كل ماهية تفرض لا بد أن تكون متعينة في حد ذاتها و إن كانت مبهمة من جهة تشخصاتها الفردية، و التبدل أو الترديد في ذات الماهية معناه: إبهامها في حد ذاتها و هو مستحيل.
(الدفع): إن هذا التبادل في الأجزاء و تكثّر مراتب الفاسدة لا يمنع من فرض قدر مشترك جامع بين الأفراد، و لا يلزم التبدل و الترديد في ذات الحقيقة الجامعة بين الأفراد. و هذا نظير لفظ «الكلمة» الموضوع لما تركب من حرفين فصاعدا، و يكون الجامع بين الأفراد هو ما تركب من حرفين فصاعدا، مع أن الحروف كثيرة، فربما تتركب الكلمة من الألف و الباء كأب و يصدق عليها أنها كلمة، و ربما تتركب من حرفين آخرين مثل «يد» و يصدق عليها أنها كلمة ... و هكذا. فكل حرف يجوز أن يكون داخلا و خارجا في مختلف الكلمات، مع صدق اسم الكلمة.
و كيفية تصحيح الوضع في ذلك: أن الواضع يتصور- أولا- جميع الحروف الهجائية، ثم يضع لفظ «الكلمة» بإزاء طبيعة المركب من اثنين فصاعدا إلى حد سبعة حروف مثلا. و الغرض من التقييد بقولنا «فصاعدا»: بيان الكلمة تصدق على الأكثر من حرفين كصدقها على المركب من حرفين.
و لا يلزم الترديد في الماهية، فإن الماهية الموضوع لها هي طبيعة اللفظ الكلي المتركب من حرفين فصاعدا، و التبدل و الترديد إنما يكون في أجزاء أفرادها. و قد يسمى ذلك الكلي في المعين أو الكلي المحصور في أجزاء معينة. و في المثال أجزاؤه
____________
(١) مثال لبيان و إيضاح معنى التبدل و الترديد و وجه بطلانه: إذا قلنا: بأن لفظة الصلاة موضوعة لمعظم الأجزاء و لتفرض هي ستة أجزاء، و جاء المكلف بصلاة واجدة لهذه الأجزاء الستة و من ضمنها التشهد، إذا: التشهد جزء مقوم لماهية الصلاة، و لو فرضنا جاء المكلف بصلاة واجدة لستة أجزاء ليس فيها التشهد بل فيها مثلا التسليم، فسوف يكون التسليم هنا جزء مقوما للصلاة، و التشهد ليس جزء مقوما للصلاة، إذا: سيكون التشهد في حالة الإتيان به جزء مقوما، و في حالة عدم الإتيان به ليس جزء مقوما، و كذلك التسليم، و هذا معناه التبدل في أجزاء الماهية و هو محال. و لو فرضنا أن المكلف جاء بصلاة تامة الأجزاء أي: واجدة للعشرة الأجزاء، هنا سوف يلزم الترديد في أجزاء الماهية، لأننا لا ندري أيّا من الستة مقومة هل الستة الأولى، أم الوسطى، أم الأخيرة؟
١٢٠
المعينة هي الحروف الهجائية كلها (١).
و على هذا ينبغي أن يقاس لفظ الصلاة مثلا، فإنه يمكن تصور جميع أجزاء الصلاة في مراتبها كلها و هي- أي هذه الأجزاء- معينة معروفة كالحروف الهجائية، فيضع اللفظ بإزاء طبيعة العمل المركب من خمسة أجزاء منها- مثلا- فصاعدا، فعند وجود تمام الأجزاء يصدق على المركب أنه صلاة، و عند وجود بعضها- و لو خمسة على أقل تقدير على الفرض- يصدق اسم الصلاة أيضا.
بل الحق: أن الذي لا يمكن تصور الجامع فيه هو خصوص المراتب الصحيحة.
و هذا المختصر لا يسع تفصيل ذلك.
تنبيهان
١- لا يجري النزاع في المعاملات بمعنى المسببات
إن ألفاظ المعاملات- كالبيع و النكاح- و الإيقاعات- كالطلاق و العتق- يمكن تصوير وضعها على أحد نحوين.
