المرحلة الأولى
في كليات مباحث الوجود
وفيها اثنا عشر فصلاً
٩
الفصل الأول
في بداهة مفهوم الوجود
مفهوم الوجود بديهي معقول بنفس ذاته ، لا يحتاج فيه إلى توسيط شيء آخر ، فلا معرف له من حد أو رسم ، لوجوب كون المعرف أجلى وأظهر من المعرف ، فما أورد في تعريفه ، من أن الوجود أو الموجود بما هو موجود ، هو الثابت العين أو الذي يمكن أن يخبر عنه ، من قبيل شرح الاسم دون المعرف الحقيقي ، على أنه سيجيء (١) أن الوجود ، لا جنس له ولا فصل له ولا خاصة له ، بمعنى إحدى الكليات الخمس ، والمعرف يتركب منها فلا معرف للوجود
الفصل الثاني
في أن مفهوم الوجود مشترك معنوي
يحمل الوجود على موضوعاته ، بمعنى واحد اشتراكا معنويا.
ومن الدليل عليه ، أنا نقسم الوجود إلى أقسامه المختلفة ، كتقسيمه إلى وجود الواجب ووجود الممكن ، وتقسيم وجود الممكن إلى وجود الجوهر ووجود العرض ، ثم وجود الجوهر إلى أقسامه ، ووجود العرض إلى أقسامه ، ومن المعلوم أن التقسيم يتوقف في صحته ، على وحدة المقسم ووجوده في الأقسام.
__________________
(١) في الفصل السابع.
١٠
ومن الدليل عليه ، أنا ربما أثبتنا وجود شيء ثم ترددنا في خصوصية ذاته ، كما لو أثبتنا للعالم صانعا ، ثم ترددنا في كونه واجبا أو ممكنا ، وفي كونه ذا ماهية أو غير ذي ماهية ، وكما لو أثبتنا للإنسان نفسا ، ثم شككنا في كونها مجردة أو مادية وجوهرا أو عرضا ، مع بقاء العلم بوجوده على ما كان ، فلو لم يكن للوجود معنى واحد ، بل كان مشتركا لفظيا متعددا معناه بتعدد موضوعاته ، لتغير معناه بتغير موضوعاته ، بحسب الاعتقاد بالضرورة.
ومن الدليل عليه ، أن العدم يناقض الوجود وله معنى واحد ، إذ لا تمايز في العدم ، فللوجود الذي هو نقيضه معنى واحد ، وإلا ارتفع النقيضان وهو محال.
والقائلون باشتراكه اللفظي بين الأشياء ، أو بين الواجب والممكن ، إنما ذهبوا إليه حذرا من لزوم السنخية ، بين العلة والمعلول مطلقا (١) ، أو بين الواجب والممكن (٢) ، ورد بأنه يستلزم تعطيل العقول عن المعرفة ، فإنا إذا قلنا الواجب موجود ، فإن كان المفهوم منه المعنى ، الذي يفهم من وجود الممكن ، لزم الاشتراك المعنوي ، وإن كان المفهوم منه ما يقابله وهو مصداق نقيضه ، كان نفيا لوجوده تعالى عن ذلك ، وإن لم يفهم منه شيء كان تعطيلا للعقل عن المعرفة ، وهو خلاف ما نجده من أنفسنا بالضرورة.
الفصل الثالث
في أن الوجود زائد على الماهية عارض لها
بمعنى أن المفهوم من أحدهما غير المفهوم من الآخر ، فللعقل أن يجرد الماهية ، وهي ما يقال في جواب ما هو عن الوجود ، فيعتبرها وحدها فيعقلها ، ثم
__________________
(١) هذا على القول باشتراكه اللفظي بين الاشياء ـ منه دام ظله.
(٢) هذا على القول باشتراكه اللفظي بين الواجب والممكنه ـ منه دام ظله.
١١
يصفها بالوجود وهو معنى العروض ، فليس الوجود عينا للماهية ولا جزءا لها.
والدليل عليه أن الوجود يصح سلبه عن الماهية ، ولو كان عينا أو جزءا لها لم يصح ذلك ، لاستحالة سلب عين الشيء وجزئه عنه.
وأيضا حمل الوجود على الماهية يحتاج إلى دليل ، فليس عينا ولا جزءا لها لأن ذات الشيء ، وذاتياته بينة الثبوت له لا تحتاج فيه إلى دليل.
وأيضا الماهية متساوية النسبة في نفسها ، إلى الوجود والعدم ، ولو كان الوجود عينا أو جزءا لها ، استحالت نسبتها إلى العدم الذي هو نقيضه
الفصل الرابع
في أصالة الوجود واعتبارية الماهية
إنا لا نرتاب في أن هناك أمورا واقعية ، ذات آثار واقعية ليست بوهم الواهم ، ثم ننتزع من كل من هذه الأمور المشهودة لنا ، في عين أنه واحد في الخارج مفهومين اثنين ، كل منهما غير الآخر مفهوما وإن اتحدا مصداقا ، وهما الوجود والماهية ، كالإنسان الذي في الخارج ، المنتزع عنه أنه إنسان وأنه موجود.
وقد اختلف الحكماء في الأصيل منهما ، فذهب المشاءون ، إلى أصالة الوجود ، ونسب إلى الإشراقيين ، القول بأصالة الماهية ، وأما القول بأصالتهما معا فلم يذهب إليه أحد منهم ، لاستلزام ذلك كون كل شيء شيئين اثنين ، وهو خلاف الضرورة.
والحق ما ذهب إليه المشاءون ، من أصالة الوجود.
والبرهان عليه أن الماهية من حيث هي ليست إلا هي ، متساوية
١٢
النسبة إلى الوجود والعدم ، فلو لم يكن خروجها من حد الاستواء إلى مستوى الوجود ، بحيث تترتب عليها الآثار بواسطة الوجود ، كان ذلك منها انقلابا وهو محال بالضرورة ، فالوجود هو المخرج لها عن حد الاستواء فهو الأصيل.
وما قيل إن الماهية بنسبة مكتسبة من الجاعل ، تخرج من حد الاستواء ، إلى مرحلة الأصالة فتترتب عليها الآثار ، مندفع بأنها إن تفاوتت حالها بعد الانتساب ، فما به التفاوت هو الوجود الأصيل ، وإن سمي نسبة إلى الجاعل ، وإن لم تتفاوت ومع ذلك حمل عليها أنها موجودة ، وترتبت عليها الآثار كان من الانقلاب كما تقدم.
برهان آخر الماهيات مثار الكثرة والاختلاف بالذات ، فلو لم يكن الوجود أصيلا ، لم تتحقق وحدة حقيقية ولا اتحاد بين ماهيتين ، فلم يتحقق الحمل الذي هو الاتحاد في الوجود ، والضرورة تقضي بخلافه ، فالوجود هو الأصيل الموجود بالذات ، والماهية موجودة به.
برهان آخر الماهية توجد بوجود خارجي ، فتترتب عليها آثارها وتوجد بعينها بوجود ذهني ، كما سيأتي ، فلا يترتب عليها شيء من تلك الآثار ، فلو لم يكن الوجود هو الأصيل ، وكانت الأصالة للماهية وهي محفوظة في الوجودين ، لم يكن فرق بينهما والتالي باطل فالمقدم مثله.
برهان آخر الماهية من حيث هي ، تستوي نسبتها إلى التقدم والتأخر ، والشدة والضعف والقوة والفعل ، لكن الأمور الموجودة في الخارج ، مختلفة في هذه الأوصاف ، فبعضها متقدم أو قوي كالعلة ، وبعضها بخلاف ذلك كالمعلول ، وبعضها بالقوة وبعضها بالفعل ، فلو لم يكن الوجود هو الأصيل ، كان اختلاف هذه الصفات مستندة إليها ، وهي متساوية النسبة إلى الجميع هذا خلف ، وهناك حجج أخرى مذكورة في المطولات.
وللقائلين بأصالة الماهية ، واعتبارية الوجود حجج مدخولة ، كقولهم لو كان الوجود أصيلا كان موجودا في الخارج ، فله وجود ولوجوده وجود
١٣
فيتسلسل وهو محال.
وأجيب عنه بأن الوجود موجود ، لكن بنفس ذاته لا بوجود آخر ، فلا يذهب الأمر إلى غير النهاية.
ويظهر مما تقدم ، ضعف قول آخر في المسألة منسوب إلى المحقق الدواني ، وهو أصالة الوجود في الواجب تعالى ، وأصالة الماهية في الممكنات ، وعليه فإطلاق الموجود على الواجب ، بمعنى أنه نفس الوجود ، وعلى الماهيات بمعنى أنها منتسبة إلى الوجود ، كاللابن والتامر بمعنى المنتسب إلى اللبن والتمر ، هذا وأما على المذهب المختار فالوجود موجود بذاته ، والماهية موجودة بالعرض.
الفصل الخامس
في أن الوجود حقيقة واحدة مشككة
اختلف القائلون بأصالة الوجود ، فذهب بعضهم إلى أن الوجود حقيقة واحدة مشككة ، وهو المنسوب إلى الفهلويين ، من حكماء الفرس ، فالوجود عندهم ، لكونه ظاهرا بذاته مظهرا لغيره من الماهيات ، كالنور الحسي الذي هو ظاهر بذاته مظهر لغيره ، من الأجسام الكثيفة للأبصار.