١- أن تكون موضوعة للأسباب التي تسبب مثل: الملكية و الزوجية و الفراق و الحرية و نحوها. و نعني بالسبب: إنشاء العقد و الإيقاع، كالإيجاب و القبول معا في العقود، و الإيجاب فقط في الإيقاعات. و إذا كان كذلك فالنزاع المتقدم يصح أن نفرضه في ألفاظ المعاملات من كونها أسامي لخصوص الصحيحة أعني: تامة الأجزاء و الشرائط المؤثرة في المسبب، أو للأعم من الصحيحة و الفاسدة. و نعني بالفاسدة: ما لا يؤثر في المسبب إما لفقدان جزء أو شرط.
٢- أن تكون موضوعة للمسببات، و نعني بالمسبب: نفس الملكية و الزوجية و الفراق و الحرية و نحوها. و على هذا: فالنزاع المتقدم لا يصح فرضه في المعاملات، لأنها لا تتصف بالصحة و الفساد، لكونها بسيطة غير مركبة من أجزاء و شرائط، بل إنما تتصف بالوجود تارة و بالعدم أخرى. فهذا عقد البيع- مثلا- إما أن يكون واجدا
____________
(١) إشارة إلى أن الكلي ينقسم إلى قسمين:
١- معين، و هو ما كانت أفراده متناهية لانحصار أجزائه، كما في مثال الكلمة، فإن أجزاءها المعينة هي الحروف الهجائية و هي حروف متناهية.
٢- غير معين، و هو ما كانت أفراده لا متناهية لعدم الانحصار، كما في الأعداد الرياضية، فإنها غير متناهية.
١٢١
لجميع ما هو معتبر في صحة العقد أو لا، فإن كان الأول: اتصف بالصحة، و إن كان الثاني اتصف بالفساد. و لكن الملكية المسببة للعقد يدور أمرها بين الوجود و العدم لأنها توجد عند صحة العقد، و عند فساده لا توجد أصلا لا أنها توجد فاسدة. فإذا أريد من البيع نفس المسبب- و هو الملكية المنتقلة إلى المشتري- فلا تتصف بالصحة و الفساد حتى يمكن تصوير النزاع فيها (١).
____________
ينبغي التنبيه على أمور: (١) الأول: اختلف في أسماء المعاملات ك «البيع» هل هي موضوعة للأسباب أو هي موضوعة للمسببات؟ و نعني بالأول: نفس المؤثر للأثر المقصود من العقد و هو نفس الإيجاب و القبول، و نعني بالثاني: نفس الأثر المترتب على العقد و هو الملكية في مثل: «البيع». إذا اتضح ذلك، نقول: بناء على الرأي الثاني القائل بالوضع للمسببات لا معنى للنزاع في أن ألفاظ المعاملات ك «البيع» هل هي موضوعة للصحيح أو للأعم، و ذلك لأنه لما كان المقصود من «البيع» هو نفس الملكية فلا معنى لاتصافها بالصحة و الفساد بل هي إما موجودة و إما منتفية، و إذا وجدت فلا تتصف بالصحة و الفساد.
نعم بناء على الرأي الأول القائل بوضع ألفاظ المعاملات ك «البيع» للأسباب أي: نفس الإيجاب و القبول فللنزاع مجال، أي: يمكن النزاع حينئذ في أن ألفاظ المعاملات هل هي موضوعة للعقد الصحيح المشتمل على جميع ما يعتبر في العقود أو لا؟ بل هي موضوعة للأعم من ذلك و من الفاسد الغير مشتمل على جميع ما يعتبر فيها.
ألفاظ المعاملات موضوعة للصحيح: نعم بناء على الرأي الأول حيث يمكن النزاع نقول: يمكننا ادعاء وضع ألفاظ المعاملات ك «البيع» للصحيح، و خصوص ما يؤثر في المسبب و يوجده خارجا أي: ما يحقق الملكية في المثال، و هذا لا يختلف بين الشرع و العرف.
فإن قلت: كيف لا يختلف ذلك بين الشرع و العرف، مع أنا نرى بعض البيوع صحيحة عرفا دون الشرع «كبيع الصبي» فإنه صحيح عرفا دون الشرع.