فكما أن النور الحسي نوع واحد ، حقيقته أنه ظاهر بذاته مظهر لغيره ، وهذا المعنى متحقق في جميع مراتب الأشعة والأظلة ، على كثرتها واختلافها ، فالنور الشديد شديد في نوريته ، التي يشارك فيها النور الضعيف ، والنور الضعيف ضعيف في نوريته ، التي يشارك فيها النور الشديد ، فليست شدة الشديد منه جزءا مقوما للنورية ، حتى يخرج الضعيف منه ، ولا عرضا خارجا عن الحقيقة ، وليس ضعف الضعيف قادحا في نوريته ، ولا أنه مركب من النور والظلمة لكونها أمرا عدميا ، بل شدة الشديد في أصل النورية وكذا ضعف الضعيف ،
١٤
فللنور عرض عريض ، باعتبار مراتبه المختلفة بالشدة والضعف ، ولكل مرتبة عرض عريض ، باعتبار القوابل المختلفة من الأجسام الكثيفة.
كذلك الوجود حقيقة واحدة ذات مراتب مختلفة ، متمايزة بالشدة والضعف والتقدم والتأخر وغير ذلك ، فيرجع ما به الامتياز فيها إلى ما به الاشتراك ، وما به الاختلاف إلى ما به الاتحاد ، فليست خصوصية شيء من المراتب جزءا مقوما للوجود ، لبساطته كما سيجيء (١) ولا أمرا خارجا عنه ، لأن أصالة الوجود تبطل ما هو غيره الخارج عنه ، بل الخصوصية في كل مرتبة مقومة لنفس المرتبة ، بمعنى ما ليس بخارج منها.
ولها كثرة طولية باعتبار المراتب المختلفة ، الآخذة من أضعف المراتب ، وهي التي لا فعلية لها إلا عدم الفعلية ، وهي المادة الأولى الواقعة في أفق العدم ، ثم تتصاعد (٢) المراتب ، إلى أن تنتهي إلى المرتبة الواجبة لذاتها ، وهي التي لا حد لها إلا عدم الحد ، ولها كثرة عرضية ، باعتبار تخصصها بالماهيات المختلفة ، التي هي مثار الكثرة.
وذهب قوم من المشاءين ، إلى كون الوجود حقائق متباينة بتمام ذواتها ، أما
__________________
(١) في الفصل السابع
(٢) توضيحه : أنا إذا اعتبرنا مراتب هذه الحقيقة آخذة من أضعف المراتب ، كانت المرتبة الثانية التي فوقها أشد منها وأقوى ، وكانت الثالثة التي فوق الثانية أشد مما تحتها وأقوى ، وهكذا حتى تنتهي إلى المرتبة العليا التي فوق الجميع.
ثم إذا أخذنا بعض المراتب المتوسطة وقسناها إلى ما فوقها ، كانت التي فوقها مشتملة على ما فيها من الكمال وزيادة ، بخلاف التي تحتها ، فإذن التي تحتها محدودة بالنسبة إلى ما فوقها فاقدة لتمام كمالها ، ثم إذا قسنا التي فوق إلى التي فوقها كانت أيضا محدودة بالنسبة إلى ما فوقها.
وعلى هذا القياس ، حتى تنتهي إلى المرتبة التي هي فوق الجميع ، فما دونها محدودة بالنسبة إليها ، وهي مطلقة غير محدودة بحد عدمي ، وإن شئت فقل : «حدها أنه لا حد لها».
وأما المرتبة التي تحت الجميع ، ففيها كل حد عدمي ، وليس لها من الكمال إلا أنها تقبل الكمال ، وهي الهيولى الأولى ـ منه رحمه الله.
١٥
كونه حقائق متباينة فلاختلاف آثارها ، وأما كونها متباينة بتمام الذوات فلبساطتها ، وعلى هذا يكون مفهوم الوجود المحمول عليها ، عرضيا خارجا عنها (١) لازما لها.
والحق أنه حقيقة واحدة مشككة ، أما كونها حقيقة واحدة فلأنه لو لم تكن كذلك ، لكانت حقائق مختلفة متباينة بتمام الذوات ، ولازمه كون مفهوم الوجود وهو مفهوم واحد كما تقدم (٢) ، منتزعا من مصاديق متباينة بما هي متباينة وهو محال ، بيان الاستحالة أن المفهوم والمصداق واحد ذاتا ، وإنما الفارق كون الوجود ذهنيا أو خارجيا ، فلو انتزع الواحد بما هو واحد من الكثير بما هو كثير ، كان الواحد بما هو واحد كثيرا بما هو كثير وهو محال.
وأيضا لو انتزع المفهوم الواحد بما هو واحد ، من المصاديق الكثيرة بما هي كثيرة ، فإما أن تعتبر في صدقه خصوصية هذا المصداق ، لم يصدق على ذلك المصداق ، وإن اعتبر فيه خصوصية ذاك لم يصدق على هذا ، وإن اعتبر فيه الخصوصيتان معا لم يصدق على شيء منهما ، وإن لم يعتبر شيء من الخصوصيتين ، بل انتزع من القدر المشترك بينهما ، لم يكن منتزعا من الكثير بما هو كثير بل بما هو واحد ، كالكلي المنتزع من الجهة المشتركة بين الأفراد ، الصادق على الجميع هذا خلف.
وأما أن حقيقته مشككة ، فلما يظهر من الكمالات الحقيقية المختلفة ، التي هي صفات متفاضلة ، غير خارجة (٣) عن الحقيقة الواحدة كالشدة والضعف ، والتقدم والتأخر والقوة والفعل وغير ذلك ، فهي حقيقة واحدة متكثرة في
__________________
(١) اذ لو كان داخلا ، كان جزءاً ؛ وينافي ذلك البساطة ـ منه دام ظله.
(٢) في الفصل الثاني
(٣) اذ لو كانت خارجة من حقيقة الوجود ، كانت بالطلة ، لانحصار الأصالة في الوجود ـ منه دام ظله.
١٦
ذاتها ، يرجع فيها كل ما به الامتياز إلى ما به الاشتراك ، وبالعكس وهذا هو التشكيك.
الفصل السادس
في ما يتخصص به الوجود
تخصص الوجود بوجوه ثلاثة ، أحدها تخصص حقيقته الواحدة الأصلية ، بنفس ذاتها القائمة بذاتها ، وثانيها تخصصها بخصوصيات مراتبها ، غير الخارجة عن المراتب ، وثالثها تخصص الوجود ، بإضافته إلى الماهيات المختلفة الذوات ، وعروضه لها فيختلف باختلافها بالعرض.
وعروض الوجود للماهية وثبوته لها ، ليس من قبيل العروض المقولي ، الذي يتوقف فيه ثبوت العارض على ثبوت المعروض قبله ، فإن حقيقة ثبوت الوجود للماهية هي ثبوت الماهية به ، لأن ذلك هو مقتضى أصالته واعتباريتها ، وإنما العقل لمكان أنسه بالماهيات ، يفترض الماهية موضوعه ، ويحمل الوجود عليها وهو في الحقيقة من عكس الحمل.
وبذلك يندفع الإشكال ، المعروف في حمل الوجود على الماهية ، من أن قاعدة الفرعية أعني أن ، ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له ، توجب ثبوتا للمثبت له قبل ثبوت الثابت ، فثبوت الوجود للماهية يتوقف على ثبوت الماهية قبله ، فإن كان ثبوتها عين ثبوته لها ، لزم تقدم الشيء على نفسه ، وإن كان غيره توقف ثبوته لها على ثبوت آخر لها ، وهلم جرا فيتسلسل.
وقد اضطر هذا الإشكال بعضهم إلى القول ، بأن القاعدة مخصصة بثبوت الوجود للماهية ، وبعضهم إلى تبديل الفرعية بالاستلزام ، فقال الحق أن
١٧
ثبوت شيء لشيء ، مستلزم لثبوت المثبت له ولو بهذا الثابت ، وثبوت الوجود للماهية مستلزم لثبوت الماهية ، بنفس هذا الوجود فلا إشكال.
وبعضهم إلى القول بأن الوجود ، لا تحقق له ولا ثبوت في ذهن ولا في خارج ، وللموجود معنى بسيط يعبر عنه بالفارسية ب هست ، والاشتقاق صوري فلا ثبوت له ، حتى يتوقف على ثبوت الماهية.
وبعضهم إلى القول بأن الوجود ، ليس له إلا المعنى المطلق وهو معنى الوجود العام ، والحصص وهو المعنى العام مضافا إلى ماهية ماهية ، بحيث يكون التقييد داخلا والقيد خارجا ، وأما الفرد وهو مجموع المقيد والتقييد والقيد ، فليس له ثبوت.
وشيء من هذه الأجوبة (١) على فسادها لا يغني طائلا ، والحق في الجواب ما تقدم ، من أن القاعدة إنما تجري في ثبوت شيء لشيء ، لا في ثبوت الشيء ، وبعبارة أخرى مجرى القاعدة هو الهلية المركبة ، دون الهلية البسيطة كما في ما نحن فيه
الفصل السابع
في أحكام الوجود السلبية
منها أن الوجود لا غير له ، وذلك لأن انحصار الأصالة في حقيقته ، يستلزم بطلان كل ما يفرض غيرا له أجنبيا عنه ، بطلانا ذاتيا.
ومنها أنه لا ثاني له لأن أصالة حقيقته الواحدة ، وبطلان كل ما يفرض غيرا له ، ينفى عنه كل خليط داخل فيه أو منضم إليه ، فهو صرف في
__________________
(١) والأبحاث السابقة تكفى مؤونة إبطال هذه الأجوبة ـ منه دام ظله.
١٨
نفسه وصرف الشيء لا يتثنى ولا يتكرر ، فكل ما فرض له ثانيا عاد أولا ، وإلا امتاز عنه بشيء غيره داخل فيه أو خارج عنه ، والمفروض انتفاؤه هذا خلف.