قلنا: إن معنى الصحيح و الفاسد عند الشرع و العرف واحد، و إنما اختلف العرف عن الشرع في المصاديق، فالشرع يخطئ العرف في تخيّل كون العقد بدون ما اعتبر الشرع صحيحا و مؤثرا في المسبب.
الثاني: إن كون ألفاظ المعاملات ك «البيع» الموضوعة لخصوص الصحيح لا يوجب إجمالها كما أشكل بذلك على ألفاظ العبادات على القول بالصحيح، فلو قلنا: إن «البيع» موضوع لخصوص الصحيح و هو المؤثر في الملكية، هذا لا يوجب إجمال معنى الصحيح في مثل: «البيع» لكي يقال:
كيف يعتمد العلماء على الإطلاق، فنفى ما شك في اعتباره في صحة المعاملات، كما يتمسكون لنفي اعتبار العربية مثلا في العقد بإطلاق أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و أمثالها.
و ذلك لأن المعاملات تختلف عن العبادات من جهة: أن الأولى إمضائية و الشارع أمضى ما عليه العرف و لم يأت بشيء جديد، بخلاف الثانية فإنها إنشائية و اختراعية.
١٢٢
٢- لا ثمرة للنزاع في المعاملات إلا في الجملة
قد عرفت- إنه على القول بوضع ألفاظ (العبادات) للصحيحة- لا يصح التمسك بالإطلاق عند الشك في اعتبار شيء فيها، جزء كان أو شرطا، لعدم إحراز صدق الاسم على الفاقد له. و إحراز صدق الاسم على الفاقد شرط في صحة التمسك بالإطلاق.
____________
فعند ما نشك في اعتبار أمر شرعا في معاملة زائدة على ما اعتبره العرف في صحة المعاملة و تأثيرها في المسبب، أمكننا التمسك بالإطلاق المقامي لنفي اعتبار ذلك المشترك، و ذلك بأن نقول: لو اعتبر المولى في صحة المعاملة أمرا زائدا على ما اعتبره العرف لوجب نصب القرينة على اعتباره حين إمضاء المعاملة منه، و لما لم ينصب على ذلك قرينة علم اتحاد ما هو المعتبر عنده بما هو المعتبر عند العرف.
و يدلك على ذلك: أن كثيرا من الأصوليين القائلين بوضع المعاملة لخصوص الصحيح يتمسكون عند الشك في اعتبار أمر زائدا ما اعتبره العرف بالإطلاق لنفيه.
و ذلك يدل على وضوح معنى الصحيح في المعاملات و هو خصوص الصحيح لدى العرف. نعم إذا شككنا في اعتبار أمر عرفا في المعاملة لا يمكن التمسك بالإطلاق لنفي اعتباره؛ بل لا بدّ من اعتباره، و ذلك لاستصحاب عدم حصول الأثر بدونه. فتأمل جيدا.
و هذا بخلاف الصحيح في العبادات، فهو مجمل لدى العرف لأنه اختراعي، فعند الشكل في اعتبار أمر في صحة العبادة لا يمكن التمسك بالإطلاق لنفيه.
الثالث: في تفصيل شرائط الماهية و أجزائها و شرائط الأفراد و أجزائها و غيره مما سيذكر.
نقول: إن دخل شيء سواء كان وجوديا أو عدميا في المأمور به على أنحاء أربعة:
الأول: أن يكون الشيء داخلا في ماهية المأمور به على نحو الجزئية و الشرطية. مثال: العدمي:
كدخالة ترك المفطر في ماهية «الصوم» على نحو الجزئية، بناء على أن الصوم مجرد الترك لا الكف.
مثال وجودي: كدخالة الركوع في ماهية «الصلاة» على نحو الجزئية و في مثل هذه الحالة: مما لا إشكال فيه أن انتقاء ذلك الشيء الداخل في الماهية يوجب فساد العمل؛ لأن التسمية تدور مدار وجوده و عدمه، فلا تتحقق ماهية «الصلاة» إلا بالركوع.