ومنها أنه ليس جوهرا ولا عرضا ، أما أنه ليس جوهرا فلأن الجوهر ماهية ، إذا وجدت في الخارج وجدت لا في الموضوع ، والوجود ليس من سنخ الماهية ، وأما أنه ليس بعرض ، فلأن العرض متقوم الوجود بالموضوع ، والوجود متقوم بنفس ذاته وكل شيء متقوم به.
ومنها أنه ليس جزءا لشيء ، لأن الجزء الآخر المفروض غيره والوجود لا غير له.
وما قيل إن كل ممكن زوج تركيبي من ماهية ووجود ، فاعتبار عقلي ، ناظر إلى الملازمة بين الوجود الإمكاني والماهية ، لا أنه تركيب من جزءين أصيلين.
ومنها أنه لا جزء له ، لأن الجزء إما جزء عقلي كالجنس والفصل ، وإما جزء خارجي كالمادة والصورة ، وإما جزء مقداري ، كأجزاء الخط والسطح والجسم التعليمي ، وليس للوجود شيء من هذه الأجزاء.
أما الجزء العقلي ، فلأنه لو كان للوجود جنس وفصل ، فجنسه إما الوجود فيكون فصله المقسم مقوما ، لأن الفصل بالنسبة إلى الجنس ، يفيد تحصل ذاته لا أصل ذاته ، وتحصل الوجود هو ذاته هذا خلف ، وإما غير الوجود ولا غير للوجود.
وأما الجزء الخارجي وهو المادة والصورة ، فلأن المادة والصورة هما الجنس والفصل ، مأخوذين بشرط لا ، فانتفاء الجنس والفصل يوجب انتفاءهما.
وأما الجزء المقداري فلأن المقدار من عوارض الجسم ، والجسم مركب من المادة والصورة ، وإذ لا مادة ولا صورة للوجود فلا جسم له ، وإذ لا
١٩
جسم له فلا مقدار له.
ومما تقدم يظهر أنه ليس نوعا ، لأن تحصل النوع بالتشخص الفردي ، والوجود متحصل بنفس ذاته.
الفصل الثامن
في معنى نفس الأمر
قد ظهر مما تقدم (١) ، أن لحقيقة الوجود ثبوتا وتحققا بنفسه ، بل الوجود عين الثبوت والتحقق ، وأن للماهيات وهي التي تقال في جواب ما هو ، وتوجد تارة بوجود خارجي فتظهر آثارها ، وتارة بوجود ذهني فلا تترتب عليها الآثار ، ثبوتا وتحققا بالوجود لا بنفس ذاتها ، وإن كانا متحدين في الخارج ، وأن المفاهيم الاعتبارية العقلية ، وهي التي لم تنتزع من الخارج ، وإنما اعتبرها العقل بنوع من التعمل ، لضرورة تضطره إلى ذلك ، كمفاهيم الوجود والوحدة والعلية ونحو ذلك ، أيضا لها نحو ثبوت بثبوت مصاديقها المحكية بها ، وإن لم تكن هذه المفاهيم مأخوذة في مصاديقها ، أخذ الماهية في أفرادها وفي حدود مصاديقها.
وهذا الثبوت العام الشامل لثبوت الوجود والماهية ، والمفاهيم الاعتبارية العقلية ، هو المسمى بنفس الأمر ، التي يعتبر صدق القضايا بمطابقتها فيقال ، إن كذا كذا في نفس الأمر.
توضيح ذلك أن من القضايا ، ما موضوعها خارجي بحكم خارجي ، كقولنا الواجب تعالى موجود ، وقولنا خرج من في البلد ، وقولنا
__________________
(١) الفصل الرابع
٢٠
الإنسان ضاحك بالقوة ، وصدق الحكم فيها بمطابقته للوجود العيني.
ومنها ما موضوعها ذهني بحكم ذهني ، أو خارجي مأخوذ بحكم ذهني ، كقولنا الكلي إما ذاتي أو عرضي والإنسان نوع ، وصدق الحكم فيها بمطابقته للذهن ، لكون موطن ثبوتها هو الذهن ، وكلا القسمين صادقان بمطابقتهما لنفس الأمر ، فالثبوت النفس الأمري أعم مطلقا ، من كل من الثبوت الذهني والخارجي.
وقيل إن نفس الأمر عقل مجرد فيه صور المعقولات عامة ، والتصديقات الصادقة في القضايا الذهنية والخارجية ، تطابق ما عنده من الصور المعقولة.
وفيه أنا ننقل الكلام إلى ما عنده من الصور العلمية ، فهي تصديقات تحتاج في صدقها ، إلى ثبوت لمضامينها خارج عنها تطابقه.
الفصل التاسع
الشيئية تساوق الوجود
الشيئية تساوق الوجود والعدم لا شيئية له ، إذ هو بطلان محض لا ثبوت له ، فالثبوت والنفي في معنى الوجود والعدم.
وعن المعتزلة أن الثبوت أعم مطلقا من الوجود ، فبعض المعدوم ثابت عندهم وهو المعدوم الممكن ، ويكون حينئذ النفي أخص من العدم ، ولا يشمل إلا المعدوم الممتنع.
وعن بعضهم أن بين الوجود والعدم واسطة ، ويسمونها الحال ، وهي صفة الموجود التي ليست بموجودة ولا معدومة ، كالعالمية والقادرية والوالدية ، من الصفات الانتزاعية التي لا وجود منحازا لها ، فلا يقال إنها موجودة ، والذات الموجودة تتصف بها فلا يقال إنها معدومة ، وأما الثبوت والنفي
٢١
فهما متناقضان لا واسطة بينهما ، وهذه كلها أوهام يكفي في بطلانها قضاء الفطرة ، بأن العدم بطلان لا شيئية له.
الفصل العاشر
في أنه لا تمايز ولا علية في العدم
أما عدم التمايز فلأنه فرع الثبوت والشيئية ، ولا ثبوت ولا شيئية في العدم ، نعم ربما يتميز عدم من عدم ، بإضافة الوهم إياه إلى الملكات وأقسام الوجود ، فيتميز بذلك عدم من عدم ، كعدم البصر وعدم السمع وعدم زيد وعدم عمرو ، وأما العدم المطلق فلا تميز فيه.
وأما عدم العلية في العدم ، فلبطلانه وانتفاء شيئيته ، وقولهم عدم العلة علة لعدم المعلول ، قول على سبيل التقريب والمجاز (١) ، فقولهم مثلا لم يكن غيم فلم يكن مطر معناه بالحقيقة ، أنه لم يتحقق العلية التي بين وجود الغيم ووجود المطر ، وهذا كما قيل ، نظير إجراء أحكام القضايا الموجبة في السالبة ، فيقال سالبة حملية وسالبة شرطية ونحو ذلك ، وإنما فيها سلب الحمل وسلب الشرط.
__________________
(١) فإن قلت : فعلى هذا ، ما ذكرتم مثالا للقضية التي موضوعها المفهوم الاعتباري العقلي أيضا يكون على سبيل التقريب والمجاز.
قلت : إنما مثلنا بها للقضية النفس الأمرية ، وكون الحمل في القضية على التقريب والمجاز لا يخرجها عن الصدق ولا يلحقها بالكواذب ، وحقيقتها التي هي قولنا : " لم تتحقق العلية التي بينهما " قضية نفس الأمرية أيضا. – منه دام ظله ـ
٢٢
الفصل الحادي عشر
في أن المعدوم المطلق لا خبر عنه
ويتبين ذلك بما تقدم (١) ، أنه بطلان محض لا شيئية له بوجه ، وإنما يخبر عن شيء بشيء.
وأما الشبهة بأن قولهم ، المعدوم المطلق لا يخبر عنه يناقض نفسه ، فإنه بعينه إخبار عنه بعدم الإخبار فهي مندفعة ، بما سيجيء في مباحث الوحدة والكثرة (٢) ، من أن من الحمل ما هو أولي ذاتي ، يتحد فيه الموضوع والمحمول مفهوما ، ويختلفان اعتبارا ، كقولنا الإنسان إنسان ، ومنه ما هو شائع صناعي ، يتحدان فيه وجودا ويختلفان مفهوما ، كقولنا الإنسان ضاحك ، والمعدوم المطلق ، معدوم مطلق بالحمل الأولي ولا يخبر عنه ، وليس بمعدوم مطلق بل موجود من الموجودات الذهنية ، بالحمل الشائع ، ولذا يخبر عنه بعدم الإخبار عنه فلا تناقض.
وبهذا التقريب يندفع الشبهة ، عن عدة قضايا توهم التناقض ، كقولنا الجزئي جزئي وهو بعينه كلي يصدق على كثيرين ، وقولنا شريك الباري ممتنع مع أنه معقول في الذهن ، فيكون موجودا فيه ممكنا ، وقولنا الشيء إما ثابت في الذهن أو لا ثابت فيه ، واللا ثابت في الذهن ثابت فيه لأنه معقول.
وجه الاندفاع أن الجزئي ، جزئي بالحمل الأولي كلي بالشائع ، وشريك الباري شريك الباري بالحمل الأولي ، وممكن مخلوق للباري
__________________
(١) الفصل التاسع
(٢) الفصل الثالث من المرحلة الثامنة.
٢٣
بالشائع ، واللا ثابت في الذهن كذلك بالحمل الأولي ، وثابت فيه بالشائع.
الفصل الثاني عشر
في امتناع إعادة المعدوم بعينه
قالت الحكماء إن إعادة المعدوم بعينه ممتنعة ، وتبعهم فيه بعض المتكلمين وأكثرهم على الجواز.
وقد عد الشيخ ، امتناع إعادة المعدوم ضروريا ، وهو من الفطريات ، لقضاء الفطرة ببطلان شيئية المعدوم ، فلا يتصف بالإعادة.
والقائلون بنظرية المسألة احتجوا عليه بوجوه ، منها أنه لو جاز للمعدوم في زمان ، أن يعاد في زمان آخر بعينه ، لزم تخلل العدم بين الشيء ونفسه وهو محال ، لأنه حينئذ يكون موجودا بعينه ، في زمانين بينهما عدم متخلل.
حجة أخرى ، لو جازت إعادة الشيء بعينه بعد انعدامه ، جاز إيجاد ما يماثله من جميع الوجوه ، ابتداء واستئنافا وهو محال ، أما الملازمة فلأن ، حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد ، ومثل الشيء ابتداء ومعاده ثانيا لا فرق بينهما بوجه ، لأنهما يساويان الشيء المبتدأ من جميع الوجوه ، وأما استحالة اللازم ، فلاستلزام اجتماع المثلين في الوجود ، عدم التميز بينهما وهو وحدة الكثير ، من حيث هو كثير وهو محال.
حجة أخرى إن إعادة المعدوم ، توجب كون المعاد هو المبتدأ وهو محال ، لاستلزامه الانقلاب أو الخلف ، بيان الملازمة أن إعادة المعدوم بعينه ، يستلزم كون المعاد هو المبتدأ ذاتا ، وفي جميع الخصوصيات المشخصة حتى الزمان ،
٢٤
فيعود المعاد عين المبتدأ وهو الانقلاب أو الخلف.
حجة أخرى لو جازت الإعادة لم يكن عدد العود ، بالغا معينا يقف عليه ، إذ لا فرق بين العودة الأولى والثانية ، وهكذا إلى ما لا نهاية له ، كما لم يكن فرق بين المعاد والمبتدإ ، وتعين العدد من لوازم وجود الشيء المتشخص.
احتج المجوزون بأنه لو امتنعت إعادة المعدوم ، لكان ذلك إما لماهيته وإما للازم ماهيته ، ولو كان كذلك لم يوجد ابتداء وهو ظاهر ، وإما لعارض مفارق فيزول الامتناع بزواله.
ورد بأن الامتناع لأمر لازم ، لكن لوجوده وهويته لا لماهيته ، كما هو ظاهر من الحجج المتقدمة.
وعمدة ما دعاهم إلى القول بجواز الإعادة ، زعمهم أن المعاد وهو مما نطقت به الشرائع الحقة ، من قبيل إعادة المعدوم.
ويرده أن الموت نوع استكمال لا انعدام وزوال.
__________________
(١) ولا مرجح لبعض تلك الأعداد ، فالحاصل حينئذ : أن التعين ، أي التشخص ، مما لا بد منه في الوجود ، لأن الشئ ما لم يتشخص لم يوجد ، مع أنه لا مرجح لتعين عدد خاص منها.
(٢) فإن قيل : هذا إنما يتم لو كان الموت استكمالا للروح والبدن جميعا وهو غير مسلم ، وأما لو كان استكمالا للروح فقط ، فالإشكال على حاله ، لأن إعادة البدن حينئذ من إعادة المعدوم.
قيل : شخصية الانسان بنفسه ، دون بدنه المتغير دائما ، فالإنسان العائد في المعاد بالنفس والبدن عين الانسان الذي كان في الدنيا ، سواء كان الموت استكمالا للروح فقط ، وكان البدن العائد معها بايجاد جديد ، أو كان الموت استكمالا للروح والبدن ، وكان البدن العائد مع الروح هو البدن الدنيوي المستكمل ، فالإنسان بنفسه وبدنه هو الذي كان في الدنيا بعينه *. ـ منه (رحمه الله) ـ.
٢٥
٢٦
المرحلة الثانية
في انقسام الوجود إلى خارجي وذهني
وفيها فصل واحد
٢٧
الفصل الأول
في الوجود الخارجي والوجود الذهني
المشهور بين الحكماء أن للماهيات ، وراء الوجود الخارجي ، وهو الوجود الذي ، يترتب عليها فيه الآثار (١) المطلوبة منها ، وجودا آخر لا يترتب عليها فيه الآثار ، ويسمى وجودا ذهنيا ، فالإنسان الموجود في الخارج قائم لا في موضوع ، بما أنه جوهر ، ويصح أن يفرض فيه أبعاد ثلاثة بما أنه جسم ، وبما أنه نبات وحيوان وإنسان ، ذو نفس نباتية وحيوانية وناطقة ، ويظهر معه آثار هذه الأجناس والفصول وخواصها ، والإنسان الموجود في الذهن المعلوم لنا إنسان ذاتا ، واجد لحده ، غير أنه لا يترتب عليه شيء من تلك الآثار الخارجية.
وذهب بعضهم إلى أن المعلوم لنا ، المسمى بالموجود الذهني شبح الماهية لا نفسها ، والمراد به عرض وكيف قائم بالنفس ، يباين المعلوم الخارجي في ذاته ، ويشابهه ويحكيه في بعض خصوصياته ، كصورة الفرس المنقوشة على الجدار ، الحاكية للفرس الخارجي ، وهذا في الحقيقة سفسطة ، (٢)
__________________
(١) المراد بالأثر في هذا المقام هو كمال الشئ ، سواء كان كمالا أولا تتم به حقيقة الشئ كالحيوانية والنطق في الانسان ، أو كمالا ثانيا مترتبا على الشئ بعد تمام ذاته ، كالتعجب والضحك للانسان. ـ منه (رحمه الله) ـ.
(٢) لمغايرة الصور الحاصلة عند الانسان لما في الخارج مغايرة مطلقة ، فلا علم بشئ مطلقا وهو السفسطة. ـ منه (رحمه الله) ـ.
٢٨
ينسد معها باب العلم بالخارج من أصله.
وذهب بعضهم إلى إنكار الوجود الذهني مطلقا ، وأن علم النفس بشيء إضافة خاصة منها إليه ، ويرده العلم بالمعدوم ، إذ لا معنى محصلا للإضافة إلى المعدوم.
واحتج المشهور على ما ذهبوا إليه ، من الوجود الذهني بوجوه :
الأول أنا نحكم على المعدومات بأحكام إيجابية ، كقولنا بحر من زيبق كذا ، وقولنا اجتماع النقيضين غير اجتماع الضدين (١) ، إلى غير ذلك والإيجاب إثبات ، وإثبات شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له ، فلهذه الموضوعات المعدومة وجود ، وإذ ليس في الخارج ففي موطن آخر ونسميه الذهن.
الثاني أنا نتصور أمورا تتصف بالكلية والعموم ، كالإنسان الكلي والحيوان الكلي ، والتصور إشارة عقلية لا تتحقق إلا بمشار إليه موجود ، وإذ لا وجود للكلي بما هو كلي في الخارج ، فهي موجودة في موطن آخر ونسميه الذهن.
الثالث أنا نتصور الصرف من كل حقيقة ، وهو الحقيقة ، محذوفا عنها ما يكثرها بالخلط والانضمام ، كالبياض المتصور بحذف جميع الشوائب الأجنبية ، وصرف الشيء لا يتثنى ولا يتكرر ، فهو واحد وحدة جامعة لكل ما هو من سنخه ، والحقيقة بهذا الوصف غير موجودة في الخارج ، فهي موجودة في موطن آخر نسميه الذهن.
__________________
(١) فإن قيل : إن أدلة الوجود الذهني مصبها إثبات الوجود الذهني للماهيات ، والممتنعات باطلة الذوات ليست لها ماهيات وإنما يختلق العقل مفهوما لأمر باطل الذات ، كشريك البارئ واجتماع النقيضين وغيرهما.
قلنا : إن لهذا الذي يختلقه العقل ثبوتا ما ، لمكان الحمل ، وإذ ليس في الخارج ففي موطن آخر ، نسميه الذهن. ـ منه (رحمه الله) ـ.
٢٩
تتمة
، قد استشكل على وجود الماهيات في الذهن ، بمعنى حصولها بأنفسها فيه إشكالات ، الإشكال الأول ، أن القول بحصول الماهيات بأنفسها في الذهن ، يستلزم كون الشيء الواحد جوهرا وعرضا معا وهو محال ، بيان الملازمة أن الجوهر المعقول في الذهن جوهر ، بناء على انحفاظ الذاتيات ، وهو بعينه عرض لقيامه بالنفس قيام العرض بمعروضه ، وأما بطلان اللازم ، فللزوم كونه قائما بالموضوع وغير قائم به.
الإشكال الثاني ، أن الماهية الذهنية مندرجة تحت مقولة الكيف ، بناء على ما ذهبوا إليه ، من كون الصور العلمية كيفيات نفسانية ، ثم إنا إذا تصورنا جوهرا ، كان مندرجا تحت مقولة الجوهر لانحفاظ الذاتيات ، وتحت مقولة الكيف كما تقدم ، والمقولات متباينة بتمام الذوات فيلزم التناقض في الذات ، وكذا إذا تصورنا مقولة أخرى غير الجوهر ، كانت الماهية المتصورة مندرجة تحت مقولتين ، وكذا لو تصورنا كيفا محسوسا ، كان مندرجا تحت الكيف المحسوس والكيف النفساني ، وهو اندراج شيء واحد تحت نوعين متباينين من مقولة ، واستحالته ضرورية.
قالوا وهذا الإشكال أصعب من الأول ، إذ لا كثير إشكال في كون شيء واحد جوهرا وعرضا ، لأن التباين الذاتي الذي بين المقولات ، إنما هو بين الجوهر والكيف والكم وغيرها ، وأما مفهوم العرض بمعنى القائم
__________________
(١) وهو عرض لا يقبل قسمة ولا نسبة لذاته. ـ منه (رحمه الله) ـ.