الثاني: أن يكون الشيء خارجا عن ماهية المأمور به أي: ليس بجزئها بل مجرد شرط، بمعنى: أن المأمور به أخذت فيه خصوصيات لا تحصل إلا بفعل هذه الشرط، لا أن الماهية لا تحصل إلى به، و هذا يتصور على أنحاء ثلاثة:
النحو الأول: أن تكون الخصوصية المأخوذة في المأمور به ناشئة عن أمر يعتبر سبقه على الماهية المأمور بها، و مثال ذلك: الوضوء فإن «الصلاة» لما أمر بها أخذت فيها خصوصية لا تحصل إلا بسبقها ب «الوضوء»، و هذا يسمى بشرط السابق. و التمثيل ب «الوضوء» في الشرط السابق مبني على كون «الوضوء» نفس الغسلات و المسحات لا أمر آخر مترتب عليها؛ و إلا فهو شرط مقارن كما هو النحو الثاني الآتي.
١٢٣
إلا إن هذا الكلام لا يجري في ألفاظ (المعاملات)، لأن معانيها غير مستحدثة، و الشارع بالنسبة إليها كواحد من أهل العرف، فإذا استعمل أحد ألفاظها فيحمل لفظه على معناه الظاهر فيه عندهم؛ إلّا إذا نصب قرينة على خلافه.
فإذا شككنا في اعتبار شيء- عند الشارع- في صحة البيع مثلا، و لم ينصب قرينة على ذلك في كلامه، فإنه يصح التمسك بإطلاقه لدفع هذا الاحتمال، حتى لو قلنا: بأن ألفاظ المعاملات موضوعة للصحيح، لأن المراد من الصحيح: هو الصحيح
____________
النحو الثاني: أن تكون الخصوصية المأخوذة في المأمور به ناشئة عن أمر يعتبر اقترانه مع الماهية المأمور بها، و مثال ذلك: وجوب الاستقبال، فإن «الصلاة» كما أمر بها أخذت فيها خصوصية لا تحصل إلا باقترانها بالاستقبال، و هذا الشرط يسمى بالمقارن.
النحو الثالث: أن تكون الخصوصية المأخوذة في المأمور به ناشئة عن أمر يعتبر لحوقه للماهية المأمور بها، و مثال ذلك: وجوب الغسل الليلي لصحة صوم المستحاضة النهاري، فإن الصوم لمّا أمر به أخذت فيه خصوصية لا تحصل إلا بلحوقه بالغسل في المستحاضة- و هذا الشرط يسمى باللاحق.
فإذا اتضح ذلك نقول: لا محالة أن الإخلال بأحد هذه الأنحاء من الشروط «السابق- المقارن- اللاحق» يوجب فساد العمل بأن يأتي «بالصلاة» بلا وضوء أو بلا استقبال، أو تأتي المستحاضة، بالصوم النهاري بلا غسل ليلي، و ذلك لأن الشرط أخذ في الماهية و الحقيقة، و لكن لا على نحو لا تتحقق الماهية بدونه، بل على نحو لا تحصل الخصوصية المأخوذة في ماهية المأمور به إلا بالإتيان به، فهي من مقدمات العمل لا من أجزائه.
الثالث: أن يكون الشيء داخلا في تشخيص الفرد، بحيث يصدق على الفرد المتشخص بهذا الشيء عنوان المأمور به، و هذا الشيء الدخيل في تشخيص الفرد المأمور به تارة: يوجب مزية كالقنوت في «الصلاة»، و تارة: يوجب نقيصة كالتكتف في «الصلاة» بناء على كراهيته لا حرمته.
الرابع: أن يكون ما يوجب التشخيص الفردي خارجا عن الفرد إلا أنه شرط في تشخيصه و هذا أيضا تارة يوجب مزية كالجماعة في الصلاة، و تارة يوجب منقصة كالكون في الحمام في الصلاة أيضا.
إذا اتضح القسم الثالث و الرابع نقول: إن الإخلال بما له الدخل في تشخيص الفرد مطلقا لا يوجب فساد العمل، و ذلك لأن الإخلال به ليس إلا إخلالا بتلك الخصوصية، مع أنه يمكن تحقق الماهية المأمور بها لا بخصوصية أخرى غير موجبة لتلك المزية، بل يمكن أن يأتي بالماهية بخصوصية موجبة للنقص.