(٢) إذ لو لم تكن متباينة بتمام الذات ، كانت مشتركة في بعض الذات ، فكان لها جنس فوقها والمفروض أنها أجناس عالية ليس فوقها جنس ، هذا خلف ، فهي بسائط متباينة بتمام الذات. ـ منه (رحمه الله) ـ.
٣٠
بالموضوع ، فهو عرض عام صادق على تسع من المقولات ، ومن الجائز أن يعم الجوهر الذهني أيضا ويصدق عليه ، لأن المأخوذ في رسم الجوهر أنه ، ماهية إذا وجدت في الخارج وجدت لا في موضوع ، فمن الجائز أن يقوم في الذهن في موضوع ، وهو إذا وجد في الخارج كان لا في موضوع هذا.
وأما دخول الماهية الواحدة تحت مقولتين ، كالجوهر والكيف وكالكم والكيف ، والمقولات متباينات بتمام الذوات ، فاستحالته ضرورية لا مدفع لها.
وبالتوجه إلى ما تقدم من الإشكال ونحوه ، ذهب بعضهم إلى إنكار الوجود الذهني من أصله ، بالقول بأن العلم بإضافة من النفس إلى الخارج ، فالمعلوم مندرج تحت مقولته الخارجية فقط ، وقد عرفت ما فيه.
وبعضهم إلى أن الماهيات الخارجية ، موجودة في الذهن بأشباحها لا بأنفسها ، وشبح الشيء يغاير الشيء ويباينه ، فالصورة الذهنية كيفية نفسانية ، وأما المقولة الخارجية فغير باقية فيها ، فلا إشكال وقد عرفت ما فيه.
وقد أجيب عن الإشكال بوجوه ، منها ما عن بعضهم أن العلم غير المعلوم ، فعند حصول ماهية من الماهيات الخارجية ، في الذهن أمران أحدهما ، الماهية الحاصلة نفسها على ما كانت عليه في الخارج ، وهو المعلوم وهو غير قائم بالنفس بل قائم بنفسه ، حاصل فيه حصول الشيء في الزمان والمكان ، والآخر صفة حاصلة للنفس قائمة بها ، يطرد بها عنها الجهل وهو العلم ، وعلى هذا فالمعلوم مندرج تحت مقولته الخارجية ، من جوهر أو كم أو غير ذلك ، والعلم كيف نفساني ، فلا اجتماع أصلا لا لمقولتين ولا لنوعين من مقولة.
وفيه أنه خلاف ما نجده من أنفسنا عند العلم ، فإن الصورة الحاصلة في نفوسنا عند العلم بشيء ، هي بعينها التي تطرد عنا الجهل ، وتصير وصفا لنا
٣١
نتصف به.
ومنها ما عن بعض القائلين بأصالة الماهية ، أن الصورة الحاصلة في الذهن ، منسلخة عن ماهيتها الخارجية ، ومنقلبة إلى الكيف ، بيان ذلك أن موجودية الماهية متقدمة على نفسها ، فمع قطع النظر عن الوجود لا ماهية أصلا ، والوجود الذهني والخارجي مختلفان بالحقيقة ، فإذا تبدل الوجود بصيرورة الوجود الخارجي ذهنيا ، جاز أن تنقلب الماهية ، بأن يتبدل الجوهر أو الكم أو غير ذلك كيفا ، فليس للشيء بالنظر إلى ذاته حقيقة معينة ، بل الكيفية الذهنية إذا وجدت في الخارج ، كانت جوهرا أو غيره ، والجوهر الخارجي إذا وجد في الذهن ، كان كيفا نفسانيا ، وأما مباينة الماهية الذهنية للخارجية ، مع أن المدعى حصول الأشياء بأنفسها في الذهن ، وهو يستدعي أصلا مشتركا بينهما ، فيكفي في تصويره أن يصور العقل ، أمرا مبهما مشتركا بينهما ، يصحح به أن ما في الذهن هو الذي في الخارج ، كما يصور المادة المشتركة ، بين الكائن والفاسد الماديين.
وفيه أولا أنه لا محصل لما ذكره ، من تبدل الماهية واختلاف الوجودين في الحقيقة ، بناء على ما ذهب إليه ، من أصالة الماهية واعتبارية الوجود.
وثانيا أنه في معنى القول بالشبح ، بناء على ما التزم به من المغايرة الذاتية ، بين الصورة الذهنية والمعلوم الخارجي ، فيلحقه ما لحقه من محذور السفسطة ومنها ما عن بعضهم ، أن العلم لما كان متحدا بالذات مع المعلوم بالذات ، كان من مقولة المعلوم إن جوهرا فجوهر ، وإن كما فكم وهكذا ، وأما تسميتهم العلم كيفا ، فمبني على المسامحة في التعبير ، كما يسمى كل وصف ناعت للغير كيفا في العرف العام ، وإن كان جوهرا.
وبهذا يندفع إشكال اندراج المقولات الآخر تحت الكيف.
وإما إشكال كون شيء واحد جوهرا وعرضا معا ، فالجواب عنه
٣٢
ما تقدم ، أن مفهوم العرض عرض عام ، شامل للمقولات التسع العرضية وللجوهر الذهني ، ولا إشكال فيه.
وفيه أن مجرد صدق مفهوم مقولة من المقولات على شيء ، لا يوجب اندراجه تحتها كما ستجيء الإشارة إليه.
على أن كلامهم صريح ، في كون العلم الحصولي كيفا نفسانيا ، داخلا تحت مقولة الكيف حقيقة من غير مسامحة.
ومنها ما ذكره صدر المتألهين ، ره في كتبه ، وهو الفرق في إيجاب الاندراج ، بين الحمل الأولي وبين الحمل الشائع ، فالثاني يوجبه دون الأول ، بيان ذلك ، أن مجرد أخذ مفهوم جنسي أو نوعي ، في حد شيء وصدقه عليه ، لا يوجب اندراج ذلك الشيء تحت ذلك الجنس أو النوع ، بل يتوقف الاندراج تحته على ترتب آثار ، ذلك الجنس أو النوع الخارجية على ذلك الشيء.
فمجرد أخذ الجوهر والجسم مثلا في حد الإنسان ، حيث يقال ، الإنسان جوهر جسم نام حساس متحرك بالإرادة ناطق ، لا يوجب اندراجه تحت مقولة الجوهر أو جنس الجسم ، حتى يكون موجودا لا في موضوع باعتبار كونه جوهرا ، ويكون بحيث يصح أن يفرض فيه ، الأبعاد الثلاثة باعتبار كونه جسما وهكذا.
وكذا مجرد أخذ الكم والاتصال في حد السطح حيث يقال ، السطح كم متصل قار منقسم في جهتين ، لا يوجب اندراجه تحت الكم والمتصل مثلا ، حتى يكون قابلا للانقسام بذاته من جهة أنه كم ، ومشتملا على الفصل المشترك من جهة أنه متصل وهكذا.
ولو كان مجرد صدق مفهوم على شيء موجبا للاندراج ، لكان كل مفهوم كلي فردا لنفسه ، لصدقه بالحمل الأولي على نفسه ، فالاندراج يتوقف على ترتب الآثار ، ومعلوم أن ترتب الآثار ، إنما يكون في الوجود الخارجي دون الذهني.
٣٣
فتبين أن الصورة الذهنية ، غير مندرجة تحت ما يصدق عليها من المقولات ، لعدم ترتب آثارها عليها ، لكن الصورة الذهنية ، إنما لا تترتب عليها آثار المعلوم الخارجي من حيث هي وجود ، مقيس إلى ما بحذائها من الوجود الخارجي ، وأما من حيث إنها حاصلة للنفس ، حالا أو ملكة تطرد عنها الجهل ، فهي وجود خارجي موجود للنفس ناعت لها ، يصدق عليه حد الكيف بالحمل الشائع ، وهو أنه عرض لا يقبل قسمة ولا نسبة لذاته ، فهو مندرج بالذات تحت مقولة الكيف ، وإن لم يكن من جهة كونه وجودا ذهنيا ، مقيسا إلى الخارج داخلا تحت شيء من المقولات ، لعدم ترتب الآثار ، اللهم إلا تحت مقولة الكيف بالعرض.
وبهذا البيان يتضح اندفاع ما أورده بعض المحققين ، على كون العلم كيفا بالذات ، وكون الصورة الذهنية كيفا بالعرض ، من أن وجود تلك الصور في نفسها ووجودها للنفس واحد ، وليس ذلك الوجود والظهور للنفس ، ضميمة تزيد على وجودها تكون هي كيفا في النفس ، لأن وجودها الخارجي لم يبق بكليته ، وماهياتها في أنفسها كل من مقولة خاصة ، وباعتبار وجودها الذهني لا جوهر ولا عرض ، وظهورها لدى النفس ، ليس سوى تلك الماهية وذلك الوجود ، إذ ظهور الشيء ليس أمرا ينضم إليه ، وإلا لكان ظهور نفسه ، وليس هناك أمر آخر والكيف من المحمولات بالضميمة ، والظهور والوجود للنفس لو كان نسبة مقولية ، كان ماهية العلم إضافة لا كيفا ، وإذا كان إضافة إشراقية كان وجودا ، فالعلم نور وظهور وهما وجود ، والوجود ليس ماهية.
وجه الاندفاع ، أن الصورة العلمية هي الموجودة للنفس الظاهرة لها ، لكن لا من حيث كونها موجودا ذهنيا ، مقيسا إلى خارج لا تترتب عليها آثاره ، بل من حيث كونها حالا أو ملكة للنفس تطرد عنها عدما ، وهي كمال للنفس زائد عليها ناعت لها ، وهذا أثر خارجي مترتب عليها ، وإذا كانت النفس
٣٤
موضوعة لها مستغنية عنها في نفسها ، فهي عرض لها ويصدق عليها حد الكيف ، ودعوى أن ليس هناك أمر زائد على النفس ، منضم إليها ممنوعة.
فظهر أن الصورة العلمية من حيث كونها ، حالا أو ملكة للنفس كيف حقيقة وبالذات ، ومن حيث كونها موجودا ذهنيا ، كيف بالعرض وهو المطلوب.
الإشكال الثالث ، أن لازم القول بالوجود الذهني ، وحصول الأشياء بأنفسها في الأذهان كون النفس ، حارة باردة عريضة طويلة ، متحيزة متحركة مربعة مثلثة مؤمنة كافرة وهكذا ، عند تصور الحرارة والبرودة إلى غير ذلك ، وهو باطل بالضرورة بيان الملازمة ، أنا لا نعني بالحار والبارد والعريض والطويل ونحو ذلك ، إلا ما حصلت له هذه المعاني وقامت به.
والجواب عنه ، أن المعاني الخارجية كالحرارة والبرودة ونحوهما ، إنما تحصل في الأذهان بماهياتها لا بوجوداتها العينية ، وتصدق عليها بالحمل الأولي دون الشائع ، والذي يوجب الاتصاف حصول هذه المعاني ، بوجوداتها الخارجية وقيامها بموضوعاتها ، دون حصول ماهياتها لها وقيام ما هي هي بالحمل الأولي.
الإشكال الرابع أنا نتصور المحالات الذاتية ، كشريك الباري واجتماع النقيضين وارتفاعهما ، وسلب الشيء عن نفسه ، فلو كانت الأشياء حاصلة بأنفسها في الأذهان ، استلزم ذلك ثبوت المحالات الذاتية.
والجواب عنه ، أن الحاصل من المحالات الذاتية في الأذهان ، مفاهيمها بالحمل الأولي دون الحمل الشائع ، فشريك الباري في الذهن شريك الباري بالحمل الأولي ، وأما بالحمل الشائع فهو كيفية نفسانية ممكنة مخلوقة للباري ، وهكذا في سائر المحالات.
الإشكال الخامس أنا نتصور الأرض ، بما رحبت بسهولها وجبالها و
٣٥
براريها وبحارها ، وما فوقها من السماء بأرجائها البعيدة ، والنجوم والكواكب بأبعادها الشاسعة ، وحصول هذه المقادير العظيمة في الذهن ، بمعنى انطباعها في جزء عصبي أو قوة دماغية كما قالوا به ، من انطباع الكبير في الصغير وهو محال ، ودفع الإشكال بأن المنطبع فيه ، منقسم إلى غير النهاية لا يجدي شيئا ، فإن الكف لا تسع الجبل ، وإن كانت منقسمة إلى غير النهاية.
والجواب عنه أن الحق كما سيأتي (١) ، أن الصور الإدراكية الجزئية غير مادية ، بل مجردة تجردا مثاليا ، فيها آثار المادة من مقدار وشكل وغيرهما ، دون نفس المادة ، فهي حاصلة للنفس في مرتبة تجرده المثالي ، من غير أن تنطبع في جزء بدني أو قوة متعلقة بجزء بدني.
وأما الأفعال والانفعالات الحاصلة في مرحلة المادة ، عند الإحساس بشيء أو عند تخيله ، فإنما هي معدات تتهيأ بها النفس ، لحصول الصور العلمية الجزئية المثالية عندها.
الإشكال السادس أن علماء الطبيعة بينوا ، أن الإحساس والتخيل بحصول صور الأجسام المادية ، بما لها من النسب والخصوصيات الخارجية ، في الأعضاء الحاسة وانتقالها إلى الدماغ ، مع ما لها من التصرف فيها بحسب طبائعها الخاصة ، والإنسان ينتقل إلى خصوصية ، مقاديرها وأبعادها وأشكالها بنوع من المقايسة ، بين أجزاء الصورة الحاصلة عنده ، على ما فصلوه في محله ، ومع ذلك لا مجال للقول ، بحضور الماهيات الخارجية بأنفسها في الأذهان.
والجواب عنه ، أن ما ذكروه من الفعل والانفعال المادي ، عند حصول العلم بالجزئيات في محله ، لكن هذه الصور المنطبعة ، المغايرة للمعلومات الخارجية ، ليست هي المعلومة بالذات ، بل هي معدات تهيىء النفس ، لحضور الماهيات الخارجية عندها ، بوجود مثالي غير مادي ، وإلا لزمت السفسطة لمكان
__________________
(١) في المرحلة الحادية عشرة الفصل الأول والثاني.
٣٦
المغايرة بين الصور ، الحاصلة في أعضاء الحس والتخيل وبين ذوات الصور.
بل هذا من أقوى الحجج على حصول الماهيات ، بأنفسها عند الإنسان بوجود غير مادي ، فإن الوجود المادي لها كيفما فرض ، لم يخل عن مغايرة ما بين الصور الحاصلة ، وبين الأمور الخارجية ذوات الصور ، ولازم ذلك السفسطة ضرورة.
الإشكال السابع ، أن لازم القول بالوجود الذهني ، كون الشيء الواحد كليا وجزئيا معا وبطلانه ظاهر ، بيان الملازمة أن ماهية الإنسان المعقولة مثلا ، من حيث تجويز العقل صدقها على كثيرين كلية ، ومن حيث حصولها لنفس عاقلها الشخصية ، وقيامها بها جزئية متشخصة بتشخصها ، متميزة من ماهية الإنسان المعقولة ، لغير تلك النفس من النفوس ، فهي كلية وجزئية معا.
والجواب عنه أن الجهة مختلفة ، فهي من حيث إنها وجود ذهني مقيس إلى الخارج كلية ، تقبل الصدق على كثيرين ، ومن حيث إنها كيفية نفسانية ، من غير مقايسة إلى الخارج جزئية.
٣٧
٣٨
المرحلة الثالثة
في انقسام الوجود
إلى ما في نفسه وما في غيره وانقسام ما في نفسه إلى ما لنفسه وما لغيره
وفيها ثلاثة فصول
٣٩
الفصل الأول
[الوجود في نفسه والوجود في غيره]
من الوجود ما هو في غيره ومنه خلافه ، وذلك أنا إذا اعتبرنا القضايا الصادقة ، كقولنا الإنسان ضاحك ، وجدنا فيها وراء الموضوع والمحمول أمرا آخر ، به يرتبط ويتصل بعضهما إلى بعض ، ليس يوجد إذا اعتبر الموضوع وحده ولا المحمول وحده ، ولا إذا اعتبر كل منهما مع غير الآخر فله وجود ، ثم إن وجوده ليس ثالثا لهما ، واقعا بينهما مستقلا عنهما ، وإلا احتاج إلى رابطين آخرين يربطانه بالطرفين ، فكان المفروض ثلاثة خمسة ، ثم الخمسة تسعة وهلم جرا وهو باطل.
فوجوده قائم بالطرفين موجود فيهما ، غير خارج منهما ولا مستقل بوجه عنهما ، لا معنى له مستقلا بالمفهومية ، ونسميه الوجود الرابط ، وما كان بخلافه كوجود الموضوع والمحمول ، وهو الذي له معنى مستقل بالمفهومية ، نسميه الوجود المحمولي والوجود المستقل ، فإذن الوجود منقسم إلى مستقل ورابط وهو المطلوب.
ويظهر مما تقدم أولا ، أن الوجودات الرابطة لا ماهية لها ، لأن الماهية ما يقال في جواب ما هو ، فلها لا محالة وجود محمولي ذو معنى مستقل بالمفهومية ، والرابط ليس كذلك.
وثانيا أن تحقق الوجود الرابط بين أمرين ، يستلزم اتحادا ما بينهما ، لكونه
٤٠
واحدا غير خارج من وجودهما.
وثالثا أن الرابط ، إنما يتحقق في مطابق الهليات المركبة ، التي تتضمن ثبوت شيء لشيء ، وأما الهليات البسيطة ، التي لا تتضمن إلا ثبوت الشيء ، وهو ثبوت موضوعها فلا رابط في مطابقها ، إذ لا معنى لارتباط الشيء بنفسه ونسبته إليها
الفصل الثاني
[كيفية اختلاف الرابط والمستقل]
اختلفوا في أن الاختلاف بين الوجود الرابط والمستقل ، هل هو اختلاف نوعي ، بمعنى أن الوجود الرابط ذو معنى تعلقي ، لا يمكن تعقله على الاستقلال ، ويستحيل أن يسلخ عنه ذلك الشأن ، فيعود معنى اسميا بتوجيه الالتفات إليه ، بعد ما كان معنى حرفيا ، أو لا اختلاف نوعيا بينهما.
والحق هو الثاني ، لما سيأتي في مرحلة العلة والمعلول (١) ، أن وجودات المعاليل رابطة بالنسبة إلى عللها ، ومن المعلوم أن منها ما وجوده جوهري ، ومنها ما وجوده عرضي ، وهي جميعا وجودات محمولية مستقلة ، تختلف حالها بالقياس إلى عللها وأخذها في نفسها ، فهي بالنظر إلى عللها وجودات رابطة ، وبالنظر إلى أنفسها وجودات مستقلة ، فإذن المطلوب ثابت.
ويظهر مما تقدم ، أن المفهوم تابع في استقلاله بالمفهومية وعدمه ، لوجوده الذي ينتزع منه وليس له من نفسه إلا الإبهام.