فمثال القسم الثالث أن نقول: يمكن للمصلي أن لا يأتي «بالصلاة مع القنوت» بل يأتي بها مع التكتف، و مثال القسم الرابع أن نقول: يمكن للمصلي أن لا يأتي «بالصلاة جماعة»، بل يأتي بها في الحمام مع بقاء الماهية محفوظة في الحالتين.
و هناك قسم خامس: يمكن تصور قسم خامس خارج عن حيّز الجزء و الشرط؛ و ذلك بأن يندب إلى فعل شيء في المأمور به بدون أن يكون له دخل أصلا في حقيقة المأمور به، و لا في خصوصيته و تشخصه، بل يكون المأمور به له دخل ظرفا في مطلوبية هذا الشيء، بحيث لا يكون الشيء مطلوبا
١٢٤
عند العرف العام، لا عند الشارع. فإذا اعتبر الشارع قيدا زائدا على ما يعتبره العرف كان ذلك قيدا زائدا على أصل معنى اللفظ، فلا يكون دخيلا في صدق عنوان المعاملة الموضوعة- حسب الفرض- للصحيح على المصداق المجرد عن القيد. و حالها في ذلك حال ألفاظ العبادات لو كانت موضوعة للأعم.
نعم إذا احتمل أن هذا القيد دخيل في صحة المعاملة عند أهل العرف أنفسهم أيضا، فلا يصح التمسك بالإطلاق لدفع هذا الاحتمال، بناء على القول بالصحيح (كما هو شأن ألفاظ العبادات)، لأن الشك يرجع إلى الشك في صدق عنوان المعاملة. و أما على القول بالأعم: فيصح التمسك بالإطلاق لدفع الاحتمال.
فتظهر ثمرة النزاع- على هذا- في ألفاظ المعاملات أيضا، و لكنها ثمرة نادرة.
____________
إلّا إذا وقع في أثناء المأمور به، فيكون مطلوبا نفسيا في واجب تارة، و في مستحب أخرى، و يمكن أن يكون القنوت من هذا القسم، بمعنى: أنه مطلوب نفسي جعل ظرفه واجب تارة: كالقنوت في «الصلاة الواجبة»، و أخرى: بجعل ظرفه مستحبا كالقنوت في «الصلاة المستحبة».
و من الواضح: أن الإخلال بما كان من القسم الخامس و عدم الإتيان به لا يوجب الإخلال بماهية المأمور به، و لا تشخصه و لا خصوصية أصلا.
ما له الدخل في التسمية: من الواضح: إن ما كان من القسم الخامس ليس له دخل في التسمية باسم العبادة، أي: التسمية لا تدور وجودا أو عدما على وجوده و عدمه.
و ما كان من القسم الرابع و الثالث أي: ما كان الأمر له دخل في التشخص مطلقا- على نحو الجزئية و الشرطية- أيضا ليس له دخل في التسمية و لا تدور التسمية مداره. و أما ما كان من القسم الثاني أي:
ما كان الأمر له دخل في الماهية على نحو الشرط، فنقول: إن في هذا القسم يمكن الذهاب إلى عدم دخالة الشرط في التسمية، بمعنى: أنه يصدق الاسم حتى مع الإخلال به، بخلاف الأمر الذي له دخل في الماهية على نحو الجزئية، فلا بدّ من القول: بأن له الدخل في التسمية؛ و ذلك لأن الإخلال بجزء الماهية إخلال بها.
فتكون حينئذ من القائلين بوضع «الألفاظ للصحيح في الأجزاء، و للأعم في الشرائط، و هذا الرأي نسب إلى الوحيد البهبهاني».
و لكن: قد تقدم إنه لا فرق بين ما كان داخلا في الماهية على نحو الجزئية، و بين ما كان داخلا فيها على نحو الشرطية، في أن كليهما له دخل في التسمية، لأن مختار صاحب الكفاية هو: أن ألفاظ العبادات موضوعة للصحيح؛ و هو التام الواجد لجميع الشرائط و الأجزاء (١).
____________
(١) المصادر: ١- تقريراتي لدرس الكفاية لفضيلة الشيخ باقر الإيرواني (بتصرف).
٢- منتهى الدراية في شرح الكفاية، ج ١، ص ١٦٥- ١٦٩.
١٢٥
تعليقات
إرسال تعليق