__________________
(١) المرحلة السابعة الفصل الثالث.
٤١
الفصل الثالث
من الوجود في نفسه ما هو لغيره ومنه ما هو لنفسه
والمراد بكون وجود الشيء لغيره ، أن يكون الوجود الذي له في نفسه ، وهو الذي يطرد عن ماهيته العدم ، هو بعينه يطرد عدما عن شيء آخر ، لا عدم ذاته وماهيته ، وإلا كان لوجود واحد ماهيتان ، وهو كثرة الواحد ، بل عدما زائدا على ذاته وماهيته ، له نوع مقارنة له ، كالعلم الذي يطرد بوجوده العدم عن ماهيته الكيفية ، ويطرد به بعينه عن موضوعه الجهل ، الذي هو نوع من العدم يقارنه ، وكالقدرة فإنها كما تطرد عن ماهية نفسها العدم ، تطرد بعينها عن موضوعها العجز.
والدليل على تحقق هذا القسم وجودات الأعراض ، فإن كلا منها كما يطرد عن ماهية نفسه العدم ، يطرد بعينه عن موضوعه نوعا من العدم ، وكذلك الصور النوعية الجوهرية ، فإن لها نوع حصول لموادها ، تكملها وتطرد عنها نقصا جوهريا ، وهذا النوع من الطرد هو المراد بكون ، الوجود لغيره وكونه ناعتا.
ويقابله ما كان طاردا لعدم نفسه فحسب ، كالأنواع التامة الجوهرية كالإنسان والفرس ، ويسمى هذا النوع من الوجود وجودا لنفسه ، فإذن المطلوب ثابت وذلك ما أردناه.
وربما يقسم الوجود لذاته ، إلى الوجود بذاته والوجود بغيره ، وهو بالحقيقة راجع إلى العلية والمعلولية ، وسيأتي (١) البحث عنهما.
__________________
(١) في المرحلة السابعة.
٤٢
المرحلة الرابعة
في المواد الثلاث الوجوب والإمكان والامتناع
والبحث عنها في الحقيقة بحث عن انقسام الوجود
إلى الواجب والممكن والبحث عن الممتنع تبعي
وفيها تسعة فصول
٤٣
الفصل الأول
في تعريف المواد الثلاث وانحصارها فيها
كل مفهوم إذا قيس إلى الوجود ، فإما أن يجب له فهو الواجب ، أو يمتنع وهو الممتنع ، أو لا يجب له ولا يمتنع وهو الممكن ، فإنه إما أن يكون الوجود له ضروريا وهو الأول ، أو يكون العدم له ضروريا وهو الثاني ، وإما أن لا يكون شيء منهما له ضروريا وهو الثالث.
وأما احتمال كون الوجود والعدم كليهما ضروريين ، فمرتفع بأدنى التفات.
وهي بينة المعاني لكونها من المعاني العامة ، التي لا يخلو عن أحدها مفهوم من المفاهيم ، ولذا كانت لا تعرف إلا بتعريفات دورية ، كتعريف الواجب بما يلزم من فرض عدمه محال ، ثم تعريف المحال وهو الممتنع بما يجب أن لا يكون ، أو ما ليس بممكن ولا واجب ، وتعريف الممكن بما لا يمتنع وجوده وعدمه.
الفصل الثاني
انقسام كل من المواد إلى ما بالذات وما بالغير وما بالقياس
كل واحدة من المواد ثلاثة أقسام ، ما بالذات وما بالغير وما بالقياس
٤٤
إلى الغير ، إلا الإمكان فلا إمكان بالغير ، والمراد بما بالذات ، أن يكون وضع الذات كافيا في تحققه ، وإن قطع النظر عن كل ما سواه ، وبما بالغير ما يتعلق بالغير ، وبما بالقياس إلى الغير ، أنه إذا قيس إلى الغير كان من الواجب أن يتصف به.
فالوجوب بالذات كما في الواجب الوجود تعالى ، فإن ذاته بذاته يكفي في ضرورة الوجود له ، من غير حاجة إلى شيء غيره.
والوجوب بالغير كما في الممكن ، الموجود الواجب وجوده بعلته.
والوجوب بالقياس إلى الغير ، كما في وجود أحد المتضائفين إذا قيس إلى وجود الآخر ، فإن وجود العلو إذا قيس إليه وجود السفل ، يأبى إلا أن يكون للسفل وجود ، فلوجود السفل وجوب بالقياس إلى وجود العلو ، وراء وجوبه بعلته.
والامتناع بالذات كما في المحالات الذاتية ، كشريك الباري واجتماع النقيضين والامتناع بالغير ، كما في وجود المعلول الممتنع لعدم علته ، وعدمه الممتنع لوجود علته ، والامتناع بالقياس إلى الغير ، كما في وجود أحد المتضائفين إذا قيس إلى عدم الآخر ، وفي عدمه إذا قيس إلى وجود الآخر.
والإمكان بالذات كما في الماهيات الإمكانية ، فإنها في ذاتها لا تقتضي ضرورة الوجود ولا ضرورة العدم ، والإمكان بالقياس إلى الغير ، كما في الواجبين بالذات المفروضين ، ففرض وجود أحدهما لا يأبى وجود الآخر ولا عدمه ، إذ ليس بينهما علية ومعلولية ، ولا هما معلولا علة ثالثة.
وأما الإمكان بالغير فمستحيل ، لأنا إذا فرضنا ممكنا بالغير ، فهو في ذاته إما واجب بالذات ، أو ممتنع بالذات أو ممكن بالذات ، إذ المواد منحصرة في الثلاث ، والأولان يوجبان الانقلاب ، والثالث يوجب كون اعتبار الإمكان بالغير لغوا.
٤٥
الفصل الثالث
[واجب الوجود ماهيته إنيته]
واجب الوجود ماهيته إنيته ، بمعنى أن لا ماهية له وراء وجوده الخاص به ، وذلك أنه لو كانت له ماهية ، وذات وراء وجوده الخاص به ، لكان وجوده زائدا على ذاته عرضيا له ، وكل عرضي معلل بالضرورة فوجوده معلل.
وعلته إما ماهيته أو غيرها ، فإن كانت علته ماهيته ، والعلة متقدمة على معلولها بالوجود بالضرورة ، كانت الماهية متقدمة عليه بالوجود ، وتقدمها عليه إما بهذا الوجود ، ولازمه تقدم الشيء على نفسه وهو محال ، وإما بوجود آخر وننقل الكلام إليه ويتسلسل ، وإن كانت علته غير ماهيته ، فيكون معلولا لغيره وذلك ينافي وجوب الوجود بالذات ، وقد تبين بذلك ، أن الوجوب بذاته وصف منتزع من حاق وجود الواجب ، كاشف عن كون وجوده بحتا ، في غاية الشدة غير مشتمل على جهة عدمية ، إذ لو اشتمل على شيء من الأعدام ، حرم الكمال الوجودي الذي في مقابله ، فكانت ذاته مقيدة بعدمه ، فلم يكن واجبا بالذات صرفا له كل كمال.
الفصل الرابع
واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات
إذ لو كان غير واجب بالنسبة إلى شيء من الكمالات ، التي تمكن له بالإمكان العام ، كان ذا جهة إمكانية بالنسبة إليه ، فكان خاليا في ذاته عنه ، متساوية نسبته إلى وجوده وعدمه ، ومعناه تقيد ذاته بجهة عدمية ، وقد
٤٦
عرفت في الفصل السابق استحالته.
الفصل الخامس
في أن الشيء ما لم يجب لم يوجد وبطلان القول بالأولوية
لا ريب أن الممكن ، الذي يتساوى نسبته إلى الوجود والعدم عقلا ، يتوقف وجوده على شيء يسمى علة وعدمه على عدمها.
وهل يتوقف وجود الممكن على أن يوجب العلة وجوده ، وهو الوجوب بالغير أو أنه يوجد بالخروج عن حد الاستواء ، وإن لم يصل إلى حد الوجوب ، وكذا القول في جانب العدم وهو المسمى بالأولويه ، وقد قسموها إلى الأولوية الذاتية ، وهي التي يقتضيها ذات الممكن وماهيته ، وغير الذاتية وهي خلافها ، وقسموا كلا منهما إلى ، كافية في تحقق الممكن وغير كافية.
والأولوية بأقسامها باطلة.
أما الأولوية الذاتية ، فلأن الماهية قبل الوجود باطلة الذات ، لا شيئية لها حتى تقتضي أولوية الوجود ، كافية أو غير كافية وبعبارة أخرى ، الماهية من حيث هي ليست إلا هي ، لا موجودة ولا معدومة ولا أي شيء آخر.
وأما الأولوية الغيرية ، وهي التي تأتي من ناحية العلة ، فلأنها لما لم تصل إلى حد الوجوب ، لا يخرج بها الممكن من حد الاستواء ، ولا يتعين بها له الوجود أو العدم (١) ، ولا ينقطع بها السؤال ، إنه لم وقع هذا دون ذاك ، وهو الدليل على أنه لم تتم بعد للعلة عليتها.
__________________
(١) وليس بين استواء الطرفين وتعيّن أحدهما واسطة ـ منه.
٤٧
فتحصل ، أن الترجيح إنما هو بإيجاب العلة وجود المعلول ، بحيث يتعين له الوجود ويستحيل عليه العدم ، أو إيجابها عدمه فالشيء ، أعني الممكن ما لم يجب لم يوجد.
خاتمة ، ما تقدم من الوجوب ، هو الذي يأتي الممكن من ناحية علته ، وله وجوب آخر يلحقه بعد تحقق الوجود أو العدم ، وهو المسمى بالضرورة بشرط المحمول ، فالممكن الموجود محفوف بالضرورتين ، السابقة واللاحقة.
الفصل السادس
في معاني الإمكان
الإمكان المبحوث عنه هاهنا هو ، لا ضرورة الوجود والعدم بالنسبة إلى الماهية ، المأخوذة من حيث هي ، وهو المسمى بالإمكان الخاص والخاصي.
وقد يستعمل الإمكان بمعنى ، سلب الضرورة عن الجانب المخالف ، سواء كان الجانب الموافق ضروريا أو غير ضروري ، فيقال الشيء الفلاني ممكن أي ليس بممتنع ، وهو المستعمل في لسان العامة ، أعم من الإمكان الخاص ، ولذا يسمى إمكانا عاميا وعاما.
وقد يستعمل في معنى أخص من ذلك ، وهو سلب الضرورات الذاتية والوصفية والوقتية ، كقولنا الإنسان كاتب بالإمكان ، حيث إن الإنسانية لا تقتضي ضرورة الكتابة ، ولم يؤخذ في الموضوع وصف يوجب الضرورة ، ولا وقت كذلك ، وتحقق الإمكان بهذا المعنى في القضية ، بحسب
٤٨
الاعتبار العقلي ، بمقايسة المحمول إلى الموضوع ، لا ينافي ثبوت الضرورة بحسب الخارج بثبوت العلة ، ويسمى الإمكان الأخص.
وقد يستعمل بمعنى سلب الضرورة من الجهات الثلاث ، والضرورة بشرط المحمول أيضا ، كقولنا زيد كاتب غدا بالإمكان ، ويختص بالأمور المستقبلة التي لم تتحقق بعد ، حتى يثبت فيها الضرورة بشرط المحمول ، وهذا الإمكان إنما يثبت بحسب الظن والغفلة ، عن أن كل حادث مستقبل إما واجب أو ممتنع ، لانتهائه إلى علل موجبة مفروغ عنها ، ويسمى الإمكان الاستقبالي.
وقد يستعمل الإمكان بمعنيين آخرين ، أحدهما ما يسمى الإمكان الوقوعي ، وهو كون الشيء بحيث لا يلزم من فرض وقوعه محال ، أي ليس ممتنعا بالذات أو بالغير ، وهو سلب الامتناع عن الجانب الموافق ، كما أن الإمكان العام سلب الضرورة عن الجانب المخالف.
وثانيهما الإمكان الاستعدادي وهو كما ذكروه ، نفس الاستعداد ذاتا وغيره اعتبارا ، فإن تهيؤ الشيء لأن يصير شيئا آخر ، له نسبة إلى الشيء المستعد ، ونسبة إلى الشيء المستعد له ، فبالاعتبار الأول يسمى استعدادا ، فيقال مثلا النطفة لها استعداد أن تصير إنسانا ، وبالاعتبار الثاني يسمى الإمكان الاستعدادي فيقال ، الإنسان يمكن أن يوجد في النطفة.
والفرق بينه وبين الإمكان الذاتي ، أن الإمكان الذاتي كما سيجيء (١) ، اعتبار تحليلي عقلي ، يلحق الماهية المأخوذة من حيث هي ، والإمكان الاستعدادي صفة وجودية ، تلحق الماهية الموجودة ، فالإمكان الذاتي يلحق الماهية الإنسانية ، المأخوذة من حيث هي ، والإمكان الاستعدادي ، يلحق
__________________
(١) في الفصل الآتي.
٤٩
النطفة الواقعة في مجرى تكون الإنسان.
ولذا كان الإمكان الاستعدادي قابلا للشدة والضعف ، فإمكان تحقق الإنسانية في العلقة أقوى منه في النطفة ، بخلاف الإمكان الذاتي فلا شدة ولا ضعف فيه.
ولذا أيضا ، كان الإمكان الاستعدادي يقبل الزوال عن الممكن ، فإن الاستعداد يزول بعد تحقق المستعد له بالفعل ، بخلاف الإمكان الذاتي فإنه لازم الماهية ، هو معها حيثما تحققت.
ولذا أيضا كان الإمكان الاستعدادي ، ومحله المادة بالمعنى الأعم (١) ، يتعين معه الممكن المستعد له ، كالإنسانية التي تستعد لها المادة ، بخلاف الإمكان الذاتي الذي في الماهية ، فإنه لا يتعين معه لها الوجود أو العدم.
والفرق بين الإمكان الاستعدادي والوقوعي ، أن الاستعدادي إنما يكون في الماديات ، والوقوعي أعم موردا.
الفصل السابع
في أن الإمكان اعتبار عقلي وأنه لازم للماهية
أما أنه اعتبار عقلي ، فلأنه يلحق الماهية المأخوذة عقلا ، مع قطع النظر عن الوجود والعدم ، والماهية المأخوذة كذلك اعتبارية بلا ريب ، فما يلحق بها بهذا الاعتبار كذلك بلا ريب ، وهذا الاعتبار العقلي لا ينافي كونها ، بحسب نفس الأمر إما موجودة أو معدومة ، ولازمه كونها محفوفة بوجوبين أو امتناعين ،
__________________
(١) المادة بالمعنى الأعم تشمل المادة بالمعنى الأخص ، وهي الجوهر القابل للصور المنطبعة فيها ، كمادة العناصر لصورها ، وتشمل متعلق النفس المجردة ، كالبدن للنفس الناطقة ، وتشمل موضوع العرض ، كالجسم للمقادير والكيفيات. ـ منه (رحمه الله) ـ.
٥٠
وأما كونه لازما للماهية ، فلأنا إذا تصورنا الماهية من حيث هي ، مع قطع النظر عن كل ما سواها ، لم نجد معها ضرورة وجود أو عدم ، وليس الإمكان إلا سلب الضرورتين فهي بذاتها ممكنة ، وأصل الإمكان وإن كان هذين السلبين ، لكن العقل يضع لازم هذين السلبين ، وهو استواء النسبة مكانهما ، فيعود الإمكان معنى ثبوتيا ، وإن كان مجموع السلبين منفيا.
الفصل الثامن
في حاجة الممكن إلى العلة وما هي علة احتياجه إليها
حاجة الممكن إلى العلة من الضروريات الأولية ، التي مجرد تصور موضوعها ومحمولها ، كاف في التصديق بها ، فإن من تصور الماهية الممكنة ، المتساوية النسبة إلى الوجود والعدم ، وتصور توقف خروجها من حد الاستواء إلى أحد الجانبين ، على أمر آخر يخرجها منه إليه ، لم يلبث أن يصدق به.
وهل علة حاجة الممكن إلى العلة هي الإمكان ، أو الحدوث الحق هو الأول وبه قالت الحكماء.
واستدل عليه بأن الماهية ، باعتبار وجودها ضرورية الوجود ، وباعتبار عدمها ضرورية العدم ، وهاتان الضرورتان بشرط المحمول ، وليس الحدوث إلا ترتب إحدى الضرورتين على الأخرى ، فإنه كون وجود الشيء بعد عدمه ، ومعلوم أن الضرورة ، مناط الغنى عن السبب وارتفاع الحاجة ، فما لم تعتبر الماهية بإمكانها لم يرتفع الوجوب ، ولم تحصل الحاجة إلى العلة.
برهان آخر ، إن الماهية لا توجد إلا عن إيجاد من العلة ، وإيجاد العلة
٥١
لها متوقف على وجوب الماهية ، المتوقف على إيجاب العلة ، وقد تبين مما تقدم ، وإيجاب العلة متوقف على حاجة الماهية إليها ، وحاجة الماهية إليها متوقفة على إمكانها ، إذ لو لم تمكن بأن وجبت أو امتنعت ، استغنت عن العلة بالضرورة ، فلحاجتها توقف ما على الإمكان بالضرورة ، ولو توقفت مع ذلك على حدوثها ، وهو وجودها بعد العدم ، سواء كان الحدوث علة والإمكان شرطا ، أو عدمه مانعا ، أو كان الحدوث جزء علة والجزء الآخر هو الإمكان ، أو كان الحدوث شرطا ، أو عدمه الواقع في مرتبته مانعا ، فعلى أي حال يلزم تقدم الشيء على نفسه بمراتب ، وكذا لو كان وجوبها ، أو إيجاب العلة لها هو علة الحاجة بوجه.
فلم يبق إلا أن يكون الإمكان وحده علة للحاجة ، إذ ليس في هذه السلسلة المتصلة المترتبة عقلا ، قبل الحاجة إلا الماهية وإمكانها.
وبذلك يندفع ما احتج به بعض القائلين ، بأن علة الحاجة إلى العلة هو الحدوث دون الإمكان ، من أنه لو كان الإمكان هو العلة دون الحدوث ، جاز أن يوجد القديم الزماني ، وهو الذي لا أول لوجوده ولا آخر له ، ومعلوم أن فرض دوام وجوده يغنيه عن العلة ، إذ لا سبيل للعدم إليه حتى يحتاج إلى ارتفاعه.
وجه الاندفاع ، أن المفروض أن ذاته هو المنشأ لحاجته ، والذات محفوظة مع الوجود الدائم ، فله على فرض دوام الوجود حاجة دائمة في ذاته ، وإن كان مع شرط الوجود له بنحو الضرورة ، بشرط المحمول مستغنيا عن العلة ، بمعنى ارتفاع حاجته بها.
وأيضا سيجيء أن وجود المعلول ، سواء كان حادثا أو قديما وجود رابط ، متعلق الذات بعلته غير مستقل دونها ، فالحاجة إلى العلة ذاتية
__________________
(١) في الفصل الثالث من المرحلة السابعة.
٥٢
ملازمة له.
تعليقات
إرسال تعليق